السيد سجاد إيزدهي الفكر السياسي

تقلبات “الفكر السياسي” في حوزة قم العلمية / السيد سجاد إيزدهي

خاص الاجتهاد: لفهم “اتجاهات الفكر السياسي في حوزة قم العلمية في القرن الماضي”، يجب علينا أولاً ملاحظة أن تطور الفكر السياسي الإسلامي يشمل بشكل أساسي مجالات مثل الفقه السياسي، والفلسفة السياسية، والكلام السياسي، والعرفان السياسي، والمنهجية السياسية.

وقد شهدت هذه المجالات تحولات نوعية وكمية على مر العصور المختلفة في الحوزة العلمية في قم، بما يتناسب مع متطلبات تلك الفترات.

آية الله الشيخ عبد الكريم الحائري وتأسيس الحوزة العلمية في قم

في عام 1300 هـ.ش(١٣٤٢ه ق)، أيْ في خضمّ فترةٍ من أشدّ فترات الاستبداد في تاريخ إيران الحديث وهو “الاستبداد الرضاخاني”، عمد آية الله الشيخ عبد الكريم الحائري إلى تأسيس الحوزة العلمية في مدينة قم. وواجه الشيخ الحائري في تلك الحقبة تحدّياتٍ جمة، فمن جهة لم يكنْ بمقدوره إسقاط النظام الاستبدادي القائم، ومن جهةٍ أخرى لم يكنْ يتسامح مع انتشار اللادينية في المجتمع.

على الرغم من اهتمامات الشيخ الحائري السياسية، والتي تجلّت في مباحثه حول ولاية الفقيه، لم تحظَ العلوم السياسية في تلك الفترة باهتمامٍ كبيرٍ داخل الحوزة العلمية في قم.

ويعود ذلك إلى جملةٍ من العوامل، منها:

الأجواء الخانقة: فرضَ النظام الاستبدادي قيودًا صارمة على مختلف الأنشطة، بما في ذلك الأنشطة السياسية.

وتَخَوّفَ الشيخ الحائري من أنْ يُعرّض تركيز الحوزة على العلوم السياسية لخطر القمع من قِبل النظام.

الأولوية لحفظ الدين: ركّز الشيخ الحائري في المقام الأول على حفظ الدين ونشر المعارف الدينية، وذلك من خلال تربية جيلٍ من العلماء الفضلاء. ورأى أنّ ذلك يُشكّل الأساس لإحياء الفكر الديني ومقاومة الاستبداد في المستقبل.

معارضة البعض للنهج السياسي: واجه الشيخ الحائري معارضةً من قِبل بعض الفئات، مثل بعض التجار، الذينْ كانوا يرون أنّ مهمة الحوزة تقتصر على التعليم الديني التقليدي، ولا ينبغي لها الانخراط في الشؤون السياسية.

محدودية تطوير اللغات الأجنبية:
من بين المبادرات التي واجهتْ معارضةً في تلك الحقبة، سعي الشيخ الحائري لتطوير تعليم اللغات الأجنبية في الحوزة العلمية. فقدْ آمنَ الشيخ بأهمية إتقان طلاب العلوم الدينية للغات الأجنبية لفهم القضايا التي تواجه العالم الإسلامي بشكلٍ أفضل، ولمواجهة التحديات الثقافية التي تُواجهها الأمة. بيدَ أنّ بعض الجهات، مثل التجار، عارضتْ ذلك بدعوى عدم جواز صرف أموال الحوزة على مثل هذه الأمور.

نتيجةً للعوامل المذكورة آنفًا، لمْ تحظَ التوجهات المختلفة في العلوم السياسية بِقوةٍ كبيرةٍ داخل الحوزة العلمية في قم خلال تلك الفترة.

بعد رحيل آية الله الشيخ عبد الكريم الحائري، واجهت الحوزة العلمية في قم ظروفًا صعبةً للغاية في ظلّ نظام الشاه البهلوي، ممّا عرّضها لخطر الإغلاق. ولذلك، تمّ تكليف ثلاثة مراجع عظماء بإدارة شؤون الحوزة وهم:

آية الله السيد محمد حجّت الكوه‌كمري
آية الله السيد محمدتقي الخوانساري
آية الله السيد صدرالدين الصدر

وواجهت الحوزة العلمية في قم خلال تلك الفترة العديد من التحديات، من أهمّها:

نقص الموارد المالية وغياب الهيكل الإداري المناسب، إلا أنه وعلى الرغم من هذه التحديات الكبيرة، بذل مراجع الثلاث جهودًا جبارةً للحفاظ على هويتها الدينية والعلمية.

لذلك لمْ تُساعد الظروف على تطور العلوم السياسية.

نشاط الإمام الخميني في تلك الحقبة:

على الرغم من ظروف الحوزة الصعبة في تلك الحقبة، برز الإمام الخميني (ره) كأحد أبرز الأساتذة في الحوزة، وقدم مساهماتٍ علميةٍ قيّمةٍ في مختلف المجالات.

في أعقاب هذه الفترة المضطربة من الإدارة، وصل آية الله البروجردي إلى قم بدعوة وجهود الإمام الخميني (قدس سره) وعدد من المراجع الآخرين، وتولى إدارة الحوزة العلمية في قم.

في فترة إدارته، سادت أجواء خاصة في المجتمع، مما أثر بدوره على الحوزة العلمية في قم وتفاعلها مع التحولات المجتمعية.

وجود الأجواء التنويرية ودخول العلماء ذوي الرأي المختلف إلى الحوزة العلمية حثّ آية الله البروجردي على الحفاظ على الطابع العام للحوزة في البداية، لكنه سرعان ما عمل على نقل أجواء الحوزة إلى المجتمع من خلال دروس ومناقشات لم تقتصر على مواضيع الحوزة والمجتمع.

على الرغم من التوسع الذي شهدته المناهج الدراسية في الحوزة العلمية خلال هذه الفترة، إلا أن هناك من عارض تطوير العلوم الحديثة، حتى في عهد آية الله البروجردي، واجه نمو وانتشار الفلسفة في الحوزة العلمية في قم مخالفة ومعارضة من قبل التجار.

شهدت تلك الفترة هيمنة خاصة على صانعي القرار في الحوزة العلمية، حيث تراكمت تجارب مشروطة المريرة من جهة، بينما وصلت المناقشات ذات الأفكار الجديدة والنظم الاشتراكية والفكر المادي إلى ذروتها في المجتمع من جهة أخرى.

لذا بذل آیة الله العظمی البروجردي جهدا كبيرا للحفاظ على أساس الحوزة وحضور الدين في المجتمع.

فی هذه الفترة، صدرت مجلة “مکتب الإسلام” و “مكتب التشيع” السنوية التي تركز على الشؤون السياسية والاجتماعية، فتوجه الدين تدريجياً نحو المجتمع ونما البعد الاجتماعي للحوزة العلمية. كما تم خلال هذه الفترة توسيع نطاق تعليم طالبات العلوم الدينية.

في نفس هذه الفترة، قام الإمام الخميني (قدس سره) بتأليف كتاب “كشف الأسرار” الذي تناول مواضيع كلامية. ولكن أدت أحداث محرم ١٣٤٢ش، وعاشوراء، والفيضية، ومباحث حول الكابيتولاسيون، إلى نفي الإمام الخميني (قدس سره). لم يتوقف الإمام الخميني (قدس سره) عن الكتابة والتدريس حتى أثناء فترة نفيه، حيث تم دخول ترجمة تقريراته إلى إيران لاحقًا، مما أثر بشكل كبير على المجتمع والحوزة العلمية في قم.

مع اقتراب موعد حدوث الثورة الإسلامية في إيران، ازداد انخراط الطلاب الشباب في مجال الكتابة، مما أدى فعليًا إلى اعتقال عدد منهم.

خلال هذه الفترة أيضًا، رسم آية الله مكارم الشيرازي خطوط الحكم الإسلامي في كتاباته. ففي عام 1975، تم تأليف كتاب “المدينة الفاضلة”، وكتب المرحوم آية الله روحاني “نظام الحكم في الإسلام” في عام 1976، كما تم تأليف ونشر كتاب “الحكم في الإسلام” خلال هذه الفترة أيضًا.

دخل “الحكومة العلوية” وكتاب “الولاية والزعامة” للعلامة الطباطبائي أيضًا في مجال الحوار العلمي. ثم شهدنا ترجمات جيدة من قبل كتاب بارزين بالعربية، بما في ذلك ترجمة كتب السيد قطب. ترجم الإمام الخامنئي كتاب “صلح الإمام الحسن (ع)” خلال هذه الفترة أيضًا.

وبالتالي، تأثر علم السياسة في الحوزة العلمية في قم بهذه الآراء والأعمال عشية الثورة الإسلامية في إيران.

أما في فترة ما بعد الثورة الإسلامية، حيث كانت هناك حاجة إلى تطبيق القوانين، فقد تم كتابة العديد من الأعمال حول ولاية الفقيه. تم تأليف كتب الفقه السياسي في شكل مجموعات كتب ودراسات فردية. بعد أن أعلن الإمام الخميني (قدس سره) أن على المجتهد أن يكون له رأي خاص في المجال السياسي، تم تدريب جيل جديد من الباحثين في مجال الفقه السياسي الذين كان لديهم نظرة شاملة للفقه والحكومة، مما ترك تأثيرات عميقة على المعرفة السياسية في الحوزة العلمية

وأخيرا يمكن القول إنه خلال الثلاثين عامًا الماضية، شهدت المعرفة السياسية في الحوزة العلمية في قم تحسنًا ملحوظًا في الجودة والعمق، حيث حققت المعرفة السياسية والفقه السياسي نموًا ملحوظًا. في بداية الثورة، كانت مؤسسة “راه حق” أهم مركز لهذه المناقشات، وبعد ذلك تم تأسيس جامعة باقر العلوم (ع) التي تخرج العديد من العلماء في مجال المعرفة السياسية والفقه السياسي

الآن، ظهرت مجالات فقه الأمن، وفقه الدولة، وفقه السياسة أيضًا على مستويات الدراسات العليا والبكالوريوس، وتم تدريب العديد من المفكرين في مجال الفلسفة السياسية، ونُشرت كتب ومجلات بارزة حول المعرفة السياسية. بالإضافة إلى ذلك، شهد علم الكلام السياسي في الحوزة العلمية في قم نموًا مع وجود علماء مثل آية الله الشيخ جعفر السبحاني.

لذلك، تمكنّا في السنوات الأخيرة من تحسين وتوسيع نطاق المعرفة السياسية والقضايا المتعلقة بالمجال السياسي في الحوزة العلمية في قم. ولا شك أن امتداد هذا المجال يمكن أن يخلق تحولات هائلة في المجالات السياسية والاجتماعية المختلفة للمجتمع.

 

 

هذا البحث هو النص المحرر والملخص لـ صحيفة “إيران” من كلمة الدكتور إيزدهي في ندوة “اتجاهات الفكر السياسي في حوزة قم العلمية في القرن الحديث”، الذي نظمته أمانة الذكرى المئوية لإعادة التأسيس حوزة قم العلمية وبالتعاون مع معاونية البحوث في الحوزة العلمية.

الكاتب: رئيس معهد بحوث النظم الإسلامية؛ حجة الإسلام والمسلمين السيد سجاد إيزدهي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky