خرید فالوور اینستاگرام خرید لایک اینستاگرام قالب صحیفه
الرئيسية / موقع الاجتهاد و جميع المواضيع / جميع الأبحاث والأحداث / حوارات ومذکّرات / 5 مذكرة / رصد تحليلي ونقدي للمتون الدرسية الحوزوية عبر التاريخ / الشيخ حيدر حب الله
الكتب-الدراسية-الحوزوية

رصد تحليلي ونقدي للمتون الدرسية الحوزوية عبر التاريخ / الشيخ حيدر حب الله

الاجتهاد: تعاني أغلب الكتب الدرسية الحوزوية من مشكلة أنها لم تكتب لتكون منهاجاً درسياً، وإنما دوّنها أصحابها لغير هذا الغرض، واعتمدت بتأثيرٍ من شخصيات مؤلّفيها إلى جانب امتيازات إيجابية موجودة. ومن الطبيعي أن يكون هناك فارق في التنظيم والأسلوب والبيان بين كتاب يُكتب ليكون درسياً وآخر يكتب لغرض ثانٍ فيصير درسياً. بقلم الأستاذ الشيخ حيدر حب الله

من الطبيعي أن تكون هناك صلة وثيقة بين المؤسّسات التعليمية ومناهج التدريس وفنون التعليم والتعلّم؛ لأنّ المؤسّسة التعليمية تقوم في واقع أمرها على ذلك، ولو سلبنا منها قضايا المنهج لخرجت عن عنوانها وتحوّلت إلى أمر آخر.

والمناهج التعليمية قد تولد في أيّ مؤسّسة نتيجة فعل واعٍ يقرّر بوضوح وقاطعية اعتماد منهج ما في قضايا التربية والتعليم، وقد تأتي نتيجة تراكمات جرّت إليها بطريقة غير واعية بالمعنى السابق، لكن على أيّ حال، لا يمكن أن لا يكون هناك سياق أو نسق تعليمي تقوم عليه المؤسّسة العلمية.

لو رصدنا التطوّر التاريخي للكتب الدرسية المعتمدة (في الحوزة العلمية)، سنلاحظ مجموعة نتائج أبرزها:

أ ـ تنامٍ ممتاز للأصول المقارن في السابق مع كتب: الذريعة والعدّة ونهاية الوصول وغيرها، وتراجع واضح في هذا المجال لاحقاً، لاسيما بعد القرن العاشر الهجري، أما الفقه المقارن، فعلى صعيد المقارنة بين المذاهب ندر أن يعتمد كتاب درسي في هذا المجال، بل غاب هذا الملفّ تماماً عن الدراسات العليا، وأما على صعيد المقارنة بين الفقه والقانون فإنّ المسألة تبدو منعدمة تماماً، وهذه نقطة ضعف كبيرة في عصرنا الحاضر حيث يراد للفقه والأصول أن يثبتا حضورهما في الساحة الفكرية في العالم. ويسجّل هنا للعلامة الفضلي اهتمامه بالبعد المقارن وتنظيره لهذا الاهتمام([1]).

ب ـ ظهور أو تنامي التعقيد اللفظي، لاسيّما بعد القرن العاشر الهجري، وبالأخص في مجال أصول الفقه، وقد أدّى هذا التعقيد إلى الكثير من هدر الوقت والطاقات في فضاء الألفاظ، الأمر الذي يكون عادةً على حساب عمق التفكير في المعنى، كما أدّى إلى غياب علوم الاجتهاد الإمامي عن الحضور في الساحة الفكرية وعجز كثيرين عن التعرّف عليها، وصعوبة إدخالها في الدرس الجامعي، بل حتى التجربة المعاصرة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية واجهت هي الأخرى مشكلةً في الجامعات، حيث لم يحصل نجاح ممتاز في الربط بين الفقه والقانون في ذهنية الطالب الجامعي في مجال اختصاص الحقوق والقانون والقضاء وغير ذلك، وفقاً لإقرار كبار الشخصيات في المجال الحقوقي والقضائي.

ج ـ تأثير أساليب البيان في جملة من الكتب الدرسية الحوزوية المتأخّرة، لاسيما في أصول الفقه على الثقافة بل والحياة اللغويةلطالب العلم، كما تحدّثنا عن هذا الموضوع في مناسبة أخرى([2])، حيث أدّى الأمر إلى تشوّه نسبي للذوق اللغوي عند طلاب الشريعة، وهو الذوق العمدة في فهم بيانات اللغة العربية في الكتاب والسنّة، ولهذا ظهرت فهوم للنصوص الدينية لا تمتّ بأيّ صلة للفهم العربي، كما رأينا تراجعاً كبيراً في قدرة طالب العلم في الحوزات على التعاطي بعفوية مع اللغة العربية لتكون ذوقاً وأسلوباً وبياناً له.

ومن أهمّ من رصد هذا الموضوع وأبدع فيه، العلامة الشيخ عبد الهادي الفضلي، الذي عرف بنزعته الأدبية والنقديّة اللغويّة، وألّف في هذا المضمار مجموعة من الكتب الدرسية المعنيّة بقضايا اللغة والصرف والبلاغة، وركّز كثيراً على هذا الموضوع في جهوده وممارساته العلميّة، واهتمّ باللغة والتاريخ كثيراً في تعريف الموضوعات الشرعيّة كما كانت طريقة ابن إدريس الحلي، معتمداً في ذلك على أمّهات المصادر اللغويّة(3).

د ـ تعاني أغلب الكتب الدرسية الحوزوية من مشكلة أنها لم تكتب لتكون منهاجاً درسياً، وإنما دوّنها أصحابها لغير هذا الغرض، واعتمدت بتأثيرٍ من شخصيات مؤلّفيها إلى جانب امتيازات إيجابية موجودة. ومن الطبيعي أن يكون هناك فارق في التنظيم والأسلوب والبيان بين كتاب يُكتب ليكون درسياً وآخر يكتب لغرض ثانٍ فيصير درسياً، حيث سيفقد الثاني الكثير من الخصائص التي لو كان درسياً لاحتواها، مثل مراعاة ذهن الطالب، ومرحلته، والتدرّج في بيان المسائل له، وتوضيح المصطلح ومحلّ النزاع، وإجلاء العلاقات بين البحوث والأبواب، ووضع خرائط سير منتظمة وسهلة، وتيسير العبارات، وذكر مقدّمات في البدايات وخلاصات في النهايات، واستشراف للمستقبل، ورصد الجانب التربوي في المراحل الأولى ثم رفع مستوى الجانب العلمي كلما تقدّمت المرحلة، وبيان الفائدة من البحث([4])، وعرض أمثلة وتطبيقات حيث يحتاج وغير ذلك.

هـ ـ ونتيجة للنقطة السابقة، تمّ في بعض الكتب الدرسية الحوزوية استخدام أسلوب الجدل والمماحكة المطوّلة، وأبرز مثال كتاب المكاسب، فإنّ أسلوبه يناقض أساليب التربية والتعليم من زاوية أنّه يخرج الطالب في كثير من الأحيان بطريقة لا تحسم الأمور معه، بل يبقى متذبذباً تائهاً بين المسائل، وكذلك بعض المواضع من كتاب (دروس في علم الأصول) للسيد الصدر؛ إذ لأنه لم يكن يريد أن يحسم الأمور في الحلقة الأولى والثانية على الأقلّ، علّق بعض المسائل، مع أنّ التربية والتعليم يستدعيان بعث الطمأنينة ـ وليس الدوغمائية أو الطوباوية ـ في الطالب؛ ليشعر بأنه مطمئن في رؤيته للأمور أو على الأقلّ وضعه مع نتائج متعدّدة وفقاً لبناءات متعدّدة، فتحسم له النتائج ولو انطلاقاً من بناءات تبحث في مكان آخر.

وفي هذا السياق، لا يصحّ أن يعبّر الكتاب الدرسي عن مدرسة واحدة من مدارس الاجتهاد، كما هي الحال ـ نسبياً ـ مع (أصول الفقه) للشيخ المظفر، بل المفترض أن يعرض المشهد بشكل أوسع للطالب، كما فعل السيد الصدر في الحلقات.

و ـ غياب البحث الرجالي أو الأصولي عن بعض الكتب الدرسية الحوزوية، فنحن لا نرى حضوراً للدراسات الرجالية والنقد السندي والتاريخي في مراحل المقدّمات والسطوح مع الروضة والمكاسب، كما لا نرى حضوراً متميّزاً للأصول في اللمعة أو الشرائع، مع أنّ من الضروري أن يعيش الطالب هذه العلوم في مراحل السطوح حتى يتهيأ لها على المستوى الميداني في مرحلة الدراسات العليا، بل كثيرٌ من دروس البحث الخارج يتسم بهذه السمة أيضاً.

ز ـ يعاني كتابا الرسائل والمكاسب، وقبلهما الفصول والقوانين، من التوسعة الشديدة غير المتناسبة مع المستوى الذهني والمرحلة التعليمية للطالب، فالإفاضة في بيان الأقوال الكثيرة وتعدادها، وذكر أغلب الأدلّة والوجوه والمناقشات شيء هو للبحث الخارج مصداقٌ أكثرَ منه مصادقاً لمرحلة الدراسات الأولى أو المتوسّطة، ولهذا السبب تعدّ بعض دروس البحث الخارج أدنى من مستوى المكاسب مثلاً، بل سيأتي أنّ بحث الخارج أيضاً لا يقوم على هذا الاستقصاء المذهل.

وقد انتقد السيد محسن الأمين ظاهرة التطويل العجيب في الدروس، والتي كانت رائجة عند الميرزا حبيب الله الرشتي(1312هـ)، حتى أنه بقي ـ كما قيل ـ شهوراً في تعريف البيع، واعتبر السيد الأمين ذلك مضيعةً للعمر([5]).

ح ـ ثمّة مشكلة اليوم تعاني منها أغلب الكتب الدرسية الحوزوية، وهي أنها لا تراعي تطوّرات الفقه والأصول خلال الخمسين سنة الأخيرة، في حين يفترض بالكتاب الدرسي أن يكون مواكباً لتطوّر العلم نفسه، فمثلاً في ظلّ الحركة الإسلامية ظهرت الكثير جداً من الأفكار المتصلة بولاية الفقيه وفقه الدولة، وفقه النظرية، وفقه المجتمع، وقضايا الثابت والمتغير ومنطقة الفراغ، وأصول الفقه والهرمنوطيقا واللسانيات، وفي حجية الحديث والسنّة، وتاريخيّة التشريع، ودور الزمان والمكان في الاجتهاد و.. وقدّم عشرات العلماء نظريات وأفكار مفيدة، لكنّها جميعاً لا تنعكس في الكتب الدرسية الحوزوية، بل وحتى في بحث الخارج إلا قليلاً، فتظلّ على هامش العلوم الشرعية، مع أنها لو أدخلت لتعمّقَ البحث فيها واتسع وصارت معطياتها أكثر نضجاً وفائدة.

وهذا ما أشار إليه السيد محمد باقر الصدر، من أنّ كتب المعالم والكفاية والقوانين والرسائل لا تختزن تطوّرات الدرس الأصولي خلال القرن الأخير، مما يوقع فجوةً بين مراحل السطوح العليا ومرحلة البحث الخارج، فيظلّ الطالب أسيراً لهذه الفجوة([6]).

وهذه الملاحظة نفسها يمكن استخدامها بالمطالبة بتطوير حتى مشروع السيد الصدر نفسه في (الحلقات)، أو حتى مشروع الشيخ الإيرواني في (دروس تمهيدية)؛ لأنّ هناك الكثير من المستجدّات التي صار يلزم أن يتلقّفها الدرس الفقهي والأصولي ويضعها في صميم أبحاثه لا على هامشها، ممّا لا نجد له حضوراً حتى في مثل هذين الكتابين.

ط ـ يشير السيد الصدر إلى أن تدرّج الكتب الدرسية في أصول الفقه هو تدرّجٌ تاريخي، وليس تدرّجاً في الكمّ والكيف تستدعيه الضرورات التعليمية والتربوية،فالمعالم يدرّس أولاً؛ لأنه الأقدم، ثم القوانين ثم الرسائل ثم الكفاية، والتدرّج التاريخي يساعد على دراسة علم الأصول من مراحله البسيطة إلى المعقّدة؛ إذ بمرور الزمن حصل تطوّر في هذا العلم وتعقّد، لكنّ هذا التدرّج يفرض على الطالب ضريبةً أخرى، وهي دراسة أفكار أو موضوعات لم يعد لها اليوم موضعٌ في علم الأصول، من هنا يستبدل الصدر ذلك بطريقة التدرّج الكمّي والنوعي، ففي الحلقة الأولى يضع دليلاً، وفي الثانية دليلين، وفي الأولى يضع فكرةً مبسّطة، وفي الثانية يطرح الفكرة نفسها بشكل أكثر عمقاً وهكذا([7]).

وما أثاره السيد الصدر جيّد، ويمكن أن نعلّق هنا:

1 ـ إنّ سلامة الأسلوب الذي استخدمه السيد الصدر رهينة بأن لا تتجزّأ فكرةٌ واحدة على مراحل درسية ثلاث، مما قد يفقد الطالب قدرة استيعاب الفكرة أو النظرية من تمام زواياها بعد مرور فترة زمنية على دراسته لجزئها الأول، فلابد أن تكون عملية التقسيم بحيث لا تترك مثل هذا الأمر، وربما وقعت تجربة (الحلقات) أحياناً قليلة في مشكلة من هذا النوع.

2 ـإنّ نفس المبرّر الذي ذكره السيد الصدر يدعو اليوم لتعديلات حتى في المشاريع التجديدية في الكتب الدرسية؛ لأنّ بعض الموضوعات في أصول الفقه لم تعد لها حاجةٌ عظيمة، مثل مباحث حقيقة الوضع وحقيقة الاستعمال، بل وحتى غيرها وفق بعض الآراء، مثل المعنى الحرفي ومطوّلاته على رأي السيد على الخامنئي، كما سوف نشير لاحقاً بعون الله.

ي ـ تقوم كلّ هذه الكتب الدرسية الحوزوية ـ بما فيها (الحلقات) بإقرار الصدر([8])ـ على مفهوم عدم الاكتفاء بالكتاب أو نظرية محورية النصّ أو المتن الدرسي، بمعنى أنه لا يوجد كتاب درسي يمكن أن يفهمه الطالب من دون حاجة إلى الأستاذ؛ لأنّ هذا معناه ـ في الثقافة الحوزوية ـ أنه كتاب مطالعة وليس كتاباً درسياً، ولهذا السبب ترى الذهنية السائدة في الحوزات العلمية أنّ بعض العلوم لا تصح موادَّ درسية في الحوزة، مثل علم التفسير والقرآنيات والحديث والتاريخ والسيرة والأخلاق ونحو ذلك، وأحد أسباب ذلك ـ في تقديري ـ أنّ هذه العلوم لم تقدَّم للطالب ضمن متن درسي لا يقدر على فهمه دون أستاذ، بعد تشرّب الطالب بالفكرة المتقدّمة، مما جعله يصنّف هذه العلوم في عداد علوم المطالعة دون علوم الدراسة.

وقد سرت ظاهرة المتن حتى إلى جملة من دروس بحث الخارج، حيث نجد الأستاذ يشرح متن الكفاية ثم يقوم بالتعليق، إلى حدّ أن كتاب (محاضرات في أصول الفقه) للسيد الخوئي، يحوي في حدّ نفسه شرحاً لكفاية الأصول في القسم الأول منها، وربما لو استلّ من المحاضرات لكان شرحاً مستقلاً نسبياً.

ومحورية المتن في الدرس الحوزوي تقع على مرتبتين:

الأولى: ما هو السائد في غير كتاب (أصول الفقه) و(دروس في علم الأصول) وأمثالهما، حيث يحتاج للأستاذ في مرحلتين: شرح المعنى، وشرح اللفظ، فلو شرح الأستاذ الفكرة والمضمون لن يكون ذلك كافياً، بل تجده بعد شرح المعنى يخصّص وقتاً لتشريح الجمل والعبارات بغية إرجاع الضمير أو اكتشاف خبر المبتدأ أو غير ذلك.

الثانية: ما هو السائد في هذين الكتابين وأمثالهما([9])من كفاية شرح المعنى، فقبل الشرح يصعب الفهم على الطالب من مجرّد المطالعة، لكن بعد شرح المعنى يمكنه بالمطالعة أن يفهم، حيث لا يجد حينئذٍ تعقيداً أساسيّاً في البيان والعرض.

ومن الواضح أن المرتبة الثانية أفضل من الأولى كما بيّنا سابقاً، لكن مع ذلك نرى أنّ قراءة المتن من قبل الأستاذ أو محورية المتن تظلّ لها سلبياتها، إذ تدفع الطالب إلى الارتهان للغير في فهم الكتاب الأصولي أو الفقهي. فبدل أن يكون دور الأستاذ شرح العبارة عبر شرح المعنى للطالب، فليكن دوره تشريح المعنى وتوسيعه بحيث عندما يقرأ الطالب النصّ يفهمه فهماً أعمق، دون أن يعني ذلك بالضرورة عدم إمكان فهمه في الحدّ الأدنى لو قرأه من دون أستاذ.

نعم، تظلّ هنا مشكلة، وهي الكتب التراثية ـ غير الدرسيّة ـ التي لو اعتمدنا الطريقة المقترحة لن يتدرّب الطالب على فهمها وفهم لغتها، ومن ثم ستكون هناك قطيعة بين الطالب وبين الموروث الفقهي والأصولي، وهذا ما سيخلق له إرباكات في مرحلة البحث الخارج من جهة، وفي مجال البحث والتحقيق والتأليف فيما بعد من جهة ثانية، فما هو الحلّ الذي يجمع بين حداثة الكتاب الدرسي ومرجعيّة التراث الفقهي بعد كون الفقه من العلوم التي لا يمكن في العادة ترك موروثها جانباً، خلافاً لمثل الهندسة والرياضيات والطب و.. فهو مثل علم التاريخ تماماً؟

نقترح هنا حلاً يقوم على وضع مادّة في الدرس الحوزوي نسمّيها: دراسة المتون التراثية أو نصوص التراث، ويكون لها أساتذتها الكفوئين، وتختصّ هذه المادّة التي تكون في أواخر مرحلة السطوح، برصد النصوص التراثية في مراحلها التاريخية وتشريح جملةٍ من مقاطعها، وبيان مناهج مؤلفيها، وإجراء تمرينات تطبيقية عليها. وهذه المادّة إذا انضمت إلى مادّة تاريخ العلوم بما فيها علم الفقه والأصول، فسوف تذلّل هذه العقبات أمام الطالب بنسبة كبيرة فيما نرى.

ك ـ لاحظنا في الكتب الدرسيّة الأصولية عموماً في القرون الأخيرة، حضوراً للمصطلح والمفهوم الفلسفي والمنطقي، وهذا يعني أنّه من الضروري أن يكون الطالب في هذه المرحلة من السطوح العليا ـ فضلاً عن مرحلة البحث الخارج ـ قد استوعب الدرس الفلسفي بطريقة مقبولة، حتى لا يقع في فهم سطحي للموضوعات.

وعلم المنطق يُدْرَس في الحوزات العلمية في مراحل المقدّمات، لهذا تقلّ المشكلة من ناحية فهم ما يرتبط به أو يقوم عليه في علمي الفقه والأصول، وإن كنّا نرى ضرورة أن يكون الدرس المنطقي مستوعباً للمنطق الاستقرائي أيضاً بالخصوص وأن لا يقف على المنطق الأرسطي، لاسيما بعد ظهور مدرسة السيد محمد باقر الصدر (1400هـ) التي اعتمدت ـ في غير موضع من الفقه والأصول والحديث والرجال والكلام ـ على المنهج الاستقرائي فيما عُرف بالمذهب الذاتي للمعرفة.

من هنا نقترح لكي يفهم الطالب تطوّرات الدرس الأصولي والمنطقي معاً أن يصار ـ في الحدّ الأدنى ـ إلى تدريس (الأسس المنطقية للاستقراء) للسيد الصدر، بوصفه مادّة المنطق في مرحلة السطوح العليا، بعد دراسة (المنطق) للشيخ المظفر، بوصفه مادّة المنطق في مرحلة المقدّمات أو السطوح الدنيا، إن لم نذهب ـ كما هو الأرجح ـ إلى ضرورة وضع كتاب منطقي درسي جديد، يجمع في الحدّ الأدنى بين هذين الكتابين القيّمين.

أما الفلسفة، فهي ضرورية جداً في مرحلة السطوح المضارعة لدراسة أصول الفقه، ولكن مع الأسف الشديد نحن نشهد في العقد الأخير عودةً إلى نبذ الفلسفة في الأوساط الحوزوية، ورجوعاً إلى ما كانت الحال عليه قبل انطلاقة النهضة الإسلامية الحديثة، وهذا مؤشر على بدايات تراجع المدّ العقلاني لصالح المدّ النصي الحرفي في المحافل العلمية.

كيف يمكن لعلم الأصول ـ وقد تعرّضنا لهذا الموضوع في مناسبة أخرى([11])ـ أن يحارب الفلسفة وهو يقوم اليوم على نظرياتها؟! بل لقد اتّهم بعض الأصوليين بارتكاب أخطاء نتيجة توظيف القواعد الفلسفية بطريقة خاطئة تنمّ عن عدم تخصّصهم في الدرس الفلسفي.

هذا كلّه يعني ضرورة دراسة المنطق والفلسفة إلى جانب الفقه والأصول؛ لتأمين فهم أفضل للموروث الأصولي المتأخّر.

 الهوامش

(1) راجع: الفضلي، الحوار الذي أجراه معه حسين منصور الشيخ، والذي نشر في كتاب قراءات في فكر العلامة الدكتور الفضلي: 200، نشر اللجنة الدينية بالقارّة، الأحساء، الطبعة الأولى، 2008م.

(2) انظر: حيدر حب الله، دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر 1: 26 ـ 34.

(3) راجع: عبد الغني العرفات، فنّ ومنهج الكتابة عند العلامة الفضلي، وهو مقال منشور في كتاب قراءات في فكر العلامة الدكتور الفضلي: 166 ـ 167؛ ومقال: تجربة المنهجة في مبادى علم الفقه، للشيخ جعفر الشاخوري، المصدر نفسه: 241 ـ 243.

(4) راجع حول بيان الفائدة واستشراف المستقبل والتدرّج في البيان: العلامة الفضلي، حوار أجراه معه حسين منصور الشيخ، ونشر في كتاب قراءات في فكر العلامة الدكتور الفضلي: 195 ـ 196، 203؛ وانظر: عبد الجبار الرفاعي، جدل التراث والعصر: 99 ـ 101، دار الفكر المعاصر ودار الفكر، بيروت ودمشق، الطبعة الأولى، 2001م.

(5) انظر: محسن الأمين، أعيان الشيعة 5: 421.

(6) الصدر، دروس في علم الأصول، الحلقة الأولى: 10 ـ 12، دار الكتاب اللبناني ودار الكتاب المصري، الطبعة الأولى، 1978م.

(7) راجع: المصدر نفسه: 11 ـ 12.

([8]) انظر: المصدر نفسه، الحلقة الأولى: 27.

([9]) اعتقادي أنّ »الحلقات«وسطٌ بين هاتين المرتبتين، وإن كان السيد الصدر قد حاول أن يجعله من المرتبة الثانية بحسب ترتيبنا في المتن.

([10]) حيدر حب الله، دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر 2: 77 ـ 79.

 المصدر: قسم من مقالة بعنوان: الحوزة العلمية ومناهج الدراسات العليا – مطالعة عابرة في أساليب التعلّم والتعليم وقواعد الإدارة التعليمية للشيخ الدكتور حيدر حب الله

الموقع الرسمي لفضيلته على النت

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign