خرید فالوور اینستاگرام خرید لایک اینستاگرام قالب صحیفه
الرئيسية / موقع الاجتهاد و جميع المواضيع / جميع الأبحاث والأحداث / حوارات ومذکّرات / 55 مذكرة خاص / أخلاق العلم.. منهج الشهيد الصدر الأخلاقي مع نظرائه من المراجع والمجتهدين
الشهيد الصدر

أخلاق العلم.. منهج الشهيد الصدر الأخلاقي مع نظرائه من المراجع والمجتهدين

الاجتهاد: إن المتتبع لسيرة السيد الشهيد الصدر “قدس سره” ومنهجه الأخلاقي في التعامل يرى أنه اختطّ خطاً واضحاً، يمكن أن نصطلح عليه بـ (أخلاق العلم) والذي يعني ردم الفاصلة القائمة بين العلم النظري المجرد وبين العلم الذي تجلله الأخلاق ويزيّنه حسن السيرة.

ويمكن تناول هذه الأخلاق من أبعاد ثلاثة:

البعد الأول- أخلاقه مع تلامذته.
البعد الثاني- أخلاقه مع نظرائه من المراجع والمجتهدين.
البعد الثالث- أخلاقه مع العلماء والمفكرين غير الإسلاميين.

وبخصوص البعد الثاني؛ أي: أخلاقه مع نظرائه من المراجع والمجتهدين، يمكن تناول ذلك من خلال الدوائر التالية:

1 – الدعوة إلى حماية المرجعية من الداخل:
لنتعرف، قبل كل شيء، على رؤية السيد الشهيد محمد باقر الصدر لموقع المرجعية في الأمة، لأن ذلك يعد مدخلاً لفهم دعواته المتكررة إلى ضرورة حماية المرجعية من الداخل. فهو يرى أن: (المرجعية عهد رباني إلى الخط لا إلى الشخص، أي إن المرجع محدد تحديداً نوعياً لا شخصياً، وليس الشخص هو الطرف مع الله، بل المركز كمواصفات عامة) (1).

ويرى أيضاً أن المرجعية الدينية الرشيدة والقيادة الروحية هي الحصن الواقي من كثير من ألوان الضياع والانحراف. ومن تلك الحقائق أن القيادات الروحية كانت تقوم بدورها هذا وتنجزه إنجازاً جيداً).

ويرى مع هذا وذلك (أن أهم ما يميز المرجعية الصالحة تبنّيها للأهداف الحقيقية التي يجب أن تسير المرجعية في سبيل تحقيقها، فهي مرجعية هادفة بوضوح ووعي، وتتصرف دائماً على أساس من تلك الأهداف، بدلاً من أن تمارس تصرفات عشوائية، وبروح تجزيئية، وبدافع من ضغط الحاجات الجزئية المتجددة).

ومن هنا فإن المرجعية كتحديد نوعي وكمواصفات عامة، متعاقدة مع الله. وكحصن واق من ألوان الضياع والانحراف، وكموقع هادف لا يتصرف بعشوائية، أو روح تجزيئية، أو بوحي من ضغوط الحاجة، لا بد من حمايتها من الداخل لتحافظ على ذلك كله، وإلا فأي تصدع أو أي خلل في أي من مواصفاتها السالفة الذكر هو تحطيم لكيان الشهادة في الأمة.

هذه الرؤية يترجمها مرافقه الشيخ النعماني بصيغة أخرى، حيث يقول: (لقد أدرك الشهيد الصدر أن المرجعية – بما هي كيان قيادي للمسلمين – مستهدفة من قبل السلطة الحاكمة في ظرف كانت تواجه فيه انتقادات خطيرة من بعض قواعدها الشعبية يتعلق ببعض القضايا المادية، فكان لا بد من حمايتها، لأن في ذلك حماية الإسلام، فكان الهدف إذن هو الدفاع عن الإسلام) (2).

وبناء على ذلك، فإن تلمّس مفردات أخلاق السيد الشهيد في تعامله مع أساتذته وأقرانه من المجتهدين أو مراهقي الاجتهاد، لا ينحصر في تعبير كلمة (أستاذنا) التي يشير بها إلى المرجع الديني الذي تتلمذ على يديه، وإنما في هذه الروح التي لا تجد فيها، وأنت تقرأها جيداً، أية نزعة للتنافس أو الحسد أو التعالي، وبالتالي فإن نظرة مقارنة بين مرجعية السيد الشهيد التي تجعل همها الدائم (الكيان) لا (الشخص) وبين مرجعيات أخرى تقدّم الثاني على الأول، تفضي إلى أن من بين سبل حماية المرجعية من الداخل هو هذا النفس الإيماني المتسامي الذي لا يترك للمتصيدين في الماء العكر أي شيء يصطادونه، حتى ولو كان ديداناً متحركة تشبه السمك، وما هي من السمك في شيء.

إننا نرى ذلك ونلمسه في أكثر من موقع يخاطب فيه السيد الشهيد مدير أعماله الشيخ النعماني في أنه محسوب على مرجعيته، وأنه ينبغي أن لا يتصرف بأي نحو يمس تلك المرجعية بأدنى سوء، بل لم يسمح له أن يمارس بعض المباحات، لأنه كان يرى أن موقع المرجعية الحساس في الأمة، والذي صمّم على تمثيله أفضل تمثيل لا يسمح حتى بذلك.

ب – اتهام الذات (نقد المرجعية)
ومن بين أهم مظاهر (أخلاق العلم) التي نتحدث عنها هو أن يتهم العالم ذاته بالتقصير، إن كان ثمة تقصير، وأن لا يلقي تبعة ذلك على هذا العامل أو ذاك مجنّباً نفسه أو موقعه المسؤولية في ذلك. وهذا هو شأن رجالات التاريخ العظماء الذين كانوا لا يعفون أنفسهم من التقصير، بل كانوا على استعداد دائم لتحمّل المسؤولية كاملة.

فهو (لم ير في الأمة سبباً للانتكاسة دون القيادة، بل وجده فيهما معاً. ويرى أن على العلماء أن يفتشوا في أخطائهم قبل أن يفتشوا عن أخطاء الأمة. ولذلك أخذ ينبّه تلامذته على السبب الحقيقي وراء الانفصال بين القواعد الشعبية والقيادة الإسلامية، فلم يفسّره بخيانة هذه القواعد، وإن كانت جزءاً من المسؤولية، بل عمد إلى الكشف عنه وذلك في محاضرته التي ألقاها عن المحنة، ومحاضرته التي ألقاها عن الدور التاريخي للمرجعية، فوجد أن الخطأ يكمن في طبيعة العلاقة بين القواعد الشعبية وقياداتها الإسلامية، لأن الأوساط العلمائية لا تتعامل مع هذه القواعد بل تتعامل مع أجدادها الأموات) (3).

وبهذا يكون السيد الشهيد الصدر قد شخص نقاط الخلل في الحوزة العلمية على مختلف مستوياتها مرجعيات وطلبة علوم دينية بـ: (4)

1 – فقدان روح التضحية والإيثار حيث يرى أن الحوزة بحاجة إلى أخلاقية التضحية بدلاً عن أخلاقية المصلحة الشخصية. ولا شك أن السيد الصدر لا يتحدث بلغة العموم، وإنما هو بصدد الحديث عن (الظاهرة) لا عن (المستثنيات).

2 – فقدان نزعة التجديد في أساليب العمل؛ حيث يرى أن الحوزة تدرّس العلم لكي تجمده في الرؤوس لا أنها تدرسه للعمل، عدا شخصيات علمائية خرجت من عباءة الحوزة لترتدي لباس العصر لا من حيث (الزي) بل من حيث (التعاطي) فبزّوا أقرانهم، وكان لهم شأن من الشأن، فهو ينتقد العامة لا المفردات النادرة.

3- عدم الشعور التفصيلي بالارتباط بالله تعالى؛ فهو يرى أن الأخلاقية التي تعيشها الحوزة – بشكل عام – ليست أخلاقية الإنسان العامل، بل هي أخلاقية إنسان آخر لا يصلح للعمل الحقيقي.

4- فقدان الحدس الاجتماعي كأساس للعمل الاجتماعي؛ ويرى أن الحدس الاجتماعي يتكون من خلال التفاعل مع الناس والإطلالة على ظروف العالم، ويدعو إلى التحرر من (النزعة الاستصحابية) (5) التي تشل العمل وتجمده وتحجمه.

5- حب الدنيا؛ حيث يرى أنه (إذا كان حب الدنيا خطيئة، فهو منا نحن الطلبة ـ وهذا هو تعبيره بالحرف – من أشد الخطايا؛ لأننا نصبّنا أنفسنا أدلاء على طريق الآخرة)، ويضع تلامذته على محك التجربة حينما يخاطبهم. (نحن نقول: إننا أفضل من هارون الرشيد، أورع من هارون الرشيد، أتقى من هارون الرشيد عجباً ! هل عُرضت علينا دنيا هارون الرشيد فرفضناها حتى نكون أورع من هارون الرشيد؟! يا أولادي، يا إخواني يا أعزائي يا أبناء علي، هل عرضت علينا دنيا هارون الرشيد؟ لا، عرضت علينا دنيا هزيلة محدودة ضئيلة، دنيا ما أسرع ما تتفتت، ما أسرع ما تزول، دنيا لا يستطيع الإنسان أن يتمدد فيها كما كان يتمدد هارون الرشيد، هارون الذي يلتفت إلى السحابة فيقول لها: أينما تمطرين يأتيني خراجك! في سبيل هذه الدنيا سجن موسی بن جعفر(ع).

هل جرّبنا أن هذه الدنيا تأتي بيدنا ثم لا نسجن موسى بن جعفر؟ جربنا أنفسنا، سألنا أنفسنا، طرحنا هذا السؤال على أنفسنا، كل واحد منا يطرح هذا السؤال على نفسه، بينه وبين الله أن هذه الدنيا دنيا هارون الرشيد كلّفته أن يسجن موسى بن جعفر، هل وضعت هذه الدنيا أمامنا لكي نفكر بأننا أتقى من هارون الرشيد؟

ما هي دنيانا؟ هي مسخ من الدنيا، هي أوهام من الدنيا ليس فيها حقيقة إلا حقيقة رضا الله سبحانه وتعالى، إلا حقيقة رضوان الله.

كل طلبة (طالب) حاله حال علي ابن أبي طالب، إذا كان يعمل للدنيا فهو أتعس الناس؛ لأن أبواب الدنيا مفتوحة، خاصة إذا كان الطلبة له قابلية له إمكانية، له ذكاء، له قابليات، هذا أبواب الدنيا مفتوحة له، فإذا كان يعمل للدنيا فهو أتعس الناس؛ لأنه سوف يخسر الدنيا والآخرة. لا دنيا الطلبة دنيا ولا الآخرة يحصل عليها. فليكن همّنا أن نعمل للآخرة، أن نعيش في قلوبنا حب الله سبحانه وتعالى بدلاً عن حب الدنيا؛ لأنه لا دنيا معتد بها عندنا) (6)

إن سيدنا الشهيد الصدر في نقده للمرجعية نقداً صارماً، إنما يحاول حمايتها من الداخل، ذلك أن السكوت على التقصير فيها يعني تركها تتآكل وتتصدع وتسقط هيبتها في أعين الناس، فيما التنبيه إلى نقاط الخلل فيها ينبغي أن يكون داعياً ودافعاً لتفادي ذلك، وإصلاحه، والعمل على معالجته من قبل أن يستفحل فيصعب علاجه، أو – في مرحلة أسوأ – قد يتحول السلب إلى أمر واقع فيصبح إنكاره أو استنكاره مدعاة لهجوم المتحجرين أو أعداء الحوزة المتربصين بها لدوائر، وهو ما حصل في بعض مقاطع التاريخ الحوزوي لاسيما المتأخرة.

يقول أحد تلامذته معقّباً على انتقادات السيد الشهيد الصدر للحوزة العلمية واصفاً إياها بـ (الانتفاضة): (لقد كان الوضع الخلقي للمرجع الشهيد ثورةً على القديم المألوف في الحوزة، وكانت فضائله انتفاضة عظمى هزت ركام المعتاد الجاثم على سمعة الحوزة واعتبارها، فانبعثت من تحته شخصية جديدة اسمها المرجعية المؤهلة للقيادة المتصفة بصفات القادة الصالحين السائرين على خط أهل البيت وقد حفدت (7) القلوب مشوقة والهة إلى احتضان هذه المرجعية، والذنوب في تقديسها وإجلالها واستذكار الملامح الثورة لأسوتها وأصلها) (8).

ج – التواضع للمراجع واحترام مواقفهم
منذ نعومة أظفاره عُرف السيد الشهيد الصدر بالعلم وبالتواضع المتلازمين، ونَمَيا في مراحل عمره اللاحقة مترافقين متعاضدين متلازمين: العلم كشاخص والتواضع كظل له.

يقول معلمه في (منتدى النشر الابتدائية) في الكاظمية: (ما وجدته يوماً وقد ارتكبه الغرور، أو طغى عليه العجب بنفسه، أو تعالى على زملائه التلاميذ مما عنده في علم ومعرفة)(9). وهذا يعني أنه لم يكن يباهي بعلمه أو ينافس غيره من العلماء، إنما كان يريد به وجهاً واحداً وهو وجه الله تعالى، وهذا بحد ذاته معلم أساسي من معالم شخصيته العلمية والأخلاقية.

وكما أن حالة الاحترام للزملاء والتواضع لهم – على الرغم من رجاحة علم السيد الشهيد وجلالة قدره – لم تنشأ متأخرة، فإنها كانت تزداد أكثر كلما كان علمه يزداد أكثر، وكلما كان موقعه يبرز أكثر. فلقد بقي ينظر إلى السيد الخوئي كأستاذ يراعي موقعه العلمي في الحوزة العلمية وبين المراجع الآخرين، كما كان يجل المرجع السيد محسن الحكيم! ويستشيره ويتداول معه في شؤون العمل الإسلامي ويستجيب لطلباته.

مثلما كان يكبر ويجلّ ويعظّم الإمام الخميني غاية الإجلال والاكبار والتعظيم، ويمكن النظر إلى ذلك ليس من خلال الاحترام الشخصي المجرد فقط، بل باتخاذ المرجعيات المذكورة مرجعية استشارية خاصة له أيضاً، بمعنى أنه يلجأ إليها في المواقف الصعبة مستنصحاً ومسترشداً، كما رأينا ذلك في استجابته للسيد محسن الحكيم في تجميد عضويته في (حزب الدعوة الإسلامية) إثر إدراك السيد الحكيم لخطورة بقائه في الحزب، بعد ما علم بأن السلطة الحاكمة في العراق تخطط للقضاء عليه، على خلفية ما توافر لديها من معلومات عن ارتباطه بالحزب المذكور.

وكما رأيناه يتعهد لموفد المرجعية في عهده في أن تكون مرجعيته في طول تلك المرجعية لا في عرضها، وأن طبع الرسالة العلمية شيء ومزاحمة المرجعية العليا وايجاد التفاضل في الأعلمية والتعديل عن التقليد شيء آخر.

يقول الشيخ (النعماني) في تعليقه على هذه الحادثة: (لم يحدث أن يخضع مرجع من مراجع التقليد إلى محاسبة مرجع آخر على تصديه للمرجعية وطبع رسالته العملية. إن هذا الأمر لا سابقة له في تاريخ المرجعيات، وهو أمر يثير العجب) (10).

وكما رأيناه يوفد الى السيدين الخوئي والخميني من يطلعهما على قراره بالاستشهاد في الصحن العلوي الشريف، بعد أن يواجه السلطة الجائرة بخطاب ناري يفضح فيه جرائمها كلها ويؤلب الأمة عليها. فعلى الرغم من مرجعيته المشهود له بها، كان يرى ضرورة تأييد المرجعية لعمل مثل هذا.

وقد تجلى احترامه للمرجعيات الأخرى وتواضعه لها فيما كان يكتب، فلقد كتب في مقدمة كتابه (غاية الفكر في الأصول): (ولئن كان أكثر مطالب هذا الكتاب مخالفاً لما هو المسموع من الكلمات، فليس ذلك لأني قد اهتديت إلى ما لا يصل إليه الأساتذة والأكابر. وهيهات لذهني القاصر أن يرتفع إلى ذلك، وإنما هو لأني لم أوفق للعروج الى آفاق تفكيرهم ومجاراتهم في أنظارهم الدقيقة، وكل رجائي من المولى سبحانه أن يشملني بعنايته ولطفه ويوفقني لاقتفاء أثرهم ويعدني للتشرف باتباع خطواتهم المباركة) (11).

ويشهد لتواضعه العلمي أحد تلامذته ممن عاش ذلك التواضع عن كثب، فيقول: (وهذا التواضع الذي قد يصح أن نسميه (التواضع القيادي) يصحبه تواضع مثله وعلى مستواه، لأنهما من معدن واحد هو (التواضع العلمي) فهو في دروسه متواضعا وسماحة. لا يذكر أساتذته إلا بأرفع النعوت وتأليفه يفيض مثل (سيدنا الأستاذ). ولا يذكر آراءهم ولو كان بطلانها لديه واضحاً، إلا بأحسن ما يريدون لها أن تذكر، ويعرضها كما يحبون لها أن تعرض. بل قد يعرضها ويؤولها بوجوه حبيبة لم يقصدوها، ثم يتصدى لها بعد ذلك ينفي عنها وجه الصواب بأدب جم، وخلق عظيم.

بل إن تواضعه لروح الفكر يجعله يتواضع لكل فكرة مهما كانت غير صحيحة عنده، ويبديها إذا أراد نقدها، بخير وجوهها)) (12). وهذا خلق عظيم من أخلاق العلم التي امتاز بها سيدنا الشهيد، كما سيأتي في محله.

وقد تجلى ذلك أيضا في احترام أبناء المراجع ممن كانوا يمثلون آباءهم في النيابة عن هذا العمل أو ذاك، وليس أدل على ذلك من موقفه في الصلاة على جنازة ميت دعي إليها هو والسيد يوسف الحكيم (رحمه الله) في آن واحد، حيث تأخر ملحاً على السيد يوسف بالتقدم للصلاة، معتذرا أنه غير مسبوق بقدومه. ولم يكتف بذلك – على الرغم من أنه يومذاك من كبار العلماء، بل ذهب الى منزل السيد يوسف الحكيم ليكرّر الاعتذار، ويعلن عن أسفه الشديد لما حصل.

هذه الأخلاقية في التعامل مع الند أو المثل، في ظل ما هو ابتلاء متعارف من العلماء بالحسد أو المنافسة أو المزاحمة في الموقع، تعكس روحية السيد الشهيد الصدر الذي لم يعرف عنه أو يُسجل عليه موقف واحد حسد فيه عالما غيره، أو وقف منه موقفاً ينم عن ذلك. كما تعكس – من جهة أخرى سعيه في أن لا يضع أهل صنفه في الموضع الذي يستوجب الحسد، اللهم إلا علمه الجم الذي لم يكن هناك من سبيل الى حجبه أو التقليل من آثاره على النفوس التي لا تطيق أن ترى نجمه يزداد لمعانا.

ولذلك يصدق القول إن أصحاب العقول محسودون، بينما أصحاب القلوب محبوبون لكننا – في مثال السيد الشهيد الصدر وجدنا طغيان الحسد للدرجة التي طال التجني فيها حتى عاطفته الإسلامية النبيلة فلم تنج من الجرح والغيرة والقدح والحسد.

د – المواقف المؤيدة والمساندة للمرجعية
كان يمكن أن تدمج هذه الفقرة بالتي سبقتها، خاصة وأنهما تصبّان في عنوان متقارب، لكن آثرنا الحديث عن هذا الموضوع بشيء من الاستقلالية، لأنه إذا كان التواضع للمراجع الآخرين واحترامهم مما يمثل الجنبة الأخلاقية البحتة في التعامل معهم، فإن مواقف التأييد والمساندة تعني التجسيد العملي لما هو أعراف أخلاقية سائدة في أوساط المرجعية أو الحوزة العلمية، بل تعني – في المغزى الآخر – تقديم الصورة الأمثل للتعامل الأخلاقي بين المراجع، فإن صورة السيد الشهيد الصدر تطل على صفحة الذاكرة مشعّة بكل تلك المعاني.

فحينما يُتهم الشهيد السيد مهدي الحكيم بالعمالة من قبل النظام الحاكم في بغداد يبادر السيد الصدر وبالتنسيق مع مرجعية السيد الحكيم لإقامة اجتماع جماهيري حاشد يعبّر عن مستوى تغلغل المرجعية وامتدادها في أوساط الأمة.

وحينما تحاصر السلطة الباغية السيد محسن الحكيم رحمه الله نفسه يكسر السيد الشهيد الصدر الحصار ليكون أول داخل عليه، بل يسافر إلى لبنان ليقود من هناك حملة إعلامية مكثفة دفاعاً عن المرجعية.

وحينما يزمع الإمام الخميني مغادرة العراق تحت ضغط الحزب الحاكم، يقرر شهيدنا الذهاب إلى بيت الإمام لتوديعه على الرغم من المراقبة المشدّدة والمكثّفة المفروضة على منزله، ولما لم يوفق لتوديع الإمام، لأنه كان قد غادر قبل وصوله، فإنه يجلس في منزله كتعبير رمزي عن تعاطفه معه.

بيد أن أبلغ صور التأييد وأوفاها، تلك التي وقف فيها السيد الشهيد موقف النصرة التامة والمؤازرة الكاملة لثورة الإمام الخميني، وللجمهورية الإسلامية في إيران، بل والمرجعية الإمام القائد الذي حقق حلم الأنبياء بحسب تعبير السيد الشهيد الصدر نفسه، سواء في برقيات التأييد والمساندة والمباركة، أم في التعبير عن الاستعداد لأن يضع نفسه ومرجعيته وكل ما يملك في خدمة الثورة وقائدها، أم في دعوة تلامذته ومريديه أن لا يدّخروا وسعاً في بذل أقصى ما يستطيعون من أجل تلك الخدمة الجليلة.

ومما جاء في رسالة موجهة منه إليهم:

(ويجب أن يكون واضحاً أن مرجعية السيد الخميني التي جسدت آمال الإسلام في إيران اليوم، لا بد من الالتفاف حولها، والإخلاص لها وحماية مصالحها، والذوبان في وجودها العظيم بقدر ذوبانها في هدفها العظيم) (13) .

يقول (النعماني) شاهداً على مدى اندكاك السيد الشهيد الصدر بالثورة الإسلامية وبقائدها: (وقد سمعته مراراً يقول أمام بعض من كان يعترض على تأييده للسيد الإمام والثورة الإسلامية: لو أن السيد الخميني أمرني أن أسكن في قرية من قرى إيران أخدم فيها الإسلام لما ترددت في ذلك. إن السيد الخميني حقق ما كنت أسعى لتحقيقه) (14).

وفي قبال هذا التواضع والاحترام والتقدير والتأييد لمواقف المرجعية الممثلة في المراجع الآخرين نراه يخاطب خاصّة طلابه، كما يشهد بذلك (عبد الهادي الشاهرودي) أحد طلابه المقربين، بالقول:

((يجب عليكم أن ال تتعاملوا مع هذه المرجعية ـ يقصد مرجعيته هو ـ بروح عاطفية وشخصية، وأن لا تجعلوا ارتباطكم بي حاجزا عن الموضوعية، بل يجب أن يكون المقياس هو مصلحة الإسلام، فأية مرجعية أخرى تستطيع أن تخدم الإسلام وتحقّق له أهدافه يجب أن تقفوا معها وتدافعوا عنها، وتذوبوا فيها. فلو أن مرجعية السيد الخميني ـ مثالاًـ حقّقت ذلك فال يجوز أن يحول ارتباطكم بي عن الذوبان في مرجعيته. (15)

إنه هنا لايدعو فقط إلى نفسه وإلى مرجعيته ـ لا تصريحاً ولا تلميحاً كام هو معهود ـ وإنما يدعو تلامذته ونفسه إلى الاندكاك في المرجعية الخط المتوافرة على مواصفات المرجعية الشهيدة الرشيدة، بقطع النظر عمن يمثلها، وهو خُلق ـ أقل ما يقال فيه ـ إنه نادر في أوساط المرجعية والحوزة.

 

الهوامش

1) هذا النص وما يليه من النصوص الخاصة بالنظرة إلى المرجعية عن: مباحث الأصول: ص92
2) سنوات المحنة وأيام الحصار. ص 113.
3) محمد الحسيني، الإمام الشهيد محمد باقر الصدر – دراسة في سيرته ومنهجه. ص84.
4) نقاط الخلل هذه مأخوذة بتصرف من محاضرته عن (حبّ الدنيا).
5) معنى (النزعة الاستصحابية) هنا أنّ ثمة خطأ تقليدياً كامناً يخاف على الهوية الدينية من تأثير أي تجديد أو تطوير، فيطالب بثباتها واستدامتها مع ركونها وسكونها، متحفظاً على أي نقد للتراث، وأي نقاش في الافكار السائدة، أو تغير في أساليب العمل الديني المتوارثة عن الأسلاف. (راجع: السيد علي السلمان. قراءة في المنهج، للشيخ حسن الصفار).
6) هكذا قال الصدر: ص 85.
7) حفدت: أي خفّت وأسرعت في العمل
8) فاضل النوري: سبحات روحية. ص 113.
9) السيد الحائري: مقدمة مباحث الأصول. ص 40.
10) سنوات المحنة وأيام الحصار ص177.
11) محمد الحسيني، الإمام الشهيد محمد باقر الصدر. ص 84
12) فاضل النوري: سبحات روحية. ص 51
13) سنوات المحنة وأيام الحصار ص164
14) سنوات المحنة وأيام الحصار ص 164.. 

 

 المصدر: كتاب: مدرسة السيد محمد باقر الصدر الأخلاقيّة أصولها.. وخصائصها

بقلم عادل القاضي 

 

تحميل الكتاب

مدرسة السيد محمد باقر الصدر الأخلاقيّة أصولها.. وخصائصها

مدرسة السيد محمد باقر الصدر الأخلاقيّة أصولها.. وخصائصها

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign