علم الأصول

تاريخ علم الأصول .. طور الجمود والتقليد (من نهاية القرن 5 إلى نهاية القرن 14)

الاجتهاد: علم الأصول وإن لم يتوقف مع بداية ظهور دعوة غلق باب الاجتهاد كما مر معنا، فإنه توقف في هذه المرحلة نتيجة التقليد للمذاهب السائدة وعدم الحاجة إلى الاستنباط من النصوص مباشرة؛ فكان يكتفي فيه بالجمع والحفظ، فكانت هذه المرحلة مرحلة انفصال علم الأصول عن غايته وانفصاله عن تقرير الفروع الفقهية. / بقلم: شوقي الأزهر

توقف علم أصول الفقه بعد القرن الخامس عند حد الجمع بين بعض ما كتب في الطور السابق والنظم والتلخيص والشرح له (١)، فظل يدور في فلكه ولا يتعداه. بل كان ذلك ملحظ بعض علماء القرن الخامس، كالإمام الجويني، إذ قال: «ومعظم المتلقبين بالتصنيف في هذا الزمان السخيف يكتفون بتبويب أبواب وترتیب کتاب، متضمنه كلام من مضى وعلوم من تصرم وانقضى»(٢) .

وغلب على الكتابات في هذا الطور النزعة المذهبية والجدليات الخلافية مما طغى على مقاصد هذا العلم، فأدى به إلى الجمود وعطله عن التطور، رغم العدد الهائل من المؤلفات فيه(٣).

فلم يظل الهدف الأول من هذا العلم وهو الكشف عن المراد الإلهي في إرشاد سلوك الإنسان للنهوض به إلى مهمة الاستخلاف كما هو الغرض الأصلي، بل لم تعد هناك حاجة إلى فهمه وتطبيقه بعد توقف الاجتهاد.

وعلم الأصول وإن لم يتوقف مع بداية ظهور دعوة غلق باب الاجتهاد كما مر معنا، فإنه توقف في هذه المرحلة نتيجة التقليد للمذاهب السائدة وعدم الحاجة إلى الاستنباط من النصوص مباشرة؛ فكان يكتفي فيه بالجمع والحفظ، فكانت هذه المرحلة مرحلة انفصال علم الأصول عن غايته وانفصاله عن تقرير الفروع الفقهية.

يقول الشيخ محمد الخضري: «بعد هذه الحلبة، اقتصر الكاتبون في هذا العلم على شرح الكتب السابقة لا يریدون شيئاً من عند أنفسهم، وعملهم ينحصر في نظر المؤلفات التي لخص منها ما يشرحونه من الكتب ليحلوا به عبارتها ويفتحوا مغلقها. وانتهى عندهم التفكير والاختيار، لأن هذا العلم قد عاد أثراً من الآثار، إذ لا فائدة كانت لهم منه، لأن الاجتهاد قد أقفل بابه ، فلم تعد ثَم حاجة إلى بذل المجهود في القواعد التي هي أصول الاستنباط »(۴).

ولا يعني ذلك أنه لم يظهر أي جديد بعد ذلك العصر، وإنما المقصود أن التقليد كان السمة الغالبة بعد عصر النضج. ولئن ظهر علماء تجاوزوا بأصول الفقه حد الجمود وأبوا التقليد، إلا أن جهودهم ظلت جهوداً فريدةً لم تتعدّ بعلم الأصول في ذلك الوقت إلى مرحلة جديدة تنتج مدرسةً متكاملة لها أتباعها يسيرون عليها ويسير عليها من بعدهم من الأصوليين فيقتبسون منها ويطورونها .

– طريقة الجمع
و حتى طريقة الجمع بين طريقتي المتكلمين والأحناف التي ظهرت في القرن السابع لا تعدو أن تكون تمحيصاً وتحقيقاً وتصحيحاً لما حصل في الطريقتين اللتين استقر عليهما العلم. والجمع بينها إنما قصد به ” تحصيل فوائد الطريقتين معاً : خدمة الفقه بتطبيق القواعد الأصولية على مسائلة و ربطه بها، و تحقيق هذه القواعد وإقامة الأدلة عليها» (٥).

وليس الجمع بينهما هو الجمع بين الطريقتين في منهجية الوصول إلى القواعد الأصولية. فلا يتصور إثبات القاعدة الأصولية بالأدلة النظرية المجردة التأثير في الفروع الفقهية وباستقراء الفروع في نفس الحين فالقاعدة لا تثبت إلا بأحد الأمرين المذكورين دون الآخر. فإذا ثبتت بالدليل النظري كان ما وقع تحتها من الفروع مستنبطاً منها وتطبيقاً لها ولا دليل عليها. وإذا ثبتت باستقراء الفروع فلا يمكن القول إنها ثبتت بالأدلة المجردة في نفس الوقت، إذ لا يتصور التجريد مع التأثير في الفروع. فيستحيل الجمع بين المنهجيتين في إثبات القاعدة (٦).

فهي إذاً طريقة تحاول أن تأخذ بمحاسن كل مدرسة فتجمع بينها وتذر الخلل فيهما. إلا أن هذه الطريقة لم تنج من التأثر بالتعصب المذهبي الذي كان قد طغى في ذلك العصر. فكان الهدف الأول عند غالب المؤلفين في هذا العصر الوصول إلى بيان أرجحية المذهب في الجزئيات الفقهية. فلم تخرج هذه الطريقة أصول الفقه من عقمه ليولّد فقهاً، بل على العكس فإنها زادته عقماً على عقمه.

يقول الشيخ الخضري: وهذه الكتب التي عنيت بأن تجمع كل شيء استعملت الإيجاز في عباراتها حتى خرجت إلى حد الإلغاز والإعجاز وتكاد لا تكون عربية المبنى» فإذا «حاولت أن تفهم مراد قائلها، فكأنما تحاول فتح المعميات»(٧).

فدخلت هذه الطريقة “نفسها في دائرة الشروح والحواشي لفهم مستغلقاتها وحل رموزها»، ولم تقدم شيئاً جديداً، ولم تضف إلى ما كتبه السابقون، وأقصى ما قدمته إلى علم الأصول هو أن ساهمت في «حفظ التراث الأصولي باجتراره وإعادته وتكراره»، كما يرى بعض الباحثين .(٨)
وظلت المنهجية الأصولية في هذا العصر تتراوح بين المنهجيتين السابقتين، ولم تخرج عنهما بالجديد، باستثناء ما جاء به بعض العلماء المنفردين من تجديد في جوانب معينة كما سبق.

إلا أن جهودهم لم تخرج بعلم أصول الفقه من الجمود والتقليد إلى طور جديد يتحول فيه هذا العلم تحولاً نوعياً، وإنما ظلت أغلبها ابتکارات نظرية، ولئن كانت في ذاتها متحررةً من التقليد متجهةً إلى الواقع والتجديد، فإنها لم تخرجه من حال الجمود إلى الفعالية والتطبيق، لأن غاية هذا العلم ليست في ذاته وليست مجرد التنظير والتقليد وإنما هو الإنتاج والتأثير، فتعذر ذلك لطغيان التعصب والتقليد الذي لم تستقل هذه المحاولات بمواجهته. ومن هؤلاء العلماء الذين تحرروا من قيد التقليد وطوروا في هذا العلم: الرازي ٦٠٦هـ، و الآمدي ٦٣١، والعز بن عبد السلام ٦٦٠هـ، والقرافی ٦۸٤ هـ، وابن تيمية ۷۲۸هـ، وابن القيم ۷۵۱ وغيرهم.

 تأخُّر بروز علم مقاصد الشريعة

ومما يؤكد هذا الركود في أصول الفقه – وأنه قد أبتعد عن واقع الحياة ومعالجتها بحلول تناسب أوضاعها تستخرج من صلب الشريعة وقواعدها – كون المهتمين به قد قصروا مباحثهم على ألفاظ الشريعة وعلى المعاني التي انبنت عليها الألفاظ، فكان هو غالب ما صنف في أصول الفقه، وأغفلوا ركناً عظيماً من أركانه، ألا وهو مقاصد الشريعة.

فلم يتناولوها بالدرس، اللهم إلا إشارات وردت في باب القياس ضمن كلامهم عن العلة وأقسامها ومسالكها، وضمن كلامهم عن المصالح المرسلة وغيرها من المباحث الجزئية التي ترد فيها الإشارة إلى مقاصد الشريعة. ولا تتجاوز هذه المباحث إذا جمعت بعض الصفحات (٩)، مع «أن لاستنباط أحكام الشريعة ركنين: أحدهما علم لسان العرب، وثانيهما علم أسرار الشريعة ومقاصدها » (١٠).

الهوامش:

(١) انظر: عبد الله دراز في مقدمته على: الشاطبي، الموافقات، ص۶.
(٢) أبو المعالي عبد الملك الجويني (إمام الحرمین)، غیاث الأمم في النبات الظلم، حققه عبد العظيم الديب، ط ۲ (مكة المكرمة: مکتبة إمام الحرمین، ۱۴۰۱ه، ۱۹۸۰ م)ص ۳۹.
(٣) انظر : الدسوقي، نحو منهج جديد لدراسة علم أصول الفقه، ص۱۲۱.
(4) محمد الخضري بك ، أصول الفقه، ط٦، ( القاهرة: المكتبة التجارية الكبرى. ١٩٧٩) ، ص١٢.
(٥) الدسوقي، المصدر نفسه، ص۱۱۹.
(٦) ذهب إلى نحو هذا القول الدكتور قطب مصطفی سانو، إلا أننا لا نسلم بدعواه أن هذه الطريقة لم تعرف وجوداً أصلاً، بدليل كثرة المؤلفات التي ألفت بهذه الطريقة.انظر: قطب مصطفی سانوا، قراءات معرفية في الفكر الاصولې. التشكل-العلاقة- التجديد (الكويت : وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ۲۰۰۷)، ص٧٠ و ما بعدها.
(٧) الخضري بك، أصول الفقه، ص ۱۱ (بتصرف يسير).
(٨) انظر : بلاجي، تطور علم أصول الفقه وتجدده، ص ١٤٢.
(٩) انظر : محمد الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، تحقيق ودراسة محمد الطاهر الميساوي، ط ۲ (عمان: دار النفائس، ۲۰۰۱)، ص٦. انظر أيضا مقدمه الشيخ عبد الله دراز على: الشاطبي، الموافقات، ص۷، والريسوني، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، ص۳۱۳.
(١٠) انظر مقدمة الدراز، في: الشاطبي، الموافقات، ص٦.

المصدر: كتاب: موجبات تجديد أصول الفقه في العصر الحديث طارق رمضان نموذجاً / بقلم: شوقي الأزهر – مركز دراسات التشريع
الإسلامي و الأخلاق

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky