وهي المستفادة بواسطة ما يدركه العقل من قبح العقاب بلا بيان ، وهو من مدركات العقل العملي المقتضي لتحديد حق الطاعة للمولى جلّ وعلا وانّ مورده يختص بحالات العلم بالتكليف ، ففي كل مورد لم يصل التكليف للمكلف وصولا علميّا فإنّ المكلّف مؤمّن عن العقاب من جهة ذلك التكليف.
والمؤمّن عن العقاب والمؤاخذة هو ما يدركه العقل من قبحه حين عدم البيان ، فالمسألة إذن من صغريات قاعدة الحسن والقبح العقليين.
ومن المناسب هنا تقرير ما أفاده السيد الصدر رحمهالله في تاريخ هذه القاعدة والتي هي من مهمات المباحث الاصولية ، فقد ذكر السيد الصدر رحمهالله انّ هذه القاعدة لم تكن معروفة بل ولا مذكورة قبل الشيخ المفيد رحمهالله وما ذكره الشيخ الصدوق رحمهالله من جريان أصالة الإباحة في موارد الشك لا يقتضي اعتماده على هذه القاعدة بل من القريب جدا انّه عوّل في ذلك على الروايات الدالة الإباحة فيكون مراده من الإباحة هي الإباحة الشرعية.
وأما الشيخ المفيد رحمهالله وكذلك الشيخ الطوسي رحمهالله فكانا يبنيان على خلاف هذه القاعدة ، فقد ذهبا الى التوقف وعدم إدراك العقل للإباحة أو الحظر ، بمعنى انّهما لا يريان انّ العقل في حالات عدم إدراك المصلحة أو المفسدة يحكم بالاباحة أو الحظر. ومن هنا رتّب الشيخ الطوسي رحمهالله على ذلك لزوم الاحتياط في مقام العمل وأفاد أنّ ذلك من مدركات العقل حينما لا يكون ثمة مؤمّن من الوقوع في المفسدة ، فالعقل يحكم في مورد لا يؤمن معه من المفسدة بالاحتياط ولزوم التجنّب عن الخوض فيه ، وهذا انّما هو في مقام العمل ، وأما انّ الاشياء على الإباحة أو الحظر فهو مما لا يدركه العقل.
ثم انّه بعد ان اعتبر الاحتياط أصلا أوليا ذكر انّ هذا الأصل لا يصح الخروج عنه إلاّ ان يقوم دليل شرعي على الحلية في حالات الشك كما هو كذلك بمقتضى ما وصل من أدلة تقتضي الإباحة أو البراءة الشرعية.
وحتى يتجلّى مبنى الشيخ المفيد والشيخ الطوسي رحمهما الله نقول : انّه نشأ عن خلاف بين علماء الاصول والذين يبنون على التحسين والتقبيح العقليين ، فهم يذهبون الى انّ الفعل اذا كان حسنه تاما ـ بنظر العقل ـ فحكمه الشرعي هو الوجوب ، أما اذا كانت مرتبة الحسن فيه ضعيفة فإنّ حكمه الاستحباب الشرعي ، وهذا بخلاف ما لو كان الفعل قبيحا ـ بنظر العقل ـ وكان قبحه شديدا فإنّ حكمه لا محالة يكون الحرمة ، ولو كان القبح ضعيفا فإنّ حكمه الكراهة.
وهذه الحالات لا إشكال في إدراك العقل لأحكامها والخلاف انّما هو في حالة يكون العقل فيها غير مدرك لما عليه الفعل وهل هو ذو مصلحة أو هو ذو مفسدة. وهنا اختلف العلماء فيما يحكم به العقل وهل هو القبح المساوق للحظر أو هو عدم القبح المساوق للإباحة. والشيخ المفيد وكذلك الشيخ الطوسي قالا بالتوقف وعدم إدراك العقل لواحد منهما.
والمتحصّل انّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان لم يكن لها ذكر في تلك الحقبة ، وبعد مائة عام من هذه الحقبة جاء الشيخ ابن زهرة رحمهالله وبنى على حكم العقل بالبراءة إلاّ انّه لم يكن يقصد من حكم العقل بالبراءة هو قاعدة قبح العقاب بلا بيان بل هو قاعدة قبح التكليف بما لا يطاق ، وهي لا تتصل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، إذ التكليف بلا بيان ليس من التكليف بما لا يطاق بعد ان كان التكليف غير المعلوم مما يمكن امتثاله بواسطة الاحتياط المعبّر عنه بالامتثال الإجمالي.
والشيخ الأنصاري رحمهالله يفهم من كلام ابن زهرة رحمهالله انّ التكليف بقصد الامتثال إذا لم يكن معلوما تكليف بما لا يطاق ، إذ انّه لا يمكن قصد الامتثال والانبعاث عن الأمر بعد ان كان التكليف غير معلوم ، والاحتياط لا يحقق الامتثال المطلوب بعد تعذّر قصد الامتثال المعتبر في الامتثال ، ومن هنا يقبح التكليف بالامتثال مع قصد الامتثال لانّه تكليف بما لا يطاق. ولمزيد من التوضيح راجع « استصحاب حال العقل ».
وكيف كان فلا صلة لما ذكره ابن زهرة رحمهالله ـ حتى بناء على توجيه الشيخ الأنصاري رحمهالله ـ بقاعدة قبح العقاب بلا بيان.
ثم انّ المحقق الحلّي رحمهالله والذي يأتي في مرحلة متأخرة عن الشيخ ابن زهرة رحمهالله ذكر انّ المدرك لحجية البراءة هو استصحاب حال العقل ، بمعنى انّ المكلف كان محرزا لبراءة ذمته عن التكليف فحين الشك يستصحب البراءة الأصلية إلاّ ان يقوم دليل على الخلاف ، وهذا الذي بنى عليه المحقق الحلّي رحمهالله تلقّاه كثير ممن جاء بعده بالقبول حيث بنوا على انّ حجية البراءة إنّما نشأت عن الاستصحاب والذي هو حجّة بحكم العقل بمقتضى كاشفية الحالة السابقة عمّا عليه الواقع في ظرف الشك ، وهذا لا يتصل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ثم انّ للمحقق رحمهالله كلاما آخر حاصله :
انّ الفقيه عند ممارسته لاستنباط الحكم الشرعي من أدلته يبحث عن الحكم في الأدلة التي يعلم انّ الشارع قد ارتضاها وسائل للوصول للحكم الشرعي ، فهو يبحث عن الحكم في الكتاب والسنة والإجماع فإذا لم يجد في هذه الأدلة ما يساعد على ثبوت أو نفي الحكم المبحوث عنه بحيث يحصل له القطع ـ من جرّاء الفحص ـ بعدم وجود دليل على الحكم المبحوث عنه فإنّ بامكانه نفي هذا الحكم ، أي نفي التكليف به ، وذلك لأنّ التكليف بما لا دليل عليه تكليف بما لا يطاق.
ودعوى انّه قد يكون هناك دليل لم يتم العثور عليه خلف ما افترضناه من انّ الفقيه يحصل له الجزم بعدم الدليل بعد الفحص والتنقيب في الأدلة.
وهنا تمسك المحقق رحمهالله بقاعدة قبح التكليف بما لا يطاق في دائرة أضيق من الدائرة التي تمسك ابن زهرة رحمهالله بالقاعدة في موردها ، حيث انّ المحقق الحلّي رحمهالله يرى انّ الرجوع لهذه القاعدة انما هو في حالة الجزم بعدم الدليل ، وأما الشيخ ابن زهرة رحمهالله فافترض انّ جريان هذه القاعدة يتم في حالة عدم العلم بوجود دليل يثبت الحكم المشكوك حتى لو كنا نحتمل دليل لم يتيسر لنا الاطلاع عليه. وعلى أيّ حال فلا صلة لما أفاده المحقق الحلّي بقاعدة قبح العقاب بلا بيان.
ثم انّه تلت هذه المرحلة مرحلة اخرى بنى فيها الاصوليون على انّ البراءة من الأدلة الظنية ، وذلك لانها مستفادة من الاستصحاب ، وحجية الاستصحاب انّما هي لافادته الظن ببقاء الحالة السابقة. وبتعبير أدق : انّ الحالة السابقة كاشف ظني على البقاء في ظرف الشك.
وتلاحظون انّ ذلك عدول عما كانت عليه المرحلة السابقة من اعتبار البراءة من الأدلة القطعية ، وكيف كان فقد شاع هذا المبنى في زمن الشيخ صاحب المعالم والشيخ البهائي رحمهما الله ولم ينقل عن أحدهم البناء في حجية البراءة على قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
فأول من استدلّ بهذه القاعدة على البراءة هو الشيخ الوحيد البهبهاني رحمهالله إلاّ انّها لم تكن متبلورة بالشكل الذي هي عليه الآن ، فإنّ الإتجاه في فهم هذه القاعدة كان يبدو اتجاه لغويا ، ولهذا وقع التشكيك في اطلاق هذه القاعدة وعدم اطلاقها كما استشكل جمع من المحققين في امكان التمسك بالقاعدة في الشبهات المفهومية كما في قوله تعالى ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) (20) فإنّ مفهوم الكعب دائر بين كونه قبة القدم أو المفصل الواقع بين الساق والقدم ، فهنا هل يمكن التمسك بالقاعدة لنفي لزوم المسح الى المفصل أو لا يصح التمسك بالقاعدة ، فقد استشكل جمع من المحققين في امكان التمسك بالقاعدة بدعوى انّ موضوعها عدم البيان ومفروض المثال انّ البيان على لزوم المسح واضح ، غايته انّ المفهوم مجمل وهذا لا يتصل بالقاعدة.
ثم تبلورت القاعدة بشكل أكبر ، حيث أفاد بعض المحققين انّ المراد من البيان هو البيان بلحاظ المتلقي للخطاب فإذا لم يكن يفهم فإنّ البيان لم يتحقق في حقه ، فيكون مشمولا للقاعدة. وواضح مما ذكرناه انّ الاعلام اتجهوا في فهم القاعدة على أساس لغوي وكأنّها من الخطابات الشرعية.
هذا وقد ذهب بعض العلماء بعد ذلك الى عدم جريان القاعدة في موارد الشبهات الموضوعية ، لأنها ليست من شئون المولى ، إذ ليس عليه سوى بيان الحكم الكلّي وأما تنقيح موضوع الحكم والتحرّي من وجوده خارجا فهو من شئون المكلّف.
ثم انّ القاعدة أخذت منحى عقليّا أكثر دقة وعمقا حين فسّر البيان فيها على أساس ما يدركه العقل حيث ادعي انّ المدرك بالعقل العملي هو استقباح المؤاخذ والإدانة على ترك تكليف لم يصل للمكلف وصولا علميا ولهذا لا تختص القاعدة بالشبهات الحكمية بل تعم الشبهات الموضوعية أيضا.
وسيأتي ايضاح أكثر للقاعدة تحت عنوان « قبح العقاب بلا بيان ».