خاص الاجتهاد: يتطلب اليوم حل القضية الفلسطينية تعبئة إقليمية وعالمية. بالتأكيد، كان دعم إيران وحضورها في هذا المجال فعالاً ومؤثراً للغاية، لكن حل القضية الفلسطينية يتطلب فقط وعي إقليمي وعالمي.
في الواقع، إنّ فكرة توحيد العالم الإسلامي هي فكرة من القرن التاسع عشر طرحها بعض المفكرين التنويريين في ذلك العصر، مثل المرحوم “السيد جمال الدين الأفغاني”.
والحقيقة أنّ الشعوب المسلمة تواجه أزمة خطيرة منذ قرنين، ألا وهي أزمة “تهميش الحضارة”. وتعني هذه الأزمة أنّ التطورات واتجاهاتها لا تأتي من داخل الدول الإسلامية، بل يتحدد مصير الشعوب الإسلامية بقرارات تتخذها الدول الاستعمارية خارج حدودها.
وفي خضمّ ذلك، ظهر بعض المفكرين الذين امتلكوا فهمًا حضاريًا أعمق لتعاليم الإسلام، وكانوا قادرين على اتخاذ القرارات على مستوى العالم الإسلامي ككل، دون الانحياز لعصبيات قومية أو جغرافية ضيقة.
ونظرًا للتشابه الكبير بين شعوب العالم الإسلامي، فقد آمنوا بأنّ الحل الوحيد لتجاوز هذه الأزمة الحضارية هو الوحدة والتضامن بين الدول الإسلامية. وقد استمرت هذه الفكرة بالتطور عبر الزمن، ووصلت ذروتها في الثورة الإسلامية.
وواصلًا نفس الفكر، اعتبر الإمام الخميني (قدس سره) أنّ حلّ العديد من المعضلات الحضارية في العالم الإسلامي، بما في ذلك قضية فلسطين، يتوقف على اتحاد وتضامن المسلمين. فقال الإمام الخميني في 24 آب (أغسطس) 1979: “لو اتحد المسلمون، وسكب كل واحد منهم دلوًا من الماء على إسرائيل، لغرقت”. ولكن ما علاقة هذه المناقشات بالحج؟
لطالما تساءل البعض: على الرغم من العديد من التصرفات غير الأخلاقية للسعودية كمضيف للحج، والأحداث المؤسفة التي شهدناها خلال السنوات الماضية والتي مسّت بكرامة بعض الحجاج الإيرانيين، باستثناء فترة زمنية محدودة بعد مجزرة الحجاج عام 1987، فلماذا لم يوافق قادة الثورة الإسلامية أبدًا على إلغاء الحج؟ بالإضافة إلى كون الحج فريضة دينية، يبدو أن هناك أيضًا اعتبارات حضارية مهمة في هذا الشأن. لتوضيح هذا الموضوع، سنبدأ بذكر مثال تاريخي.
سؤالٌ جادٌّ يطرح نفسه: لماذا اختار الله تعالى أن يُنزل نبيّه الكريم – صلى الله عليه وآله وسلم – في شبه الجزيرة العربية، وبالتحديد في مدينة مكة المكرمة، وبين قومٍ من البدو؟ ألم يكن من الأفضل أن يظهر في إحدى الحضارات العريقة في ذلك الزمان؟
تبدو الإجابة على هذا السؤال واضحةً من خلال دراسة موقع مكة الجغرافي. فمكة منذ تأسيسها على يد نبي الله إبراهيم خليل الرحمن – عليه السلام – كانت مركزًا تجاريًا هامًا يلتقي فيه الناس من مختلف أنحاء الجزيرة العربية والعالم.
فكان التجار والقوافل، حتى غير المسلمة منها، تتوقف في مكة أثناء رحلاتها التجارية. ممّا جعلها بيئةً مثالية لنشر رسالة الإسلام، حيث كان بإمكان النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – أن يلتقي بالناس من مختلف أنحاء شبه الجزيرة العربية والعالم، ويُبلغهم رسالة الله تعالى، وبالتالي، كانت مكة بمثابة مفترق طرق هام للغاية، حيث كانت تستقبل ضيوفًا من جميع أنحاء العالم بشكل دوري وسنوي. ولقد كانت العديد من المناظرات التي أجراها أئمتنا المعصومون، والتي وصلت إلينا اليوم في قالب كتب روائية مختلفة، ثمرة الحوارات بين الثقافات المختلفة في مناسك الحج. لذلك، يمكن اعتبار مكة مركزًا مهمًا للحوار بين الثقافات المختلفة. وَلعب هذا التنوع والقدرة دورًا هامًا للغاية في عولمة الدين الذي نزل في هذه المنطقة الجغرافية. ولا تزال هذه الخاصية مستمرة حتى يومنا هذا.
الحجّ ليس مجرد شعيرة عبادة، بل هو أيضًا ملتقى للثقافات المختلفة ومنصة للحوار بين الحضارات. انطلاقًا من هذا النهج الحضاري، اعتبرت الثورة الإسلامية الحجّ أحد أهمّ النقاط الاستراتيجية لنشر رسالتها، وسعت من خلال طرح مفهوم “الحجّ الإبراهيمي” و”البراءة من المشركين” إلى عولمة رسالة الإسلام. من خلال هذه الزاوية، يمكننا الآن فهم سبب اهتمام قادة الثورة الإسلامية في إيران بهذا الاجتماع العالمي.
ولكن هناك قضية جدية أخرى تتعلق بالقضية الفلسطينية والحج. اليوم، يتطلب حل القضية الفلسطينية تعبئة إقليمية وعالمية. بالتأكيد، كان دعم إيران وحضورها في هذا المشهد مفيدًا وفعالًا للغاية، لكن حل القضية الفلسطينية يكمن فقط في الصحوة الإقليمية والعالمية.
والدليل على هذا الموضوع يعود أيضًا إلى طبيعة إسرائيل ذاتها. إسرائيل تمثل بوضوح شخصية الغزاة من حضارة الغرب والممثل الرسمي للغرب في هذه المنطقة، ولذا فهي تمثل حركة حضارية وعالمية، ويمكن حلها فقط من خلال حركة في إطارها الخاص.
وعلى هذا الأساس، إنّ ما يمكن أن يضفي على حجّ هذا العام لونًا مغايرًا تمامًا هو تسخير هذه الإمكانية الحضارية لخدمة فلسطين. فحجّ هذا العام يمكن أن يكمل جزءًا كبيرًا من لغز الوعي العالمي الذي نرى بعض قطعه اليوم في الجامعات الأمريكية والأوروبية. بطبيعة الحال، تقع مسؤولية هذا الموضوع على عاتق الحجاج الإيرانيين بشكل أكبر، وسيكون لديهم واجب مضاعف في هذا المجال؛ كما قال قائد الثورة الإسلامية المعظم في لقائه بمسؤولي الحجّ: “يجب أن يتمكن الحجاج الإيرانيون وغير الإيرانيين من نقل منطق القرآن في دعم القضية الفلسطينية إلى جميع أنحاء العالم الإسلامي.
“بالتأكيد، لم تنتظر الجمهورية الإسلامية الآخرين ولن تنتظرهم، ولكن إذا اجتمعت الأيادي القوية للشعوب والدول الإسلامية للمساعدة والمؤازرة، فلن يستمر الوضع المروع للشعب الفلسطيني.
بقلم: علي عسكري
المصدر: صحيفة “وطن امروز” الايرانية