خرید فالوور اینستاگرام خرید لایک اینستاگرام قالب صحیفه
الرئيسية / التصنيف الموضوعي / طبیعة حكم الفقيه في ايران… (2) عبدالعزيز ساشيدينا
ولاية الفقيه

طبیعة حكم الفقيه في ايران… (2) عبدالعزيز ساشيدينا

الاجتهاد: يعتقد بعض الخبراء القانونيين البارزين في الفقه السياسي أن منصب “الفقيه الحاكم”، في غياب مجتهد كآية اللّه الخميني (ره) يجب أن يمنح إلى قيادة جماعية من المجتهدين المؤهلين تحت ظل “حكم الشريعة الإسلامية” ( ولاية الفقيه).

أود، قبل الدخول في موضوع ولاية الفقيه في إيران، منذ انتصار الثورة، الإشارة إلى أنني لا أبحث في مضمون عقيدة ولاية الفقيه، وما رافقها من براهين نصية وعقلية لدعمها، ولا أبحث كذلك، إلا بصورة عابرة للغاية، في شرح المفهوم الفقهي من قبل الفقهاء الشيعة قبل آية اللّه الخميني (ره).

سينصب اهتمامي على السياق السياسي الذي تم التعبير من خلاله عن العقيدة وتطويرها في إيران منذ الثورة في العامين 1978 و1979، والتبعات السياسية والقانونية المترتبة عليها. قد تنتج تصورات معينة، بصورة حتمية من طريقة تقديمي لما أرى أنه يمثل الحقائق حول الموضوع، بالرغم من أنني سأحاول أن أوصف الموضوع كما هو، وأكون محايداً في ذلک قدر الامکان.

“حكم الفقيه” منذ الثورة الإسلامية

استند تطور مذهب “ولاية الفقيه” في تاريخ المعتقد الشيعي، في الكثير من الأحيان، كما أوردت سابقاً، إلى السياق السياسي، بل وحتى إلى النظرة والتطبيق المتغيرين للفقهاء أنفسهم. تثبت معالجة آية الله الخميني الخاصة لمبدأ “ولاية الفقيه” وجهة النظر المتغيرة هذه، ويوجد فرق مهم ولافت للنظر، بين موقفيه ما قبل الثورة وما بعدها، في ما يتعلق بالجانب المثير للجدل المتعلق بالسلطة السياسية للفقيه، على وجه التحديد، سواء اتسمت بالشمولية وأصبحت مطلقة بالتالي، كتلك العائدة للإمام المعصوم، أم لم تتسم.

ظهر أول تصريح علني للخميني (ره)، في ما يتعلق “بحكم الفقيه”، في الكتاب المعنون ” بكشف الأسرار”.(١١)
يمثل هذا الكتاب رداً مفصلاً على الدعاية المعادية للدين، حيث تتضمن انتقادات لمطالبة “المجتهدين” بالسلطة السياسية.

يتمحور طرح مفهوم “ولاية الفقيه”، في كتاب “كشف الأسرار”، حول ما ورد بحذر في الأعمال التقليدية لفقهاء بارزين في حقبتي الكاجار وما بعد الكاجار، ويتم التعبير عنه من خلال ملاحظة تتمثل في أن المذهب يجسد منذ البدء مسألة خلافية بين الفقهاء الذين اختلفوا حول “المسألة الجوهرية المتمثلة حق ما إذا كان الفقيه يمتلك الولاية، ومدى الولاية، ومجال سلطتها الذي يجسد مسألة تتعلق بالاجتهادات الفقهية”(١٢).

يوضح آية اللّه الخميني (ره)، علاوة على ذلك، أن الحقيقة المتمثلة في امتلاك الفقهاء “الهوكومات” (سلطة إدارة العدل) و”الولاية” في هذه المرحلة لا تعني أن يشغلوا في الوقت ذاته مناصب “الملك والوزراء والعسكريين”، إلخ.

يعرض آية اللّه الخميني (ره)، عوضاً عن ذلك، تأسيس مجلس مكوّن من الفقهاء المؤهلين، المتقين لله، عوضاً عن المجلس الفاسد تحت ظل الشاه. يجدر بذلك المجلس، بدوره، أن يشرع في انتخاب حاكم عادل، لا يعارض القوانين الإلهية، ولا يحكم بالظلم والطغيان”(١٣).

ستنجح الدولة، بصورة مماثلة -إن تألف مجلس الشورى من الفقهاء الأتقياء أو أبقي تحت إشرافهم، كما يلزم الدستور في بلوغ غايتها المتمثلة في تحقيق العدالة والرخاء. لا يستثني عرض آية اللّه الخميني (ره)، بكلمات أخرى، إمكانية وجود حاكم عادل كذراع تنفيذية لمجلس فقهاء مشكل بصورة شرعية.

تعالج ملاحظته الختامية بهذا الصدد الدور السلمي الذي يلعبه “المجتهدون” في العالم الإسلامي. لا يعارض الأخيرون، بحسب تأكيد آية اللّه الخميني (ره)، استقلالية بلدانهم حتى حين يواجهون الإدارة الظالمة للحكام، ويعينون الأنظمة الظالمة التي يعمل بها أولئك الحكام.

لا يتجاوز “المجتهدون”، في مهمتهم السلمية هذه التي يقومون بها -حين يتحدثون عن مدى ما يتمتعون به من حق في إدارة العدل (هوكومات) أو ممارسة ولايتهم – لا يتجاوزون نطاق عدد من المسائل المحددة بدقة في الشريعة، بما يشمل “الولاية لإصدار قرارات شرعية وأحكام قضائية، والتدخل لحماية ثروة القاصر، أو غير القادر من الناحية القانونية، ولا يثيرون على الإطلاق المسألة المتعلقة بممارسة السلطة السياسية (هوكومات) من بين تلك المسائل، أو يتحدثون عن الحكم السياسي (سالتانات)، بالرغم من إدراكهم التام بأن القوانين القضائية الأخرى كافة (المجلوبة من أوروبا)، التي تخالف شرع الله، باطلة وغير ملائمة للشعوب الإسلامية.

يحترم “المجتهدون”، مع ذلك، تلك القوانين غير الملائمة للغاية، ولا يرفضونها، ويعتقدون بضرورة احتمالها إن لم يتحسن النظام بصورة كلية”(١٤)

تحول هذا الموقف المتردد في “كشف الأسرار” إلى موقف آخر أكثر فاعلية في محاضرات النجف الشهيرة في العام 1970؛ في ما يتعلق بسلطة الفقيه في الأمة الشيعية، التي توجت بالمذهب الحالي “لولاية الفقيه”. يشير العنوان الموضوع لتلك المحاضرات، “الحكومة الإسلامية”، إلى التحول من مبدأ ولاية الفقيه إلى نمط من الحكم يستلزم إخضاع السلطة السياسية للمعايير الإلهية المفصلة في الشريعة الإسلامية.

تمثل الحكومة الإسلامية، بكلمات أخرى، نمط الحكم الذي تسود فيه السلطة الأخلاقية – الدينية للفقهاء في أفرع الحكم المعاصر كافة: التشريعي، التنفيذي، والقضائي.
تعزو المحاضرات، استناداً إلى ما سبق، الحاجة الملحة لقيام الفقهاء بتولي مناصب المسؤولية إلى الهدف المتمثل في تحقيق غايات الحكم الإلهي للإنسانية.

يقدم آية اللّه الخميني، فيما بعد، ولاية الفقيه “كموضوع يحظى بالقبول الفوري، بحد ذاته، ولا يحتاج إلى الكثير من البراهين لأي شخص يملك شيئاً من الوعي العام بمعتقدات وأحكام الإسلام”، ويعزو الجدل الدائر حوله إلى “الظروف الاجتماعية السائدة بين المسلمين عموماً، والحوزة العلمية على وجه الخصوص”، في ما يتعلق بإيران”(١٥).

تتمثل المسألة الأكثر أهمية، التي تستمر في الهيمنة على الجدل الدائر حول “الولاية” بين علماء الدين، تتمثل بلا شك في مدى السلطة السياسية للفقيه في دولة – الأمة المعاصرة، التي تستمد سلطتها من الدستور. يوجد عدد محدود بصورة نسبية – كما أوضحت في عمل لي حول موضوع “الحاكم العادل في المذهب الشيعي”- من الفقهاء الذين أقروا بأن ولاية الفقيه تشتمل على أكثر مما اعتبره آية اللّه الخميني (ره) مسائل شرعية، عدّدها في كتابه “كشف الأسرار”.

لم يسلم آية اللّه الخميني (ره) في ما يتوافق عموما مع الآراء الفقهية التقليدية، بما يشمل محاضرات النجف حتى، بالرغم من تأكيده الصريح على قدرة و حق الفقيه في تولي سلطات سياسية أوسع في الدولة الشيعية- لم يسلم بالولاية المطلقة والعامة “للمجتهد”، التي أكد على أحقية الفقيه بها في فتواه في السابع من يناير/ كانون الثاني 1988 (١٦).

غابت الإشارات إلى مبدأ ولاية الفقيه بشكل ملحوظ في بيانات آية اللّه الخميني، قبل أن يصدر فتواه تلك، في أعقاب إسقاط نظام الشاه وتأسيس الجمهورية الإسلامية. كانت هناك إشارات دائمة -إلى جانب عنوان محاضرات النجف التي ألقاها- إلى “الحكومة الإسلامية”، وإلى “الجمهورية الإسلامية” في أعقاب تأسيسها، عوضاً عن “ولاية الفقيه”.

دفع ذلك الصمت، بشأن مسألة ولاية الفقيه، البروفيسور حميد ألغار، في أوائل العام 1979، إلى سؤال عضو بارز في المجلس الثوري، أثناء زيارته الولايات المتحدة -في حينه، عما إذا كان نمط الحكم الذي سيتشكل بعد الثورة سيطبق، في رأيه، مبدأ ولاية الفقيه، ليرد عليه بالنفي، بصورة صريحة، قائلاً إن الإمام الخميني “لم يُسمع له أي حديث عن ولاية الفقيه منذ زمن طويل، ولا ترجح، إلى حد بعيد، كفة الاعتقاد بأنه لا يزال يؤمن بضرورة أو شرعية ذلك المبدأ”.(١٧)

لم يبد آية اللّه الخميني (ره)، علاوة على ذلك ، حين قدمت إليه مسودة الدستور التي تمت صياغتها – بحسب بني أسدي، الذي كان يشغل منصب وزير العدل في الحكومة المؤقتة برئاسة مهدي بازركان- أي اعتراضات ملحوظة عليها، ولم يصر على إدراج مبدأ ولاية الفقيه فيها”.(١٨)

يمكن القول، بكل الأحوال -استناداً إلى ما كتب عن دور “المجتهد” في الدولة الشيعية في كتاب “كشف الأسرار” ومحاضرات النجف المفصلة – إن مفهوم الولاية لم یکن حاضرا فحسب في ذھن آية اللّه الخميني (ره) حين تولى السلطة في العام 1979، بل کان یمثل كذلك المصدر الفقهي الشرعي الوحيد لشرعنة سلطته و سلطة حكومته المؤقتة، بعد تسمية مهدي بازركان رئيساً للوزراء. أعلن آية اللّه الخميني (ره)، بالتالي، في بيانه الذي أعقب تعيين بازركان قائلاً: “قمت، بمقضى الولاية “السلطة” التي منحت إلي من قبل “المشرع المقدس”، بتعيينه “مهدي بازركان”، وأصبحت إطاعته واجبة بالتالي” 19.

تبدو مؤشرات الشرعية – اللاهوتية إلى السلطة الدستورية للفقيه هائلة في بيان تفويض السلطة هذا:

أولاً: اعتبر آية اللّه الخميني (ره) نفسه بمقتضى ولاية الفقيه، صاحب سلطة ممنوحة شرعياً لاختيار مهدي بازركان رئيساً للحكومة في إيران.

ثانياً: اعتبرت إطاعة مرسوم آية اللّه الخميني (ره)، بصورة غير مباشرة، ومن عيَّنه، بصورة أكثر مباشرة، واجبة، استناداً إلى الطبيعة الملزمة دينياً لسلطته “كنائب عام”، يمثل الإمام المعصوم.

يتعين اعتبار هذا البيان خاتمة منطقية لإشارة آية اللّه الخميني (ره) إلى سلطة الفقيه في كتابه “كشف الأسرار”، حيث يؤكد بصورة صريحة أن حكم الله لا يمكن تأ سيسه من دون الإشراف المباشر “للمجتهد” 20
يجسد البيان، علاوة على ذلك، إشارة متقدمة لما يحيط “بولاية الفقيه” من قدسية، في الفصل الثامن من دستور الجمهورية الإسلامية، المكرس بكامله لذلك المبدأ 21.

ساد الإرباك الأيديولوجي، حول سلطة الفقيه، إيران منذ الثورة 22 ، استناداً إلى ما يحويه التأويل الشامل للمبدأ -كما يشير البيان السابق لآية اللّه الخميني (ره)- من مضامين لمذهب الإمامة اللاهوتية، ونتيجة للجدل الدائر من قبل المشككين بمثل ذلك الانتحال لصفة الإمام المعصوم من قبل الفقيه. تنبع المشكلة الأيديولوجية من المبدأ الدستوري المتمثل فيسيادة الشعب، التي تمارس عبر ممثليه الانتخابيين في الدولة الحديثة، ومبدأ السيادة الممنوحة دينياً، التي يمكن أن تلغي الدستور إن تمت ممارستها بصورة مطلقة عبر منصب الولي الفقيه23 .

يوجد، بكلمات أخرى، نوع من التجاذب، أو حتى التناقض، في التسوية الناقصة التي تمت بين مبدأ السيادة المطلقة المفروضة دينياً لمن يشغل منصب الولاية، ومبدأ سيادة الشعب المؤسس دستورياً.
يمكن أن يتم عزو الإرباك والمشكلات التي حدثت في إيران ما بعد الثورة –في ما يتعلق بممارسة السلطات النسبية العائدة لأفرع الحكم المختلفة، وبخاصة الفرعين التشريعي والتنفيذي- إلى النظام السياسي الجديد تحت ظل ولاية الفقيه.

تتمثل المفارقة، بكل الأحوال، في عدم القيام بمحاولات في إيران لإجراء معالجة جدية عملية ونظرية لهذا المبدأ المركزي، حتى إصدار فتوى آية الله الخميني في السابع من يناير/ كانون الثاني 1988 24.

خيم الصمت الذي يمكن تفهمه بشأن المسألة – في مراكز التدريس الشيعية حتى، والمؤسسة الدينية، حيث ثارت الهواجس حول الادعاءات بالولاية العامة للفقيه، على ضوء دورها المعروف كحامية لسيادة واستقلال الشعب- خيم الصمت نتيجة الموقف الرسمي من القضية، الذي عبر عنه آية اللّه الخميني (ره) بأوضح العبارات قائلاً: “تمثل معارضة ولاية الفقيه إنكارا (محاولة لرفض) للائمة والإسلام” 25.
لا شك، في نهاية المطاف، بأن انتصار الثورة تحت ظل القيادة الدينية قد تحقق، على أقل تقدير، من قبل من هم في الحكومة، باعتبارها حكومة نائب الإمام الغائب، الإمام الفاعل
آية الله الخميني. تعين أن ينتظر هذا التوضيح لمدى ومعنى ولاية الفقيه، في العام 1988 ، الأزمة الناتجة عن فشل الحكومة، منذ الثورة، في حل مشكلات مهمة تتعلق بالمجتمع والاقتصاد بما يتوافق مع القوانين والمعايير الإسلامية.

أسهمت المسائل التي لم يتم إيجاد حل لها، علاوة على ذلك، بشان عدد من الإجراءات التشريعية، في إعادة إثارة الجدل، القائم دوماً، بين علماء الدين الذين يحرّمون المسألة المتعلقة بحق الإنسان في التشريع بكل معنى الكلمة، وينظرون إليها من منظار ضيق، و أولئك الذين يجيزون، على النقيض من ذلك، الخروج بتشريعات إضافية استناداً إلى أن الشريعة الإسلامية التقليدية، باعتبارها تمثل سلسلة من التوجيهات، لا تتسم بما يكفي من الشمولية في مضمونها لحل المشكلات المعقدة التي يواجهها المجتمع المعاصر26.

تمحورت القضية حول ملائمة الشريعة الإسلامية،من الناحية القانونية، لإجراءات يقرها البرلمان والشخصيات المهمة في الحكومة.

ألقت المسألة، بصورة غير مباشرة، ظلالاً من الشك حول تأكيدات الطبقة الدينية في التاريخ المعاصر بأن الإسلام، كطريقة للحياة، يملك حلوله الخاصة المميزة لما تواجهه البشرية من مشكلات رئيسة، و شكلت تحدياً لقدرة الفقهاء على تقديم حلول مترابطة لمسائل جوهرية -كإعادة توزيع الأراضي للمصلحة العامة، أو التدخل في العلاقة بين الموظِّف والموظَّف لتحقيق قدر من العدالة- لا تملك الشريعة الإسلامية التقليدية حلولاً لها 27.

شكل الانقسام بين التشريع الإنساني في البرلمان الحديث، وملائمة الشريعة الإسلامية للقيام بمثل ذلك النشاط، بوضوح الأساس لوجود ما سمي بمجلس الأوصياء، الذي عُين بصورة رسمية لإقرار ما إذا كانت التشريعات متوافقة مع الشريعة الإسلامية.
قوبل البرلمان، في مناسبات عديدة، بمعارضة مجلس الأوصياء لتمرير قوانين تناقض الشريعة الإسلامية التقليدية. وتم بالنتيجة، تأجيل البت في عدد من المسائل المتعلقة بالأراضي المدنية، ومشروع قانون حماية البيئة، وتأميم التجارة الخارجية، بسبب الخلافات غير المحسومة في الرأي بين البرلمان ومجلس الأوصياء.

و شكل هذا الإخفاق المتواصل في تحديد مدى سلطة الدولة للتدخل في مسائل معينة، بما يكفل تحقيق قدر من العدالة في المجتمع، شكل الأرضية لإصدار فتوى آية اللّه الخميني (ره) التي أكدت على سيادة الدولة الإسلامية، تحت ظل ولاية الفقيه، في ما يتعلق بتحقيق رفاهية مواطنيها.

صدرت الفتوى على هيئة رسالة إلى الرئيس في حينه، علي الخامئني، الذي تعرض في خطبته يوم الجمعة إلى مسألة حساسة تتعلق بمهمة النبي محمد في الأرض.

استنتج الخامنئي في تلك الخطبة أن وظيفة النبي تمثلت في إبلاغ الرسالة الدينية، و أن تأسيس الدولة لم يكن واقعاً ضمن نطاق مهمته الرئيسة. عمد آية اللّه الخميني (ره) إلى إصدار رده على ذلك الاستنتاج، الذي يتمثل القسم الرئيسي منه، بعد المقدمة الشكلية، في التالي28:

“يبدو من تصريحات سعادتكم، في خطبة الجمعة، بأنكم لا تعتبرون الحكومة مكافئة للولاية المطلقة التي منحت لأشرف الأنبياء صلى الله عليه وآله من الله، والتي تمثل الأهم من بين الأحكام الإلهية، ولها الأسبقية على الأحكام الفرعية كافة 29.

يناقض تأويلكم لقولي -المتمثل في أن الحكومة مفوضة لأن تعمل فقط ضمن إطار الأحكام الإلهية القائمة الفرعية، المتضمنة في الشريعة- يناقض بالمطلق ما قلتُه في الواقع. لو كانت سلطات الحكومة واقعة ضمن إطار الأحكام الإلهية الفرعية فحسب، لكان تعيين الحكم الإلهي والولاية المطلقة المفوضة إلى نبي الإسلام صلى الله عليه و آله مجرداً بالمطلق من المغزى والمضمون.

دعني أشر إلى بعض من العواقب الناتجة عن مثل تلك النظرة – العواقب التي لا يمكن لأحد أن يقبلها 30.
لا يقع، على سبيل المثال، مد الطرقات الذي يستلزم مصادرة البيوت أو الأراضي التي تمر ضمنها، لا يقع ضمن إطار الأحكام الإلهية الفرعية.

التجنيد العسكري؛ والإرسال الإلزامي للجنود إلى الجبهة؛ تحريم استيراد وتصدير العملة الأجنبية؛ أو أنواع مختلفة من السلع؛ تحريم الاحتكار؛ الرسوم الجمركية؛ الضرائب 31 ؛ تحريم المغالاة في الأسعار؛ تنظيم الأسعار؛ تحريم المخدرات و إدمان ما يخرج عن إطار المشروبات الكحولية؛ تحريم حيازة أنواع الأسلحة كافة؛ والمئات من الإجراءات المماثلة. لا يقع أي مما سبق، وفقاً لتأويلكم، ضمن نطاق سلطات الدولة.

يتعين أن أشيرإلى أن الحكومة، التي تمثل فرعاً من فروع الولاية المطلقة لرسول الله، تقع ضمن الأحكام الرئيسة للاسلام، ولها الأسبقية على الأحكام الفرعية كافة، مثل الصلاة، الصيام، والحج”. يمثل القسم الأخير، الموضوع بين قوسين في النص المقتبس السابق، الجزء الرئيسي من الفتوى التي كانت عرضة للعديد من التأويلات، في كل من إيران والغرب من قبل المختصين في الدراسات الشرق أوسطية.

يشير المعنى الظاهري لتصريح آية اللّه الخميني (ره) إلى أن الاعتبارات السياسية يمكن أن تتجاوز عقائد الشريعة. فهم معظم الباحثين الغربيين التصريح بهذا المعنى، الذي يستند إلى ما يدعمه في التاريخ ال سياسي للإسلام حين عمد من كانوا في السلطة، سواء كانوا من الخلفاء السنّة أم سلاطين الأمر الواقع، إلى تقديم مصالحهم السياسية على الأحكام الشرعية.

يجسد التصريح، بكل الأحوال، حين يتم اختباره في سياق اللاهوت العقلي الشيعي، إعادة ت أكيد للمعتقد الجوهري الشائع بين الشيعة والمعتزلة، المتمثل على وجه التحديد في العلاقة المتبادلة الرئيسة بين القيادة الدينية المعصومة المطلقة، المفروضة إلهياً النبوة أو الإمامة، وعملية تشكيل النظام المقر إلهياً.

يعد وجود الحكومة بقيادة النبي أو الأئمة بمثابة شرط أساسي لتطبيق الأحكام الإلهية الفرعية المفصلة في مجالي “العبادات” علاقة الله – الإنسا و“المعاملات”علاقة الإنسان – الإنسان ضمن الشريعة الإسلامية. يعتبر وجود وتعزيز الحكومة، بالتالي، واقعاً ضمن نطاق الأحكام الإلهية الرئيسة المفروضة، التي لها الأولوية على الأحكام الفرعية كالصلاة، الصيام، وغير ذلك في الشريعة.

لا يتجسد التعبير الرئيس عن نظام المعتقد الإسلامي، بكلمات أخرى، في ما يعتبر بصورة تقليدية الأركان الرئيسة للدين الإسلامي، بل بالأحرى في العلاقة الشاملة للمجتمع المسلم بالسلطة المؤسسة شرعياً في النظام العام الإسلامي.

يمثل ذلك معنى العقيدة الرئيسة للولاية، وهو المعيار الوحيد للحكم على الإيمان الحقيقي في المذهب الشيعي32.

لا يوجد دليل، بالتالي، على أي خرق أساسي في الفتوى، حين تعلن أن الحكومة الإسلامية مخولة بصورة شاملة لتقرير الشؤون كافة المتعلقة برفاهية الشعب، وتجاوز الأحكام الفرعية إن اقتضت الضرورة. يثير، بكل الأحوال، منح هذه الولاية المطلقة المفوضة العائدة للنبي والأئمة المحمية بالعصمة من ارتكاب أفعال آثمة إلى الحكومة التي يتزعمها الفقيه الذي يمتلك ما هو نسبي من الإيمان، والعلم، والسمات الشخصية، يثير الشك المتضمن على الدوام في الكتابات الفقهية الشيعية حول شرعية أي ممن يدعون الأحقية بامتلاك السلطة المطلقة الشاملة ل إ لمام المعصوم خلال فترة الغيبة.

يتجسد ما يدلل بصورة أكبر على هذا التحول إلى ولاية الفقيه ال شاملة في تصريح آية اللّه الخميني (ره) في الفتوى ذاتها، عقب الإعلان الرئيس بأن الحكومة الإسلامية “يمكنها أن تلغي، بصورة أحادية، التعاقدات الشرعية التي أبرمتها مع شعبها، في أي وقت تتعارض فيه هذه التعاقدات مع مصلحة البلاد والإسلام”.

يمكن للحكومة بزعامة “الولي الفقيه”، وفقاً لذلك، أن تمارس سلطات غير محدودة لإلغاء مسائل تمثل بصورة تقليدية جزءاً من مجال “المعاملات” العلاقات الشخصية المتبادلة بين الناس التابع للشريعة الإسلامية، تحت العنوان العريض الفضفاض المتمثل في “مصلحة البلاد والإسلام”.

أخضع الدستور الذي يهدف لحماية سيادة الشعب فعلياً، بكلمات أخرى، إلى السلطة المطلقة للقيادة الإسلامية تحت ظل “ولاية الفقيه” –التي تجسد الكيان الوحيد المؤهل لتعيين حدود “مصلحة البلاد والإسلام”.

فُوضت الحكومة الإسلامية، بناء عليه، للقيام بالتالي: “منع أي عمل يتم كجزء من علاقة الفرد بالله العبادة أو غير ذلك بطبيعته، إن كان تنفيذ ذلك العمل يتعارض مع مصالح الإسلام، وطالما استمر في الإضرار بالإسلام. يمكن للحكومة الإسلامية، على سبيل المثال، أن تحظر بصورة مؤقتة أداء فريضة الحج، أحد أهم الواجبات المفروضة من الله، في أي وقت تناقض فيه هذه الفريضة مصلحة الإسلام. ينبع أي مما قيل سابقاً، أو يقال الآن، حول مسألة “ولاية الفقيه”، من عدم المعرفة الكافية “بالولاية المطلقة”.

لا يعني المقطع السابق، في الحقيقة، إلا أن الشريعة الإسلامية برمتها، وبصيغتها التقليدية، يمكن أن تلغى وتبطل بفعل السلطات التي يمكن للحكومة الإسلامية أن تستخدمها باسم “مصلحة البلاد والإسلام”.

هدف آية اللّه الخميني (ره)، من خلال شرحه المبتكر “لولاية الفقيه” في تلك الفتوى، إلى توفير حلول على المستوى النظري- الفقهي للمشكلات الاقتصادية – الاجتماعية الواقعية،عبر تمكين البرلمان الذي واجه، منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية، المسألة الجوهرية المتمثلة في صلاحيته لإقرار القوانين في دولة – الأمة الحديثة.

هدف آية اللّه الخميني (ره)، علاوة على ذلك، إلى منح البرلمان الشرعية الدينية للسماح بتنفيذ قراراته باعتبارها متوافقة مع “مصالح الإسلام والمجتمع”. انعكس ذلك، بصورة متوقعة، على تأويل الخامنئي لفتوى آية اللّه الخميني (ره)حين أعلن، في سياق تأييدها، أن الفقيه الذي يملك الولاية يجب أن يطاع “لأن أوامره هي أوامر الله. ومن الواجب دينياً، بالتالي، أن تتم إطاعته” 33.
أكد الخامنئي، بالإضافة إلى ذلك، أن “الولي الفقيه” يمثل المصدر الوحيد للإجازة الدينية، ليس بالنسبة للبرلمان فحسب، بل وبالنسبة لفروع الحكم كافة، بل حتى دستور الجمهورية الإسلامية: “يستمد الدستور، الذي يوفر المعايير والأطر للتشريعات كافة، اعتباره من قبول ومصادقة الولي الفقيه… تستند شرعية أجهزة الحكومة كافة إلى الولي الفقيه. تحرم معارضة الحكومة وتمثل معصية كبرى، لأنها أقرت من قبل الولي الفقيه، بإذن من الله” 34.

يشير ذلك التأويل المطلق للفتوى بصورة ضمنية، من قبل رئيس إيران في حينه، إلى الارتقاء بمرجع التقليد الذي يحظى ب أكبر قدر من العلم الشرعي في المجتمع الشيعي إلى مرتبة الحاكم المطلق للشيعة، الذي يمكِّن، عبر مشيئته و سلطته اللامحدودة، المؤسسات الحكومية من العمل. يعين تأويل الخامنئي أيضاً، مع ذلك، الفصل الدائم بين منصب المرجع -الذي يتضمن أيضاً الولاية المحدودة المذكورة بصورة تقليدية في الشريعة- والولاية غير المحدودة بصورة فعلية، الموضحة من قبل آية اللّه الخميني (ره) باعتباره أحد المراجع، والمقرة في دستور إيران المعاصر.

اتسمت تلك المضامين بالوضوح حين توفي الإمام آية اللّه الخميني (ره)في العام 1989 ، ليشغر منصبه كمرجع، ويشغل من قبل الفقهاء البارزين الآخرين في البلاد، ولكن لم يكن بالإمكان أن يشغل منصبه كولي فقيه، من الناحية النظرية على الأقل، إلا من قبل مرجع آخر، يتمتع بالمكانة ذاتها من العلم والتقوى. أُرغم مجلس الأوصياء، لملء ذلك الفراغ في قيادة الحكومة الشيعية المقرة دستورياً، على ترك تقليد راسخ في المذهب الشيعي، يتمثل في الإقرار بالمؤهلات الفقهية للمجتهد، قبل اختياره لشغل منصبي “مرجع التقليد”و“الولي الفقيه”.

لا توجد فقرة تنص، في مبدأ ولاية الفقيه بصيغته المفصلة تقليدياً، أو المحددة حتى، على تولي غير المجتهد منصب “الولي الفقيه”. لم يكن بالإمكان، إلا عبر فقرة دستورية جديدة، أن يتم “ترقية” حجة الإسلام علي الخامنئي إلى آية لله. لم يكن بالإمكان كذلك، بكل الأحوال، أن يتولى الخامنئي منصب الولي الفقيه – بما يماثل منحه لقب آية الله من دون تمتعه بالمؤهلات المطلوبة للمجتهد- من دون الالتفاف على الشروط الأساسية المطلوبة 35.

تم تحقيق ذلك على الأرجح عبر توظيف لقب “ولي أمر المسلمين” الموكل سلطة إدارة شؤون المسلمين -اللقب الذي يتصف بصبغة سياسية، بل وحتى“سنّية”، أكبر في مضمونه36 – لخدمة آية الله الخامنئي، باعتباره خليفة لآية اللّه الخميني (ره) في القيادة الدينية لجمهورية إيران الإسلامية.

أصبح الولاء لآية الله الخامنئي الآن، بالتالي، باعتباره يشغل منصب “الولي الفقيه” مفروضاً من قبل الدستور الإيراني، بينما كان الولاء والإخلاص للقادة الدينيين في المذهب الشيعي يستندان، بصورة تقليدية، وعلى الدوام، إلى القبول الشخصي للفرد.
ولاية الفقيه في حقبة ما بعد آية اللّه الخميني (ره)

تجاوزت إعادة تأويل آية الله الخميني لمبدأ “حكم الفقيه” نطاق وظيفته الفقهية المتمثلة في “الوصاية” على المجتمع المحروم بتوجيه الإمام الغائب.

برز المبدأ، تحت ظل آية اللّه الخميني (ره)، كمصدر للسلطة المطلقة الشرعية في الدولة الشيعية الحديثة. مثَّل ذلك الاستنتاج المبتكر وتكييفه في دولة – أمة إيران الحديثة كي تصبح جمهورية إسلامية تحت حكم الفقيه، مثَّل إشكالية من ثلاث نواح:35 وثِّقت تلك الشروط الأساسية المطلوبة بوضوح، حتى في عملي آية اللّه الخميني (ره)“كشف الأسرار” و“محاضرات النجف”. 36 يوصف حكام الأمر الواقع السنّة باللقب ذاته من قبل الفقهاء السنّة.

الأولى: لا يوجد في الفقه الشيعي ما يمنع تعدد المراجع وسلطتهم. يمكن، بالتالي، أن يمارس أكثر من “مجتهد” مؤهل سلطته في الدولة الشيعية، مما يثير مشكلة تعيين “مرجع” مقبول من الدولة.

الثانية: تمثلت الإشكالية في مشكلة “تأميم” منصب المرجع، “العالمي” استناداً إلى الشريعة، الذي يشمل الشيعة برمتهم -بغض النظر عن جنسية المؤمن أو انتمائه العرقي- في دولة ملزَمة بتطبيق معايير نظام عام عالمي. انخرطت إيران، بصورة غير مباشرة، عبر إقرار منصب دستوري للسلطة الدينية العليا، في مصادرة ولاء المجتمع الشيعي برمته لمصلحة دولة – الأمة في إيران.

وتجاهلت إيران بذلك، الم ضامين الدينية لإنشاء الدولة القطرية الحديثة تحت مفهوم آية اللّه الخميني (ره)“لحكم الفقيه” الذي تت أصل فيه العالمية وتعدد الثقافات، ويقر بأن الالتزام بالاعتراف بالسلطة العليا لمن يشغل ذلك المنصب يقترن بالحق الممنوح إلهيا للمسلمين الشيعة بالعيش تحت حكمه.

ستستند حقوق الشيعة في إيران، بالتالي، إلى المبدأ ذاته الذي سمح لليهود في الشتات بأن يزعموا بامتلاكهم الحق، الممنوح إلهياً، في الهجرة إلى فلسطين. لا يستغرب تجاهل القادة الدينيين المسلمين لذلك. ولا يزال علماء الدين يفكرون، حتى الآن، وفق الأسس المعينة من قبل التقاليد الشرعية الإسلامية التي لم ترَ في العالم بالمطلق، وبصورة فعلية، مجتمعاً لدول – الأمم.

وتحدثت الشريعة الإسلامية على الدوام باسم “الأمة”، المجتمع السياسي- الديني بقيادة ممثل الله على الأرض. تتعامل الافتراضات المسبقة التي تحكم مؤسسة دولة السيادة الحديثة، على النقيض من ذلك، مع وحدة و سيادة الأراضي الإقليمية باعتبارها أساساً جوهرياً لمطالبتها بالدولة المستقلة.

الثالثة: تجسدت في مشكلة الإقرار بمنصب “المرجع” كمسؤول في الدولة.

يلزم ذلك الحكومة بتعيين “مجتهد” مؤهل لشغل ذلك المنصب. وضعت حكومة إيران الأساس، بصورة غير متعمدة، للانقسام المستقبلي للقيادة الدينية الشيعية، عبر توظيف نموذج القيادة العائد لآية الله الخميني، الذي كان قادراً على لعب كل من الدورين التقليدي والدستوري “لمرجع” الدولة.

يكشف الفحص المت أني لانتقادات آية الله شريعة مداري للمشاورات الدستورية في أوائل الثمانينات من القرن المنصرم، عما يتمتع به من ذكاء وواقعية عبرثارة المسألة الحساسة المتعلقة باستمرارية “حكم الفقيه” في حقبة ما بعد آية اللّه الخميني (ره).

تعرض منصب “المرجع” المستقل تقليدياً للتهميش، كما توقع شريعة مداري وغيره من آيات الله البارزين في حينه، مع إيجاد منصب “مرجع الدولة” تحت ظل “حكم الفقيه”، مما أدى بالمجتمع بصورة عامة إلى الاستمرار في اختيار مرجعه المفضل.

هدفت مأسسة منصب “المرجع” عبر الدستور، بالت أكيد، لتجاوز مشكلة تعدد المراجع ضمن نطاق “حكم الفقيه”، التي كان عمل الدولة بصورة سلسة مستحيلاً من دون حلها.

كان من الممكن للفردية الفقهية التقليدية والاستقلال الناتج الذي تمتع به “المجتهدون” في ما يتعلق باستكشاف الغايات الإلهية للمجتمع المسلم، كان من الممكن أن يتسببا في إيجاد وضع متفجر، وقد فعلا، كما تأكد عبر انتقادات آية الله منتظري العلنية للإدارة السياسية للحكومة الإسلامية، بما لذلك من ت أثير بعيد المدى في مستقبل الجمهورية الإسلامية تحت حكم آية الله.

سيتم التقليل بالحد الأدنى من وقوع مثل تلك الاختلافات في دولة – الأمة -وفقا لعقيدة “حكم الفقيه”، كما صيغت من قبل آية الله الخميني- إذا وجد، وحين يوجد، شص مؤهل بجدارة، ليُلزَم المجتمع برمته من الناحية الدينية بقبول سلطته كقائد ديني ودستوري، و إطاعته في كل توجيهاته لمصلحة الإسلام والمسلمين.ستحدد تلك المصلحة، بالطبع، من قبل شاغل ذلك المنصب.

استندت مثل تلك الاستنتاجات بوضوح، في ما يتعلق بالسلطة السياسية “للمرجع” باعتباره “ولي أمر المسلمين”، إلى الفرضية الشرعية الإ سلامية المتمثلة في أن هذا الحكم سيمارس عبر حكومة شيعية عالمية، حيث سيتمتع المؤمنون كافة بحقوق متساوية في الاستيطان.

يتعارض إقرار مبدأ “حكم الفقيه” في دولة – الأمة المعاصرة، بالتالي، بغض النظر عن كونه جزءاً من دستور إيران الشرعي، يتعارض بصورة مبا شرة، من جهة، مع الطابع العالمي للمؤ سسة وفقاً للشريعة، وقد أدى، من جهة أخرى، إلى النقيض تماماً مما هدف إليه الإمام الخميني من دمج بين السلطات المدنية والدينية في إيران.

أحاطت مشكلتان جوهريتان بمؤسسة “المرجع”، بغض النظر عن المشكلات السياسية والفقهية الأخرى، في التاريخ المعاصر للمجتمع الشيعي عبر العالم، الأولى، انعدام الصلة بالواقع للكثير من التوجيهات الدينية التقليدية التي تؤثر في العلاقات
الإنسانية الشخصية وقانون المعاملات، الناتج عنها، في العالم الحديث.

الثانية، أنانية المواقف العائدة لبعض من أفراد عائلات آيات الله البارزين، ورفاقهم المقربين، الذين تثير زياراتهم الدورية إلى العواصم الغربية صدمة العديد من الشيعة و إزعاجهم.

دفع نقص الثقة في المؤسسة التي عرفت بنمط حياتها البسيط والزاهد، علاوة على وفاة عدد من أفراد المؤسسة الدينية البارزين في النصف الأول من هذا العقد، دفع إلى الواجهة بالسؤال القديم للغاية حول الإصلاحات الضرورية لجعل “المرجع” فاعلاً في أكثر الأوقات العصيبة التي تواجه المجتمع عبر العالم.

من المهم الذكر بأن تعليقات آيات الله البارزين، حول مجلس الأوصياء الإيراني، أثناء لقاءات صلاة الجمعة، وفي أوقات أخرى إثر وفاة آية الله الآراكي في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1994 -علاوة على التساؤلات بشأن قابلية نجاح آية الله الخامنئي كمرشح لتولي القيادة العليا- أن جميعها تشير إلى أزمة القيادة الشيعية في يومنا هذا.

تفاقمت الأوضاع نتيجة سعي الحكومة الإيرانية لإيجاد إجماع حول الرؤية الجديدة لقيادة مركزية تحت ظل مفهوم آية اللّه الخميني (ره) لحكم الفقيه، بما يماثل البابوية الكاثوليكية، كما تم التعبير عنها بوضوح من قبل أحد الأعضاء في مجلس الأوصياء، آية الله أحمد جنتي.

لم ترَ الحكومة الإيرانية، وذراعها الدينية بقيادة مجلس الأوصياء، في أي من “المجتهدين” البارزين من أتباع آية الله الخوئي الذين يعارضون مبدأ آية اللّه الخميني (ره)-وبخاصة آية الله السيد علي السيستاني، الموجود في النجف، العراق- لم ترَ بديلاً فاعلاً لشغل ذلك المنصب. تثار الشكوك في الحقيقة، بالرغم من الاستمرار في تسمية آية الله الخامنئي بكل من القائد راهبار وولي أمر المسلمين الوصي على شؤون المسلمين، حول ما إذا كان سيقر به من قبل العامة “كولي فقيه”.

يجدر بنا، على الأرجح، أن نؤكد أن إ ضافة الطابع الدستوري على “ولاية الفقيه”، بت أويلها الواسع، قد أصبح ممكناً نتيجة قيادة آية الله الخميني، التي جمعت بين سلطتي “مرجع التقليد” و“الولي الفقيه”.

تم تولي “ولاية الفقيه”، مع ذلك، عقب وفاته، من قبل مجلس الأوصياء، الذي حصرها، لأسباب سياسية، في البعد السياسي لذلك المنصب، بما يماثل المنصب المشغول من قبل ولي أمر المسلمين، بينما أبقى بعده الشرعي ضمن سلطات المجلس، إلى أن يوجِد التاريخ السياسي للمجتمع الشيعي، مع تقدمه، “وليا مطلقاً” آخر في إيران.

يميز الوضع الحالي لمبدأ “ولاية الفقيه”، علاوة على ذلك، ذروة العملية التدريجية التي تهدف لجعله خاصاً بالسياق الشيعي الإيراني، لأنه لم يعد ذا صلة بالواقع في ما وراء حدوده الجغرافية، ناهيك عن أن تلك الصلة في إيران، على الأرجح، قد تم التعتيم عليها من قبل المشكلات العملية المعقدة التي تتم مواجهتها من قبل الأمة، التي تواجه في الأصل مشكلات مباشرة بصورة أكبر في ما يتعلق بإعادة إدراج نفسها كعضو ذي مصداقية في النظام الدولي الجديد، عوضاً عن اعتبارها دولة “للمستضعفين” الذين يأملون بإقامة نظام إسلامي دولي تحت ظل “ولاية الفقيه”.

تثير التجربة الدينية للشيعة، بكل الأحوال، الاضطراب نتيجة للظلم الواقع ممن يتولون السلطة. لن يتفاجأ المرء كثيراً، بالتالي، إن وقعت ثورة أخرى “للمستضعفين” تحت ظل قادتهم الدينيين، في سياق تطلعات الشيعة للخلاص، وحكم العدالة والإنصاف في الأرض.

ملاحظات ختامية

يتعين أن يتعامل مجلس الأوصياء مع المسألة المتعلقة بسلطات مؤسسة “حكم الفقيه”، وفق الأشكال التي اتخذتها في حقبة ما بعد آية اللّه الخميني (ره)، التي تخضع للبحث في يومنا هذا. تتمثل المسألة المركزية، كما تبدو الحال عليه -وفق ما لمست عبر النقاشات والندوات المتعددة التي شاركت فيها حول الموضوع- في تعريف “الفقيه الحاكم” ومدى السلطة التي يمكن أن يمارسها في إطار دولة – الأمة الحديثة.

يعتقد بعض الخبراء القانونيين البارزين في الفقه السياسي أن منصب “الفقيه الحاكم”، في غياب مجتهد كآية اللّه الخميني (ره) يجب أن يمنح إلى قيادة جماعية من المجتهدين المؤهلين تحت ظل “حكم الشريعة الإسلامية” (ولاية الفقه).

اتسمت النقاشات والحلول بالواقعية في نظرتها إلى ضرورة مأسسة المفهوم التقليدي ضمن دولة حديثة تعجز عن احتمال كلفة الاتكال على عبادة الفرد في تسيير شؤونها اليومية. يتعين أن تحل المشكلات الاجتماعية والاقتصادية وفق المعايير الإسلامية ذات الصلة، التي تستلزم ما هو مناسب من إعادة التوظيف والتأويل لتلائم حاجات المجتمع الحديث.

يمكن لمأسسة “حكم الشريعة الإسلامية” هذه أن تصبح، بامتياز، المصدر الرئيس للإصلاحات الضرورية في سياسات إيران الداخلية والخارجية على حد سواء. انطلقت عملية حشد الإجماع الضروري بين القوى السياسية والأيديولوجية منذ تولي رفسنجاني وخاتمي، المنتميين إلى المرجعية الدينية، الرئاسة. يصعب إيجاد الفرصة كثيراً، في ظل رئاسة أحمدي نجاد، الذي لا ينتمي إلى رجال الدين، لحشد التأييد لإصلاحاته المقترحة بين العناصر المحافظة في قم.

ويمكن، مع ذلك، أن يؤدي تقسيم السلطة السياسية بين الجناحين الليبرالي والمحافظ للمؤسسة الدينية والسياسية إلى التقويض بشدة من قدرة الحكومة على الوفاء بتعهدات حملتها الانتخابية. كما يصعب تخيل قدرة أي رئيس على حشد الإجماع السياسي الضروري، مع عدم استعداد الجناح المحافظ للمؤسسة الدينية للتفكير في ما يمكن أن يفضي إلى التسوية مع الغرب.

الهوامش

11 – لا يوجد تاريخ أو مكان لإصدار الطبعة التي استعنت بها في هذه الدراسة. تم إصدار العمل قبل وقت طويل بالتأكيد، بعيد الإطاحة برضا شاه بهلوي من قبل القوات المتحالفة، وتسليم السلطة لابنه، آخر الحكام من سلالة بهلوي، في العام 1941، انظر حميد ألغار، Development of the Concept of Wayat-faqih since he islamic Revolution in Iran دراسة قدمت في مؤتمر لندن حول “ولاية الفقيه”، بعة يونيو/ حزيران 1988، وكذلك، مقدمته “للإسلام والثورة”، ص 41.
(١٢) “کاشف الاسرار”، ص 185.
(١٣) الصدر السابق.
(١٤)- المصدر السابق، ص 186
(١٥) -Islam and Revolution, p.27
يتصل الوضع في الحوزات العلمية الشيعية، التي يشير آية اللّه الخميني (ره) إليها، بالموقف الأكثر هدوءا المتبنى من قبل عدد من “المجتهدين” البارزين -الذين تولى بعضهم كذلك منصب “مرجع التقليد”- الذين انتابتهم الهواجس بشأن تولي السلطة السياسية من قبل القيادة الدينية.
(١٦) تم تناقل هذه الفتوى الشهيرة بصورة كبيرة، ناهيك عن التعليق عليها في سياقات مختلفة.
(١٧)- الغار : Development of the Concept’
(١٨)- المصدر السابق.
19 المصدر السابق.
20 كشف الأسرار، ص 222 .
Constitution of the Islamic Republic of Iran -21 مترجم من قبل حميد ألغار. (Berkeley: Mizan Press, 1980), pp. 66ff.
22 – يعد آية الله الراحل كاظم شريعة مداري، بلا شك، واحدا من أكثر المنتقدين بصورة عميقة للفوضى المتنامية و آلية توزيع السلطات في الفترة التي أعقبت إضفاء الطابع الدستوري على “ولاية الفقيه” في إيران. آمن الرجل بالمشاركة العادلة للسلطة بين من يمكنهم أن يشغلوا منصب “الولاية” بصورة جماعية، ويشكلوا “مجلسا للشيوخ”، كقضاة المحكمة العليا في الولايات المتحدة، عوضا عن امتلاك السلطة بصورة مطلقة من قبل “الولي الفقيه”، الذي تم إضفاء الطابع الدستوري على منصبه المتجسد في شخص آية اللّه الخميني (ره). انظر “المقابلة الحصرية” مع شريعة مداري في: The Middle East, January, 1980 في أعقاب سقوط حكومة مهدي بازركان.
23- تم التعبير عن تلك المخاوف من قبل شريعة مداري الذي آمن بقوة بأن الحد الوحيد الذي يمكن أن يوضع للسلطة المطلقة للفقيه يتمثل في الإقرار بالحقيقة المتمحورة حول سيادة الشعب. ارتأى الرجل في “ولاية الفقيه” حاميا لاستقلال البلاد عبر الولاء لمبدأ سيادة الشعب والإسلام. انظر “المقابلة الحصرية” مع شريعة مداري في: .The Middle East, Jan, 1980, p. 33
24 – عمل آخرون خارج إيران على تقييم آراء آية اللّه الخميني (ره) الأولية حول الموضوع من الناحية النقدية، بل وحتى عرض تأويلاتهم الخاصة لمبدأ “ولاية الفقيه”. انظر، على سبيل المثال: محمد جواد مغنية، “الخميني والدولة الإسلامية” بيروت: 1979 ، حيث قام المؤلف بتحدي استنتاجات الخميني التي تحصر الولاية في الفقهاء. عمل محمد باقر الصدر أيضاً على التوسع في المبدأ في محاضراته المعنونة “بالإسلام يقود الحياة” طهران: 1983. يمثل عمل آية الله منتظري، المؤلف من ثلاثة مجلدات، المعنون “بولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية” قم: 1408 ه/ 1988م، يمثل دراسة مفصلة تعرض موقف آية اللّه الخميني (ره) الرسمي من سلطة الفقيه، وتتتبع أصوله منذ بعثة النبي عبر دراسة النصوص، وتربطه بمفهوم القيادة والحكم في الفكر الفقهي الإسلامي.
25 – ألغار، – .Development of the Concept
26 – انظر: Abdul-Hadi Hairi, Shi’ism and Constitutionalism in Iran (Leiden: E. J. Brill, 1977 للاطلاع على نقاش حول المسألة المتمثلة في حق الإنسان بالتشريع، بين الفقهاء أثناء الثورة الدستورية في العام 1907. انظر كذلك: Arjomand, The Turban for
.the Crown, pp. 50 ff
27 – من الطريف الإشارة إلى أن النقد للمطالبة بسلطة الحكم المطلقة في الدولة الحديثة من قبل الفقهاء، على حساب حق الشعب بالسيادة، المقدم من قبل “نيهداتي آزاديي إيران” في الإصدار المعنون “بويلايتي مطلقاي فقيه” طهران: 1368 ه/ 1989 م، الإشارة إلى أنه يلمح كما يبدو -كما فعل آية اللّه الخميني (ره) في مقدمة فتواه- بما يمثل مفارقة بالأحرى، إلى أن القانون الإلهي شامل و أبدي بما يحول دون التلاعب به من قبل أي رأي يقول بأنه لا يملك الحلول للمشكلات الإنسانية كافة التي تتم مواجهتها في المجتمع الحديث.
28 – أوردتُ ترجمة ألغار لهذا النص، مع تغييرات بسيطة، كما وردت في عمله: “ ”…Development of the Concept
29 – نشات تلك الأحكام بفضل وجود الأحكام الرئيسة، وقد كان من المستحيل أن تنشأ دون ذلك. يمثل وجود النبي، بالتالي، علاوة على النظام الإلهي، والقيادة الدينية، أحكاماً رئيسة تستند إليها الأحكام الفرعية، ك أداء الواجبات الدينية.
30 – يقصد بها العواقب الناتجة عن النظرة المتمثلة في أن الحكومة الإسلامية لا يمكنها أن تعمل إلا ضمن إطار أحكام الشريعة القائمة.
31 – يقصد بها بوضوح الضرائب غير المفروضة من قبل الشريعة.
Islamic Messianism, p. 6 9 – 32
33 – كما ورد في عمل ألغار، “ ”…Development of the Concept فإن خامنئي، رئيس إيران في حينه، كان يحمل لقب حجة الإسلام، ولم يكن قد “ترفع” بعد ليحصل على لقبيه الحاليين “آية الله” و“ولي أمر المسلمين” مالك السلطة الممنوحة عبر الوصاية على شؤون المسلمين.
34 – المصدر السابق.
35 – وثقت تلك الشروط الأساسية المطلوبة بوضوح، حتى في عملي الخميني “كشف الأسرار” و“محاضرات النجف”.
36 – يوصف حكام الأمر الواقع السنّة باللقب ذاته من قبل الفقهاء السنّة.

 

مصدر المقالة: الكتاب 35 من اصدارات مركز المسبار للدراسات و البحوث

 

 

طبیعة حكم الفقيه في ايران.. (1) عبدالعزيز ساشيدينا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign