تاريخ الاجتهاد

تاريخ الاجتهاد لدى علماء أهل السنّة

الاجتهاد: يرى أكثر علماء الأصول من أهل السنّة، أنّ بداية الاجتهاد كانت في عصر النبيّ (صلى الله عليه وآله)، ويجمعون على اعتباره أحد الأدلة على الحكم الشرعي بعد وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله) مباشرة، بينما يرى علماء الإماميّة أنّ بداية تاريخ الاجتهاد كانت بعد ذلك بكثير; انطلاقاً من عقيدتهم بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) لم يكن متعبّداً بالاجتهاد(1)، فضلا عن غيره في عصره، ومن عقيدتهم في أنّ الإمام المعصوم امتداد للنبيّ (صلى الله عليه وآله) من بعده.

بينما انقطع النص الشرعي لدى أهل السنّة بوفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله) فقد استمر لدى الشيعة، وكانوا يعيشونه فيما يصدر عن الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) من نصوص حتّى حلول الغيبة الكبرى(2)، من هنا يختلف تاريخ الاجتهاد بين الفريقين،

ولذا يقع البحث في جهتين: الأولى: في تاريخ الاجتهاد لدى علماء أهل السنّة.

والثانية: في تاريخ الاجتهاد لدى علماء الشيعة.

الجهة الأولى: تاريخ الاجتهاد لدى علماء أهل السنّة
ذكرت للاجتهاد عصور ومراحل تاريخية مختلفة وهي:
المرحلة الأولى: عصر النبيّ (صلى الله عليه وآله).
المرحلة الثانية: عصر الصحابة.

المرحلة الثالثة: عصر التابعين وأتباعهم.
المرحلة الرابعة: الاجتهاد بعد الأئمة الأربعة(3).

المرحلة الأولى: عصر النبيّ (صلى الله عليه وآله)
فيما يرتبط بهذه المرحلة هناك كلام في اجتهاد النبيّ (صلى الله عليه وآله) وتعبّده بالاجتهاد فيما لا نص فيه، وآخر في اجتهاد الصحابة في زمن النبيّ، فهنا مقامان:

المقام الأول: اجتهاد النبيّ (صلى الله عليه وآله) ذهب أكثر علماء السنّة إلى جوازه في الجملة، منهم الدبّوسي(4)، والسرخسي(5)، والغزالي(6)، والرازي(7)، وابن قدامة(8)، والآمدي(9)، وآل تيمية(10)، والسبكي(11)، والأسنوي(12)، وابن أمير الحاج(13)، ومنعه ابن حزم(14)، واتّفقت الإماميّة على منعه(15).

واختلف من جوّز الاجتهاد للنبيّ (صلى الله عليه وآله) في تجويز الخطأ في اجتهاده، فهناك من جوّز عليه الخطأ مطلقاً ونقل بعض
الموارد في ذلك(16). وذهب بعض إلى جوازه فيما لم يقرّ عليه(17)، ومنعه الرازي(18)، والبيضاوي(19)، والسبكي(20)، واُستدلّ له بأنّ النبيّ قد أمر الشارع باتّباعه مطلقاً ، فلو جاز عليه الخطأ لجاز أن نكون مأمورين بالخطأ ، وهو ممنوع مطلقاً(21).

المقام الثاني: اجتهاد الصحابة في عصر النبيّ(صلى الله عليه وآله)
ويراد به اجتهاد الرأي فيما لايجد نصاً له من المسائل، وفيه أقوال: القول بعدم الجواز، وذهب إليه الأقلّون، والقول بالجواز وذهب إليه الأكثرون، واختلف هؤلاء; فجوّزه بعضهم في حضرة النبيّ (صلى الله عليه وآله) وفي غيبته، وقصر بعض الجواز على غيبة النبيّ للقضاة والولاة فقط، وبعضهم أجازه للغائب عن النبيّ مطلقاً، ومنهم من اعتبر الإذن(22).

والإماميّة لاتجيز الاجتهاد في هذه الفترة إلاّ في حدود فهم النص فقط، وتمنع من اجتهاد الرأي مطلقاً(23)، هذا في الإمكان العقلي.

وأمّا الوقوع فقد قال ابن قيّم الجوزية: «اجتهد الصحابة في كثير من الأحكام ولم يعنّفهم»(24). ومن استدلّ للوقوع في حضرة النبيّ وفي غيبته إنّما استدلّ ببعض أخبار الآحاد، ولم يدّعِ سوى حصول الظن بمضمونها(25)، وأهمّها حديث معاذ: لمّا أراد النبيّ (صلى الله عليه وآله) أن يبعثه إلى اليمن قال له:

«كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟» قال: أقضي بكتاب الله، فإن لم أجد فبسنّة رسول الله، فإن لم أجد أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله على صدره، وقال: «الحمد لله الذي وفّق رسول الله لما يرضي رسول الله»(26)، وقد رُدّ الاستدلال به وتمّ تضعيفه سنداً ودلالةً، ذهب إلى هذا ابن حزم(27) وغيره(28).

المرحلة الثانية: الاجتهاد في عصر الصحابة

كان شأن الصحابة في حياة النبيّ (صلى الله عليه وآله) هو التلقّي والاستفتاء منه (صلى الله عليه وآله)، وأمّا بعد وفاته فقد انتقلوا فجأة من طور الاعتماد إلى طور الاجتهاد(29)، وكانت مصادر الأحكام في هذا الدور أربعة هي: الكتاب، والسنّة، والقياس أو الرأي، والإجماع(30)، وقد ذكرت مبرّرات لهذا التحوّل المفاجئ والغريب ـ بعد أن نص القرآن الكريم على إكمال الدين وإتمام النعمة ـ منها: الفتوحات الإسلامية الكبرى، والوقائع والأحداث المستجدّة(31)، والأقضية التي كانت ترد على الصحابة ولايجدون لها نصاً في الكتاب أو السنّة، وعندها كانوا يلجأون إلى القياس الذي كان يعبّرون عنه بالرأي(32).

وذكر في كيفية اجتهادهم القياس والاجتهاد في المنصوص والاجتهاد بالرأي(33)، وامتاز الإمام علي (عليه السلام) بمنهج النص، وامتاز عمر بمنهج الرأي(34)، و كانت لعمر اجتهادات بارزة في هذا العصر ، منها : منعه سهم المؤلّفة قلوبهم، ومنها : وقف تنفيذ حدّ السرقة عام المجاعة(35).

وكان من مميزات الاجتهاد في هذا العصر، أنّه أصبح مصدراً مستقلا من مصادر الأحكام نظير الإجماع، وكانت معرفة الحكم فيه خلافاً لعصر النبيّ معرفة اجتهاد غير يقينية(36).

المرحلة الثالثة: الاجتهاد في عصر التابعين وأتباعهم
اتّسعت دائرة الاجتهاد في عصر التابعين و أتباعهم ، نظراً لتفرّق العلماء في البلدان والأمصار، وهو أدعى للاختلاف والاجتهاد من علماء المصر الواحد(37).

وأهم ما تميّزت به هذه المرحلة هو ظهور مدرستين في الفقه الإسلامي، هما: مدرسة الحديث، ومدرسة الرأي(38)، وأوعز الأفغانستاني ذلك إلى طبيعة البيئة التي انتشر فيها الاجتهاد، فيرى البيئة التي تكثر فيها الوقائع والأحداث والكذب والوضع للأحاديث النبوية، أكثر تركيزاً على ضوابط القواعد وربط الأحكام بالعلل، من البيئة التي لايكثر فيها ذلك; ولذا تكتفي الثانية بالنقل،
ومثّل للبيئة الأولى بالعراق، والثانية بالحجاز(39).

وقد تميّزت هذه المرحلة أيضاً بظهور المذاهب الأربعة ومدارسها وطلاّبها، وتدوين الفقه تدويناً علميّاً ومذهبيّاً(40).

المرحلة الرابعة: الاجتهاد بعد الأئمّة الأربعة
وهي مرحلة ضعف الاجتهاد وأفوله، والتي شهدت إفتاء علماء المذاهب بإقفال باب الاجتهاد(41)، لأسباب ذكر منها : التعصب المذهبي، وتأثّر التلاميذ بأساتذتهم،

ومنها : سيرة القضاة وتقيّدهم بمذهب فقهي خاص هو مذهب الخليفة، ومنها: تدوين المذاهب(42).
وبمرور الوقت استحكمت في هذه المرحلة روح التقليد، ولم يبقَ من الاجتهاد إلاّ اسمه.
وقد اختلف في تحديد الفترة الزمنية لهذه المرحلة، بعد الاتفاق على بداية أفول الاجتهاد مع حلول القرن الرابع(43).
وهناك دعوات قوية من قِبل بعض العلماء والباحثين من أهل السنّة إلى فتح باب الاجتهاد، تؤكد على ضرورته والحاجة إليه خصوصاً في العصر الحديث(44).

 

الهوامش

1 . الذريعة 2 : 794 ـ 795، العدّة في أصول الفقه (الطوسي) 2 : 753، مبادئ الوصول : 240.
2 . دروس في علم الأصول 1 : 54 ـ 55 ، أصول الفقه (أبو زهرة) : 368 ـ 369.
3 . الاجتهاد (توانا الأفغانستاني) : 17.
4 . تقويم الأدلة : 249.
5 . أصول السرخسي 2 : 92.
6 . المستصفى 2 : 205.
7 . المحصول 2 : 491.
8 . روضة الناظر : 192.
9 . الإحكام 3 ـ 4 : 398.
10. المسوّدة : 452. وراجع : الاجتهاد (توانا الأفغانستاني) : 24 ـ 29.
11. جمع الجوامع 2 : 596.
12. نهاية السُّول 4 : 529.
13. التقرير والتحبير 3 : 394.
14. الإحكام 5 ـ 8 : 123 ـ 124.
15. الذريعة 2 : 794 ـ 795، العدّة في أصول الفقه (الطوسي) 2 : 733، مبادئ الوصول : 240، نهج الحق وكشف الصدق : 405 ـ 406، وراجع : تأريخ التشريع الإسلامي (الفضلي) : 42 ـ 47.
16. انظر : الاجتهاد (توانا الأفغانستاني) : 29.
17. أصول السرخسي 2 : 92.
18. المحصول 2 : 493 ـ 494.
19. منهاج الوصول : 124.
20. جمع الجوامع 2 : 597.
21. المحصول (الرازي) 2 : 493 ـ 494.
22 . راجع هذه الأقوال في الإحكام (الآمدي) 3 ـ 4 : 407 ـ 409، نهاية السُّول 4 : 538 ـ 546، الاجتهاد (توانا الأفغانستاني) : 29، تأريخ التشريع الإسلامي (الفضلي) : 47 ـ 53.
23. تأريخ التشريع الإسلامي (الفضلي) : 53.
24. أعلام الموقّعين 1 : 203.
25 . انظر : الإحكام (الآمدي) 3 ـ 4 : 408 ـ 409.
26. الطبقات الكبرى (ابن سعد) 1 ـ 2 : 425.
27. الإحكام 5 ـ 8 : 122، 207.
28. انظر : الأصول العامة للفقه المقارن : 324 ـ 325، مقدمة الآصفي على الرأي السديد في الاجتهاد والتقليد : 10.
29. المدخل الفقهي العام 1 : 156.
30. تأريخ التشريع الإسلامي (الخضري بك) : 84 .
31. انظر : المدخل الفقهي العام 1 : 156 ـ 161.
32 . تأريخ التشريع الإسلامي (الخضري بك) : 83 .
33 . الاجتهاد (توانا الأفغانستاني) : 37 ـ 40.
34. تأريخ التشريع الإسلامي (الخضري بك) : 83 .
35. انظر : المدخل الفقهي العام 1 : 156 ـ 161.
36 . الاجتهاد (توانا الأفغانستاني) : 37.
37 . المصدر السابق : 44.
38 . المدخل الفقهي العام 1 : 167 ـ 170.
39. الاجتهاد (توانا الأفغانستاني) : 42 ـ 43.
40. انظر : المدخل الفقهي العام 1 : 171 ـ 175، الاجتهاد (توانا الأفغانستاني) : 43 ـ 47.
41 . المدخل الفقهي العام 1 : 176.
42. راجع : تأريخ التشريع الإسلامي (الخضري) : 242 ـ 245، المدخل الفقهي العام 1 : 176 ـ 180، الاجتهاد (توانا الأفغانستاني) : 93 ـ 94.
43 . راجع : المدخل الفقهي العام 1 : 176، الاجتهاد (توانا الأفغانستاني) :
90 ـ 94، تأريخ الفقه الإسلامي وأدواره : 88 ـ 92، الاجتهاد في الإسلام (العمري) : 218 ـ 221.
44. انظر : الأصول العامة للفقه المقارن : 583 أصول الأحكام : 368، الاجتهاد في الاسلام (العمري) : 197، الاجتهاد في الشريعة الإسلامية (فيض الله) : 458 ـ 459.

المصدر: موسوعة أصول الفقه المقارن،(الجزء الأوّل) إعداد مركز التحقيقات والدراسات العلمية التابع للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية.

 

 

almojam

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky