خرید فالوور اینستاگرام خرید لایک اینستاگرام قالب صحیفه
الرئيسية / موقع الاجتهاد و جميع المواضيع / جميع الأبحاث والأحداث / حوارات ومذکّرات / 5 مذكرة / الإدارة الفقهية وتنظيم الحياة الاجتماعية .. بحث ونقاش / الدكتور أحمد واعظي
الإدارة الفقهية

الإدارة الفقهية وتنظيم الحياة الاجتماعية .. بحث ونقاش / الدكتور أحمد واعظي

خاص الاجتهاد: يصرّ الدليل الثالث من أدلة العلمانيين – ومع تأكيده على أن حل معضلات الحياة الاجتماعية والإدارية في المجالات المختلفة للحياة الدنيوية من أهم أهداف الفقه – على أن فرصة هذا النوع من الإدارة (الإدارة الفقهية) قد انتهت، ذلك أنها كانت فعّالة ومنتجة في ظل الظروف الاجتماعية السابقة، لكن ليست لديها قدرة حل المعضلات ووضع البرامج والأعمال الإدارية في ظل الأوضاع والأحوال الاجتماعية الحالية للبشر.

تنكر فئة من المفكرين مرجعية الدين في الأمور السياسية من حيث المبدأ والأساس، وينتظم هؤلاء في إطار فكري خاص نُعَبًّر عنه ب”العلمانية”.

بعبارة موجزة، ترى العلمانية أن دائرة الدين ونفوذه تتحدد بكل محال لا يصل إليه العقل البشري، وهذه الأمور أمور شخصية مرتبطة بعلاقة الإنسان وخالقه، ومن حق الفرد البشري أن يكون له موقف وقرار في ما يتعلق بهذه الأمور.

في الفصل الثاني من كتاب الدولة الدينية تأملات في الفكر السياسي الاسلامي وهو بعنوان ” العلمانية و الدولة الدينية ” ركّز الشيخ الواعظي البحث على أربعة أدلة أساسية من الأدلة العلمانية على نفي الدولة الدينية وهي:

ا- تسليط النقد على مطلق التعاليم الدينية الأعم من الفقهية والأخلاقية، ومن ثم تركيز الكلام على عدم أهلية هذه التعاليم لتنظيم العلاقات الفردية والاجتماعية.

۲ و ۳ – وهما يؤكدان، من زاويتين مختلفتين، على عجز الفقه في مجالي السياسة والاجتماع. .
وتخلص هذه الأدلة الثلاثة إلى ضرورة الرجوع إلى العقل والعلم البشريين بصورة مستقلة عن التعاليم الدينية العملية في محال الحياة الاجتماعية.

4 – والهدف من هذا الدليل إيقاع الشك والتردد في ما يخص مرجعية الدين في الأمور الاجتماعية والسياسية، ومن ثم إنكار ضرورة هذه المرجعية وقطعيتها.

الدليل الثالث و مناقشته

يؤكد الدليل الثالث على عجز الفقه في مجالي السياسة والاجماع.ويلخص الدليل إلى ضرورة الرجوع  إلى العقل والعلم البشريّين بصورة مستقلة عن التعاليم الدينية العملية في مجال الحياة الاجتماعية.

هذا الدليل – ومع تأكيده على أن حل معضلات الحياة الاجتماعية والإدارية في المجالات المختلفة للحياة الدنيوية من أهم أهداف الفقه – يصرّ على أن فرصة الإدارة الفقهية قد انتهت، ذلك أنها كانت فعّالة ومنتجة في ظل الظروف الاجتماعية السابقة، لكن ليست لديها قدرة حل المعضلات ووضع البرامج والأعمال الإدارية في ظل الأوضاع والأحوال الاجتماعية الحالية للبشر .

“إن التنظيم الذي يقوم به الفقه ورفع المشكلات والفراغ منها مختص بالمجتمعات البسيطة التي لم تدخل أتون التعقيدات والتشعُّبات والتحولات، وهي مجتمعات تحكمها علاقات بسيطة وتربط أفرادها حاجات محدودة، فالطبيعة تسخر هناك من التسلط والتحكم البشريّين بها، وتبدي مقاومة تحتقر معها الإنسان وجهده… (نظراً لعجزه عن تسخيرها)، فلم تكن قد اكتشفت بعد قوانين المجتمع والسوق والعائلة والحرف والحكومة،

وقد تربّع هناك أمر الفقيه عوضاً عن أمر العلم، وحصل تصوّر يقضي بأنه حيث كانت هناك مشكلة فسوف تفضّ بقبضة الفقه والأحكام الفقهية، فللمحتكرين حكمهم الفقهي حتى يقتلع احتكارهم، وللزناة والمفسدين وقطاع الطرق والمتلاعبين بالأسعار، رفعاً وغلاءً، وكذلك بقية المفسدين، كل واحد منهم له حكمه الذي يعالجه أو يقتلعه، فإلى تلك المرحلة لم يكن المنهج العلمي ثقافةً متداولة و مأنوساً بها، لحل مشکلات إدارة المجتمع،

وما هو المعروف آنذاك إنما هو الإدارة الفقهية فقط، لكن هل يمكن اليوم إنكار أن ضجيج الصناعة والتجارة وضباب العلاقات المكثفة والمعقدة السياسية في العالم قد أخفت صوت الفقه وأقعده، وأن التحوّل العظيم في مشكلات البشرية أبطله وأفسد مفعوله؟”(١).

ويستدل كاتب آخر، في هذا المجال، فيقول: “وفقاً لرؤية معيّنة، يتناسب الفقه الحالي مع عالم يمكن فيه بيان تمایزات الأفراد عن بعضهم بعضا بجملة من الصفات المحدودة، لكننا اليوم نواجه مئات الصفات المميزة للبشر …، فالفقه الذي يتكفل بشكل أساسي بالعلاقة بين الإنسان واللّه، كما كان يدّعي في مرحلة معينة أنه يتكفل العلاقة بين الإنسان والإنسان وبين الإنسان والمجتمع، لا يمكنه اليوم أن يبدو هذا الحجم وبهذا المقدار،

فمسائل من قبيل حكومة القانون، أنماط الدولة، الأمم في النظام الدولي، مؤسسة الإنتاج والتوزيع، النظام المصرفي ومئات المسائل الأخرى في النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي، جميعها أمور ظهرت اليوم وحملت معها بشكل متواصل العديد من القضايا للفقه التي لا يمكنه الإجابة عنها لكي تصل المشكلات إلى الحد الأدن” (٢).

والاستدلال على عجز الفقه عن إدارة المجتمعات الحديثة يتم بيانه أحياناً بشكل أكثر فنية؛ وذلك ضمن مجموعة مقدمات هي:

١– نعيش اليوم في عالم جرى استبعاد الغيبي والرمزي منه، وكشفت فيه الأسرار، ورفعت فيه الهالة الخافية، وهذا من جملة التمايزات المهمة للحياة المعاصرة عن العالم القديم. نعم تنحية الغيبي والرمزي لا تعني إزالة الدين، وإنما تعني وبعبارة دقيقة اللاغيبي واللارمزي في الإدارة، ونفي الاعتقاد بوجود مصالح خفية في الأحكام والقوانين، وكذلك في المناهج غير القابلة للضبط والتحكم، من قبيل التمسك بالأدعية والنذورات، أو بالقوى الغيبية في تدبير الأمور الدنيوية.

وهذه الظاهرة: اللاغيبي واللارمزي(وهذا الكشف للسر والخفي) ناشئة من التحولات التي حصلت على صعيد العقلانية البشرية، ففي طبيعة الوجود البشري، كما في التاريخ والحياة الخارجية، حصلت تحولات بنيوية، فالعقل اليوم لا يقبل ما كان يتصوره القدماء من غیبیات، كما أن القبول بما لا يعد شرطاً له، وواحدة من أهم مظاهر “الرمز والسر”، في النطاق الديني، هي الساحة الفقهية، أي أن فرض وجود مصالح خفية في الأحكام الفقهية يجعل من الفقه وأحكامه مشوبين بالرمزية والسر.

۲– إن أهم ساحة تمت فيها تنحية الترميز والغيبية، في العالم المعاصر، هي الإدارة، فممارسة السياسة والحكومة يعنيان بالدرجة الأولى الإدارة العقلانية، وبناء عليه، فالإدارة الفنية إدارة عقلانية، وفي هذا الفن لا يمكن الاعتناء بالأمور المحمولة والمشوبة بالأسرار في وضع البرامج، فالعالم الممزوج بالسر والرمز منفصل عن العالم العقلاني، إذ إنه غير قابل للتنبؤ أو الضبط والتحكم، ولا يمكن لمثل هذا الوضع أن يمارس إدارة ناجحة.

ولهذا السبب فإن الدين المشوب بالأسرار والرموز لن يمكنه – من حيث طبيعته – ممارسة إدارة عقلانية لأنه منفصل عنها.

۳– ليس الفقه – من حيث الأساس – فن وضع البرامج، وإنّما هو فن بیان الأحكام، فالفقه إنما جاء ليحل المشکلات الحقوقية، لا ليحل كافة مشكلات المجتمع التي ليست من نوع المشکلات الحقوقية فحسب.

4 – إذا بني على أن الفقه يملك حق التدخل في الإدارة العقلانية للمجتمع وأن يصبح أساس هذه الإدارة، فلا بدّ من رفع هذا الطابع الرمزي والسري فيه، فإذا كانت المصالح والمفاسد للنظام عقلانية مئة بالمئة وقابلة للكشف، فإنّ النّظام الفقهي يصبح نظاماً عقلانياً مئة بالمئة، ومن ثمّ فاقداً للرمزية والغموض.

أما إذا قلنا: إن هذه الأحكام ذات مصالح ليست واضحة لنا، فإن مشكلة في هذه الحالة سوف تحدث، ذلك أن الإدارة العقلانية لا تنسجم مع هذا النوع من المصالح المخفية. الإدارة فن التكييف العقلائي وتنظيم الوسائل وتنسيقها مع الأهداف، فالمدير النّاجح لا يمكنه أبداً أن يعطي الأصالة لمشكلة خاصة في العمل (نتيجة تأكيد الفقه عليها مثلا)، ويجري على هذا الأساس، وفي كافة الظروف، وبقطع النظر عن المقتضيات الزمانية والمكانية، بشكل تعبّدي(۳).

ونتيجة هذه المقدمات الأربع هي:

أولاً: إن الفقه لا يملك حق التدخل في المجال الإداري، ذلك أنه مختص بمعالجة المشكلات الحقوقية، أما الإدارة فهي فن علمي عقلاني.

ثانياً: إذا أراد الفقه أن يكون ذا دور في العالم الإداري، فلابدّ له من التخلي عن الترعة الرمزية السرّية، وكذلك عن الطابع التعبدي والاطلاقي، كما يلزمه التهيّؤ – في إطار إدارة المجتمع – للتنحي في حالة ما إذا لم تكن لخططه أية إنتاجية، كما هو الحال لدى الطرق والوسائل المنافسة الأخرى.

والفقه، في المجال الإداري، لابد من أن يمتلك المصالح القابلة للمعاينة والمشاهدة حتى يمكنه تحدید میزان الإنتاجية والربح فيه، أما مع الاعتقاد بالتعبد ووجود المصالح المخفية والغيبية فإن الفقه لن يكون قادراً على التحكم بالإدارة العامة للمجتمع.

مناقشة الدليل الثالث

هناك الكثير من النقاط، في هذا الدّليل يمكن البحث فيها، بعضها ناشئ عن التفسير الخاطئ لدور الفقه في الساحة الإدارية للمجتمع، وبعضها الآخر ناشئ من الإشكالات المرتبطة بهذا الاستدلال، ويعود إلى خلافات بنيويّة وأساسية في ما بيننا وبين العقلانية العلمانية، وسوف نعالج هذين المحورين هنا باختصار .

أمّا على صعيد دور الفقه، في مجال الحياة الجمعيّة، فلابدّ في البداية من الإشارة إلى ضرورة التحقيق في ماهية الأحكام غير العبادية في الشريعة، ما يعني أن نتّجه بالبحث لدراسة القسم الخاص بالمعاملات والأحكام غير العبادية من الشريعة، نتيجة ارتباط الجانب العبادي بالحياة الآخرة، والتعبدية، في مثل هذا النوع من الأحكام، واضحة ومقبولة أيضاً.

أما على صعيد الأحكام غير العبادية فإن المسألة تختلف، حيث يثار التساؤل الآتي: هل أن هذه الأحكام المنظّمة للعلاقات بين الأفراد والمشتملة على مواقف ووجهات نظر في ما يخصّ كيفية تنظيم العلاقات الاقتصادية والثقافية والسياسية والعسكرية… هل أن هذه الأحكام دنیوية بالكامل، ومن ثمّ فهي مجرّد تنظيم للمعيشة الدنيوية للبشر؟

إذا عددنا القسم غير العبادي من الفقه تعاليم دنيوية بحتة، أي أنها ذات أهداف واضحة وملموسة اجتماعياً من قبيل تأمين الأمن والرفاهية ورفع الإجرام والفساد، وقلنا – نتيجة ذلك – بعدم وجود أي ارتباط بين هذه الأحكام والالتزام بها عملياً وبين الوصول إلى السعادة والكمال الأخروي فستتأمّن أرضية مناسبة لتحكيم الاستدلال الثالث المتقدِّم.

والنتيجة المنطقية لهذه الرؤية المتعلّقة بالأحكام الاجتماعية والحقوقية والجزائية الإسلامية إنكارنا وجود أي مصلحة، أو ملاك، في هذه الأحكام غير قابل للإدراك، ومن ثمّ مخفي عن عقول البشر، وحصر المصالح الموجودة في هذه الأحكام بالأمور الملموسة القابلة للإدراك، وبناء عليه سيصبح تعبّدنا والتزامنا بهذه الأحكام تابعاً لوجود المصالح والنتائج القابلة للمعرفة والتشخيص فيها أو لعدم وجودها.

بيد أن هذه الرؤية تواجه مجموعة من المشكلات هي:

أولاً: لا يمكننا بسهولة أن نفترض حكمةً ومصلحةً معينةً ملموسةً في الأحكام غير العبادية، فقد يبدو للباحث للوهلة الأولى – وعلى صعيد الحقوق الجزائية الإسلامية – أنها تهدف إلى تقديم منهج لرفع الفساد والجريمة من المجتمع الإسلامي، لكن تعيين المصالح والحكم في الأحكام المتصلة بالإرث والوصية والديات وحقوق الأقليات وأمثال ذلك يقف أمام إشكاليات كبيرة غير قابلة للحل.

ثانياً: إن الروايات التي تمنع من جعل العقل البشري الميزان والمعيار، في تقييم الأحكام الإلهية، مطلقة، وهي تشمل العبادات والمعاملات على حد سواء. والجدير ذكره هنا هو: إن مورد صدور بعض هذه الروايات مخصوص بالحكم غير العبادي، من قبيل القضاء ومن نماذجه تشخیص أبان بن تغلب المتعلق بتساوي الديّة في الجناية الواردة على المرأة والرجل، فالإمام (ع) وضمن تأييده الحكم الشرعي، في ما يخص عدم تساوي دية الرجل والمرأة في بعض الحالات، وبقوله: “السنّة إذا قيست محق الدين “(۴)، ردعه عن محورية العقل في مجال الأحكام الشرعية.

المسألة الخاطئة الأخرى، في هذا الاستدلال، هي إيقاع التّقابل بين الإدارة الفقهية والإدارة العلمية العقلانية، وكأن هذين الاثنين غير قابلين للدّمج أبداً.

وأساس مثل هذا التصور هو عدم تبين العلاقة الصحيحة بين العقل والدین، علاوة على عدم تشریح دور الفقه وموقع العقل والعلم البشريين في الإدارة العامة للمجتمع الإسلامي، وعلى أساس هذا الإبهام جرى تصوّر أن زمام أمور المجتمع لابد من أن يكون بيد الفقه نفسه، كما أن سبيل حل كافة المعضلات والمشكلات الاجتماعية والفصل فيها يقع على عاتق الفقه وضمن مناطق عمله ونفوذه من دون أن يكون للعلم أي إسهام في ذلك، أو أن على الفقه التنحّى جانباً حتى تكون الإدارة بيد العلم والعقلانية بشكل كامل وشامل.

يرى الكاتب أن هذا التَّقابل لا أساس له، فإدارة المجتمع – سواء في الماضي أم في الحاضر – لا تفتقد عنصر التدبير العقلاني، فالحكومات الدينية، في صدر الإسلام، وفي الوقت الذي جعلت فيه الفقه الإسلامي المحور والمركز لها استفادت من عنصر العقلانية في تدبير أمور المجتمع وتسييرها، فالتفكير المصلحي والسعي للاكتشاف العقلاني لطرق الحل لم تكن بعيدة عن الأذهان، أفلم يمارس الرسول (ص) والإمام علي (ع) الشورى في حياتيهما؟ ألم يبذلا جهودهما في القيام بالتدابير اللازمة؟

هل أن المسلمين طوال القرون والعصور – التي يعبر عنها المدافعون عن هذا الاستدلال بسنوات قدرة الفقه على حل المعضلات الاجتماعية – تركوا جانباً عنصر العقلانية والتدبير العرفي في مسائل الحكومة والاجتماع؟ .

لا يتمثّل تمایز الحكومة الدّينية عن الحكومة العلمانية في عدم الاعتناء بالأمور العقلانية، وفي حصر الاعتماد بـ الإدارة الفقهية فيما الدولة العلمانية عقلانية بالكامل، إنما يتمثّل التمايز في أن الدولة الدينية تستدعي عقلانية متناسبة مع الشريعة؛ فالتدابير العقلانية، في مختلف ساحات المجتمع الديني، يلزمها أخذ التعاليم الدينية دائماً بعين الاعتبار، والسعي لتسيير أمور المجتمع مع الحفاظ على حدود الفقه الإسلامي، فيما تستقل العقلانية العلمانية عن الدين من دون أن تحمل هاجسه أبداً.

ولا تهدف الدولة الدّينية إلى استخراج كافة التّدابير الجزئيّة ووضع البرامج الشاملة الاقتصادية والسياسية، ومعرفة طريق حل المشكلات الموجودة في المجتمعات المعقدة الجديدة، بشكل مباشر، من الفقه من دون الأخذ بعين الاعتبار العلم والعقل البشريين، إذ إن هذا الأمر لا هو بالممكن ولا ممّا ادّعاه الدين أساساً.

إن للفقه، على الصّعيد الجمعي، حركتين محدّدتين هما:

أ– يُعنى الفقه بتنظيم الجوانب والعلاقات الحقوقية في المجالات المختلفة، ويرسم الحدود والفواصل الحقوقية أيضاً.

ب – يطرح الأصول والضوابط والقيم الكلية والعامة في الساحات الثقافية والاقتصادية والسياسية: الداخلية والخارجية، فمحورية الفقه في الدولة الدينية تعني أن على الدولة الوفاء بالحدود الحقوقية في قراراتها وخطواتها ونشاطاتها وخدماتها ووضع البرامج العملية التي تأخذ بعين الاعتبار القيم والأصول والأهداف الشرعية، ولا تعني محوريّة الفقه والإدارة الفقهية تنحية العقل والعلم والتّجربة الإنسانية جانباً.

ولا يفوتنا التذكير، هنا، ببعض الحالات التي تحصل في إدارة المجتمع، والتي تكون المحافظة فيها على بعض الحدود الحقوقية والفقهية في غير صالح المجتمع، وتشخيص هذه الموارد وإمكانية تقديم طريق للحل والتوفيق يكمن ضمن إطار الحكم الحكومي لولي الفقيه، وقد ذكرت طرق حلّ مثل هذه الموارد في الفقه الإسلامي أيضاً.

والمسألة الأخيرة في ما يخصّ الدليل الثالث، هنا، هي أن هذا الدليل قد اعترف بشكل غير مباشر بالعقلانية العلمانية وبالرؤية المعرفية الخاصة بها، كما لو أنها واقع مسوّغ لا يقبل الإنكار.

إن جملاً من قبيل: “التّحول البنيوي الحاصل في طبيعة الإنسان، وفي التاريخ والحياة البشرية”، “نحن نعيش اليوم في عالم رفعت فيه المزيات”، “اليوم لا يوافق العقل على ما كان يقبل به المتقدّمون من الغيبوية والرمزية، كما أن القبول بما ليس من شروط العقل”، هذه الجمل تدل على مدى نفوذ العقلانية العلمانية والرؤية المعرفية الخاصة ما في العالم ولدى الإنسان المعاصر وانتشارهما، لكن هذا النفوذ والانتشار لا يمكن اعتبارهما أساساً لصحة هذه الرؤية وصوابيّتها.

إن كلامنا في ما يخص تسويغ الدولة الدينية وضرورة تدخل الدين في المجالات الاجتماعية یعدّ قراءة في الضّرورات الاجتماعية وفي تمييز الحق من الباطل، فنحن لا نتكلم عمّا هو مقبول ومشهور في هذا العصر حتى يكون لرواج نفي الغيبوية والاعتقاد بالغيب والرمزية والسرية وسيادة هذا النفي تأثير في تضعیف موقع المدافعين عن الدولة الدينية.

إن محورية العقل، والإحساس بعدم الحاجة إلى الوحي، والفرار من الغيب، وعدم الاعتقاد بالسر والرمز، ليس أمراً جديداً بل لقد حظي بسابقة تاريخية أيضاً، فالترعة الحسيّة والتردّد في كل ما هو غیب وغير مرئي لهما سابقة طويلة، ألم يقل قوم موسى له: «لن نُؤمِنَ لَكَ حتّى نَرَى اللهَ جَهرَةً، [البقرة: ۵۵].

والأمر الذي يميز العصر الحاضر عن الماضي هو سيادة هذا النمط من التفكير الإنسي والحسي وشيوعه. ومن الواضح جدّاً أنه من غير الصّحيح الاستغراق في شيوع هذا النمط من التوجّه والتعاطي المعرفي، وتفسيره على أنه تغيير في الطبيعة البشرية، فبالرغم من توسع حضور العقلانية العلمانية في بقاع كبيرة من العالم، وفي أذهان الكثير من المعاصرين، لكن الترعة الدينية والاعتقاد بالغيب هما الآخر أن لا يزالان يحظيان بالكثير من الحضور والفعالية.

وعلى أية حال هناك توجهان معرفيان يقف أحدهما مقابل الآخر. أحدهما يحكم باستقلال العقل البشري عن أي مصدر معرفي آخر لا سيما الدیني، فيما الآخر، علاوة على عناية بالعقل البشري، يراه محتاجاً لمزيد من الكمال من خلال الوحي.

و في هذا العرض، فالأمر المناسب هو البحث في المباني و الأصول المتعرضة لصحة هذه الرؤى و سقمها، و لا يجوز اعتبار شيوع الرؤية الأولى في العالم أنه تغير في الطبيعة البشرية حتى تتهيأ بذلك أرضية الخضوع لمثل هدا التصوّر.

 

الهوامش

1 – عبد الكريم سروش، قصة أرباب معرفت، طهران مؤسسة فرهنگی صراط، 1373 هـ ش / 1994م، ص 54 و55 .

2 – مجید محمدی، سر بر آستان قدسی دل در گرو عرفی، طهران، نشر قظره، 1377هـ ش / 1998م، ص135 و 136.

3 – عبد الكريم سروش، مقاله ” راز و رازداری” مجله کیان، العدد 43، السة الثالثة، شهريور 1377هـ ش، / 1998م، ص 20 – 24.

4 – الكافي 7: 299.

 

المصدر: كتاب: الدولة الدينية تأملات في الفكر السياسي الاسلامي ص107 تأليف: أحمد الواعظي

 

الإدارة الفقهية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign