خرید فالوور اینستاگرام خرید لایک اینستاگرام قالب صحیفه
الرئيسية / موقع الاجتهاد و جميع المواضيع / فقه الحياة (جميع المواضيع) / فقه الثقافة والتقنية / الغناء في الإسلام، اختلاف الحكم باختلاف الموضوع / الشيخ كاظم قاضي زادة
الغناء

الغناء في الإسلام، اختلاف الحكم باختلاف الموضوع / الشيخ كاظم قاضي زادة

الاجتهاد: مفهوم الغناء من المفاهيم المجملة عند الأصوليين، ومن جهةٍ أخرى فإن صنع واختراع، وكذا استعمال، أدوات الموسيقى جُعلت وبشكلٍ مبهم ضمن مصاديق الغناء والموسيقى المحرَّمة، وهو الأمر الذي ظلّ موضع مدٍّ وجزر بين الفقهاء، ولم يستقرّ على حكم موحّد ونهائي.  بقلم: الشيخ الدكتور كاظم قاضي زاده(*) ترجمة: نظيرة غلاب

 يعتبر الغناء والموسيقى من أهمّ المقولات في مجال الثقافة والفنّ. وكان تأثيره العجيب والغريب في النفس عاملاً قوياً لشدّ الناس إليه منذ العصور الأولى. وقد أشار الشعراء في إيران إلى تواجد المغنّين والعازفين على آلات الموسيقى في إيران القديمة، وفي زمن الحكم الساساني، وما كان يتمتّع به هؤلاء من مكانة في بلاط ملوك الساسانية، وكذا مَنْ تبعهم من الأمويين والعباسيين، إلى درجة أنهم كانوا يغدقون عليهم في العطاء والهدايا بشكلٍ يفوق الخيال. فهذا هارون الرشيد يدفع لإبراهيم الموصلي مبلغ ألف درهم جائزة مقابل لحنٍ عزفه له([1]).

والمطّلع على التاريخ يعلم أن السيرة الغالبة على مجالس الغناء والعزف على آلات الموسيقى التي كان يعقدها الملوك والأمراء كانت تترافق وحضور القينات أو الغلمان، وتتناول فيها الخمرة. وهي المجالس المخلّة بكل آداب الدين، والمخالفة لتعاليم الشريعة الإسلامية، وبالتالي فهي حرامٌ إلى يوم الدين. لكنّ هذا الوضع لا يعني مطلقاً أن هذا النوع من الثقافة والفنّ منحصرٌ في تلك المجالس، أو معقود عليها.

فكما أن هناك مجالس الغناء المحرّمة؛ بلحاظ استحواذ طابع الفسق والكبائر عليها، هناك مجالس أخرى من مجالس الغناء والموسيقى لم تستحضر شيئاً ممّا يدخل في نطاق الحرام أو يكون جزءاً من الرذيلة، بل اقتصرت على جعل الغناء طريقاً للحثّ على الفضائل وعلى طلب الآخرة. وقد نقل لنا التاريخ دور النغمات والغناء الروحي الذي يحمل النفوس إلى درجات الترفُّع عن عالم المادة، ويشق فيها طريقاً نحو طلب الكمال.

كتب ابن أبي الحديد حول صوت النبي داوود× قائلاً: لقد أوتي داوود× صوتاً شجياً لدرجة أن الطيور كانت تجتمع في محراب صلاته حين كان يقرأ بعض الكتاب، بل كانت حيوانات الصحراء تقترب منه بمجرد سماع صوته، وكانت لشدة تأثّرها لا تبالي بوجود الإنسان إلى جانبها([2]). ومضافاً إلى صوته الشجي كان للنبيّ داوود مزمارٌ([3]) معروف، وقد أشار إليه أمير المؤمنين بصاحب المزامير، وأنه قارئ أهل الجنة([4]).

وقد كان للصوت الحسن واللحن الشجي مكانة خاصة في البدايات الأولى لتاريخ الإسلام، وظهرت بشكل خاصّ في مجال قراءة وترتيل القرآن الكريم. ويظهر هذا الاهتمام والمكانة من خلال تعدّد الروايات التي تتحدّث عن صوت النبي الأكرم|، وكم كان صوته شجياً مؤثِّراً. وكذا كان الحال بالنسبة إلى باقي المعصومين^. بل هناك روايات تقول: إن النبي الأكرم «كان أحسن الناس صوتاً بالقرآن»([5]). وتنقل رواية أخرى أن النبي الأكرم| كان يقلِّل من ترتيل القرآن في صلاة الجماعة؛ رأفةً منه بحال المصلِّين([6]).

وقد عرف نفس الشيء عن الإمامين عليّ بن الحسين ومحمد الباقر’. وكان كلُّ واحدٍ منهما أحسن الناس صوتاً بالقرآن في عصره، لدرجة أن الناس كانوا يقفون يستمعون قراءتهما، تاركين ما كانوا عليه من العمل([7])، بل كان البعض يصعق من شدّة تأثير صوتهما([8]).

ولم يكن الصوت الحسن واللحن الشجي في تلاوة القرآن منحصراً في بيت العصمة×، بل كان هناك عددٌ من الصحابة والتابعين اشتهروا بحسن القراءة والترتيل، وإنْ لم يبلغ حسن صوتهم مبلغ صوت النبيّ الأكرم والأئمّة الأطهار^. وقد كان النبي الأكرم| يستمع إلى بعض القرّاء من الصحابة([9])، وكان يمدح ويثني على تلاوتهم، حتى قال لبعضهم: إنه أوتي مزماراً من مزامير داوود×([10]).

وإن الدارس لمجموع الروايات الواردة في الموضوع يلاحظ تمحورها حول مسألتين: الغناء، ثم آلات اللهو واللعب. وكان موضوع الحكم في تلك الروايات الغناء والموسيقى، وما يتعلَّق بهما من آلات.

في كتاب وسائل الشيعة وجدنا الحُرّ العاملي، وضمن ثلاثة عناوين مرتبطة بهذا الموضوع، قد نقل اثنتين وخمسين رواية([11]). وكان الحكم المشهور المستنبط من هذه الروايات حرمة الغناء([12]). بل ذهبت مجموعةٌ إلى القول بالإجماع([13]).

ورغم كل هذه الأحكام فإن الاختلاف بين الفقهاء في حكم الغناء لا زال يطفو على سطح القضايا المتفاعلة.

مفهوم الغناء من المفاهيم المجملة عند الأصوليين، ومن جهةٍ أخرى فإن صنع واختراع، وكذا استعمال، أدوات الموسيقى جُعلت وبشكلٍ مبهم ضمن مصاديق الغناء والموسيقى المحرَّمة، وهو الأمر الذي ظلّ موضع مدٍّ وجزر بين الفقهاء، ولم يستقرّ على حكم موحّد ونهائي.

لم يكن موضوع الغناء والموسيقى، وإلى فترة ما قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران، يشكِّل موضوعاً مشكلاً في الوسط الاجتماعي والحياة العامّة للمسلمين. والعامل الأساس في هذا كون المذياع والتلفاز لم يكونا قد انتشرا في أوساط الملتزمين بدين الإسلام. كذلك فإن المسلمين وبشكلٍ عامّ؛ ولغلبة مصاديق الغناء والموسيقى الحرام، كانت علاقتهم بهما شبه منعدمة؛ خوفاً من المعصية، واحتياطاً لدينهم. نفس الشيء بالنسبة إلى الفقهاء والمشتغلين بالفتوى من العلماء، فاستعمال الغناء والموسيقى في النطاق المحرَّم سهَّل عليهم الأمر، وكانت الفتوى بحرمة شراء وبيع هذا النوع من الأدوات سيِّدة الموقف.

لكنْ اليوم؛ ونظراً لتغيُّر الظروف في الزمان والمكان وحاكمية الفقيه، لم يعُدْ هناك مجالٌ لتكرار مقولة الفقهاء السابقين في الاحتياط، وتكرار الشروحات، والعمل على كشف الجانب الموضوعي والحكمي للمسألة. فيوماً بعد يوم تعرض أنواعٌ من هذا الفنّ في الوسط الثقافي في كلّ العالم، كما خضعت العديد منها لأبحاث علمية، وخصوصاً في ما يرتبط بالعلوم النفس، حيث أفصحت عن التأثير الإيجابي للعديد منها، وتمايز بعضها عن بعضٍ، مع انتظار أبحاثٍ وتحقيقات جديدة في الميدان.

وإن ّحديثنا عن هذا الانتشار، وعن هذه الأبحاث، ليس بغرض تبريرٍ فقهي لما هو متداوَلٌ ومعمول به، وإنما هي محاولةٌ مخلصة تريد أن تأخذ بعين الجِدّ ما يطرح من تساؤلات، ومحاولةٌ كذلك لفهم الاختلاف بين الاستعمالات المختلفة لموضوع الغناء والموسيقى، وكذلك هي مساهمةٌ في تسليط الضوء على النقاط المبهمة والخفية في الموضوع. والمسألة بكلّ حمولاتها في الماضي وفي الحاضر تفرض التدقيق أكثر في حكم الشارع المقدَّس، مع العمل قدر الإمكان على توضيح التكليف الشرعي في الموضوعات المشتبهة وما يكون مورد الاحتياط.

مسألة أخرى: رغم ما مهَّدت له فتاوى الإمام الخميني&، والتي يصح العمل بها اليوم كذلك؛ بناءً على جواز تقليده؛ بناءً على فتاوى العديد من الفقهاء الأحياء، والتي بيَّنت الوظيفة الشرعية وتكليف كلٍّ من وسائل الإعلام وجمهور الناس، فلعلّ الأهم من الفتوى هو تبيين الطرح النظري والاستدلالي والبرهاني الذي قامت عليه هذه الفتوى، أو تفسير الآراء الفقهية الأخرى؛ لأن الحياة الطويلة لأيّ فكر وما قطعه من تحوّلات في الفترات التاريخية السابقة يكون قد قام على براهين وحجج أكثر من أن يكون وليد شخصية صاحبه.

وضمن هذا المقال سيتمّ بحث الأسئلة التالية:

ـ ما هو الحكم الشرعي في مسألة الغناء؟ هل هو الحرمة، أم الحلية، أم أن الحكم بأحدهما قائمٌ على التفصيل؟

ـ ما هو المقصود بالغناء المحرَّم؟

ـ هل الغناء بمعناه اللغوي هو موضوع الحكم الشرعي، أم أن الحكم في الغناء قد أخذ معانٍ ومفاهيم جديدة، وحقيقته العرفية والشرعية تختلف عن مفهومه اللغوي، أم أنها لا تختلف عن المعنى اللغوي؟

ـ في حال وجود إجمال في مفهوم الغناء، أو وقوع تعارض بين الروايات، فما هو الأصل العملي الذي يتمّ التمسُّك به؟

ـ إلى أيِّ حدٍّ يمكن اتّخاذ القول بإجماع الفقهاء مستنداً منفرداً في الحكم؟

ـ وفي حال الوصول إلى نتيجةٍ فقهية تخالف المشهور كيف يمكن تعريف المجتمع الذي استأنس بالمشهور على هذه النتيجة الجديدة، بحيث لا يعدّها بلحاظ مخالفتها للمشهور تمرُّداً على الدين بالضرورة، ومروقاً منه؟

في البداية نتعرَّض لذكر الخصوصيات التي لازمت الغناء في عصر الصدور، حتّى يتسنى لنا الاطّلاع على فضائها آنذاك، ونفهم المقصود الواقعي للروايات.

وبعد ذلك ننتقل إلى البحث في المفهوم اللغوي لكلمة الغناء، واختلاف الكثير من اللغويين في هذا الشأن.

وضمن القسم الآخر من هذا المقال سنتعرَّض ولو بشكلٍ إجمالي إلى فتاوى جمعٍ من الفقهاء المعروفين، ونقوم بطرح فتوى كلّ واحد منهم على حِدة.

وبعد كلّ هذا سنتعرّض لكلّ الأدلة المعتمدة في الغناء، سواء كانت من الكتاب أو السنّة أو الإجماع، فندرسها ونقوم بتحليلها، ومن ثم كشف موضوع الحكم الشرعي الحقيقي في ما يخصّ الغناء؛ بالاستناد إلى أدلّة أخرى معتبرة.

الغناء في الفترة الأولى لظهور الإسلام

كما بيَّنت كتب التاريخ فإن الغناء والموسيقى، وقبل أن تتعرَّف عليه أقوام جزيرة العرب، كان ضمن الصناعات والفنون التي تمّ ابتكارها والإبداع فيها عند الأمم التي عرفت قدراً كبيراً من التمدُّن والتحضُّر، كما هو شأن بلاد الروم وفارس وغيرهما من الأمم العريقة في المدنية. فقد كان للغناء في بلاد فارس مكانة خاصة، وحظي لديهم بالاهتمام الكبير، حيث كانت تعقد مجالسه في المدن الكبيرة والشهيرة من بلادهم، وكانت صناعة آلات الموسيقى مزدهرة في أغلب بلاد فارس، وكثر بينهم المغنّون والعازفون على آلات الموسيقى، بينما لم يكن العرب في الجزيرة العربية على مقدار كافٍ من المعرفة بهذا النوع من الصناعة.

ويذكر ابن خلدون ازدهار صناعة الموسيقى والغناء بين أمم العجم، وافتقاد العرب لها، فيقول: «وأما العرب فكان لهم أولاً فنّ الشعر، يؤلفون فيه الكلام أجزاء متساوية، على تناسبٍ بينها في عدد حروفها المتحرِّكة والساكنة، ويفصلون الكلام في تلك الأجزاء تفصيلاً، يكون كل جزء مستقلاًّ منها بالإفادة، لا ينعطف على الآخر، ويسمّونه «البيت»، فتلائم الطبع بالتجزئة أولاً، ثم تتناسب الأجزاء في المقاطع والمبادئ، ثم بتأدية المعنى المقصود وتطبيق الكلام عليها، فلهجوا به، فامتاز من بين كلامهم بحظٍّ من الشرف، ليس لغيره…. وهذا التناسب الذي من أجل الأجزاء والمتحرِّك والساكن من الحروف قطرةٌ من بحرٍ من تناسب الأصوات، كما هو معروف في كتب الموسيقى. إلاّ أنهم لم يشعروا بما سواه حينئذٍ، لم ينتحلوا علماً ولا عرفوا صناعة، وكانت البداوة أغلب نحلهم.

ثم تغنّى الحداة منهم في حِداء إبلهم، والفتيان في فضاء خلواتهم، فرجَّعوا الأصوات وترنَّموا، وكانوا يسمّون الترنُّم إذا كان بالشعر غناءً، وإذا كان بالتهليل أو نوع القراءة تغبيراً…. وكانوا يسمّون «السناد»، وكان أكثر ما يكون في الخفيف الذي يرقص عليه، ويمشي بالدفّ والمزمار فيطرب، ويستخفّ الحلوم، وكانوا يسمّون هذا الهزج.

وهذا البسيط كلّه من التلاحين هو من أوائلها، ولا يبعد أن تتفطَّن إليه الطباع من غير تعلّم، شأن البسائط كلها من الصنائع…. فلما جاء الإسلام واستولوا على مماليك الدنيا، وحازوا سلطان العجم وغلبوهم عليه، وكانوا من البداوة…، على الحال التي عرفت عنهم من ترك أحوال الفراغ، وما ليس بنافعٍ في الدين…، ولم يكن الملذوذ عنهم إلاّ ترجيع القراءة والترنُّم بالشعر…، فلما جاءهم الترف وغلب عليهم الرَّفه بما حصل لهم من غنائم الأمم، صاروا إلى نضارة العيش ورقّة الحاشية واستحلاء الفراغ، وافترق المغنون من الفرس والروم، فوقعوا إلى الحجاز، وصاروا موالي للعرب، فسمع العرب تلحينهم للأصوات، فلحَّنوا عليها أشعارهم… وعرف منهم معبر وابن شريح…. وما زالت صناعة الغناء تتدرَّج إلى أن اكتملت زمان بني العباس، عند إبراهيم بن المهدي وإبراهيم الموصلي وابنه إسحاق وابنه حماد، فأمعنوا في اللهو واللعب، واتُّخذت آلات الرقص في الملبس والقضبان والأشعار…»([14]).

لقد دخلت الموسيقى إلى بلاد العرب إثر تعرّفهم وعلاقتهم بالأمم الأخرى، ولم تكن آلات الموسيقى عندهم تتجاوز الصنوج والجلاجل. وهناك أيضاً آلات المزمار. وفي هذا الصدد كتب أبو الفرج الأصفهاني: «من أهمّ أدوات الموسيقى التي كان عرب الحجاز يستعملونها قبل ظهور الإسلام الدفّ المربع وناي اللبك والناي الطويل»([15]).

ولم يبدأ فنّ الموسيقى بالتسلُّل إلى الجزيرة العربية من مناطق أخرى، والتي تحيط بمنطقة الحجاز، إلاّ في السنوات الأولى من الإسلام، وفي زمن النبيّ الأكرم|. ويذكر أن أمراء الغساسنة كانوا مولعين بالغناء والعزف على آلات الموسيقى، وكانوا يتَّخذون فتيات للعزف على آلات الموسيقى، والتغني على نغمات أوتارها.

وقد كان عرب الحيرة أوّل مَنْ استعمل العُود، نقلاً عن الفرس. وانتقل منهم إلى الحجاز. وقد تضاربت الروايات حول أوّل مَنْ أتى بالعود من الحيرة إلى مكّة. فبعض الروايات تخصّه في شخص النضر بن حارث بن كلدة([16])، بينما تنسب رواية أخرى ذلك إلى ابن سريج([17]). وقد انتشر العازفون على تلك الآلة الموسيقية في زمن الجاهلية، وكان العنصر النسوي أكثر تخصُّصاً في هذا الميدان، حيث كان عرب الجاهلية يتّخذون العازفات من الفتيات. وقد أتى أبو الفرج الأصبهاني على ذكر أسماء العديد منهنَّ ضمن كتابه الأغاني([18]).

وكانت الخنساء أكبر شاعرات العرب المخضرمات. وتذكر كتب الشعر الجاهلي شعرها في رثاء أخيها صخر، وكيف أجادت قريحتها في نظم كلماته وقافيته، وكيف كانت تتغنّى به([19]). لكنْ مع ظهور الإسلام، والتزام الناس به؛ ونظرا لأسباب متعدِّدة، منها: انشغال المسلمين بأمور الدولة، وردّ هجمات الأعداء، وخوض غمار الحرب، اختفت مشاركة المرأة في مجالس الغناء والموسيقى اللهوية. ويذكر ابن منظور أن الحداء قد عرف رواجاً في زمن النبيّ الأكرم|، ولم يكن مقتصراً على الركبان، بل كان العرب في أوقات الفراغ يشغلون به أوقاتهم، وبه يتسامرون.

لكنّ النبي الأكرم لم يكن يحبّ التغنّي بالحدي، وكان يحثّ المسلمين على قراءة القرآن، وشغل أوقات السفر بترديده وتلاوته. ورغم حبّه تلاوة القرآن، وحثّ القوم على استبدال الحدي بالتلاوة، إلاّ أنّه لم يقيِّد طريقة القراءة أو ترديد القرآن بشكلٍ بعينه، كما لم يبين كيفيتها. وهذا ما نقله ابن منظور حيث قال: «قال ابن الأعرابي: كانت العرب تتغنّى بالركباني (نشيد بالمدّ والتمطيط) إذا ركبت الإبل، وإذا جلست في الأفنية، وعلى أكثر أحوالها. فلما نزل القرآن أحبَّ النبي| أن يكون هجيرهم مكان التغنّي بالركباني»([20]).

وكما بيَّنا سابقاً فإن أهمّ مظاهر فنّ التغنّي تجلَّت في زمن النزول في قراءة القرآن. ولم يحْظَ الغناء بمكانةٍ في مجتمع الرسول|، لكنْ بدأ بعض الميل إليه في زمن الخلفاء. ففي زمن الخليفة الثالث أصبح الغناء يأخذ باهتمام المسلمين، ولم يكن الغناء مكتفياً بلحن الألفاظ، بل رافقه العزف على آلات الموسيقى، التي بدأ المجتمع الجديد يتعرَّف عليها. وهذا ما أشار إليه المؤرِّخون العرب بالنغمة اللطيفة والظريفة.

وكان المخنَّثون من الرجال أوّل مَنْ دخل ميدان الموسيقى، ومنهم: طويس(11 ـ 92هـ) من أهالي المدينة، وقد عرف بـ «الأب الأوّل» للغناء في الإسلام. ويحتمل أن يكون أوّل مَنْ عزف الموسيقى على أوزان عربيّة، وأول مَنْ تغنى بالدفّ، وردَّد الأشعار على نغماتها([21]).

يذكر كتاب الأغاني، والذي بالمناسبة يعدّ مستنداً تاريخياً جامعاً لتاريخ الموسيقي، على الأقلّ إلى زمن كاتبه، أن الغناء اللهوي والموسيقى الشهوية قد قطعت مراحل كبيرة في زمن حكومة الأمويين والعباسيين، وأن تشجيع المغنّين والموسيقيين كان بشكلٍ كبير، إلى درجة كانت تخصّص لمَنْ أبدع منهم جوائز تفوق كلّ التصوُّرات([22]). وهذا يشير بوضوحٍ إلى تجاوز الغناء والموسيقى الخطّ الأحمر، ودخولها ضمن اللهو المنهيّ عنه، وصيرورتها واحدةً من وسائل الفساد والمجون، وبالأخصّ في فترة حكم العباسيين، وهو نفس زمان صدور الروايات عن الصادقين’.

وبملاحظة التفاوت الموجود بين نبرة الخطاب في الأحاديث النبوية والروايات عن الصادقين في ما يخصّ موضوع الغناء([23]) نستكشف الأسلوب الذي كان عليه الغناء والموسيقى في كلا العصرَيْن (عصر النبوّة؛ وعصر الصادقين). وهذا بالتالي يمدّنا بتفسيرٍ واضح للحكم الصادر في هذه الظاهرة.

نعم، وجود الغناء اللهوي في أوساط العرب إبّان العصر الجاهلي أمرٌ لا يمكن إنكاره، حيث كانت لهم الجواري، وكانت المغنّيات من هذه الطبقة بالذات. لكن بتحوُّل المجتمع من جاهليٍّ إلى مجتمع يحتكم إلى دين الإسلام، ويعتمد الأحكام الشرعية، كما كان الشأن في المدينة زمن الرسول الأكرم| فإنّ هذه الظاهرة اختفت بالمرّة، ولم يعد لها حضور في مجتمع المدينة بشكلٍ خاص.

من هنا، ورغم ما ذكره بعض المؤرِّخين من وجود بعض الجواري اللواتي كنَّ يحترفن الغناء، وكانت تلك وسيلتهنَّ في جلب ذوي القلوب المريضة من الرجال في تلك الفترة([24])، فإنها تبقى ضمن بعض الحالات الاجتماعية الشاذّة، والتي ربما تكون هي المعنية بقوله تعالى: ﴿وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً﴾ (النور: 33)، والتي فيها نهيٌ للوليّ عن إكراه ما يملكه من الجواري على هذا العمل القبيح، رغم كلّ ذلك يبقى الجوّ العام في المدينة يحمل الحالة الغالبة، والتي تكمن في انعدام الغناء اللهوي بالجملة.

وهذا يحيلنا إلى مسألة أخرى حيث نستبعد فيها ما ذهب إليه بعض الفقهاء والمحقِّقين من أن الغناء في زمن النبيّ الأكرم| شكَّل الحقيقة العرفية للغناء اللهوي والشهواني([25])، مع أنّ حمل الغناء لهذا المعنى العرفي في زمن الصادقين’ أمر مقبول وله مبرِّراته، حيث فعلاً قد انتشر هذا النوع من الغناء، وصار في أوساط العامة والخاصة بشكلٍ ملاحظ. وقد ووجه وجوده بالرفض، وتمَّتْ مقابلته بالموقف الشرعي الذي يراه حراماً بالشكل الذي عليه، وما ينتج عنه من مفاسد.

المفهوم اللغوي للغناء

ما هو المعنى اللغوي للغناء، بعيداً عن الموقف الشرعي؟ وما هي استعمالاته في اللغة؟

في ما يخصّ المعنى اللغوي للغناء توجد اختلافاتٌ كثيرة بين اللغويين أنفسهم:

فابن منظور يرى أن الغناء يُراد به الصوت الفرح أو المفرح، والذي يدخل الفرح والسرور على النفس([26]). ويقول في قسمٍ آخر: «فكل مَنْ رفع صوته ووالاه فهو عند العرب غناء»([27]).

أما في قاموس «دهخدا» فقد أتى بالتعريف الوارد في ثلاثة كتب: ففي «منتهى الإرب» الغناء بمعنى الإنشاد بشكلٍ يطرب؛ وفي «غياث اللغات» هو النغمة والإنشاد؛ أما في «أقرب الموارد» فهو الصوت الحسن المطرب([28]).

ولا يرى فخر الدين الطريحي لزوماً لتقييد الغناء بالمطرب في تعريف الغناء. فهو يرى أن الغناء هو الصوت المشتمل على الترجيع المطرب، أو ما يسمّى في العرف بالغناء وإنْ لم يطرب، سواء كان في شعرٍ أو قرآن وغيره. ويستثنى منه الحداء للإبل([29]).

ويلاحظ على تعريفه أنه في شطره الثاني قد أرجع التعريف إلى العرف، وحاول أخذ المعرِّف من المعرَّف. وهو الدَّوْر، والدَّوْر باطلٌ.

كذلك أورد العلاّمة النراقي في مستند الشيعة تعريفات مختلفة لمفهوم الغناء: «الصوت المطرب؛ الصوت المشتمل على الترجيع والتطريب؛ ترجيع الصوت؛ رفع الصوت مع التطريب؛ مدّ الصوت؛ مدّ الصوت مع الترجيع؛ مد الصوت مع الترجيع مع إيجاد الطرب؛ مدّ الصوت بحيث يكون مجلبة للفرح والسرور؛ تحسين الصوت وتمديده مع الترجيع فيه شيئاً فشيئاً؛ الصوت الناعم الموزون الذي يشدّ إليه القلب»([30]).

وقد أتى الإمام الخميني& على ذكر أوصاف متعدِّدة: ترجيع الصوت ومدّه بشكل مطرب؛ أو هو ما يفهم منه عرفاً الغناء، ولو لم يكن مطرباً؛ الصوت اللهوي؛ صوت أهل الفسق والفجور؛ ما يتناسب مع مجالس اللهو؛ ما يكون متناسباً وآلات اللهو واللعب ويقع على أوزانها؛ الصوت المخصَّص لمجالس اللهو واللعب؛ الصوت الذي يكون الغرض منه تحريك الشهوة الجنسية؛ الصوت الذي يحتوي على الترجيع والتطريب؛ الصوت الذي يعرف عند الناس أنه لقصد الطرب والتطريب، ويصاغ لهذا الغرض بحيث يذهب العقل؛ الصوت الذي حسنه ذاتيٌّ (ولو كان بمقدارٍ يسير)؛ ما شأنه في عرف الناس الطرب والتطريب([31]). واختار& منها التعريف الأخير. كما أن الشيخ رضا آل الشيخ قد رجَّح التعريف ما قبل الأخير، وذلك ضمن رسالته التي لم تُطْبَع.

ويلاحظ على التعريفات السابقة نوعٌ من التردُّد بين المعاني وغيرها. فالبعض قد ذهب إلى شرح اسم الغناء، وهو أعمّ من المفهوم العرفي للغناء، كإطلاق الغناء على كلّ صوت ممدود مرتفع، أو على كلّ نوع من الترجيع. وهو أمرٌ باطل، رغم أن الغالب في صوت الغناء الارتفاع والتمديد والترجيع، ولكنّ هذا لا يكون غناءً في ذاته.

كما يلاحظ أن بعض التعريفات تأثَّرت بشكلٍ كبير بموضوع الحكم الشرعي، خصوصاً في مَنْ ذهب إلى تحريم مطلق الغناء، حيث كان تضييق لدائرة الغناء، أو على العكس توسيعها، بحيث يشمل الحكم بالحرمة كلّ غناءٍ بصوت أهل الفسق والمعصية، وكذا بالصوت المحرِّك للشهوة الجنسية، وهو التعريف الذي تم في إطار الحكم الشرعي. ولا يوجد أيُّ كتابٍ في اللغة يذكر مثل هذه القيود. وفي العموم لم تستحضر كتب اللغة حالة المغنّي أو الموسيقار في التعريف مطلقاً.

كذلك بعض التعاريف خرجَتْ عن الإطار العلمي للتعريف، فجعلت الأوصاف الغالبة مكان الوصف المقوِّم لتحقُّق الغناء، كما فعل صاحب المورد، حين ذكر تعريف الغناء فقال: مدّ الصوت بشكلٍ متتابع ومتوالٍ. والتعريفات التي قيَّدته بالترجيع؛ وذلك لأن الغناء غالباً ما يكون مشتملاً على الترجيع ومدّ الصوت بالتتابع…

لكنْ ما يمكن أخذُه ضمن التعريف الموجّه من كلّ ما ذُكر من التعريفات هو القول بأنه الصوت الملحون وفق ألحان تبعث على الفرح والمرح. وهو التعريف الذي ـ وبغضّ النظر عن كونه ضمن تعاريف كلٍّ من لسان العرب، منتهى الأدب، أقرب الموارد وغيرها ـ يشكِّل عموماً النقطة الأصيلة في التعاريف الأخرى.

وعلى ما يبدو فإن «الحسن» و«المفرح والمبهج» مقوِّمات أساسية في الغناء، بلحاظ المفهوم اللغوي. ويكون بالتالي تعريف الإمام الخميني والشيخ محمد رضا آل الشيخ تفصيلاً لهذا التعريف.

وبطبيعة الحال فمطلق الصوت الحسن والمطرب لا يشكِّلان موضوع الحكم الشرعي، بل هناك لحاظات أخرى سنتطرَّق إليها لاحقاً في موضعها.

وقد فصّل السيد الخوئي& بين المعنى اللغوي والاصطلاحي للغناء بقوله: الغناء في مفهومه اللغوي أكثر اتساعاً وشمولاً من المقصود بحكم الحرمة، فهو يشمل كلّ صوتٍ حسن. ولهذا وجدنا بعض الروايات تحثّ على التغنّي بالقرآن، وتأمر به على وجه الاستحباب([32]).

والمهم في ما ذهب إليه السيد الخوئي& هو تمييز المعنى اللغوي عن المعنى الاصطلاحي، أي إن المعنى الذي يأخذه بلحاظ فقهي، وكذا غيره من الفقهاء، ليس هو المعنى اللغوي، بل هو المعنى الاصطلاحي. وبهذا يتَّضح المعنى اللغوي للغناء.

لكن تبقى مسألة تمثِّل كبرى الموضوع، وهو هل هناك استعمالات أخرى اصطلاحية غير التي أتَتْ في الجانب اللغوي، وشكلت بذاتها موضوع الحرمة؟ وما هي نطاقات الحكم الشرعي وحدوده في تعريف الغناء؟ هذا مبحثٌ نتطرَّق إليه بالتفصيل ضمن هذا البحث.

آراء ومواقف الفقهاء بخصوص الغناء

تطلع علينا في الجانب الفقهي للموضوع ثلاثة آراء:

1ـ الرأي المشهور بين الفقهاء. ويرى حرمة الغناء مطلقاً. فمطلق الغناء حرامٌ، مع أن مفهوم الغناء عند كلّ واحدٍ منهم يختلف عن مفهومه عند الآخر.

يقول محمد جواد العاملي: «ليس هناك اختلافٌ بين الفقهاء حول حرمة الغناء، ما يؤخذ عنه من أجر، سماعه، تعلمه، ونحو ذلك. ولا تستثنى هذه الحرمة في موطن من المواطن، سواء في القرآن أو الشعر أو الدعاء وغيرها. فالغناء في جميعها حرام. وذكر هذا أيضاً صاحب مجمع البرهان… إلى أن أتى المحدِّث الكاشاني والفاضل الخراساني والغزالي من العامة فأحدثوا فيه الآراء، فقالوا: إن الحرمة إنما تلزم الغناء الذي يترافق ومحرَّمات أخرى»([33]).

والقدامى من الفقهاء، وبدل أن يعطوا الفتوى في الغناء نفسه، تحدَّثوا عن كسب المغنية. ولأن بيع وشراء الجواري المغنيات حرامٌ سرَتْ الحرمة إلى الغناء نفسه، مع عدم وجود وجهٍ ودليل آخر للحكم بالحرمة. هذا التلازم بين حرمة بيع وشراء الجواري المغنيات (والذي يعني الكسب من الغناء) وبين حرمة الغناء أمرٌ ظاهر وبارز في فتواهم وآرائهم في الغناء. وهذا التلازم يظهر لنا من خلال العناوين، فجملة «كسب المغنية حرام» عبارةٌ تكرَّرت في كلٍّ من الفقه الرضوي([34])، المقنع والهداية للشيخ الصدوق، المقنعة للشيخ المفيد، وكذا في المراسم لسلاّر([35])، ضمن باب المكاسب المحرمة.

كذلك أفتى ابن إدريس الحلّي بحرمة كلّ ما يسبِّب المتعة والاسترخاء، سواء كان صوتاً أو لحناً أو نغمة أو… ([36]). وتبنّى نفس الموقف الشيخ الطوسي([37]).

وذهب صاحب الجواهر إلى أبعد من الفتوى، حين صرَّح بحصول الإجماع بنوعَيْه، المنقول والمحصَّل، على حرمة الغناء، فقال: «ليس من اختلافٍ حول حرمة كسب المغنية، بل يوجد عليه الإجماع بقسمَيْه: المحصَّل والمنقول، ودلَّت عليه السنّة المتواترة. ففي السنّة توجد روايات تبين أن الغناء من مصاديق اللهو واللغو الباطل، الذي ذكر النهي عنه في القرآن. وخلاصة القول: فإنّ الأدلة على حرمة الغناء الكتاب والسنّة والإجماع، بل يمكننا القول: إنّ حرمته من ضروريات الدين»([38]).

كذلك ذهب الشيخ الأنصاري إلى القول بالحرمة المطلقة للغناء. لكن يظهر من كلامه أن الصوت اللهويّ الباطل حرام، لكنه يقول: «إذا كان الصوت اللهوي الباطل فنسبة الغناء إليه إمّا أن يكون أعمّ أو أخص، وبذلك تكون دائرة الصوت اللهوي الباطل هي المقصودة بالحرمة، وليس غيرها. وكيفما يكون الأمر فمقصوده من الغناء هو الصوت اللهوي الباطل. وقد جعل مفهوم اللحن والصوت اللهوي الباطل في جميع الأمثلة التي أدلى بها في موضوع الغناء»([39]).

2ـ الرأي الثاني لا يرى الإطلاق في حرمة الغِناء . فالغناء من وجهة نظره ليس حراماً مطلقاً، لكنّ الحرام هو المعاصي والسلوك الفاسد والرغبات الفاسدة التي تحيط به.

الحرام في الغناء هو الفسق، الاختلاط بالمحرَّم، المتعة… والتي تختلط مع الغناء وترافقه. فالنهي حقيقةً هو لكلّ تلك الأمور، وتعلُّق الحرمة بالغناء مجازاً. ويكون في دائرة هذا الرأي كلٌّ من: المحدِّث الكاشاني؛ والمحقِّق السبزواري.

يقول المحدِّث الكاشاني: «ما يفهم من مجموع الأخبار والجمع العرفي حرمة الغناء وما يرافقه، مثل: كسب التجارة في المغنيات من الجواري، تعليم الغِناء، تعلمه، بيع وشراء وسائل وآلات الغناء. وهذا يختصّ بنوع الغناء الذي ساد في حكومة بني أمية، حيث كان رجالهم والموالين لهم يعقدون مجالس للغناء ومعاقرة الخمر، فيأتون بالجواري المغنيات يغنِّين لهم، وهم يطربون لأصواتهنّ، وكانت المغنِّيات لا يستعفِفْن من غناء كلّ مبتذل، والعزف على آلات الموسيقى… خلاصة القول: إن ما يرافق الغناء من أفعال وسلوك حرام مطلقاً، وليس غيرها»([40]). وهو نفس الرأي الذي عبَّر عنه ضمن كتابَيْه تفسير الصافي وكتاب الوافي([41]).

ففي تفسير الصافي قال: «المستفاد من هذه الأخبار جواز التغنّي بالقرآن، والترجيع به، بل استحبابهما. فما ورد من النهي عن الغناء، كما يأتي في محلّه إنْ شاء الله، ينبغي حمله على لحون أهل الفسق والكبائر، وعلى ما كان معهوداً في زمانهم^ في فسّاق الناس وسلاطين بني أمية وبني العباس، من تغنّي المغنِّيات بين الرجال، وتكلُّمهنّ بالأباطيل، ولعبهنّ بالملاهي من العيدان والقضيب ونحوها»([42]).

ويقول المحقِّق السبزواري بـ «أن حرمة الغِناء لا اختلاف فيها. وقد تعدَّدت الأدلة في حرمتها. وبه قال المحقِّق، وكذا آخرون من المتأخِّرين عنه بتحريم الغناء حتّى في التغنّي بالقرآن. لكن في المقابل هناك رواياتٌ عديدة تدلّ على جوازه، بل ترى التغني بالقرآن أمراً مستحبّاً.

إذن أمام هذه الروايات التي تقول بجواز واستحباب التغني بالقرآن، وقراءته بلحن الحزن، وترجيعه في الحلق، والظاهر أن هذا ما يشير إليه أصحاب اللغة في تعريفهم للفظ الغِناء ، وكذا ما ذهب إليه غيرهم؛ إذ لا يمكن التغني بالقرآن إلاّ بتمديد الصوت وترجيعه، ومن أجل الجمع بين تلك الروايات القائلة بالاستحباب والأخرى على طرف النقيض نرى لزاماً استحضار إحدى هذه الطرق:

1ـ القول بالتخصيص، بمعنى أن هذه الأخبار إنما تخصّ ما سوى القرآن، وأما تعلقها بالقرآن فمن جهة ذمّ التغنّي اللهوي به، والتغني به على ألحان ونغمات أهل الفسق.

2ـ أما إنْ قيل بأن المقصود في هذه الروايات إنما هو غناء خاص؛ لأن المفرد المعرف بالألف واللام يدلّ على العموم، وليس له قرينة تدلّ على تخصّص بعض أفراده. لكنّ الحال غير ذلك؛ إذ المقصود في الروايات هو الغِناء الذي كان سائداً زمن الصدور، وهو الغناء اللهوي وغناء أهل الفسق، حيث تغنّي فيه النساء في مجالس الغالب عليها ارتكاب المعصية والمحرمات و…، ممّا يجعل تعريف المفرد بالألف واللام يخصّ الأفراد الشائعة حينها، أمرٌ وارد وغير مستبعد»([43]).

ولا بُدَّ من الإشارة إلى وجود اختلافٍ في وجهات النظر بين كلٍّ من المحدث الكاشاني والمحقق السبزواري وعدد آخر لم يرَ الحرمة إلاّ في الرقص، اللهو، اللعب، والاختلاط المحرَّم، و…، وهي الحالات التي ترافق مجالس الغناء الشائع في زمن الصدور.

لكنْ في المقابل هناك عدد آخر من الفقهاء فصَّل في الأمر، ولم نرَه يجنح إلى التمركز في أحد القطبين، ومن جملتهم: الإمام الخميني، حيث كتب يقول: «إن كلام المحدث الكاشاني في بدايته كما في ختامه ظاهرٌ بل صريح في أن الغناء قسمان: قسم (الغناء المصحوب بالكبائر) حرام ذاتاً؛ وقسم آخر حلال وجائز. فليس ما يرافقه من الكبائر والمعاصي هي المخصصة بالحرمة، وإلا لما كان هناك مسوِّغ لتحريم الاكتساب منه وتعلُّمه والاستماع إليه؛ إذ لا مسوغ لتحريم هذه الأمور لو لم يكن الغناء حراماً في ذاته»([44]).

3ـ في الطريق الثالث هناك تفصيل بين الغِناء الشهواني المبتذل واللهوي وبين الغِناء الذي لا توجد فيه هذه الصفات.

أصحاب هذا الرأي رغم قولهم: إن الحرمة في الغِناء ذاتية (على خلاف الكاشاني والسبزواري)، إلا أنهم لا يرَوْن جميع مصاديق الغناء داخلة في حكم الحرمة (بخلاف الرأي الأول)، وإنما الحرمة تخص الغناء الشهواني اللهوي.

وهذا الرأي يبدو أنه يشبه الرأي الثاني، وهو ليس رأي الأقدمين، بل ذهب إليه مجموعة من المتأخِّرين، وكذا جمع من المعاصرين.

يقول السيد محمد ابراهيم البحراني والمشهور بـ (ماجد)، من علماء القرن الثاني عشر، ومن العارفين والمطَّلعين على فنّ الموسيقى: إننا نحن القائلين بالتفصيل في مسألة الحكم في الغناء نقول بأن الغناء المحرَّم هو الصوت اللهوي الذي تتغنّى به الجواري والقينات ذوات الصوت الشجي، والذي يكون في محضر الفسّاق من الرجال، وتستعمل فيه بعض آلات الموسيقى، مثل: الدفّ وغيرها؛ وذلك لأن إطلاق الغناء على هذا الصنف يحيل إلى تحقّق الحقيقة العرفية، لكنّ المخالفين لنا في قولهم بحرمة الغناء في معناه اللغوي، يعني ترجيعُ الصوت والتغني به مع التطريب، مع تمديد الصوت، بحيث يخلق جوّاً من المتعة، حرامٌ. وحديث ابن سنان يؤيِّد قولنا، ويكذب رأيكم ومقالتكم([45]).

ويفهم من كلامه أن هناك مجموعة ممَّنْ يؤيد مقولته، ويذهب مذهبه، ولا يستبعد أن يكون الفيض الكاشاني، وهو من علماء القرن الحادي عشر، قد كان من القائلين بالتفصيل، وبالتالي يكون قد وافقه في الرأي.

ومهما تكن الآراء ففي زماننا الحاضر نجد بعض أهل النظر وبعض الفقهاء يقبلون القول بالتفصيل. ومن جملة المعاصرين، وضمن آراء في تحليل نظرية الشيخ الأنصاري في الغناء، مَنْ علَّق على قوله: «كل غناء صوت لهوي وباطل» بالقول: «أوّلاً: ليس للشيخ الأنصاري دليل وشاهد من أهل فنّ الغناء على أن كل الغناء لهوي وباطل، بل على العكس هناك شواهد كثيرة على أن الغناء أعمّ من الغِناء اللهوي. ثانياً: بل النصوص الشرعية قد فصَّلت بين الغناء اللهوي الحرام وغير اللهوي الجائز»([46]).

نظر أهل السنّة في الغناء

كتب عبد الرحمن الجزيري في كتابه الفقه على المذاهب الأربعة قائلاً: إن التغني بمعنى ترجيع الصوت مع اللحن مباح، لكنْ قد يعرض عليه عارضٌ يجعله حراماً أو مكروهاً، كاللعب.

فالغناء حين يكون مجالٌ للفتنة، بأن يتمّ للتشبيب بالنساء غير المحارم أو بالشاب المخنَّث، يكون فعلاً حراماً. كذلك يكون حراماً إذا استخدم وسيلة في تحريك الشهوات، أو مشجِّعاً على تناول ما حَرُم من المشروبات، أو يكون أداةً تلهي عن أداء الفروض الدينية، كالصلاة ونحوها.

لكنْ إذا خلا الغِناء من كلّ هذه الأوصاف فلا يكون حراماً. فالتغني بكلمات تصف المرأة الأجنبية، التي لا زالت على قَيْد الحياة، أو مدح الشاب اليافع والتغزُّل به، حرامٌ؛ لأن ذلك يؤدّي إلى تحريك الشهوة نحوهما. لكنَّ التغني بكلمات في الحكمة والموعظة، أو في وصف الطبيعة، من أراضٍٍ وجبال وبحار وغيرها ممّا على شاكلتها، أو حتَّى في وصف الإنسان باعتباره خلق الله وأفضل مَنْ تحمَّل الأمانة، ممّا لا يحمل أيَّ شكلٍ من الفتنة، لا إشكال فيه([47]).

بعد هذا التفصيل في الحكم في الغناء سنستعرض فتاوى الفرق السنّية واحداً واحداً:

1ـ الشافعية

ذهب الغزالي إلى القول بأن هناك روايات تدلّ على جواز الغِناء في أوقات الفرح. والغناء له أقسام؛ فما لا يترتَّب عنه فعل حرام ليس بحرام([48]).

وينقل الغزالي عن الشافعي قوله: إننا لا نعلم من علماء الحجاز مَنْ يقول بكراهة الغِناء ، اللهمّ إلاّ إذا اتصف بأوصاف وحالات خاصة. من هنا فإذا أفتى الشافعي بحرمة الغِناء فإنه إنما أراد نوعاً خاصاً، وليس مطلق الغناء([49]).

2ـ الحنفية

قالوا بأن الغِناء الحرام ما كان بألفاظٍ حرام، كالتشبيب بالمرأة العفيفة والتي على قيد الحياة، والفتى اليافع، فهي موارد لا تخلو من إشكال. أما إذا كان الغرض من الغِناء إظهار حسن وبلاغة الألفاظ، أو في وصف الطبيعة، فلا أشكال فيه.

و ما نقل عن أبي حنيفة في قوله بالكراهة، وأن الاستماع إليه كبيرة، يحمل على الحرام منه، وليس يجري على كلّ أنواع الغناء([50]).

3ـ المالكية

الثابت في مذهب مالك، أن الآلات المستعملة في الأعراس، مثل: الطبل والدف و…، مباحة، سواء استعملها الرجال أو النساء. وأما الغناء فالجائز منه الرجز كذلك، الذي تغنَّت به جواري وصغيرات الأنصار:

أتيناكم أتيناكم

فحيُّونا نحيِّيكم

ولولا الحبّة السمرا

لم نحلل بواديكم([51]).

4ـ الحنابلة

أما الغِناء والذي يكون بتحسين الصوت وترجيعه في قراءة الأشعار فجائزٌ، بل قالوا: إن تحسين الصوت وترجيعه في قراءة القرآن مستحبّ، بشرط أن لا يؤدي إلى تغيير لحن القرآن أو الزيادة والنقصان من ألفاظه، وإلا فهو حرام. إذا فالتغني بالأشعار والإنشاد بالصوت الشجيّ الحسن وبكلمات في الوعظ والحكمة لا إشكال فيه، بل مستحب، لكن قراءة القرآن بألحان الغناء مكروه([52]).

وقد استنتج الدكتور وهبة الزحيلي الرأي التالي: إن قسماً من الحنابلة وآخر من الحنفية قالوا: إن الاستماع إلى الغِناء حتّى بدون أن يرافقها العزف على الآلات الموسيقية حرام؛ وذلك لأن ابن مسعود يروي عن النبيّ الأكرم : «الغِناء ينبت النفاق في القلب»؛ وذهبت مجوعة أخرى من الحنفية، والحنابلة، والمالكية، إلى أن الغناء إذا لم يصاحب بالعزف على الآلات لا إشكال فيه. والظاهر أن رأي هذه المجموعة الأخير قد رجح على الأول؛ وقالت الشافعية: الغناء إذا كان من دون آلات الطرب مكروه (وليس حراماً). وقد نقل الغزالي عن كتبهم اتفاقهم في القول بحلية الغِناء المجرد عن أصوات آلات العزف([53]).

أدلّة أصحاب الرأي الأوّل

إن ماهية البحث في موضوع الغِناء لا تدع مجالاً للأدلة العقلية. ويبقى المعتمد هو الأدلة الثلاثة الأخرى: الكتاب، السنّة؛ والإجماع.

الكتاب

لم يرِدْ لفظ التغني ضمن ألفاظ القرآن، كما لا يوجد أمر أو نهي ينسب مباشرة إلى هذا اللفظ. لكن الموجود هو آيات اختلف فيها التعبير بين «قول الزور»، «اللغو»، و«لهو الحديث»، وهي التي تم الاستناد إليها في موضوع الغِناء، من خلال إجراء تفسير تطبيقي بينها وبين الروايات المنقولة عن الأئمة المعصومين^.

أـ ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾ (الحجّ: 30).

هذه الآية الشريفة ظاهرة في حرمة قول الزور. ولفظ الزور في اللغة بمعنى الباطل والكذب. وقد تمّ إضافة قول إلى الزور في الآية، فالظاهر أن الذي حرم هو نوعٌ من الخطاب، وله صفات صوتية وبيانية. وليس يدل على أن المراد من الحكم هو محتوى الخطاب، وهذا ما تدلّ عليه بعض مصاديق الآية الشريفة، وفي الروايات ما يتناسب مع هذا المعنى، كما في الرواية الصحيحة عن الإمام الصادق×: «منه قول الرجل للذي يغنّي: أحسنت»([54]).

وذهب بعض المفسِّرين، وكذا القرطبي، رغم قوله بعدم جواز التغني بالقرآن، إلى أن قول الزور في الآية الشريفة أحد مصاديقه: شهادة الزور والكذب. وأتى بروايات تعضد ما ذهبوا إليه. وعموماً فهم لم يشيروا ضمن تفسير هذه الآية إلى الغناء بأيّ وجهٍ([55]).

وقد تمّ تفسير قول الزور بالغناء في العديد من الروايات. ورغم كونها قربت من حدّ الاستفاضة إلاّ أن سند معظمها غير معتبر؛ لسببٍ من أسباب علل الحديث المذكورة في موضعها.

في بعض الروايات: «قول الزور الغِناء »، «اجتنبوا الغناء». ورغم ظهور هذه الروايات في اتّحاد مصداق هذا المفهوم، لكنْ لو غضّ الطرف عن التفاسير التي أتت للآية الشريفة أو لغيرها ممّا أدرج في الموضوع، واكتفي بهذه الروايات المذكورة، لكان الغناء فعلاً المصداق الكامل والأتمّ لقول الزور أو للهو الحديث…. دلالة إطلاق الحرمة في هذه الآية على الغناء كانت ستكون تامة لو لم يكن الاستعمال الشائع في زمن الصدور هو الغِناء اللهوي والباطل، وبالتالي عدم انصراف لفظ الغناء لأيّ واحد منهما.

ولكنْ بالنظر إلى كون كلّ تلك الروايات قد نقلت عن الإمامين الباقرَيْن’ (محمد الباقر وجعفر الصادق)، وقد سبق أن تحدَّثنا عن نوع الغِناء الذي شاع في زمانهما’، حيث كان الغناء اللهوي والباطل، وكان هو المستعمل بامتياز، يتبين أن هذا الإطلاق ضعيف النسبة، وبالتالي غير واقعي. وبعيداً عن هذا التعاطي الأصولي والواقعي نقول: إن تحريم جميع مصاديق الغِناء في هذه الآية من باب الإطلاق الظهوري، وهو يقبل التقييد. والآية مقرونة بالروايات التفسيرية واضحة في ترجيح حرمة الغِناء في الجملة، ليس أكثر.

ب ـ ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ (لقمان: 6).

الآية الشريفة واضحة في حرمة الكلام الباطل وعديم الفائدة. وقد تم تطبيقه في الروايات الصحيحة على الغِناء ، وبذلك صوِّبت سهام الحرب إلى الغِناء ([56]).

وقد ذكر في هذه الآية جميع ما ذكر في سابقتها من بيانات وتفصيلات، ولا نذكره؛ تحاشياً للتكرار.

ج ـ ﴿وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً﴾ (الفرقان: 72).

في الروايات المعتبرة تمّ تفسير معنى لفظ «الزور» بالغناء([57])، وطبِّق عليه فيها. ويلاحظ أن معنى هذه الآية هو نفس المعنى الذي أعطي للآية من سورة الحجّ, وكذلك نفس الإشكالات في الدلالة التي وردت على الآية من سورة الحجّ تمّ إيرادها على هذه الآية، مع إضافة إشكالين خاصّين بهذه الآية:

1ـ إن الآية في مقام وصف خصوصيات عباد الرحمن، بلحاظ كون عباد الرحمن قد وصلوا إلى مقام رفيع. ومقام ذكر بعض الخصال والشمائل الخاصّة بعباد الرحمن لا يعني أن يحفظ جميع المؤمنين هذه الخصال، والاتّصاف بها على الدوام. نعم، نشدان الكمال يستلزم التحلّي بهذه الصفات والخصال الحميدة، وتوطين النفس على الحفاظ عليها. والقرينة الداخلية للآية دالّةٌ على هذا المطلب.

2ـ من جهةٍ أخرى الآية في مقام تحريم حضور مجالس الغِناء ، ولا يمكن تمديدها لتشمل تحريم فعل التغنّي، اللهمّ إلاّ إذا اعترض بالقول: حرمة حضور ومشاهدة الغناء تعني كذلك حرمة نفس فعل التغنّي بالملازمة.

د ـ ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ (المؤمنون: 3).

ونقل في تفسير هذه الآية الشريفة رواية عن الإمام، فيها: «إنه الغناء والملاهي»([58]). وقد ورد في تفسير الآية: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً﴾ مثل هذا التعبير([59]).

و تحتاج هذه الآية ـ شأن أخواتها ـ إلى دليل لإثبات إطلاق اللغو على الغناء، وبالتالي الحكم بحرمته؛ انطلاقاً من حرمة اللغو.

والمعنى اللغوي هو ما لا غرض عقلائي فيه، وهذا مما لا يمكن اعتباره حراماً بشكلٍ مطلق؛ لأن هناك أفعالاً كثيرة لا يترتب عليها الغرض العقلائي، ولا يحكم بحرمتها.

فالآية في مقام وصف المؤمنين، وقد تريد وصف الكمال عند المؤمنين. هذا بالإضافة إلى أنّ ما استشكل به على الآيات السابقة واردٌ على هذه الآية أيضاً.

2ـ السنّة

لقد بلغت الروايات التي استدلوا بها في تحريم «التغنّي» حدّ التواتر، لكن دلالتها لم تكن على وتيرةٍ واحدة؛ فجزء منها كان على هامش تفسير الآيات الأربعة الواردة في الموضوع؛ ومجموعة أخرى منها أتى فيها تفسير «الزور» بالغناء؛ ومجموعة أخيرة أشارت إلى مسألة العذاب الإلهي وحرمة الغناء.

في رواية يسأل فيها بعض مَنْ ينأى بنفسه عن سماع الغناء، والمشاركة في مجالس الغِناء والمغنين، الإمام موسى بن جعفر× عن الرجل يتعمَّد الغناء يجلس إليه؟ قال: «لا»([60]).

أتَتْ هذه الرواية ضمن كتاب عليّ بن جعفر. وسند صاحب الوسائل إلى هذا الكتاب هو نفس سنده إلى الشيخ الطوسي. وهو سندٌ صحيح. والرواية مستفيضة بلحاظ السند، وبلحاظ المحتوى.

والواضح أن حرمة الجلوس إلى المغنّي لا يمكن أن تكون سوى دليلٍ على حرمة فعل الغناء نفسه.

والرواية الثانية: حين سُئل الإمام الصادق عن الغناء؟ قال×: «لا تدخلوا بيوتاً اللهُ مُعْرِضٌ عن أهلها»([61]).

وهذه الرواية ـ مضافاً إلى ضعف وإرسال سندها ـ ليست دالّةً على حرمة مطلق الغناء؛ لأن ظاهر الرواية يبين أن سؤال الراوي كان حول الحضور في بيوت المتعة والترف، وقد نهاه الإمام× عن الحضور في هذه الأماكن.

وبناءً على الشواهد التاريخية فإن بيوت الغناء كانت عبارة عن مجالس تقام للغناء واللهو واللعب، وتقترف فيها الكبائر. وهذه الرواية مؤيِّدة لدعوى أن الغناء في زمن صدور الروايات إنّما ينصرف إلى الغناء اللهوي والشهواني، وليس مطلق الغناء.

وفي روايةٍ أخرى: سألتُ الخراساني× ـ يريد الإمام الرضا× ـ عن الغناء، وقلتُ: إن العباسي ذكر عنك أنّك ترخص في الغناء؟! فقال: «كذب الزنديق. ما هكذا قلتُ له! سألني عن الغناء، فقلت له: إن رجلاً أتى أبا جعفر× فسأله عن الغناء، فقال: يا فلان، إذا ميَّز الله الحقَّ والباطل فأين يكون الغناء؟ قال: مع الباطل، فقال: حكمتُ»([62]).

وهذه الرواية تعاني من نقصٍ في سندها، وفي دلالتها. أما بالنسبة إلى سندها ففيه سهل بن زياد، وهو ضعيفٌ.

وأما بلحاظ الدلالة فظهورها لا يدلّ على الحرمة. فلو فرضنا أن الرواية تعني جميع مصاديق الغناء فصرف وجود شيءٍ في صفّ الباطل زمان تمييز الحقّ والباطل لا يدلّ على حرمته. أفعال اللغو هي جزءٌ من الأفعال الباطلة، ولكنّ السؤال هل كلّ مصاديقه ستكون حراماً؟!

في صدر الرواية نرى أن الإمام× ينكر ترخيصه للغناء، ولربما قد اشتبه الأمر على الراوي، والإمام لم يكن في مقام ترخيص المباح، وإنما كان في مقام بيان رجحان وبطلان الغناء. وحتّى لو افترضنا تمامية الدلالة فيها فإنّ الإطلاق فيها مع الفرض قابل للتقييد.

ـ مرجوحية الغناء: هناك بعض الروايات تدلّ فقط على مرجوحية الغناء، وليس تحريمه، مثل: «بيت الغناء لا يؤمن من فجيعة…، وأن الغناء طريق للنفاق، والغناء عامل للفقر([63]). وبين كل الروايات الواردة في الموضوع هناك رواية صحيحة([64])، لكن لا يستفاد منها الحرمة.

ـ حرمة الغناء والتغنّي: هناك بعض الروايات الصريحة في حرمة أجور المغنية([65])، وبالتالي الملازمة بين حرمة أجرة المغنية وحرمة فعل الغناء. ولكن هذه الروايات جاءت فيها الحرمة مطلقة، ولم يتمّ الإشارة فيها للغناء. كذلك توجد روايات صحيحة ضمن الروايات المتحدّثة عن أجور المغنية وحرمتها.

ـ حرمة أخذ القرآن مزماراً([66]): هذه الرواية نسبت إلى النبيّ الأكرم|. لكن القول بأنها دالة على حرمة الغناء مسألة فيها نظر. ولعل مراد النبي الأكرم في هذه الرواية النهي عن قراءة القرآن، من دون الإمعان في معانيه ومضامينه، مثله كمَنْ ينفخ في المزمار لا يهمّه سوى إخراج الصوت. وحتّى لو قلنا بحرمة اتخاذ القرآن مزماراً فلا منافاة بين هذا ومسألة حلية الغناء؛ لأن هذه الرواية أتَتْ في موردٍ خاصّ، وبالتالي هي خارجة عن موضوع الغناء تخصُّصاً؛ لأن القرآن بلحاظ شأنيته يقتضي آداباً خاصة.

وعلى أيّ حال فإن ما نخرج به من هذه الروايات هو حرمة الغناء في الجملة. أما البحث في أنّ كل مصاديق الغناء ينطبق عليها هذا الحكم أو أن الأمر إنما ينحصر في بعض مصاديقه؟ فهذا ما سنتعرَّف عليه من خلال عرض باقي الأدلة في الموضوع.

3ـ الإجماع

لقد ادَّعى العديد من الفقهاء حصول الإجماع في حرمة الغِناء([67]). هذا الإجماع ليس تعبدياً. بالإضافة إلى أنّ ما اعتمدوه في هذا الإجماع إما أن يكون معلوماً أو محتملاً، وهو هذه الآيات والروايات التي ذكرنا بعضها.

إن المستدلّ بالإجماع لا يستطيع من خلاله الحصول على مبتغاه؛ لأن الإجماع دليل لبّي، ولا إطلاق في الدليل اللبي، ولا يعمل فيه إلاّ بالقدر المتيقَّن منه، بمعنى أن كثرة المبهمات في باب موضوع الغناء الحرام حاصلة؛ لأن القدر المتيقَّن منه هو حرمة (الغناء اللهوي الباطل والشهواني).

النتيجة

1ـ رغم أن الآيات لم يرِدْ فيها لفظ الغِناء، لكنّ هذا الموضوع وجد ضمن الروايات المستقلّة والتفسيرية. وبعضها معتبرة وصحيحة، وقد أثبتت حرمة الغناء.

2ـ إن دلالة هذه الروايات على الإطلاق في حرمة الغِناء غير تامة، وخصوصاً بشأن الروايات التي تحدّثت عن حرمة الغناء في زمن الصادقين’، حيث ينصرف الغناء فيها إلى الغناء اللهوي والشهواني. وما ثبت فيها من الإطلاق هو إطلاق قابل للتقييد بروايات أخرى.

3ـ لم تأتِ تلك الروايات على توضيح الغناء، وإنما اكتفي في الروايات بذكر بعض مصاديق الغناء.

أدلّة الرأي الثاني

لقد عرضنا ضمن الرأي الثاني نظر كلٍّ من الفيض الكاشاني والمحقق السبزواري. والظاهر من كلام الفيض الكاشاني أنه بنى رأيه على استظهار مجموعة من الروايات:

«من مجموع الروايات الواردة في موضوع الغِناء تبين لنا أن حرمة الغِناء والبيع والشراء فيه، وتعلمه وتذاكره، وكذا الاستماع إليه، إنما اختصت بنوع الغِناء الذي كان دائراً في زمن بني أمية وبني العباس، حيث كان يحضر الرجال مجالس الغِناء التي تغني فيها النساء، وكانت تلك النسوة يتغنَّيْن بكلام الفحش والباطل، وكان الطابع الغالب على تلك المجالس اللهو واللعب»([68]).

وبعد ذلك استشهد بمجموعة من الروايات، كان من جملتها صحيحة أبي بصير، عن الإمام الصادق ع: «أجر المغنية التي تزفّ العرائس ليس به بأس، وليست بالتي يدخل عليها الرجال»([69])؛ وكذا رواية: «سأل رجلٌ علي بن الحسين ع عن شراء جاريةٍ لها صوت، فقال: ما عليك لو اشتريْتَها فذكرَّتْك الجنَّة…»([70]).

ووجدنا أن المحقق السبزواري في محاولته التوفيق بين الروايات الأخيرة وروايات النهي خلص إلى جمعٍ يشبه جمع الفيض الكاشاني، الذي أتينا على ذكره.

لكنْ هناك مسألتان يستشكل بهما على هذا الرأي:

1ـ إنه لا ينسجم وظاهر روايات حرمة الغِناء . والمعروف أن مخالفة الظاهر لا بُدَّ له من قرينة. بينما ما أتى به الفيض الكاشاني كشاهدٍ حمله على مخالفة الظاهر يتناسب والرأي الثالث (الرأي الثالث يفصِّل بين مصاديق الغناء). بالإضافة إلى أن هذا الرأي لا يصطدم وظاهر روايات الحرمة.

2ـ في حال قبول هذا الرأي لا يوجد دليلٌ على تخصيص الغِناء الشهواني بالحرمة؛ وذلك لوجود القول بحرمته بالذات. وقد تمّت الإشارة إلى التفريق في حرمته ضمن خطابات أخرى لم يتعلَّق حكم الحرمة في الغناء فيها بالعرض([71]).

أدلّة الرأي الثالث

أما أصحاب الرأي الثالث، وهم القائلون بالتفصيل بين الغِناء الشهواني المبتذل وبين الغناء غير الشهواني، فإنّهم يتشبّثون بمسألتين:

1ـ صدرت هذه الروايات عن الإمامين الصادقين’ للإجابة عن مشكلة الغِناء اللهوي الباطل. ولذلك فمفهوم الغِناء في هذه الفترة من تاريخ الأئمّة كان قد انتقل من مفهومه العرفي الحقيقي إلى مفهوم عرفي ثانوي. فالذي شكَّل معضلة للسائلين، وموضوعاً للفتاوى من طرف الأئمة، هو الغناء اللهوي الشهواني الباطل، ولم يكن لمطلق الصوت الحسن أو اللحن الشجي مدخلية في هذه المعضلة. ويلاحظ على هذه الأسئلة أنها كانت تستفسر عمّا يسمّى «بيت الغناء»، والتي كانت تعني في العرف السائد آنذاك الغناء اللهوي والشهواني، وليس غيره من أنواع الغناء الأخرى غير اللهوية والشهوانية([72]).

وفي هذا كتب محمد ماجد الحسيني، محاولاً وصف تلك الحالة السائدة آنذاك: «لقد بلغت مسألة الغناء اللهوي حدّاً فظيعاً مع ملوك بني أمية وبني العباس، حتى أنهم كانوا يستقدمون الجواري والغلمان المغنّين من كل مكانٍ، وكانوا يعقدون لهم مجالس الطرب والفساد. وبطبيعة الحال فعوامُ الناس كانت على دين ملوكها، لذلك كانت تقتدي بها، فانتشرت تلك المجالس، وأصبح اقتناء الجواري المغنيات مطلب الكثير منهم. وقد بلغت قيمة الجواري المغنِّيات ما يفوق ثلاث آلاف دينار للواحدة منهم»([73]).

ومسألة انصراف الغناء إلى الغناء اللهوي قد أشار إليها كلٌّ من الفيض الكاشاني والمحقق السبزواري، ووثَّقا لدعواهما تلك بالعديد من الشواهد التاريخية، التي سبق أن تعرَّضنا لها في بداية هذا المقال، وهي الشواهد التي تقوّي من هذا الانصراف في نفس الأمر.

كذلك يمكننا الاعتماد على التفاوت الحاصل بين خطاب النبيّ الأكرم| في ما يخصّ موضوع الغناء وبين خطاب الأئمّة× في نفس الموضوع. فمن باب المثال: ضمن خمس روايات من مجموع اثنان وثلاثين رواية، التي ذكرها صاحب الوسائل في باب تحريم الغناء، يلاحظ أنه لا يمكن أن يفهم منها سوى الكراهة، أو اختلاف الحكم بلحاظ خصوصيات المورد، أو أنها جمعت بين الغناء وبعض الأمور المحرَّمة([74]).

وحتى إذا لم يثبت انصراف الغِناء إلى حقيقة عرفية ثانوية فهناك مسلكان آخران، وهما: الاستفادة من التعليل الموجود في تلك الروايات، أو المناسبة بين الحكم والموضوع في بعض الروايات، والأخذ بعين الاعتبار تعارضها وتقييدها بالروايات الأخرى التي ذكرناها آنفاً.

التعليل

يلاحظ ضمن الروايات المعتبرة أن الغناء عُدَّ حراماً بلحاظ كونه مصداقاً لـ «قول الزور»، «لهو الحديث»، و«اللغو». وفي الروايات جاء الغناء كمصداق من مصاديق «الباطل ولهو الحديث». ومن هنا جرى على الغناء نفس الحكم الذي جرى على اللهو واللغو. وفي الحقيقة فإن لسان الروايات هو «اجتنبوا الغناء؛ لأنه باطل ولغو ولهو من الحديث».

لكن إذا راجعنا الغناء في عرفهم وجدناه لا ينطبق عليه حكم اللغو والباطل بالإطلاق. وبالتالي يتَّضح أن مراد الشارع بالغناء الذي جعله من مصاديق اللهو واللغو ليس كلّ الغناء، بل ما اكتسب لون الباطل واللهو. كما اتّضح لدينا أن جميع مصاديق الباطل واللغو لا يجري فيها حكم الحرمة، وإنما بعض مصاديقهما حرام، والبعض الآخر غير ذلك.

ولو ادَّعى أحدٌ أن جميع مصاديق الغناء هي باطلة في العرف فهذا لن يجعلها ترقى إلى حكم الحرمة؛ لعدم كون جميع مصاديق الباطل حراماً، وإنما الحرام ما كان مقدّمة وأرضية موصِلة للكبائر، وواحداً منها وشاهداً: «والملاهي التي تصدّ عن ذكر الله عزَّ وجلَّ مكروهة، كالغناء، وضرب الأوتار، والإصرار على صغائر الذنوب»([75]).

فهذه الرواية تبين كبرى القضية، والتي تجعل الملاك الكلي في حرمة اللهو في «الصدِّ عن ذكر الله»، وما ينطبق عليه هذا الملاك انطبق عليه بالملازمة حكم الحرمة، كذلك فرغم كون الغناء مطلقاً إلاّ أن هذا التعليل يقيِّد هذا الإطلاق.

التعارض والتقييد

لو قبلنا ـ على سبيل الفرض ـ أن هناك روايات معتبرة تحرِّم الغِناء بشكلٍ مطلق فإن هذا الإطلاق تقابله روايات أخرى معتبرة في حلّية مطلق الغناء، أو أنّها في الحدّ الأدنى تستثني بعض موارد وأقسام الغناء، وتخرجها عن دائرة الحرمة:

1ـ التغنّي بالقرآن:

بالنظر إلى كون تحسين الصوت في قراءة القرآن، وترجيع الصوت أثناء تلاوته وتمديده وفق اللحن العربي، تحمل نفس المعنى المراد من التغنّي بالقرآن([76]) فقد وجدنا بعض أصحاب فنّ القراءة والتجويد يصرِّحون بأن تحسين الصوت في تلاوته لا يمكن أن يتمّ بدون التغنّي به([77]). وإذا تمّ النظر إلى الروايات التي تجيز التغني بالقرآن في مجموعها وتعدادها نجدها تقف في مقابل الروايات التي تحرِّم وبشكلٍ مطلق التغنّي والغناء، وعلى طرف المعارض لها، خصوصاً رواية: «ليس منا مَنْ لم يتغنَّ بالقرآن»([78]). وهي الرواية التي جاءت في المصادر الحديثية لأهل السنّة بشكل متواتر، وهي في ذاتها تقف موقف المعارض للروايات القائلة بتحريم مطلق الغناء.

2ـ التغني في الأعراس وحفلات الزواج:

ففي صحيحة أبي بصير قال: سألتُ أبا عبد الله× عن كسب المغنيات؟ فقال: «التي يدخل عليها الرجال حرامٌ، والتي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس»([79]).

بالإضافة إلى هذه الرواية هناك رواية صحيحة أخرى لأبي بصير. ما يظهر في هذه الرواية أن الغناء تمّ تحديد الحكم فيه بنوعين: بالحرمة؛ وبالحلية. فهناك غناء حرام؛ وهناك غناء آخر حلال، ولا إشكال فيه.

والمراد بالغناء الحرام هو ذاك الغناء الذي كان سائداً في زمن صدور الروايات عن الصادقين’ كما رأينا، وكانت السمة الغالبة على تلك المجالس أنها مجالس للرذيلة وممارسة الفاحشة. هذا مضافاً إلى أنها كانت تمزّق ستر الفواصل الشرعية التي تحكم علاقة المرأة بالرجل في ظلّ الشريعة الإسلامية، لذلك اعتبر هذا الغناء حراماً.

لكن الرواية تعطي احتمالاً آخر، وهو أن مجالس الأعراس إذا لم يرتَدْها الرجال فغناء المرأة فيها مستثنىً من حكم الحرمة، وفي غير هذه الحال يبقى الغِناء على إطلاقه في الحرمة.

لكنّ هذا الاحتمال، الذي يضيِّق من مساحة الغناء الجائز، يتبدَّد في صحيحة عليّ بن جعفر، عن موسى بن جعفر (الإمام الكاظم×)، قال: سألتُه عن الغِناء هل يصحّ في الفطر والأضحى والفرح؟ قال: «لا بأس به، ما لم يُعْصَ به»([80]).

وقد وقع الاختلاف في جملة «ما لم يُعْصَ به» في بعض النسخ الأخرى. لكنّ هذا النصّ يجعل موضوع الغِناء في أكثر من موقعٍ. فهذه الرواية تتحدَّث عن جواز الغِناء في الأعياد الدينية، ولا نرى أن هناك خصوصية في الأعياد تقتصر عليها، ولا تسري إلى غيرها. بالإضافة إلى أن جواب الإمام عن سؤال السائل لا يحمل تقييداً، حيث لم يكن الجواب فقط أنّه جائزٌ في الأعياد، وإنما قال : «ما لم يُعْصَ به».

وهناك روايةٌ أخرى تجيز قراءة القرآن بالصوت الحسن وباللحن الموزون، وتحرِّم الصوت الحسن واللحن الموزون في الغِناء الشهواني والمثير للشهوات المحرمة والدافع لارتكاب المحرَّمات([81]). وهذه الرواية والتي سبقتها تشكِّل مجموعة من الروايات التي تكون شاهداً على الإطلاق في هذا الباب.

3ـ جواز شراء الجارية المغنّية، وحلّية أجرتها:

نعم، الرواية الواردة في هذا الموضوع مرسلة. لكن هذا لا يدلّ على ضعفها؛ حيث إن الشيخ الصدوق لم يرسل الرواية عن عليّ بن الحسين بالرواية، وإنما أرسلها بإسنادها إلى المعصوم، وهو الأسلوب الذي يفيد وفق مبنى الشيخ الصدوق القطع بصدور الرواية عن المعصوم: «سأل رجلٌ علي بن الحسين عن شراء جاريةٍ لها صوت، فقال: ما عليكَ لو اشتريتها فذكرَّتْك الجنّة، يعني بقراءة القرآن والزهد والفضائل التي ليست بغناء، فأما الغناء فمحظور»([82]).

والواضح أن التوضيح الذي تلا الرواية يعود إلى الشيخ الصدوق. والسؤال كما هو ظاهر كان حول الجارية المغنّية، وليس موجهاً إلى الصوت الحسن لدى الجارية، والذي لا يجوز المتاجرة به. وقد قيَّد الإمام السجّاد× شراء الجارية المغنية بأن تستخدم صوتها في تذكيره بالآخرة، يعني أن يكون لشرائها أهدافٌ معنوية، بأن تذكره بالله وبالآخرة.

أمام هذا الكمِّ الهائل من الروايات يرتفع التردُّد حول كون حرمة الغِناء إنّما تسري في الغناء الشهواني واللهوي، وتتقيَّد به.

الهوامش

______________________

(*) أستاذ الدراسات العليا في الحوزة العلميّة، وباحث ورئيس مؤسَّسة فهيم الثقافية في إيران.

([1]) ابن عبد ربّه الأندلسي، العقد الفريد 6: 46، دار الكتاب العربي، بيروت.

([2]) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 9: 231، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

([3]) أدوات الموسيقى التي ينفخ فيها بهواء الفم، كالناي.

([4]) صبحي الصالح، نهج البلاغة، الخطبة 160؛ العقد الفريد 6: 46.

([5]) تفسير محمد بن مسعود العيّاشي 2: 259، طهران.

([6]) بحار الأنوار 46: 69.

([7]) وسائل الشيعة 4: 858.

([8]) أصول الكافي 2: 615.

([9]) صحيح مسلم 6: 80، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

([10]) المصدر نفسه.

([11]) وسائل الشيعة 12: 225 ـ 237.

([12]) علي أصغر مرواريد، الينابيع الفقهية 13: 4، 11، 17، 22، 108؛ 14: 400، 405، مؤسّسة فقه الشيعة، بيروت.

([13]) محمد جواد العاملي، مفتاح الكرامة 4: 52، مؤسّسة آل البيت^، قم.

([14]) مقدّمة ابن خلدون: 426 ـ 428، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

([15]) أبو الفرج الأصفهاني، الأغاني 2: 157.

([16]) المسعودي، مروج الذهب 8: 93 ـ 94، دار المعرفة، بيروت.

([17]) الأغاني 1: 98.

([18]) المصدر السابق 8: 3؛ 10: 48.

([19]) الأغاني 3: 140.

([20]) ابن منظور، لسان العرب 10: 135.

([21]) الأغاني 2: 170 ـ 173؛ فيليب حتي، تاريخ العرب: 345، ترجمة أبو القاسم پاينده.

([22]) الأغاني 3: 239؛ 5: 41، 52؛ 6: 8، 12؛ 21: 226، 237.

([23]) روايات مروية عن الرسول الأكرم، وهي تشير إلى حرمة الغناء أو موارد الحلال فيه، أو هي في مقام التأييد الضمني لقراءة القرآن بنحو التغنّي به: «ليس منا مَنْ لم يتغنَّ بالقرآن». فقه كاوشي نو در فقه إسلامي»، العدد 4: 356).

([24]) الأغاني 6: 318.

([25]) محمد ماجد بن إبراهيم الحسيني، إيقاظ النائمين وإيقاظ الجاهلين، نقلاً عن التمهيد في علوم القرآن، لمحمد هادي معرفة 5: 204، انتشارات إسلامي، جماعة مدرسي الحوزة العلمية في قم.

([26]) لسان العرب 15: 136.

([27]) المصدر نفسه.

([28]) قاموس علي أكبر دهخدا 27: 328.

([29]) فخرالدين الطريحي، مجمع البحرين 2: 335، مكتب نشر فرهنگ إسلامي، طهران.

([30]) علي الحسني، الغناء: 8، كوثر، نقلاً عن المستند، ج2.

([31]) الإمام الخميني، المكاسب المحرمة 1: 198 ـ 200، إسماعيليان، قم.

([32]) أبو القاسم الخوئي، منية السائل: 179.

([33]) مفتاح الكرامة 4: 52.

([34]) سلسلة الينابيع الفقهية 13: 4. مؤلِّف كتاب الفقه الرضوي غير معروف. وقد نسبه البعض إلى الإمام الرضا ، لكنّ العديد؛ وبملاحظة القرائن الداخلية والخارجية، يرون أن الكتاب إنما هو لعلي بن الحسين بن بابويه. (انظر: حسين علي منتظري، دراسات في المكاسب المحرمة 1: 112 ـ 142).

([35]) المصدر السابق: 11، 17، 22، 108.

([36]) المصدر السابق 14: 400.

([37]) الطوسي، النهاية: 365، دار الكتاب العربي؛ الطوسي، الاستبصار 3: 62، دار التعارف، بيروت.

([38]) محمد حسن النجفي، جواهر الكلام 22: 44.

([39]) الأنصاري، المكاسب 1: 102، بيروت.

([40]) الفيض الكاشاني، مفاتيح الشرائع 2: 21.

([41]) الفيض الكاشاني، الوافي 10: 35.

([42]) الفيض الكاشاني، تفسير (صافي) 1: 62.

([43]) المحقق السبزواري، كفاية الأحكام: 85 ـ 86.

([44]) الإمام الخميني، المكاسب المحرمة 1: 210؛ فقه كاوشي نو در فقه إسلامي، العدد 4: 357.

([45]) محمد هادي معرفة، التمهيد في علوم القرآن 5: 207.

([46]) محمد هادي معرفة، التحقيق عن مسألة الغناء: 16، مؤتمر خاصّ بالشيخ الأنصاري.

([47]) عبد الرحمن الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة 2: 42، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

([48]) المصدر السابق 2: 42 ـ 44.

([49]) المصدر نفسه.

([50]) المصدر نفسه.

([51]) المصدر نفسه.

([52]) المصدر نفسه.

([53]) وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته 3: 573، دارالفكر، بيروت.

([54]) هاشم الحسيني البحراني، البرهان في تفسير القرآن 3: 90، إسماعيليان، قم.

([55]) محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، جامع الأحكام القرآن 3: 54، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

([56]) وسائل الشيعة 12: 226، ح6. محمد بن مسلم، عن الباقر×: الغناء مما وعد الله عليه النار. وتلا هذه الآية: ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾.

([57]) وسائل الشيعة 12: 226، ح3، 5.

([58]) الحويزي، تفسير (نور الثقلين) 3: 529، إسماعيليان، قم.

([59]) وسائل الشيعة 12: 229، ح19.

([60]) المصدر السابق: 232، ح32.

([61]) المصدر السابق 12: 127.

([62]) المصدر نفسه.

([63]) المصدر السابق 13: 225 ـ 230، ح1، 4، 10، 12، 18، 22، 23.

([64]) المصدر السابق 12: 225 ـ 226، صحيحة زيد الشحام، وصحيحة معمر بن خداد، ح41؛ فقه كاوشي نو در فقه إسلامي، العدد 4: 358.

([65]) وسائل الشيعة: 86 ـ 88.

([66]) المصدر السابق 12: 228، ح18.

([67]) مفتاح الكرامة 4: 52؛ محمد علي التوحيدي، مصباح الفقاهة (تقريرات دروس السيد الخوئي) 1: 305.

([68]) الفيض الكاشاني، الوافي 10: 33.

([69]) وسائل الشيعة 12: 85.

([70]) المصدر السابق: 86.

([71]) مصباح الفقاهة 1: 308.

([72]) وسائل الشيعة 12: 225.

([73]) التمهيد في علوم القرآن 5: 204.

([74]) وسائل الشيعة 12: 225 ـ 232.

([75]) الصدوق، الخصال: 610، انتشارات إسلامي، قم.

([76]) ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث، كلمة لَحَن.

([77]) التمهيد في علوم القرآن 5: 200 ـ 201.

([78]) الصدوق، معاني الأخبار: 279، انتشارات إسلامي؛ المرتضى، الأمالي 1: 24؛ المجلسي، بحار الأنوار 76: 342؛ 79: 255؛ 92: 191؛ النوري، مستدرك الوسائل 1: 295، الطبعة الحجرية؛ المتقي الهندي، كنـز العمال 1: 605، 609، مؤسسة الرسالة، بيروت؛ صحيح البخاري، التوحيد 44؛ مسند أحمد بن حنبل 2: 172، 175، 192.

([79]) وسائل الشيعة 12: 84، 85، ح1، 2، 3. وانظر كذلك: مقالة (تغنّي در قرآن)، مجلّة بينات، العدد 6.

([80]) وسائل الشيعة 12: 85، ح5.

([81]) المصدر السابق 4: 858.

([82]) قال رسول الله|: «اقرأوا القرآن بألحان العرب وأصواتها، وإيّاكم ولحون أهل الفسوق وأهل الكبائر؛ فإنه سيجيء بعدي أقوام يرجعون القرآن ترجيع الغناء والنوح والرهبانية، لا يجوز تراقيهم، قلوبهم مقلوبة، وقلوب مَنْ يعجبه شأنهم».

المصدر: نصوص معاصرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign