والتخلص الذي مارسه الغرب لم يكن فعلاً سلبيًّا فحسب، وإنما هو عملية نهوض شاملة، عاشتها المجتمعات الغربية وطردت من خلالها كل العناصر والكوابح السيئة، التي تحول دون تطورها وتقدمها.

وهذه المفارقة الحضارية الهائلة، هي المساحة (المفارقة) الهائلة التي عمل أكثر المفكرين والمصلحين على معالجتها وتحليلها والتفكير العميق في طبيعتها وسبل إنهائها من الحياة الإسلامية المعاصرة.

وهذا لا يعني بطبيعة الحال استنساخ التجربة الغربية في مراحلها وأطوارها المختلفة. وإنما يعني أن تقدم الغرب وتطوره المتسارع، أعاد بشكل مركَّز وعميق طرح سؤال التقدم وكيفية ردم الهوة بين ما هو قائم وما ينبغي أن يكون في المجال الإسلامي.

وفي تقديرنا إن سؤال التقدم، ومحاولة العمل على تلمس طرق الانعتاق والتحرر من آسار التخلف، هو العنوان العام، لكل الجهود والمناشط التي قامت بها النخبة الإسلامية بمختلف مشاربها ومدارسها في تلك الحقبة من الزمن.

فالتجربة الغربية في حركيتها وديناميتها وتطورها النوعي، صدمت المجال الإسلامي بكل شرائحه وفئاته، ودفعته للتفكير والبحث عن سبل الخروج من هذا الواقع المزري والمفارق.

ونحن حينما نقرأ التجربة المعرفية والفكرية للعلامة الدكتور عبد الهادي الفضلي (حفظه الله تعالى)، نجد أن هذه المفارقة الحضارية هي حجر الأساس الذي انطلق منه في عطائه الفكري وجهده الإصلاحي.

فالعلامة الفضلي كغيره من العلماء والمصلحين عملوا من أجل بناء القدرات الإسلامية المتعددة، حتى تتمكن الأمة من مواكبة عصرها، والتحرر من انحطاطها السياسي وتخلفها العلمي والثقافي.

لذلك اتجهت الجهود الفكرية والثقافية والسياسية للمصلحين صوب نقد الواقع السياسي والثقافي، وتفكيك عناصر الجمود والتوقف عن العطاء النوعي في الفضاء الاجتماعي. وذلك من أجل أن يتمكن المجال الإسلامي من إنهاء المفارقة الحضارية التي اكتشفها من خلال التطور الغربي المذهل واتصاله به.

فالمفارقة الحضارية الهائلة، ليست قدراً مقدراً، وإنما هي نتاج عوامل وأسباب سواء في خط الصعود والارتقاء الحضاري، أو في خط الانحدار والسقوط الحضاري.

والأمم التي تمسكت بأسباب التقدم، وانتهجت نهج التطور وصلت إلى غاياتها، وتخلصت من محن واقعها ومآزقه. أما الأمم التي عاشت على أطلال ماضيها، ولم تتمسك بعمق بأسباب التقدم، أضحت أمماً متخلفة ولا تتمكن من السيطرة على مصيرها ومستقبلها.

والذي نعمل على معرفته واكتشافه في هذا السياق هو: الرؤية التي بلورها العلامة الدكتور الفضلي في محورين أساسيين وهما:

1- أسباب وعوامل تخلف الأمة الإسلامية عن ركب الحضارة والتقدم.

2- كيف ينهض المسلمون، ويتحررون من مآزق التخلف والانحطاط، ويتخلصون من ربقة الاستبداد والديكتاتورية.

وفي هذا الإطار عمل العلامة الفضلي، عبر مساهماته العلمية وعطاءاته الثقافية والتربوية، على خلق الثقافة الإسلامية المستنيرة، التي تدفع أبناء الأمة للتحرر من ربقة الانحطاط والتخلف، وتبلور لهم منهج النهوض والتخلص من كل أشكال الاستبداد والبعد عن حركة التاريخ.

فالجهد الفكري والثقافي الذي بذله العلامة الفضلي، ليس جهداً مجرداً، أو بعيداً عن متطلبات النهوض للأمة. بل هو جهد يأتي في سياق المشاركة الحيوية في هموم الأمة وقضاياها المتعددة.

وحتى العطاءات العلمية – المنهجية في الحوزة العلمية التي بذلها العلامة الفضلي، تأتي في سياق إيمان الفضلي العميق بأهمية أن تتطور مناهج الدراسة الحوزوية، وذلك من أجل أن تتحول الحوزة في عطاءاتها ومشروعاتها العلمية والثقافية والاجتماعية، إلى مصدر للإشعاع الفكري والمعرفي، والذي يأخذ على عاتقه المشاركة الفعالة في جبهة الجهاد العلمي والثقافي في الأمة.

لهذا يمكننا القول: إن الأعمال والأنشطة التي قام بها العلامة الفضلي في إطار محاربة عناصر الانحطاط والتخلف في الأمة، وتحقيق النهضة والتقدم للمسلمين، تتمثل في النقاط التالية:

* المساهمة العلمية والثقافية المتواصلة، التي توضح رؤية الإسلام للعديد من القضايا والموضوعات، ونقد أسس ومرتكزات الثقافة المتخلفة والجامدة التي كانت سائدة في بلاد المسلمين.

* بناء الكفاءات والقدرات العلمية والثقافية القادرة على رفد الساحة الإسلامية بالرؤى والبصائر التي تدفعها للمشاركة في مشروع البناء والعمران الإسلامي.

* المساهمة في بناء وتطوير العديد من المؤسسات الإسلامية العلمية والثقافية، التي تأخذ على عاتقها بناء الكفاءات والطاقات الإسلامية الواعية، والمشاركة في خلق الوعي وتعميم المعرفة الدينية المستنيرة في المجتمعات الإسلامية.

* رعاية العديد من المؤسسات والمناشط الإسلامية والشخصيات الدينية والاجتماعية، والعمل على تذليل العقبات أمامها، وذلك من أجل المشاركة الفعالة في مشروعات الوعي والبناء الإسلامي الجديد.

والعطاءات العلمية والثقافية، التي بذلها العلامة الفضلي، لم تكن عطاءات سطحية أو بعيدة عن هموم وحاجات الأمة الملحة. بل هي عطاءات نوعية، وساهمت في رفد الساحة بالعديد من المعالجات الفكرية والثقافية الجادة.

ونظرة فاحصة لهذه العطاءات، تكشف أن هذه العطاءات تتسم بالعناصر التالية:

1- عمق النزعة التجديدية، التي تستهدف التحرر من كل أشكال الجمود والتوقف عن العطاء العلمي النوعي.

والنزعة التجديدية في تجربة العلامة الفضلي لا تعني بأي حال من الأحوال التفلت من القيم والمبادئ الشرعية، وإنما تعني قراءتها وفق منهجية قادرة على استنطاقها واستيعاب كل الموضوعات والحاجات المعاصرة. وعملية الاجتهاد هي الحاضنة الكبرى لمفهوم التجديد ومتطلباته المنهجية والعلمية.

ويعبر عن هذه الحقيقة العلامة الفضلي بقوله: «يستمد الاجتهاد الشرعي قيمته من أهمية الغاية المتوخاة من تشريعه، ومن أهمية المرمى الذي هدف إليه المشرع الإسلامي من الدعوة إليه، والإلزام به، كما في أمثال آية النفر: {وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}([1]).

والهدف هو الوصول إلى الحكم الشرعي واستفادته من النصوص الشرعية المشتملة عليه، وذلك لأن النصوص الشرعية المتضمنة للحكم الشرعي لم تصغ صياغة قانونية تعطي الحكم الذي تحتويه من غير حاجة إلى إعمال فكر يستند إلى خلفيات ثقافية وعلوم مساعدة، ويرجع هذا إلى أن القرآن الكريم انتهج في أسلوب بيانه ظاهرة الكتاب الإلهي المقدس، تلك الظاهرة التي امتدت مع الإنسان منذ صحف إبراهيم (عليه السلام) حتى قرآن محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، والتي تمثلت في الأسلوب الخطابي المتوافر على عناصر الدعوة إلى الله تعالى.

وذلك لأن الهدف الأساسي للكتب الإلهية المقدسة هو الدعوة إلى الله تعالى، والأسلوب المناسب للدعوة هو الأسلوب الخطابي، لأنه الأسلوب الذي يقتدر، بما يمتلك من إثارة مؤثرة وشحن عاطفي مثير، على مخاطبة العقل عن طريق القلب.

وجميع ما يذكر من شؤون أخرى إنما تذكر لأن لها علاقة بالدعوة إلى الله تعالى.

ومن هنا لم تذكر الأحكام الشرعية إلا في سياق السور أو سياق الآيات، أي أنها لم تجمع في سورة واحدة أو موضع واحد”([2]).

ويضيف العلامة الفضلي في موضع آخر: «كما أن فهم معاني التشريع ودلالات ألفاظ النصوص الشرعية، سواء كان ذلك في الآيات أو الروايات، يتطلب فهم لغة عصر التشريع، تراكيب ومفردات وأسلوب بيان.

وذلك لأن أكثر الروايات التي وصلت إلينا كانت أجوبة لأسئلة من أناس يختلفون في بيئاتهم من حيث الشؤون الاجتماعية والثقافية، مما يستلزم فهمها وفهم شخصية السائل من حيث المستوى الثقافي. كل ذلك وأمثاله كان مدعاة للزوم الاجتهاد، وفي الوقت نفسه هو مدعاة لأن تقوم وظيفة الاجتهاد وممارسته على أساس من العمل المعمق في البحث والتدقيق، وبذل أقصى الطاقة في الاستقصاء والتحقيق»([3]).

2- وضوح المنهجية التي تمزج بوعي وحكمة بين كل متطلبات الأصالة الفكرية والثقافية، وضرورات الانفتاح والتواصل مع مكاسب العصر والحضارة الحديثة في مختلف مجالات الحياة.

ويقول العلامة الفضلي في سياق بحثه عن التطور الفكري الأصولي «لم أرَ -في حدود مراجعاتي وقراءاتي- من كتب في هذا الموضوع نظير ما رأيته وقرأته في كتابات الأساتذة الجامعيين، باستثناء ما جادت به يراعة أستاذنا المجدد الشهيد الصدر في مقدمة الحلقة الأولى من كتابه (دروس في علم الأصول)، إلا أنها مختصرة وغير شاملة، لأنه أراد بها أن يلفت نظر الباحث والدارس الأصوليين إلى شيء من تطور الفكر الأصولي بما يفرض علينا إعادة النظر في الكتب المقررة لدرس علم الأصول في الحوزات العلمية الإمامية لتكون بمستوى المطلوب والمتوخى في دراسة هذا العلم، وليكون هذا التمثيل منه بياناً للداعي له لتأليف الحلقات الثلاث بشكلها المختلف عما اعتاده الطالب الديني في مقررات الدرس الأصولي.

ولكنه -أيضاً- كان الرائد المخلص والموفق في وضع اللبنات الأساس للكتابة في هذا الحقل المهم قدر أهمية علم أصول الفقه.

وإني لآمل أن يؤلف فيه، ويضاف الكتاب المؤلف إلى برامج الحوزات العلمية مقرراً دراسيًّا، لأهمية هذه المادة في إثراء الرصيد الفكري الأصولي عند الطالب وتنمية مواهبه وقدراته العلمية من ناحية تربوية بسبب ما يتحرك في فلكه من مقارنات وموازنات للفكر، وتعريفات لأعلامه وتنويهات بعطائهم وإسهاماتهم في خدمة هذا العلم”([4]).

والإنتاج العلمي والثقافي المتعدد للعلامة الفضلي، لا يؤسس للعزلة والقطيعة مع العالم الحديث، وإنما هو يبلور خيار الفهم الإسلامي الذي لا يتناقض في مسيرته وخياراته مع التواصل الفعّال مع العصر والعالم الحديث. والإسلام في المحصلة النهائية يمتلك قدرة فكرية ومنهجية وثقافية هائلة، على التطور والانفتاح والتفاعل مع مكاسب العلم والحضارة الحديثة.

وتجربة العلامة الفضلي العلمية (الحوزوية والأكاديمية) والثقافية والاجتماعية والسياسية، غنية ومليئة بالعبر والدروس، وفيها الكثير من المحطات التي تثير العديد من الأسئلة. لذلك من الصعوبة بمكان الإلمام بتجربة غنية ومتعددة الأبعاد كتجربة العلامة الفضلي. والذي يزيد هذه الصعوبة أن العلامة الفضلي (أمد الله في عمره) لازال حيًّا يرزق ويواصل نشاطه وعطاءه العلمي والثقافي والاجتماعي. ( كتب هذا المقال في زمان حياة العلامة الفضلي)

وإذا كانت تجارب المصلحين وجهودهم الفكرية والعلمية تحتمل أكثر من قراءة. فإن الميزة الأساسية لتجربة العلامة الفضلي أنه كسر الحدود وألغى الفواصل بين الحوزة والجامعة، وأضحى علماً ومتميزاً وقديراً في الحقل الحوزوي بكل تفاصيله ومقتضياته، كما كان بارعاً ونوعيًّا في جهده الجامعي والأكاديمي. ولبَّى في شخصه الكريم متطلبات كلا الدورين والوظيفتين (وظيفة العالم – الفقيه، ووظيفة الأستاذ الجامعي).

وبهذا التكامل المعرفي أضحى العلامة الفضلي نموذجاً متقدماً للمؤسسة العلمية التي عمل فيها العلامة أستاذاً وكان ناشطاً في أروقتها ألا وهي مؤسسة جمعية منتدى النشر وكلية الفقه في جامعة النجف الأشرف التي أسسها مجدد التعليم الديني في النجف الأشرف في العصر الحديث المرحوم الشيخ محمد رضا المظفر (1903 – 1963).

وبناء الجسور العلمية والثقافية بين الحوزة والجامعة، لا يفيدهما فحسب، وإنما يفيد المجال الإسلامي بأسره. لذلك فنحن مع كل خطوة ومبادرة لتجسير الفجوة بين هذه الروافد العلمية والثقافية. وتجربة العلامة الفضلي على هذا الصعيد تؤكد أهمية القيام بخطوات مدروسة في سياق التكامل العلمي والثقافي بين الحوزة والجامعة.

فنقاط القوة في التجربة الحوزوية ينبغي أن يطَّلع عليها أساتذة وأبناء الجامعة، كما أن نقاط التميز الجامعية، من الضروري أن يتواصل معها ويستوعبها الأستاذ والطالب الحوزوي. وهذه العلاقة التفاعلية، التي لا تنحبس في الشكل، وإنما تتعداه إلى المضمون والمنهج، ستساهم في خلق فضاء ثقافي حر ومبدع.

وفي هذا السياق استطاع العلامة الفضلي بعمقه الفقهي والأصولي الذي تتلمذ فيهما على أساطين العلم الحوزوي كالإمام أبو القاسم الخوئي والإمام محمد باقر الصدر (رضوان الله عليهما)، وثقافته المنهجية والعصرية التي تعمقت لديه من خلال الالتحاق بالسلك الأكاديمي الجامعي درساً وتدريساً، وتعدد أبعاد تجربته الاجتماعية والسياسية؛ استطاع أن يساهم في تأسيس مكتبة إسلامية، غنية في علومها ومعارفها، ومتنوعة في مجالاتها وأبعادها، وعميقة في مقاصدها ومآلاتها، وناضجة في خياراتها وموضوعاتها.

3- تعدد وتنوع العطاءات العلمية والثقافية، ونظرة سريعة إلى عناوين المؤلفات التي ألفها العلامة الفضلي تكشف وبشكل سريع أن هذه المؤلفات متعددة ومتنوعة في موضوعاتها ومجالاتها.

فهو من أوائل من كتب الكتب المنهجية الحوزوية، وهي تجربة رائدة تستحق الدراسة والتقدير، كما كتب في علوم النحو واللغة والمنطق، إضافة إلى عطاءاته الثقافية، التي تعالج بعض الموضوعات والقضايا التي تهم الإنسان المسلم، وتضغط عليه فكريًّا واجتماعيًّا.

فالعطاء العلمي والثقافي للعلامة الفضلي متعدد ومتنوع، ولقد استطاع بإصراره العلمي وكدحه الفكري والمعرفي أن يساهم في بناء مكتبة إسلامية – علمية – فكرية واسعة، ولقد تغذت عليها أجيال الأمة، وأفادوا منها إفادة جليلة. بحيث أضحى العلامة الفضلي أحد مفكري الساحة الإسلامية في العصر الحديث.

واهتمام العلامة الفضلي بكتابة المناهج الدراسية الحوزوية وفق رؤية ومنهجية جديدة، تنبع من إيمانه العميق بأن تطوير التعليم وإصلاحه في مختلف المجالات، هو حجر الزاوية في مشروع الإصلاح الديني والثقافي والاجتماعي.

فلا يمكن أن تتبوأ الحوزة العلمية مواقع متقدمة في الحياة العامة للمسلمين دون تطوير المناهج الدراسية واستجابتها إلى ضرورات العصر وحاجاته.

كما أن عالم الدين لا يستطيع أن يؤكد حضوره النوعي في الأمة دون تأهيل علمي ومعرفي ومنهجي، يُمكِّنه من مواكبة التطورات والتفاعل الخلاَّق مع الحاجات والتحديات.

فإصلاح المناهج التعليمية، وتطوير منهجيتها وإعادة صياغة كتبها وموادها العلمية بما يناسب لغة العصر ومنهجيته، كلها عناوين لمشروع إصلاحي – تعليمي، عمل العلامة الفضلي عليه، واستطاع عبر كتاباته الحوزوية أن يبدع فيه، ويسجل اسمه في عداد الشخصيات العلمية والفكرية التي ساهمت بشكل مباشر في تطوير الدرس والمنهج الحوزوي.

والنهضات العلمية والثقافية في كل الأمم والشعوب بحاجة إلى مؤسسة علمية – نوعية وقادرة على استيعاب المنجز المعرفي والتواصل الفعَّال مع العصر.

وهذا لا يتأتى إلا بالتطوير الدائم لمناهج التحصيل والدراسة، التطوير الذي يستوعب القديم دون الانحباس فيه.

ولعلنا لا نجانب الصواب حين نقول: إن تجربة العلامة الفضلي على هذا الصعيد كانت نموذجاً للمحاولات التي استوعبت القديم، وأعادت صياغته وقولبته في قالب حديث، يتماشى وحاجات النص الدراسي الحديث. فهي تجربة حافظت على الثوابت، كما انفتحت على العصر ومكاسبه ومنجزاته.

والذي عزز هذه التجربة وأثراها، هو أن جهود العلامة الفضلي العلمية والتدريسية لم تقتصر فقط على الحوزة العلمية، وإنما تعدتها إلى الحقل الأكاديمي الجامعي. فكان العلامة الفضلي أستاذاً متميزاً وقديراً في الحوزة العلمية، كما كان أستاذاً متميزاً وقديراً في حقل تخصصه الأكاديمي في الجامعة. وبفضل هذا التكامل أضحت تجربة العلامة الفضلي على هذا الصعيد، تجربة ثرية وعميقة، وتتطلب الكثير من الجهود لقراءتها من مختلف الأبعاد والزوايا.

ولقد تخرج على يد العلامة الفضلي أجيال ونخبة من العلماء والمشايخ والأكاديميين سواء في حوزة النجف العلمية أو جامعة الملك عبد العزيز بجدة.

وعلى كل حال نستطيع القول: إن العلامة الفضلي هو أحد رواد تجديد التعليم الديني، وأحد أعمدة تجربة التكامل والتواصل بين الحوزة والجامعة.

وكما يبدو فإن حجر الأساس في تجربة العلامة الفضلي على هذا الصعيد هو أن تقدم العلم مرهون بتقدم مناهجه، لذلك اعتنى العلامة الفضلي بصياغة المناهج الدراسية للعديد من المواد العلمية التي تدرس في الحوزة والجامعة.

والملف الذي بين أناملك عزيزي القارئ مبادرة من مجلة الكلمة لتكريم العلامة الفضلي على عطاءاته واجتهاداته المتميزة، ولتعريف قراء المجلة في مختلف البلدان على أحد أعلام العلم والفكر في الأمة.

وأرجو أن نكون قد وفقنا في تعريف القارئ بهذه التجربة، وهذه الجهود العلمية والثقافية التي بذلها العلامة الفضلي (حفظه الله تعالى) في سبيل إنجاز مفهوم الشهود الحضاري للأمة جمعاء.

وهذه المحاولة هي دعوة دائمة لتدوين تجارب العلماء والمصلحين وتوثيق أطوار ومراحل تجربتهم، وذلك للاستفادة منها وإغناء الحياة الإنسانية بالمزيد من التجارب والخبرات.

والإصلاح بكل مستوياته ودوائره لا يمكن أن ينغرس في جسم الأمة بعمق، إلا بتراكم المعرفة والجهود الإصلاحية التي بذلها الفقهاء والعلماء والمفكرين عبر حقب زمنية عديدة ومتواصلة. ولعل تدوين هذه التجارب، والتعرف العميق على هذه الجهود، هي الخطوة الأولى الضرورية لخلق التراكم المعرفي والثقافي المطلوب، وهي وسيلتنا لنقل هذه التجربة بكل أبعادها وآفاقها إلى الأجيال اللاحقة.

ولا يفوتنا أن نشكر كل من ساهم معنا في إعداد هذا الملف وبالخصوص الأستاذ فؤاد الفضلي والأستاذ حسين منصور الشيخ.

الهوامش

([1]) الدكتور عبد الهادي الفضلي، الوسيط في قواعد فهم النصوص الشرعية، ص 9، دار الانتشار العربي، الطبعة الأولى، بيروت 2001م.

([2]) المصدر السابق، ص 10.

([3]) المصدر السابق، ص 13.

([4]) الدكتور عبد الهادي الفضلي، دروس في أصول فقه الإمامية، الجزء الأول، ص 90، مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر، الطبعة الأولى، 1420هجري