فقه الأخلاق

فقه الأخلاق.. هل هناك علاقة بين الفقه والأخلاق؟ / الشهيد السيد محمد الصدر”ره”

الاجتهاد: يهمنا بداية أن نلفت إلى أن معظم ما أوردناه في قراءتنا لكتاب فقه الأخلاق، هو من التمهيد بغية إدراك روح الكتاب، وأما ما تبقى من التفاصيل ضمن الجزئين الأول والثاني فهي موكولةٌ للقارئ ليستفيد منها، وسنلاحظ عبر قراءتنا التفسير الجميل الذي يقدّمه آية اللَّه الشهيد السيد محمد صادق الصدر قدس سره، حيث يجمع بين الفقه والأخلاق بطريقة نموذجية، ونوعية ومختلفة تستحق الوقوف عند كثير من نظراته لهذه الأمور.

العلاقة بين الفقه والأخلاق‏
يبدأ الشهيد في مقدمة كتابه فقه الأخلاق بطرح سؤال “هل بين الفقه والأخلاق أية علاقة؟ أم أنهما كعلمين أو حقلين من حقول الحياة الاجتماعية غير مرتبطين ولا علاقة لأحدهما بالآخر؟”. ثم يجيب بأن “لكل من العلمين طريقته في البحث وفي البرهنة وفي الاستنتاج… فهما متغايران نظرياً، وأمّا عملياً فإننا نجد عدة ظواهر تطبيقية ينفصل بها أحد العلمين عن الآخر.. إلاّ أنَّ هناك علاقة وثيقة وحميمة بين علمي الفقه والأخلاق حتى كاد أن يكون أحدهما عين الآخر.

* الانفصال النظري والعملي
ويتحدث السيد الشهيد عن الانفصال النظري بينهما، وعن الجانب العملي فيقول في فقرات من الكتاب: “أمّا الانفصال النظري فغاية ما أوصلنا إليه الدليل هو كونهما علمين بذاتهما مستقلّين، وهذا هو سرُّ اختلافهما موضوعاً وأسلوباً، وهذا مما لا ينبغي إنكاره، وإن ما نحاول إثباته الآن هو أنَّ هذين العلمين يلتقيان في كثير من مسائلهما، بل في أكثرها بل في كلها”.

أمّا حول الانفصال في الجانب العملي فيقول: “بالنسبة إلى الاختصاصيين بالفقه والأخلاق وبالنسبة إلى العاملين بهما… فالاهتمام يكثر بأحدهما ويقلّ بالآخر، فهذا يمكّنك أن تجد في جوابه إحدى وجهتي نظر:

الوجهة الأولى: أن الحقَّ أن يكون الفرد والمجتمع عارفاً للفقه والأخلاق معاً مطبقاً لهما معاً. فلو كان قاصراً أو مقصّراً من أحد الجانبين كان ناقصاً لا محالة، سواء كان إختصاصياً بأحد الحقلين أو لم يكن.

الوجهة الثانية: أن الاختصاص والتعمّق الكامل بكلا هذين الحقلين متعذّر تماماً، وفوق الطاقة البشرية. ومن هنا إن اللازم لكل اختصاصي أن يُلمَّ بحقله المعيّن، ويدع من الحقل الآخر ما هو خارج عن أحكامه، وإنما يلمُّ به إلماماً.

وهناك وجهة ثالثة يمكن أن تُقال في هذا الطريق قد تكون ناشئة من (النفس الأمارة بالسوء) وهي عدم تبادل حسن الظن بين الفريقين: الفقهاء والأخلاقيين. لأن الفقهاء غالباً جداً يبنون علمهم على الظاهر، أعني ظاهر الشريعة، والأخلاقيون يبنون علمهم على الباطن. ومن المؤسف أن يكون أهل الظاهر غير معتقدين بالباطن وأهل الباطن غير معتقدين بالظاهر، وأحدهما يخطّئ الآخر في السير في طريقه”.

الأخلاق والفقه عند أئمتنا
فيما يُدّعى من أنَّ أئمتنا عليهم صلوات اللَّه قد اقتصروا في بياناتهم على الشريعة أو الفقه، ولم يبيّنوا عن الأخلاق إلا القليل يقول أن هذا على إطلاقه غير صحيح لأسباب:

“أولاً: لأنهم سلامُ اللَّه عليهم بيّنوا كلا الحقلين، كلاًّ منهما لمن يستحقّه ويتحمّله، لا محالة، ولم يقتصروا على أحدهما بأي حالٍ من الأحوال.

ثانياً: إنّه من المسلّم أن عدد المستحقين لبيان الظاهر، والقاصرين عن بلوغ العمق الأخلاقي، أكثر بكثير في المجتمع ممن هو قادرٌ على بلوغ ذلك العمق، بل إن المجتمع ككل يمثّلُ هذا الاتجاه”.

ثم يضيف: “من هنا كانت المصلحة الضرورية تقتضي ظهور المعصومين سلام اللَّه عليهم أمام الناس بمظهر الظاهر وغضِّ النظر عن (الباطن) أو مستوى الأخلاق المعمّق. سواء ذلك في سلوكهم الشخصي أو في أفعالهم أو أقوالهم أو تعاليمهم، وهذا ما يفسِّر أن ما وردنا عنهم عليهم السلام من أحاديث الفقه أكثر مما وردنا من أحاديث الأخلاق”.

مفهوم المستحبات والمكروهات‏

يقول قدس سره: “إنما تنشأ المغايرة الظاهرية أو المعروفة بينهما من القصور أو التقصير… كما لو قلنا أنَّ البحث عن الواجبات والمحرمات في الشريعة هو الفقه، والبحث عن المستحبات والمكروهات هو الأخلاق.

وبهذا كله نعرف أننا قد نحسن صنعاً. إن تحدّثنا في هذا الكتاب عن (فقه الأخلاق) أو الفقه الأخلاقي أو الأخلاق الفقهية، ما شئت فعبّر، فإنها جميعاً بحسب النتيجة تعود إلى معنى واحد مشترك، وكان يمكننا الحديث تحت هذا العنوان عن كل الفقه وعن كل الأخلاق، بعدما عرفنا الرابطة الوثيقة ما بينهما.. غيرَ أننا ينبغي أن نلاحظ: أن المستويات التي يمكن الحديث فيها أو عنها، ثلاثة، ونحن سنقتصر في هذا الكتاب على واحد منها.. وهو المستوى الثاني غير الالزامي من الشريعة، أعني المستحبات والمكروهات، وهي التي تعتبر عادة أول الخطوات نحو الكمال الأخلاقي اللائق أو العالي”.

في هذا المقام التفاتات هامّة تحمل معاني جميلة في تفسير المستحب والمكروه وقد تكون جديدة بالنسبة لكثير من القرّاء، حيث يقول: “إن مفهوم المستحبات والمكروهات غير خاص بما هو معروفٌ فقهياً، كالدعاء عند رؤية الهلال أو تقديم الرِّجل اليُمنى لدى الدخول إلى المسجد، بل يمكن فهمها على عدّة مستويات:

المستوى الأول: المستوى الفردي الظاهري كاستحباب النوافل والأدعية ونحوها.
المستوى الثاني: المستوى الفردي الاجتماعي، كاستحباب قضاء حاجة الآخرين والسعي في الصلح بين المتخاصمين.
المستوى الثالث: المستوى الفردي النفسي، كالتقليل من حبِّ الدنيا والالتفات إلى الرغبة في الآخرة.
المستوى الرابع: المستوى الفردي العقلي، كحسن الفهم للأمور الدينية والأخلاقية، واختيار الصالح من الحقائق وطرح الأمور الباطلة الرديئة.

المستوى الخامس: المستوى الروحي، كالصبر على الشدائد والتسليم لأمر اللَّه سبحانه والخشوع في العبادات والاخلاص فيها.
المستوى السادس: المستوى الاجتماعي العقلي والروحي معاً وهو محاولة إيصال النتائج الفردية المشار إليها إلى الآخرين بتعليمهم وتربيتهم على ذلك. إلى غير ذلك من المستويات”.

المسائل بأسلوب فقهي وأخلاقي‏

تبدأ تفاصيل الجزئين الأول والثاني، انطلاقاً من عناوين عديدة، هي بمعظم مفرداتها وتشعبّاتها تحكي جوهر الفكرة الأساسية التي قدّم لها السيد الشهيد قدس سره، ومن الصعب تحصيل الفائدة منها دون الاطلاع عليها، واللطيف أنه يمكن تناول كل عنوان أو فقرة أحياناً بشكل عام بمعزل عن الآخر،

والمعلوم أن معظم الكتب المتداولة تُكتب فيها النصوص بطريقة متسلسلة بحيث لا يستطيع القارئ إلا أن يقرأ فقراتها واحدةً تلو الأخرى، لكن الأمر يختلف مع “فقه الأخلاق” فالمؤلف رضوان اللَّه عليه قد بدأها بعنوان أطلق عليه مقدّمة العبادات وفيه تسع وعشرون فقرة، ثم انطلق في عناوين أخرى مثل “كتاب الطهارة” و”كتاب الصلاة” و”كتاب الصوم” حيث ينتهي الجزء الأول، ويعود ليبدأ في الجزء الثاني مع “كتاب الزكاة” وهكذا الخُمس والاعتكاف والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويختم الجزء الثاني بكتاب الجهاد.

والملاحظ أن لكل كتاب منها مجموعة من الفقرات تعالج التفاصيل بأسلوب فقهي وأخلاقي تحليلي يضع بين يدي القارئ الكثير من المسائل الفقهية الأخلاقية بعيداً عن الملل والسأم!

 

إعداد: محمود دبوق

المصدر: مجلة بقية الله العدد 160

 

رابط قراءة كتاب فقه الأخلاق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky