خرید فالوور اینستاگرام خرید لایک اینستاگرام قالب صحیفه
الرئيسية / موقع الاجتهاد و جميع المواضيع / جميع الأبحاث والأحداث / حوارات ومذکّرات / 5 مذكرة / أثر تلامذة الإمام الصادق “عليه السلام” في انتشار علم الإمام
الإمام الصادق

أثر تلامذة الإمام الصادق “عليه السلام” في انتشار علم الإمام

الاجتهاد: كان الإمام الصادق “علیه السلام” منهجياً في وضع تلامذته في الموقع المناسب، وكان ينتقي ويختار لكل فن رجاله وأبطاله، يراعي في ذلك القابلية، والأولاع الخاصة، والتخصص الدقيق، فأصحاب القرآن لعلوم القرآن، وأصحاب الحدیث للحديث الشريف، والمتكلمون لعلم الكلام، وطلاب الفلسفة لميادين الفلسفة، ورجال الفقه للفقه، وهكذا بقية الفنون.

كان من بركات مدرسة أهل البيت العلميّة أن نشأ في رحاب زعيم هذه المدرسة الإمام الصّادق“علیه السلام” آلاف الرواة والمحدثين والعلماء والمتكلمين والشيوخ وأئمة المذاهب ورؤساء الدين، يضاف إليهم أرباب التخصصات التجريبية في الطب والفيزياء والكيمياء والرياضيات والفلك والنجوم والكون وسوى ذلك في الفلسفة والجغرافيا والتاريخ وعلم النفس وعلم الاجتماع.

هذا التعدد في التخصص، وذلك التنوع في المعارف، يصور لنا حقیقتين مهمتين:

الأولى: هذا الزخم الهائل من التلامذة والطلاب الذين حدبوا على استثمار حياة الإمام العلمية، فمثلوا بين يديه مستفیدین، جعل بعض المؤرخين يتجاوز بعددهم الالآف؛ بينما اقتصر بعضهم على حصرهم بأربعة آلاف تلميذ.
ومعنى هذا أن هذا العدد الضخم قد تجاوز حدود الإحصاء كثرة، إلا أن ما بين أيدينا من مصادر يؤكد الرقم الأخير.
فالحافظ أبو العباس بن عقدة (ت ۲۳۰ھ) ألف كتابا في ترجمة تلامذة الإمام، فكانت عدتهم عنده أربعة آلاف تلميذ.
وذكر شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (ت ۴۶۰ه) أكثر من ثلاثة آلاف راوٍ من تلامذته في الرجال.
وذكر جملة منهم الذهبي في سير أعلام النبلاء وتذكرة الحفاظ.

وأكد على أبرزهم من المشهورين: أبو نعيم الأصبهاني في حلية الأولياء وترجم سيدنا الأستاذ الإمام الخوئي (ت ۱۴۱۳ھ) لأكثر من ثلاثة آلاف راوٍ منهم في موسوعته الخالدة (معجم رجال الحدیث) في ثلاثة وعشرين مجلداً، مع ذكر رواياتهم، وطرق إسنادها، واعدادها، ومواضعها من كتب الحديث، مع التوثيق الدقيق، وكشف حال الراوي.

وترجم الأستاذ باقر شريف القرشي لثلاثة آلاف وستمائة واثنين وخمسين تلميذاً في المجلد السادس من موسوعته (حياة الإمام الصادق “علیه السلام”).

ولم أجد فيما بين يدي من مصادر قديمة وحديثة، إلا ظاهرة الإشارة إلى الأعداد الهائلة من تلامذة الإمام الصادق “علیه السلام” وأصحابه في كل الفنون.

وأمّا ما أغفله التاريخ من تلامذة الإمام خوفاً ورهباً، بغضاً وكراهية، فحدّث ولا حرج. ولا أعلم كتاباً من كتب الرجال عند الإمامية قد تخطى هذه الظاهرة، وللاستزادة في هذا المجال يرجع إلى المصادر المطولة”(۱).

الحقيقة الثانية: حرية الرأي والتفكير في مدرسة الإمام الصادق، فقد كان التنظيم الثقافي الذي أبدعه الإمام الصادق علیه السلام يمثل أكاديمية حرة للبحث العلمي، لا سيما في قضايا الفكر المجرد، مما لم يتوفر في أية مدرسة علمية في عصره، وكأنه يعایش العصور المتحضرة التي أتاحت للطلاب حرية البحث والاختيار والتفكير.

لقد أرسى الإمام الصادق “علیه السلام” أساساً رصيناً للثقافة العامة، وهيأ لها أسباب الذيوع والانتشار، بحيث أصبحت نموذجاً أرقى لحرية الرأي قبل نهاية القرن الثاني الهجري، وقد اقتدت الفرق العقلانية المتنورة بهذا المنهج لا سيما المعتزلة.

وكانت المدرسة الجعفرية جريئة كل الجرأة حينما أعلنت مدارسة المسائل الدينية الصرفة جنباً إلى جنب مع المسائل الإنسانية الدنيوية، وكان أثر ذلك أن أصبح علماء الجعفرية في مختلف القرون يناقشون المسائل في شؤون الدنيا والدين، ويثبتونها بقوانين العلم ومبادئه.

وانتقلت هذه الطريقة فيما بعد من المذهب الجعفري إلى المذاهب الإسلامية الأخرى التي اجتهدت في إثبات قضاياها في ضوء الدلائل العلمية، أو هكذا حاول أصحابها تبعاً لمنهجية الإمام الصادق “علیه السلام”.

وكان مجلس الإمام الصادق علیه السلام ومدرسته يمثلان منبراً حراً جريئاً لتلامذة الإمام ومريديه، فلهم أن يسألوا عن كل شيء، ولهم أن يعترضوا، ولهم أن يعبروا عن آرائهم وأحاسيسهم بحرية تامة، ولهم – أيضاً – حق المناقشة وطلب الإيضاح بالقدر المعقول.

ولم يكن الإمام ليفرض على تلامذته رأياً معيناً، ولا كان يطلب منهم الإذعان لرأيه، ومع ذلك فقد كان الأمر دائماً ينتهي بإذعانهم، بالنظر إلى الأسلوب العلمي الذي كان الإمام يتوسل به للتدليل على رأيه بالحجة الناصعة، والمنطق السليم، والبيان الرائق.

وكان الإمام الصادق علیه السلام يؤمن بما يقول، ويأخذ بالواقع لا بالمثاليات، ومن هنا إنتفت من دروس الإمام الصادق علیه السلام أي دعوة إلى قيام حكومة مثالية لا تتفق مع واقع الحياة في المجتمع البشري.

وقد أباح الإمام الصادق “علیه السلام” في مدرسته حرية البحث في جميع الموضوعات، واغتذت الثقافة الشيعية من هذه الحرية التي هيأت لها الذيوع والانتشار، وأقبل عليها الراغبون في حرية البحث والاستدلال(۲).

وهنا نشير إلى أن تلامذة الإمام ليسوا على وتيرة واحدة في الأمانة والاستقامة وضبط النقل، ففيهم العدول والثقات، وفيهم الضعفاء والمجهولون، وفيهم من طلب العلم للآخرة، وفيهم من طلبه للدنيا. وهذا أمر طبيعي تفرضه إفرازات المجتمع الإنساني في طبقاته المختلفة.

ومهما يكن من أمر، فقد أبقى هؤلاء التلامذة تراث الإمام العلمي حیاً نابضاً يجري في ميادين الأصالة.
وينبغي الإشارة إلى أن من بين تلامذة الإمام جمهرة كبيرة من الأعلام والأساتيذ الذين طبقت شهرتهم الدنيا، فكانوا سراجها وضياءها وبهاءها؛ وفي طليعتهم ولده الإمام الكاظم موسی بن جعفر (ت ۱۸۳ه) وأبو حنيفة النعمان بن ثابت (ت ۱۵۰ھ) ومالك بن أنس إمام المذهب المالكي (ت ۱۷۹ھ) والسفيانان الثوري وابن عيينة، وأضرابهم ممن ذكرنا سابقاً، أو سنذكرهم ضمن البحوث الأخرى.

وكان الإمام الصادق منهجياً في وضع تلامذته في الموقع المناسب، وكان ينتقي ويختار لكل فن رجاله وأبطاله، يراعي في ذلك القابلية، والأولاع الخاصة، والتخصص الدقيق، فأصحاب القرآن لعلوم القرآن، وأصحاب الحدیث للحديث الشريف، والمتكلمون لعلم الكلام، وطلاب الفلسفة لميادين الفلسفة، ورجال الفقه للفقه، وهكذا بقية الفنون.

إن هذا التخطيط في توزيع الواجبات العلمية على أربابها من ذوي التخصص، إجراء علمي عظيم، يشيد جبهة فكرية متطورة لا تؤمن بالفرض والحتمية بل تحافظ على التوازن العلمي، وهذا من أهم أسرار نجاح مدرسة الإمام في رعاية المناخ النفسي لتربية تلامذته، وإعداد جیل متقدم ينسجم تخصصه مع رغبات الذات، وفي ضوء هذا التوجه المحدد ينطلق كل دارس وباحث ومتعلم، وهنا يبدع التلميذ من حيث اقتصاره على موضوع واحد يحيط بأبعاده كافة.
وكان هذا المنحى من أهم الظواهر الميدانية التي اتسعت لانتشار مدرسة أهل البيت علیهم السلام .

ولم تكن هذه العناية من قبل الإمام بتلامذته وليدة الصدفة أو نتيجة ظرف راهن معين، بل هي أمر مقصود إلى في ذاته، ومخطط له مسبقاً لمهمة أكبر، فقد أوصى الإمام محمد الباقر علیه السلام ولده الإمام الصادق “علیه السلام”بتلامذته، بما يرويه الإمام الصادق نفسه:

قال: لما حضرت أبي الوفاة، قال: يا جعفر أوصيك بأصحابي خيراً، قلت: جعلت فداك، والله لأدعنهم والرجل منهم في المصر لا يسأل أحداً»(۳).

وكانت إجابة الإمام دقيقة في بعدين أساسيين: البعد العلمي، إذ لم يبخل على أحد بشيء من القلم والبعد الاقتصادي إذ لم يبخل على أحد منهم بشيء قط، وفي هذين تحقيق لقوله: «والرجل منهم يكون في المصر فلا يسأل أحداً» فضمن الإمام السؤال المعنوي والمادي فيما نفذه من وصية أبيه الباقر علیه السلام.

وقد أكد الإمام – بادئ ذي بدء – على تلامذته بالاتجاه نحو العلم، وحثهم عليه، وأدّبهم به، في جملة من أحاديثه الشريفة:
١- اطلبوا العلم فإنه رأس الفضل(۴).
۲- طلب العلم فريضة على كل مؤمن، فاطلبوه ولو في الصين، فإن قليلاً من العلم، أفضل من كثير من العبادة(۵).
٣- العلم حياة القلوب، ومصابيح الأبصار، توصل به الأرحام ويعرف به الحلال والحرام، يعطيه الله السعداء ويحرمه الأشقياء(۶).
٤- وددت أن أصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط على أن يتفقهوا(۷).
۵- العلماء أمناء، والأتقياء حصون، والأوصياء سادة(۸).
۶- إن العلماء ورثة الأنبياء، وذاك أن الأنبياء لم يورثوا درهمهاً ولا دیناراً، وإنما ورثوا احادیث من أحاديثهم، فمن أخذ بشيء منها، فقد أخذ حظاً وافراً، فانظروا علمكم عمن تأخذونه، فإن فينا أهل البيت “علیهم السلام” في كل حلف عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين،وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين(۹).
۷- من علم خير فله مثل أجر من عمل به..(۱۰)
٨- من تعلم العلم وعمل به، وعلّم الله، دعي في ملكوت السموات عظيماً، فقيل: تعلّم لله، وعمل لله، وعلّم الله (۱۱).
۹- إذا أراد الله بعبد خيراً فقهه في الدين(۱۲)
۱۰- طلبة العلم ثلاثة، فأعرفهم بأعينهم وصفاتهم وهم:
أ) صنف يطلبه للجهل والمراء.
ب) صنف يطلبه للاستطالة والخثل.
ج) صنف يطلبه للفقه والعقل. (۱۳)
۱۱ – العلم مقرون إلى العمل، فمن علم عمل، ومن عمل علم، والعلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل(۱۴).
۱۲- الناس ثلاثة: عالم ومتعلم وغثاء(۱۵).

۱۳- فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر(۱۶).
۱۴- من سلك طريقاً يطلب فيه علماً، سلك الله به طريقاً إلى الجنة؟(۱۷).
۱۵- وجدت علم الناس كله في أربع: أولها: أن تعرف ربك. والثاني: أن تعرف ما صنع بك. والثالث: أن تعرف ما أراد منك. والرابع: أن تعرف ما يخرجك من دينك(۱۸).
فهذه خمسة عشر حديثاً جمع فيه الإمام، فضل العلم، و آداب طلبه، وعائديته في نفع العباد، ومنزلته عند الله رب العالمين.

يقول الأستاذ محمد حسن آل ياسين:
ولعلّ أدق ما أرشد إليه الإمام تنبيه المسلمين على ضرورة أن يكون طلب العلم (للفقه) سواءً أكان بمعناه الخاص لأنه شريعة الله في الأرض، أو بمعناه العام وهو الفهم – وأظنه الأرجح والألصق بالسياق – وللعقل لأنه أغلى ما منح الله الإنسان وأنفس ما أعطاه، ولذلك يجب أن تكون الغاية العليا من الجدّ في التعليم تنمية العقل الرافض للخرافات» (۱۹) وبذلك جماع الدنيا والآخرة.

وكان المترددون على دروس الإمام الصادق “علیه السلام” يعرفون أن الإمام لن ينفعهم ماديّاً، بل لعل غشيان مجلسه یعرضهم لتهديدات السلطة الأموية والعباسية، فإن عرف عن أحد ولاؤه للإمام الصادق “علیه السلام” لم يأمن على حياته من أعوان الخليفة، ذلك بأن الخليفة كان يعتبر الإمام وأنصاره من خصوم الخلافة،

وكان طلاب المدرسة يعلمون علم اليقين بأن الإمام لا يملك مالاً ومناصب فيوزعها عليهم، فلم يجذبهم إلى مدرسته – رغم هذه المخاطر ورغم انعدام المنفعة المادية – إلا إخلاص مستقر في النفس، وإيمان عميق في القلوب، وانجذاب لشخصية الإمام علیه السلام وإعجاب بدروسه التي يلقيها ببيانه العذب، ويهدف بها إلى الحقائق وجوهر المعرفة.

ولذا فإن المترددين على مدرسة الإمام الصادق لم يداعبهم الأمل في الحصول على الوظائف، ولا على أي نفوذ سیاسي، وإنما كانوا يغشون مجلسه للاغتراف من علمه فحسب.
ومع هذا الحرمان فقد أخذ التشيع ينتشر في ربوع الشرق بثقافته العلمية المنطقية المبسطة، بإصرار وثبات في مقاومة التيار الحكومي المعادي له، وإن لم ينجح في إنشاء مركز سياسي أو نظام حكومي يستند إليه، أي أنه نجح بالفكر لا بالسلطان، وبالروح لا بالقدرة المادية.(۲۰)

وهذا هو السرّ في اختراق مدرسة الإمام آفاق العالم، دون النظر إلى الجانب السياسي ولا العامل المادي في شيء، فهي في استقلالية عن الحكم، وهي تعتمد البعد الجماهيري في انتشار الأفكار والمبادئ.
ومن هنا يبرز الدور المشرف لطلاب مدرسة الإمام في ابتعادهم عن صغائر الأمور، لذلك كانوا أقرب الناس إلى الأمام، واستحقوا تقديره واعتزازه، بل وبشّرهم بسعادتهم في الدارين، وخصّ بذلك الأقرب فالأقرب من منهج أهل البيت، وأشدهم التصاقاً بمعالمه الكبرى.

فعن الإمام الصادق أنه قال:
أربعة أحب الناس إليّ أحياءً وأمواتاً: بريد العجلي، وزرارة بن أعين، ومحمد بن مسلم، والأحول (یعني مؤمن الطاق)، أحبّ الناس أحياءً وأمواتاً»(۲۱).
وكان اعتداده هذا مدعاةّ أن يخبرهم بما هم عليه من الحق المستطيل، وأن يبشرهم بالفوز بالجنة، فقد دخل يحيى بن سابور عليه ليودعه، فقال الإمام: «أما والله إنكم لعلى الحق، وإن من خالفكم لعلى غير الحق، والله ما أشك أنكم في الجنة، فإني لأرجو أن يقرّ الله أعينكم إلى قريب»(۲۲).

وحدث هذا المعنى مع زيد الشحّام، إذ قال له الإمام:
«أبشر فإنك من شيعتنا ومعنا في الجنة، إلينا الصراط وإلينا الميزان وحساب شیعتنا، والله أنا أرحم بكم منكم بأنفسكم وإني (أنظر) إليك وإلى رفيقك الحارث ابن المغيرة النضري في درجتك في الجنة»(۲۳)

وعن هشام بن سالم، قال: سألت أبا عبد الله عن يونس بن ظبيان، فقال له رحمه الله: «وبنى له بيتاً في الجنة، كان والله مأموناً على الحديث»(۲۴).

واجتمعت العصابة على تصدیق ستة من تلامذته الفقهاء، وهم: جميل بن درّاج، وعبد الله بن مسكان، وعبد الله بن بكير، وحمّاد بن عیسی، وحمّاد بن عثمان، وأبان بن عثمان(۲۵).

ومن خواص أصحابه: معاوية بن عمار، وزيد الشحّام، وعبد الله بن أبي يعفور، ومحمد بن علي بن النعمان الأحول، وسدير بن حکیم، وعبد السلام بن عبد الرحمن، وجابر بن یزید الجعفي، وأبو حمزة الثمالي، وثابت بن دينار، والمفضل بن قيس، والمفضل بن عمر الجعفي، ونوفل بن الحارث، وميسرة بن عبد العزيز، وعبد الله بن عجلان، وجابر المكفوف، وأبو داود المسترق، وإبراهيم ابن مهزم الأسدي، وأبو خالد القماط، وثعلبة بن میمون، وأبو بكر الحضرمي، والحسن بن زیاد، وعبد الرحمن بن عبد العزيز الأنصاري، وسفيان بن عيينة، وعبد العزيز بن أبي حازم، وسلمة بن دینار ألدني(۲۶).

والإمام حينما يتحدث عن مكانة أصحابه، ومنزلتهم في الدنيا أو الآخرة، فإنما يضع الأمر في موقعه، ولا رائد له في ذلك سوی بیان الحقيقة، لأن هؤلاء الأصحاب قد كرّسوا أوقاتهم لنشر أحاديث أهل البيت، طلباً لما عند الله من الأجر وعظيم الزلفى، فقد قال الإمام “علیه السلام”في رواية يمتدح بها زرارة: «رحم الله زرارة بن أعين، لولا زرارة لاندرست أحاديث أبي»(۲۷).

وفي هذا السياق يذكر جماعة من أعيان تلامذته وتلامذة أبيه بالعرفان، فعن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن سليمان بن خالد، قال سمعت أبا عبد الله، يقول:«ما أحد أحيا ذكرنا وأحاديث أبي إلا زرارة وأبو بصير المرادي، ومحمد بن مسلم، وبرید بن معاوية. ولولا هؤلاء ما كان أحد يستنبط هدی، هؤلاء حفّاظ الدين، وأمناء أبي على حلال الله وحرامه، وهم السابقون إلينا في الدنيا والآخرة» (۲۸). هذا الثناء العاطر يصدر عن الإمام إعطاءً لكل ذي حقً حقه.

وهناك ظاهرة جديرة بالتأمل والدراسة المستفيضة؛ أن من بين أبرز تلامذة الإمام وأصحابه الثقاة طائفة من ذوي الصناعات الحرّة والمهن الشعبية فتقرأ منهم: بياع السابري، بيّاع الهروي، بيّاع اللؤلؤ، بيّاع الزطي، بيّاع الأنماط، بيّاع الدقيق، بيّاع الحنطة، بيّاع الأكفان. كما تستمع إلى: البرّاز، والخزاز، والخراز، والطحّان، والدهّان، والزيّات، والسرّاد، والصفّار.. الخ.

إن هذا التعدد في ذوي الحرف من تلامذة الإمام يوحي بهدفين أساسيين:

الأول: أن هؤلاء المهنيين، أقرب تماساً، وأوثق صلات، واشد قرباً من فصائل الناس وشرائح المجتمع، فهم يستطيعون الغوص في أعماق الشعب المسلم، وهم يتوصلون – أكثر من غيرهم – إلى معايشة الناس ومعاشرة الأمة، وهم يلتقون بأكبر عدد ممكن من أولياء الإمام، وقد تخطتهم اعين الحاکمین، ولم تمتد إليهم أيدي ولاة الجور، فباستطاعتهم – إذن – أن يتغلغلوا بين الطبقات كافة، وأن ينشروا علم اهل البيت بين السواد الأعظم دون رقيب أو حسيب، وأن يتعرفوا عن قرب على مشكلات الآخرين جلّها أو كلّها، فيعالجون ذلك بما يتلّقونه من الإمام، كما يستطيعون إغاثة المتطلبات الآنية وإسعافها مادیةً أو معنويةً، والأهم من هذا وذاك أن هؤلاء الحرفيين قد يقومون بتعميم ثقافة الإمام وإفاضاته عن طريق الإفادة العلمية بحجة البيع والشراء والتجارة، كما بإمكانهم قطعاً فضّ الخصام والنزاع دون حاجة فيهما إلى الرجوع للأمام، وفي ذلك اختصار للطريق، وتطويع للإحراج السياسي المحتمل من لقاء الإمام مباشرة.

الثاني: إن أصحاب المصالح الحرّة في التجارة والاقتصاد عادةً ما يغادرون موطنهم الأصلي بقصد الاتّجار والمقايضة والبيع والاستيراد، ومهمات التسويق، ومناخهم هذا تلقائي لا يدعو إلى الشك والريبة من قبل السلطات، فهو طبيعي بالنسبة لهم، وهم في ترحالهم هذا يستطيعون القيام بمهام السفارة العلمية بين الإمام وشيعته في أنحاء الأرض، ويكونون حلقة الوصل التي لا تنقطع بين الإمام وأوليائه، فينشرون علمه، ويؤدون عنه.
وبهذا المنظور المزدوج لأرباب الأعمال المختلفة من تلامذة الإمام يتم انتشار مبادئ أهل البيت لدى أتباعهم في الداخل ميدانياً، كما يتم إيصال معارفهم إلى من هم في الخارج بشكل لا يثير الارتياب.

وأحسب أن هذا الأمر لم يكن اعتباطياً، وإنّما كان مقصوداً إليه في حد ذاته، وهو نوع من التخطيط الأيديولوجي في تنظيم الدعاية والأعلام لأهل البيت، وتواجد فعلي في جبهات النضال العلمي وهناك ظاهرة إيجابية أخرى، كان لها الأثر الفاعل في تركيز مبادئ الإمام ، وسيرورة معارفه الرسالية في الآفاق؛ وتتمثل هذه الظاهرة بوكلاء الإمام عليه السلام، الذين يعيّنهم في القصبات والأقاليم والديار، فهم ينوبون عنه، ويمثلونه، ويرشدون إليه، وهو يشير إليهم، ويصرّح بمهامّهم الإفتائية والقضائية والحديثية، ويدعو أولياءه إلى الأخذ عنهم، والإفادة منهم، فهم الأمناء عنده.

وهؤلاء يتسلمون الفقاهة بفروعها من ينابيعها الأولى، ويعممونها في أقطار الأرض، وقد يستأمنون على الأموال والزكوات والحقوق، فيصرفونها بمظانّها، ويضعونها مواضعها، أو يرسلونها للإمام.

وإلى جنب هؤلاء يبرز دور أولئك الطلاب الذين يتمّون دراستهم في حلقة الإمام العلمية، فلا يلبثون بعدها في المدينة المنورة إلا ريثما يأذن الإمام بمغادرتهم بعد أن تزودوا باللباب الخالص من العلم، وإذا بهم يعودون إلى ديارهم مبلغين ودعاة ومرشدين، فيشاركون الوكلاء في الدعوة والتبليغ، ويحققون تلبية التكليف الشرعي في الإنذار والتحذير، وإقامة شعائر الدين.

وكان التنافس القبلي على طلب العلم قد تبلور، وتدافعت نحوه القبائل بإرسال النابهين من أفرادها، عسى أن يحظى أبناؤها برصيد من العلم، بعد أن أخفقوا من الرصيد السياسي والعدل الاجتماعي، ففروا بأنفسهم ودينهم نحو الإمام الصادق عليه السلام، متخذين طلب العلم شعاراً، يقول الأستاذ عبد العزيز سيد الأهل: «وأرسلت الكوفة والبصرة والحجاز إلى جعفر بن محمد أفلاذ أكبادها من كل قبيلة: من بني أسد، ومن غني، ومخارق، وطي، وسليم، وغطفان، وغفار، والأزد، وخزاعة، وخثعم، ومخزوم، وبني ضبة، ومن قريش ولا سيما بني الحارث بن عبد المطلب، وبني الحسن بن علي وسواهم.
ورحل جمهور من الأحرار، وأبناء الموالي من أعيان هذه من العرب وفارس»(٢٩).

وكما رايت فهؤلاء الموفدون من قبائل شتی، ودیار متباعدة، جمعتهم وحدة الهدف، فكان الجميع ضمن الخط الاستراتيجي العام المنهج الإمام العلمي.

وهكذا تلتقي الدنيا بأبنائها البررة لدى الإمام الصادق، ليتزودوا للدين والدنيا، فنهلوا من رافد الإمام ما شاؤوا، وعادوا إلى أوطانهم وقد ملء الوطاب علماً وثقافة ومعرفة، وأشربت النفوس تقوی وورعاً، فعاد العلم مواكباً لضبط النفس ومجانبة الهوى.
وقد رأيت فيما مضى من هذا البحث أثر تلامذة الإمام الصادق عليه السلام في سيرورة علم الإمام وانتشاره في الآفاق، وفيه درس لنا يجب أن نأخذ به، ونستضيء بنور هدايته، ونحن نتعايش في رحاب باب مدينة العلم الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام في النجف الأشرف. فمن نفحاته العلم الإلهي، ومن قبساته ذلك الشعاع الهادي.

الهوامش

(۱) ظ، على سبيل المثال لا الحصر، رجال الكشي، رجال النجاشي، رجال الشيخ الطوسي، رجال القهباني، رجال بحر العلوم، رجال المامقانی، معجم رجال الحدیث، خلاصة العلامة، حلية الأولياء، فهرست ابن النديم، تذكرة الحفاظ ، النجوم الزاهرة .. وسواها .
(۲) ظ : جماعة كبار المستشرقين : الإمام الصادق كما عرفه علماء الغرب، ۱۸۸ بتصرف.
(۳) الكليني، الكافي، ۱ /۳۰۶ ، المفيد : الإرشاد ۲۸۹.
(۴) الكليني : أصول الكافي ۱ /۳۰.
(۵) عارف تامر : الحكم الجعفرية ۶۳.
(۶) الأمير ورام : مجموعة ورام ۲ /۲۴۵.
(۷) الكليني : أصول الكافي ۱/۳۱.
(۸) المصدر نفسه،۱/ ۳۳.
(۹) المصدر نفسه : ۱ /۳۲.
(۱۰) المصدر نفسه: ۳۵/۱ .
(۱۱) المصدر نفسه: ۳۵/۱.
(۱۲) المصدر نفسه : ۳۲/۱.
(۱۳) المصدر نفسه: ۴۹/۱.
(۱۴) المصدر نفسه: ۴۴/۱.
(۱۵) المصدر نفسه : ۱ /۳۰.
(۱۶) المصدر نفسه ،۱۰/ ۳۴.
(۱۷) الكليني : الكافي ۳۴/۱.
(۱۸) المصدر نفسه : ۱ /۵۰.
(۱۹) محمد حسن آل ياسين ، الإمام جعفر الصادق ۱۰۹.
(۲۰) ظ، جماعة من كبار المستشرقين : الإمام الصادق كما عرفه علماء الغرب ۱۹۴ بتصرف.
(۲۱) ظ : الصدوق: كمال الدين ۱۶۶/۱ ، المجلسي : البحار ۳۴۰/۴۷.
(۲۲) البرقي : المحاسن ۱۴۶/۱ ، المجلسي البحار ۳۴۲/۴۷.
(۲۳) الراوندي : الخرائج والجرائح ۲۶۴، البحار : ۳۴۳/۴۷.
(۲۴) المجلسی، بحار الأنوار ۳۴۶/۴۷ ، وانظر مصدره .
(۲۵) ابن شهرآشوب : المناقب ۴۰۰/۳.
(۲۶) المصدر نفسه والصفحة.
(۲۷) الشيخ المفيد : الاختصاص ۶۶، الکشی ، الرجال ۹۰، المجلسي ، البحار ۳۶۰/۴۷.
(۲۸) الشيخ المفيد : الاختصاص ۶۶، الكشي : الرجال ۹۰.
(٢٩) عبدالعزيز سيد الأهل ، جعفر بن محمد ٥٩.

المصدر: كتاب” الإمام جعفر الصادق (عج) زعيم مدرسة أهل البيت (ع) (الصفحة 305) المؤلف: الدكتور محمد حسين علي الصغير /عدد الصفحات:537

 

تحميل الكتاب

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign