الاجتهاد: يُدرك أيّ متابع بسيط للمشهد الجدلي بين المذاهب الإسلاميّة كالشيعة والسنّة، بل وبين الشيعة أنفسهم بمذاهبهم، وكذلك بين بعض أهل السنّة.. يدرك أنّ هناك ما يشبه الهجران للموروث الحديثي عند المذاهب الأخرى، فكلّ مذهب استقلّ بموروثه الحديثي وحصل عل الاكتفاء الذاتي من خلاله،
فالسنّة لا يرجعون إطلاقاً للكتب الحديثيّة الشيعيّة، وبخاصّة الإماميّة منها، ولو رجعوا فليس ذلك إلا للنقد أو تسجيل نقاط ضدّ الشيعة، والشيعة كذلك ـ وبخاصّة الإماميّة ـ لا يرجعون في الاجتهاد الديني للمصادر الحديثيّة غير الإماميّة بوصفها مصادر معتبرة للخروج برؤية دينيّة إلا نادراً، ولو رجعوا فبهدف النقض أو تسجيل نقاط أو الاحتجاج لمذهبهم بما عند غيرهم ونحو ذلك.
ولا يقف الحال عند التراث الحديثي، فتراث الجرح والتعديل هو الآخر يواجه القضيّة نفسها إلا نادراً، فالشيعة لا يوثّقون شخصاً لأنّ الرازي وابن معين وثّقه، ولا يوثّق السنّة في العادة شخصاً لأنّ الطوسي وثّقه وهكذا.
بل يمتدّ الأمر للتراث الفقهي والأصولي، وبخاصّة في القرون الأخيرة، وهو أكثر وضوحاً من قبل السنّة تجاه الشيعة منه من قبل الشيعة تجاه السنّة، فلا يُراجع الفقيهُ ـ إلا نادراً ـ موروثَ الفقه الآخر وينظر في أدلّته كما ينظر في أدلّة موروثه الفقهي، بل يرى نفسه في غنى عن ذلك، بل يحاول تنظيف ساحته من خلال عدم التلوّث بموروثات الآخرين واجتهاداتهم كما يراه بعضهم، ولعلّه لهذا تجد حجم الضعف في فهم كلّ مذهب فقهي للمذهب الفقهيّ الآخر ومصطلحاته ومنظوماته الاجتهاديّة، وكثرة الأخطاء في هذا المجال؛ لأنّ أنظمة التعليم لا تُعطي ـ إلا نادراً ـ طلاب العلوم الدينيّة موادّ دراسيّة ترتبط بالمذاهب الأخرى بصرف النظر عن الطابع النقدي.
وهذا المشهد يختلف شدّةً وضعفاً بين المذاهب، لكنّه بين الشيعة والسنّة يبدو أكثر وضوحاً. وبمراجعة التراث يظهر أنّ القرون الهجريّة الخمسة الأولى كان أخذ كل فريق من الآخر موجوداً نوعاً ما، وذلك من خلال مراجعة مصادر الكتب الحديثيّة والرجاليّة، حيث نجد مصادر شيعيّة وشخصيّات شيعيّة في الموروث الحديثي والرجالي والفقهي السنّي والعكس صحيح.
لكنّ هذا لم يكن يعني يوماً اعتبار المصادر والمراجع المعتمدة عند كلّ مذهب بمثابة مرجع يرجع إليه علماء المذهب الآخر في تكوين الاجتهاد الديني، وبخاصّة الشرعي والعقدي. بل يشنّ علماء المذاهب المختلفة هجوماً نقديّاً عنيفاً على أولئك الذي يحاولون الرجوع لمصادر الفريق الآخر لا بهدف نقدها أو تسجيل نقاط عليها، بل بهدف ممارسة اجتهاد ديني إسلاميّ عام من خلالها.
ولهذه القضيّة تاريخٌ طويل من المدّ والجزر، ليس فقط على مستوى علمَي الحديث والرجال، بل على مستوى علوم أخرى أيضاً، حتى الانتماء المذهبي لصوفيٍّ أو عارفٍ أو فيلسوف صار يلعب هو الآخر دوراً في التعامل مع موروثه الفلسفي أو الصوفي عند كثيرين. ولعلّ اللغة وعلومها هي الأقلّ حساسية على هذا الصعيد عبر التاريخ.
والذي توصّلتُ إليه في أكثر من دراسة مطوّلة تناولت جوانب عدّة لهذه القضيّة، هو ما أطلقتُ عليه عنوان “الاعتبار الإجمالي للتراث الحديثي و.. الإسلامي”. وقد قصدتُ من هذا العنوان أنّ التراث الحديثي والرجالي والفقهي والأصولي والتفسيري والتاريخي والفلسفي والكلامي والعرفاني واللغوي وغير ذلك، يحظى باعتبارٍ إجمالي، أي أنّه في الجملة نافعٌ نحتاج إليه في تكوين اجتهاد ديني في مجال علم الكلام أو التفسير أو الفقه أو في مجال الحديث وعلوم الدراية والجرح والتعديل.
فليس هناك تراث مذهبي محكوم عليه بالعدم مطلقاً، ولا يوجد كتب حديثيّة مذهبيّة مشطوبة من قائمة مراجعة الباحث والفقيه والمفسّر، بل المطلوب من العالم الحصيف أن يضع على طاولة مكتبه مختلف الكتب المنتمية للمذاهب المختلفة عندما يريد دراسة موضوع تعرّضت له هذه الكتب بالنقض والإبرام، ويتعامل مع كلّ هذه الكتب بمنطق البحث العلمي المحايد، فقد يقبل الشيعي تحليلاً فقهيّاً للشافعي ويرفض تحليل الطوسي، وقد يقبل السنّي موقفاً للحلّي ويرفض موقفاً آخر لأبي حنيفة، فكلّ هذه المذاهب شاركت في صنع الأفكار والمنظومات، وموروثها فيه بعض الحقّ وبعض الباطل، وإن كان الباحث يرى أنّ موروث مذهبه يغلب عليه الحقّ، لكن لا شيء يبرّر حذف موروث المذاهب الأخرى تماماً أمام طلاب العلوم الدينيّة وعلماء المذاهب المختلفة، فلا يحقّ للسنّي أن يحذف آلاف الأحاديث التي وردت عن النبيّ من طرق أهل البيت في كتب الشيعة ويشطب عليها بجرّة قلم واحدة. ولا يحقّ للإمامي ـ وهو يجتهد في الفقه وغيره ـ أن يحذف عشرات الآلاف من الأحاديث النبويّة الموجودة في كتب السنّة والإباضيّة والزيديّة وغيرهم.
هذه الفكرة التي توصّلتُ إليها ـ والتي تساهم في إنتاج مشروع الاجتهاد الإسلامي العامّ ـ لم أنطلق فيها إطلاقاً من مقولات التقريب بين المذاهب، بل بالعكس تماماً، حيث انطلقت فيها من مقولاتٍ ايبستمولوجيّة وتاريخيّة، وهي التي تنتج التقريب الحقيقي بين المذاهب، ففرقٌ بين أن نختلق النظريّات لتقريب المذاهب أو أن نقرّب بين المذاهب على بعض الصعد؛ لأنّ النظريّات العلميّة تستدعي ذلك تلقائيّاً.
وقد استعرضتُ في بحوثي حول هذا الموضوع ـ والتي أخذت منّي تدوين مئات الصفحات ـ عشرات الإشكاليّات التي يسجّلها الشيعة على كتب الحديث والرجال و.. السنّيّة، والتي تجعلهم لا يثقون بها ويشطبونها عن بكرة أبيها تقريباً، كما استعرضتُ عشرات الانتقادات السنيّة على الموروث الشيعي كذلك، وناقشت مختلف المنطلقات النفسيّة والدينيّة والعقديّة و.. التي بدت لي أساساً لنظريّة الفصل والقطيعة بين التراثين، وبخاصّة في حقل الدراسات الشرعيّة (الفقه وأصول الفقه والحديث وعلم الرجال وما يتصل بها).
إنّ الاعتبار الإجمالي لكتب الحديث لهذا المذهب أو ذاك يعني إدخال هذه الكتب في منظومة الحديث الإسلامي، وهذا الأمر لا يعني تصحيح كلّ رواياتها، بل يعني أن تؤخذ بعين الاعتبار وتضمّ إلى سائر كتب المسلمين ويصحّح الصحيح منها، وينقد غيره، وتحدّد درجتها في الصحّة والاعتبار، فهذا هو السبيل الموضوعي المتعالي عن التحيّزات المذهبية للتعاطي مع تراث هائل لهذا المذهب أو ذاك.
أمّا القول بكلمة واحدة بأنني لا أصدّق أهل السنّة كلّهم، فهم كذابون، ولا أصدّق الشيعة فهم دجالون مزوّرون، وشطب جهود الآلاف من العلماء من هذا المذهب أو ذاك، واتهامهم جميعاً بالتزوير والكذب والتحايل والجريمة.. فهذا أمر أعتقد بأنّه لا يتسم بالموضوعية إطلاقاً.
لقد اختلفت كتب حديث المذاهب في موضوع أساسيّ، وهو تاريخ العقود الأولى من الزمن الإسلامي، فالخلاف هناك هو الخلاف الرئيس، ومنه خلاف الإمامة والموقف من الصحابة وإمامة أهل البيت، ولكنّ كتب الحديث الإسلاميّة ليست كلّها تدور حول هذا الموضوع، بل هناك عند الشيعة مثلاً روايات كثيرة للغاية تدور حول الأخلاق والشريعة والإيمان والعلاقة مع الله وتفسير القرآن الكريم، بما يوجد الكثير من مثله أيضاً في كتب الحديث غير الشيعيّة، ومقدار تفاوت الحديث الشيعي عن السنّي مثلاً في غير قضية الإمامة، لا يزيد ـ فيما أتصوّر ـ عن مقدار تفاوت كتب الحديث السنّية نفسها فيما بينها. وقد دُوِّنَت مؤخراً بعض المشاريع التي أثبتت بالأرقام هذه النتيجة.
وكما أنّ الخلاف الفقهي بين الشيعة والسنّة موجود، فهو أيضاً موجود بنفس الدرجة تقريباً بين المذاهب الأربعة، فكيف لو أخذنا سائر المذاهب الفقهية السنيّة التي زالت وانقرضت كالمذهب الظاهري، ومذهب الإمام سفيان الثوري، ومذهب الإمام الأوزاعي، ومذهب الإمام الطبري، وغيرهم من الأئمّة.
دعوة لموسوعات حديثيّة ورجالية و.. إسلاميّة عامّة
وانطلاقاً من هذا كلّه دعونا ـ وما نزال ـ إلى تأسيس موسوعة حديثيّة إسلاميّة عامة تكون مرجعاً حديثيّاً لكافّة علماء المسلمين، تجمع في مختلف الأبواب جميع روايات المسلمين في هذا الباب على اختلاف انتماءاتها، وتصبح مرجعَ الفقهاء، وتوضع بين يدي الفقيه لينظر فيها ويقارن ويأخذ الشواهد والقرائن والسياقات التاريخيّة، ويضم بعضها لبعض خاصة على مسلك الوثوق الاطمئناني، وينقد منها ما شاء من روايات ويأخذ بما شاء على قانون الاجتهاد الذي يراه صحيحاً.
كما ودَعَونا ـ وما نزال ـ لموسوعة رجاليّة إسلاميّة عامّة كذلك، وكذلك أيّدنا طرح العلامة الشيخ محمّد مهدي شمس الدين في العمل على فقهٍ إسلامي عام، كما هي عادة القدماء، يجمع بين العموميّة ويحترم لكلّ فقيهٍ ما عنده من الهويّة المذهبيّة.
ودعونا كذلك أكثر من مرّة لتعديل أنظمة التعليم في الجامعات والمعاهد والحوزات الدينيّة عند المذاهب المختلفة، ليدرس الطلاب مختلف المذاهب العقديّة والفقهيّة والأصوليّة وغيرها من منظورٍ محايد، ثم بعد ذلك يتخذ كلّ واحدٍ منهم ما شاء من النقد على هذا المذهب أو ذاك؛ لأنّ المنظور المحايد في مجال التعليم ضروريٌّ للفهم وتصحيح الاستنتاجات وتقليل الأخطاء وتقليص المغالطات.
من تجربتي الشخصيّة المتواضعة
وعلى مستوى تجربتي الشخصيّة المتواضعة، فقد قضيت عقوداً من عمري مهتمّاً بدراسة فقه وأصول وحديث ورجال وتفسير و.. سائر مذاهب المسلمين، وواجهتُ صعوبات جمّة في الفهم نتيجة عدم وجود أنظمة تعليميّة دراسيّة تؤهّلني لذلك، فاعتمدتُ على الله وبذلت جهداً وساهمت قدر ما أرجو أن يقبله الله منّي في تعليم الطلاب مدارسَ الاجتهاد المختلفة بين المسلمين ومقارنتها، وسعيتُ في مختلف كتبي ما استطعت إلى ذلك سبيلاً أن يكون على طاولتي مختلف مراجع ومصادر وكتب المسلمين، أتعامل معها بطريقةٍ أحاول فيها ما قدرت أن أكون موضوعيّاً متوازناً. ومن الله سبحانه وتعالى أرجو القبول والتوفيق والهداية والرشاد.
كما ودعوتي الصادقة دوماً لجميع أخوتي وأخواتي من طلاب العلوم الدينيّة في الحوزات والجامعات على صعيد مختلف المذاهب، أن يخوضوا هذه التجربة ويثروا الفقه الإسلامي وعامّة العلوم الدينيّة بها، ويتحرّروا من سجن الخوف، لا لكي يكون تحرّرهم عدواناً على مذاهبهم كما هي عُقدة بعض الناس، بل ليكون عنواناً لفهمٍ أفضل للتاريخ والتراث والدين.
وإنّني أتمنّى أن أكون أحد صغار أولئك الذين عندما بحثوا في مختلف القضايا وراجعوا موروث المسلمين، وُفّقوا ليكونوا موضوعيّين، لهذا أجد نفسي انتقد أفكاراً شيعيّة عشرات المرّات، وفي الوقت نفسه أنتقد عشرات المرّات أفكاراً غير شيعيّة، ولا أجد نقد الموروث الشيعي أسهل أو أصعب من نقد الموروث السنّي؛ لأنّني أتعامل ـ إن شاء الله ـ مع الجميع بطريقة واحدة وبدرجة جدّيةٍ واحدة، وأرى نفسي ـ وبحمد الله وفضلٍ منه ـ أنّني تخطّيت منذ زمنٍ بعيد مرحلة الضغط النفسي التي يعاني منها الذي يحاولون الخروج من إطار التفكير الاجتهادي المذهبي.
المصدر: موقع الشيخ حيدر حب الله
بحث بعنوان: التعليقة على منهاج الصالحين (مقدّماتٌ في آراء منهجيّة في الاجتهاد الشرعي)