ان الاستنباط الفقهي يستند الى القواعد الاصولية التي تمهد لهذه العملية، وتشكل المقدمات والأدوات اللازمة لصياغة الفتاوى، فلا استنباط للاحكام الشرعية من دون الاعتماد على الاصول، وقواعد اصول الفقه تصدر عن مسلمات وآراء اعتقادية، تتشكل في حقل التفكير الكلامي.
الاجتهاد: تغلغلت الرؤى العقائدية في مختلف العلوم الاسلامية، وظلت المفاهيم العقائدية، التي تبلورت في مقولات المتكلمين فيما بعد، احد ابرز مرجعيات ومفروضات المفسرين والاصوليين والفقهاء في صياغة آرائهم، واستند الكثير من الاختلافات في اجتهاداتهم الى التنوع في مواقفهم الاعتقادية.
وتخطى اثر المقولات الكلامية هذه المجالات، وامتد ليحسم اختيارات اللغويين لمعاني الالفاظ في مدوناتهم احيانا، فقد يرجّح احدُ اللغويين معنى محددا للفظ من عدة معان متداولة له، حين يكون ذلك المعنى قريبا من آرائه الكلامية، فيما يستبعد كل مالايقترب من شبكة آرائه العقائدية.
وبالرغم مما ناله المتكلمون من تبجيل واحترام في القرون الاولى، خاصة عند الخليفة المأمون في العصر العباسي، غير ان الاشتغال بعلم الكلام اضحى مغامرة بعد المحنة، فانحسر نفوذ المتكلمين في البلاط العباسي، وانصرف الدارسون الى الفقه، باعتبار الاختلاف في الفتاوى والاجتهادات الفقهية لايفضي الى مقاضاة او الخروج على” الاعتقاد القادري ” الذي جرى بموجبه تسييج المعتقد في اطار مغلق، لايصح تجاوزه او التفكير خارج مداراته. (1)
ومع ذلك بقي علم الكلام حيا، وواصل نموه وتطوره، وتكرست انساقه المعروفة بعد المحنة، فالنسق المعتزلي عرف كبار متكلميه ودونت اهم مصنفاته في الفترة اللاحقة على المحنة، وهي الفترة التي تكاملت وتبلورت فيها المنظومة الكلامية للاعتزال على يد ابي الحسين الخياط (ت300/ 913)، وابي علي الجًبائي (ت 303/ 915) وابنه ابي هاشم (ت321/ 933)، وابي القاسم البلخي (ت319/ 931)، وابي بكر بن الاخشيد (ت326/ 938)، وابي عبد الله البصري (ت369/ 980)، وابي اسحاق بن عياش (ت386/ 996)، وابي رشيد النيسابوري (ت400/ 1009)، والقاضي عبد الجباربن احمد (ت415/ 1025)، وابي الحسين البصري (ت436/ 1044)، وابي محمد الحسن بن متًويه (ت469/ 1076)… وغيرهم.
كما انتج التشيع الامامي ابرز متكلميه في هذه الفترة، مثل ابي سهل النوبختي (ت311/ 924)، والشيخ المفيد (ت413/ 1022)، والشريف المرتضى (436/ 1045)، والشيخ الطوسي (ت460/ 1067)، ونصير الدين الطوسي (672/ 1252). والعلامة الحلي (726/ 1306 ).
وعرف التشيع الزيدي كبار متكلميه زمن المحنة وبعدها، مثل القاسم بن ابراهيم الرسي (ت246/ 860)، والحسن بن زيد (ت270/ 884)، ، ويحيى بن الحسين الهادي الى الحق (ت298/ 911)، اما التسنن فقد ظهرت فرقه الكلامية وابرز متكلميه يومذاك، كأبي الحسن الاشعري (ت324/ 935)، وابي منصور الماتريدي (ت333/ 944)، وابي بكر الباقلاني (ت403/ 1012)، وابي بكر بن فورك (ت406/ 1015)، وابي المعالي الجويني (ت478/ 1085)، وفخر الدين الرازي (ت606/ 1209)، وعضد الدين الايجي (ت756/ 1355). (2)
لقد توارى المتكلمون عن الحضور في بلاطات السلاطين وأروقة قصور الخلفاء، واستأثر بعض الفقهاء والمحدثين بامتيازات وحضوة عالية في تلك الاماكن، وانصرف معظم الدارسين لتعلم الفقه والاستغراق في مذاهبه، والتعرف على مواطن الخلاف بين الفقهاء، وتعلم أساليب استدلالهم ومناهج الاستنباط المتعارفة لديهم، ومقدماتها من العلوم، حتى امسى الفقه ملاذا آمنا لمن يروم التفرغ للدراسات الشرعية.
الا ان المقولات الكلامية واصلت حضورها في التفكير الفقهي، وترسخت بالتدريج كمرجعيات يصدر عنها هذا التفكير، من خلال استعارة اصول الفقه لهذه المقولات، وتشكيل قواعد استنباط الاحكام الشرعية في ضوئها.
وواصلت مفاهيم علم الكلام نفوذها على الدوام في التفكير الاصولي، واستمرت مهيمنة على مسارات هذا التفكير، وموجهة له، وان كانت لاتتبدى بوضوح في مساحات عريضة منه، لكننا نعثر عليها مستترة خلف اصول الفقه.
فمثلا نلاحظ في كتاب “الرسالة” للامام للشافعي، وهو الكتاب الاول الذي وصلنا في اصول الفقه، والأهم في صياغته لقضايا ومنطلقات هذا الفن، ان المباحث التي بنى على اساسها قواعده وترسيماته هي مرتكزات عقائدية ، كالبحث في مفهوم الحكم، وتصور الله سيدا ونحن عبيده، وافتراض وجود احكام وأوامر ونواه صادرة من الله الى عبيده، وان الانسان اذا علم بأمر صادر من الله تجب عليه طاعته، باعتبار الله سيدا والانسان عبدا، والسيد هو من تجب طاعته على العبد، اي ان الدافع الذي يجعل الانسان يطيع الامر هو الاقرار لله بالسيادة، والاقرار بالسيادة قضية كلامية.
فعندما يقرر الاصوليون قاعدة: ((ان الأمر يدل على الوجوب)) تبتني هذه القاعدة على حكم العقل بلزوم امتثال الأمر، ان كان صادرا من ذروة عليا وجهة متعالية، اي من مولى، مثلما يصطلح القدماء، ومضمون المولوية هو وجوب الطاعة، فافتراض المولوية يعني افتراض حق الطاعة، وافتراض وجوب الامتثال، واستحقاق العقاب على المخالفة.
بمعنى ان مجرد علمنا بصدور الامر من المولى تعالى يعني انه حجة، والحجية هي وجوب الامتثال، فبمجرد افتراض صدور الأمر من مولى يعني وجوب الامتثال في رتبة سابقة. وهذه مسألة كلامية اعتقادية قبلية تستقي منها دلالة صيغة الأمر على الوجوب.(3)
وكان ابرز الاصوليين كالشريف المرتضى والشيخ الطوسي والفخر الرازي من علماء الكلام البارزين، بل ان المباحث الكلامية هي التي دفعتهم الى ابتكار علم الاصول، وكانت آراء المتكلمين تدرج في مؤلفات الاصوليين المبكرة، تحت عنوان “قول المتكلمين في المسألة”. (4)
وفي مراجعة عاجلة للكتابات المتأخرة في الاصول عند الامامية نلاحظ كثافة الاستناد الى القواعد الكلامية، واشتقاق القضايا والمفاهيم الاصولية منها، فمثلا صارت مجموعة من المقولات والقواعد الكلامية مرتكزات محورية في بناء فرضيات ونظريات وقواعد الاصوليين، مثل قاعدة (اللطف) و(الحسن والقبح العقليين) و(قبح العقاب بلا بيان) و(حق الطاعة) و(عدم التكليف بما لايطاق) و(عدم صدور القبيح عن الحكيم)(5).
كما استلهم الاصوليون مفاهيمهم من قواعد اخرى، مثل (الارادة التكوينية للواجب لاتكون منافية لاختيارية افعال الانسان)(6) و(إرادة الواجب علمه بالمصلحة والنظام الاحسن)(7) و(تخلف مراد الواجب عن ارادته التكوينية محال لا التشريعية)(8) و(حدوث الممكن بلا علة محال)(9) و(صفات الواجب متغايرة مفهوما ومتحدة مصداقا) (10) و(ما يلزم العجز والجهل في حق الواجب محال)(11) و (ما ينتهي الى ما لا يكون بالاختيار فهو غير اختياري)(12) و(وجوب دفع الضرر).(13)
ان الانتاج الفقهي هو الأثرى والأوسع من بين كافة انماط الانتاج المعرفي للمسلمين، فهو الانتاج الذي انخرط فيه معظم المهتمين بالدراسات الاسلامية في العصور الاخيرة، باعتباره المعرفة التي تعطي مشروعية لتلامذتها واساتذتها، وتضعهم في مرتبة من يمنح التفويض لغيره من الدارسين في الحقول الاخرى للمعرفة الدينية.
مضافا الى مايحصل عليه المشتغلون في الفقه من امتيازات ومكاسب من الاوقاف والفرائض المالية. لذلك اضمحلت دراسة المعقول في القرون الاخيرة، ولم يتفرغ التلامذة لدراسة المنطق والفلسفة وعلم الكلام، فضلا عن التصوف الفلسفي والعرفان النظري، واضطر المهتمون بهذه المعارف الى الاختباء والتكتم في تعلمها احيانا، أو دراستها على هامش دراستهم للفقه وأصوله، في بعض الحواضر العلمية المعروفة، التي عادة ما تغض النظر عن التعاطي معها.
لقد تراكم التراث الفقهي واتسع افقيا، فدونت الكثير من المتون الفقهية في كل مذهب، وتوالت الشروح والحواشي والتعليقات على كل متن، فتجاوزت احيانا عشرة آلاف صفحة في أكثر من أربعين مجلدا.
وكان الفقه يترهل وتستبد به مشكلات مزمنة، يعيد تكوينها على الدوام، وتتكرس أدواته وأساليبه المتوارثة في الاستنباط، ويكرر ذاته باستمرار، من دون ان ينفتح على فضاءات رحبة، تمنحه القدرة على مواكبة الحياة، والاصغاء لايقاع المتغيرات الشديدة التعقيد والتنوع.
وبالرغم من ان دعوات اعادة فتح باب الاجتهاد، واعادة بناء المدونة الفقهية انطلقت منذ أكثر من قرنين، بيد ان معظم هذه الدعوات تفتقر الى تشخيص المأزق الحقيقي وانسداد الآفاق اللذين انتهى اليهما الفقه، ومازالت تفسيراتها تبسيطية، تشدد على بعث اصول الفقه وتوظيف العناصر التقليدية في الاستدلال الفقهي.
وماخلا الاتجاه الذي اهتم باحياء مقاصد الشريعة، لا نعثر على محاولات جادة لتشخيص الانسداد الفقهي، واكتشاف مديات بديلة للاجتهاد، بل ان الاتجاه المقاصدي الحديث ما انفك غارقا في رؤى مقاصد الشاطبي، ولم يستطع الافلات من تقليده، واجتراح مقاربة اخرى في تجديد مناهج الاجتهاد.
وتعتبر محاولة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في دروسه التي ألقاها على طلبة جامع الزيتونة، ثم نشرها في كتابه الموسوم ((مقاصد الشريعة الإسلامية)) عام 1947، من افضل المحاولات جدية في التفكير المقاصدي الحديث، ومع ذلك فإنها تقف عند حدود التغيير الشكلي في أسلوب الممارسة التشريعية، كما انها رهينة الاطر المعرفية الكلاسيكية، والقيم السائدة ضمنها. (14)
ان اشكالية الفقه مندرجة في اشكالية التراث بأسره، من هنا ينبغي ان يعاد النظر في نسيج المعارف الموروثة المولدة للفقه، وتجري غربلتها واختبار صلاحيتها، ومعرفة امكاناتها وقدرتها على عبور زمانها ومكانها الخاصين، واستجابتها للوفاء بالمتطلبات التشريعية لكل زمان ومكان، ولا يصح ان نستثني القواعد الاصولية من كونها معرفة أنتجها عقل يعيش في سياقات تاريخية وثقافية ودينية محددة، وانما يجب ان نتعامل معها في ضوء تلك السياقات، اي انها معرفة تاريخية، لاتتوافر على امكانات استثنائية تتعالى بها على الواقع المنتجة في داخله، ونمط التفكير الذي صاغها، ومشاغل العصر المنبثقة فيه ومفاهيمه ورؤاه. وان لا معنى لتجديد الفقه من دون تجديد مجموعة المعارف والادوات المنتجة له.
لايمكن تجديد الفقه ما لم نستأنف النظر في نمط المناهج المتوارثة في دراستنا للدين، وللظواهر والمعارف المرتبطة به، وتجليات الدين في الحياة، فبدلا من ان يكون الدين هو المفسِّر الشامل للأشياء والكون والعالم، لابد ان يغدو ظاهرة تخضع لما تخضع له أية ظاهرة، من حيث إمكان فهمها، وتحليلها، واكتشاف مدياتها، ومنابع إلهامها، ومعرفة آليات اشتغالها (15).
ذلك ان الدراسات الحديثة للدين ليست في صدد بحث معياري أو الحديث عن الصدق والكذب والصحة والبطلان، بل يجد الباحث في هذا الاتجاه نفسه امام ظاهرة فريدة، هي الدين، فينهمك في فهمها واكتشافها.
ان وصف الظواهر الدينية وتفسيرها من أهم أهداف البحث في الرؤية الجديدة للدراسات الدينية. بينما نجد في الرؤية التقليدية ان البحث الديني يستهدف فهم تعاليم الدين وتفسيرها، وتبريرها، والبرهنة على صدقها. (16)
وليس هدف هذه الرؤية جحود الدين، أو انكار وظائفه الروحية والمعنوية والنفسيه والجمالية والرمزية والاجتماعية، وانما هدفها توظيف المكاسب الراهنة للعلوم في دراسة وتحليل ومساءلة التجليات والتعبيرات والظواهر الدينية في حياة الفرد والمجتمع، واكتشاف منابعها وحدودها وآثارها ومعطياتها.
وتحليل طبيعة المعرفة الدينية، وتشخيص مصادر تشكيلها، وكيفية تكونها، والعلاقة بينها وبين مختلف المعارف العلمية والانسانية، وكيف ان تطور العلوم الطبيعية والانسانية يقود الى تحولات هامة في المعرفة الدينية، ويفضي الى نمو وتكامل التفكير الفقهي، فإن فهم الشريعة ليس مستقلا عن فهم الطبيعة، بمعنى ان للفهم والمعرفة في كل عصر هندسة خاصة، والفهم الديني ابن عصره، وان اضافة ضلع أو إنقاص ضلع من هندسة المعرفة البشرية المتعددة الاضلاع، يغيّران شكل هذه المعرفة.
ذلك ان العلوم الجديدة حين تجتاح عالمنا لاتترك معارفنا السابقة على حالها، وانما تتصرف في مضمونها، بحيث تسلحنا بمنظار بديل يعطيها صورة متجددة. وان المعرفة الدينية كأي معرفة أخرى، هي حصيلة جهد البشر وتأملاتهم، وهي دائما مزيج من الآراء الظنية واليقينية، والصواب والخطأ، ولاشك في ان الوعي البشري كلما تنامى واعتمد على مقدمات وأدوات علمية صحيحة، اتسعت لديه مساحة الصواب وتقلص الخطأ.
وهذا لا يعني ان الوحي الذي اتى به الانبياء يكمله البشر، وانما يعني ان فهم البشر لمضامين الوحي وكلماته يتكامل تبعا لتطور العلوم والمعارف البشرية، أي ان المقدس والكامل هو الوحي، اما الفهم البشري له فإنه ليس كاملا ولا مقدسا. (17)
ان الدين هو الذي يتمتع بالكمال، اما الفكر الديني ومايفهمه البشر من الدين في مختلف البيئات الثقافية والاجتماعية فليس كذلك.
والقراءة المتأنية العميقة للميراث الفقهي والاصولي ترينا ان ما تراكم من قواعد اصولية وفقهية وفتاوى انما هي معطيات معرفية منجزة في سياقات تاريخية وثقافية واجتماعية خاصة، ولايمكن تجريدها من بصمات العصر المنبثقة فيه، مثلما لا يصح فصلها عن المشروطية الزمانية والمكانية والثقافية لمن انتجها، فهي منخرطة في تاريخ اصحابها، وليست حقائق أو جواهر مثالية متسامية على الواقع، كما انها ليست عابرة للمحددات والظروف والمحيط الذي تبلورت في داخله، انها مرتهنة بالفضاء الخاص وخلفيات الفقيه والاصولي الذي قالها أو دوّنها، فالقبليات و(المسبقات الفكرية لكل فقيه، ونمط معرفته بالعالم الخارجي المحيط به، تؤثر في فتاواه، بحيث ان فتوى العربي تفوح منها رائحة العرب، وفتوى الاعجمي رائحة العجم، وفتوى القروي رائحة القرية، وفتوى المدني رائحة المدينة)(18) حسب تعبير الشيخ مرتضى المطهري.
ان الفقيه والاصولي عادة ما يصدر في النتائج التي يخلص اليها، عن النظام المعرفي السائد في عصره، وعن الحاجات والضرورات والمصالح التي كانت تفرض نفسها في ذاك العصر(19).
فانسان اليوم هو انسان نظريات ومتطلبات وظروف اليوم، وانسان الأمس هو انسان نظريات ومتطلبات وظروف الأمس، وليس بوسع الانسان ان يتجرد منها أو يفكر خارجها، بلا ان يتأثر بها بدرجة ما. والمنظومة الكلامية هي التي تحدد نظرة الانسان للعالم، وتصوغ رؤيته الكونية، فالمواقف حيال الالوهية لاتتطابق عند المتكلمين والفلاسفة والمتصوفة والعرفاء وغيرهم، وهكذا مفهوم الانسان ونمط علاقته بالله تتشكل في اطار رؤيتهم الكونية، فمثلا من يستند على مباني أرسطو في اثبات وجود الله، لايستطيع ان يفهم الله في القرآن بنحو لا ينسجم مع تلك المباني(20)، وهكذا من يتوكأ على منظور المتصوفة والعرفاء في اثبات وجود الله وعلاقة الانسان به، لا يمكن ان يفهم النص بشكل مغاير لذلك المنظور.
هكذا يستقي فهم النصوص وتأويلها منظوراته من الرؤية الكونية، ويتحدد في فضائها، ويمد علم الكلام الفقه واصوله بالرؤى والمفروضات التي تشكل وجهة نظره حيال مجالات الفقه وحدوده، وامكانات الامتداد بالاحكام الشرعية زمانيا، وفي مختلف الظروف والمناسبات، أو ما يصطلح عليه بالاطلاق الأزماني والأحوالي للأحكام.
ويشدد اصول الفقه على ان اطلاق الاحكام وشمولها لكافة العصور ومختلف الظروف والحالات مستفاد من الأدلة اللفظية الواردة في الكتاب والسنة، اذ ان عدم تقييد الادلة وتخصيصها يدل على استيعابها وعمومها، بناءً على مايعرف لدى الاصوليين في هذا العصر بقرينة الحكمة، وهي قرينة عامة يفصح عنها حال المتكلم، في انه في مقام بيان تمام مراده بخطابه، فما لم يقله لم يرده، ولما لم يقيد ما نطق به، اذن هو لايريد المقيد، وانما مراده المطلق، بمعنى ان الظهور الحالي الذي تعتمد عليه قرينة الحكمة مفاده هو ان لايكون هناك قيد من القيود دخيلا في المراد الجدي للمتكلم الا ويبينه ويذكره في خطابه، ذلك ان ظاهر حال المتكلم هو انه في مقام بيان تمام مراده الجدي بكلامه،
فالمعاني التي يريدها يفصح عنها في حديثه، بينما مالايقوله في حديثه لايريده، أي ان كل ما يكون قيدا في مقصوده عادة ما يقوله في الألفاظ الصادرة عنه، فإن لم يقله فهو ليس قيدا في مقصوده. وهكذا يثبت الاستيعاب والاطلاق من خلال نفي القيد بقرينة الحكمة، ذلك ان نفي القيد يعني اثبات الطبيعة المجردة لموضوعات الأحكام التي تكون صالحة للانطباق على اي حالة من حالاتها، أو فرد من أفرادها، في كل زمان ومكان.
وبتعبير اصول الفقه تكون موضوعات الأحكام مأخوذة بنحو القضايا الحقيقية الشاملة، فمتى ما توافرت تلك الحقيقة في أي زمان أوأية حالة يثبت لها الحكم، وليست الموضوعات مأخوذة بنحو القضايا الخارجية الخاصة بزمان معين، وبذلك يستدلون على أبدية الأحكام وعمومها لكافة الأزمان والأحوال .(21)
لكن هذا التصور غير مكتمل، ذلك ان ما يقرر شمول الأحكام واطلاقها الأزماني والأحوالي أبعد مدى مما تكشف عنه الادلة اللفظية، فانه يحيل الى ان ذهنية الفقيه مشبعة بمجموعة مسلمات ومفروضات، تشكل بأسرها خلفيات ومسبقات خفية وغير معلنة، لم يلتفت اليها الفقيه حينما يمارس عملية الاستنباط، فهو لايستخلص فتاواه وآراءه من تلك النصوص المتاحة له، بل ان ضيق وسعة معاني ومضامين النصوص، واستيعابها أو اقتصارها على موارد محددة، تنتجه عدة مقولات كلامية يعتبرها مسلمات، وتؤطر فهمه للانسان وطبيعة علاقته بالله، والوحي والنبوة وختم النبوة، والاحكام الشرعية.
فأبدية الأحكام وامتدادها تصدر عن المواقف الكلامية بشكل غير مباشر، وان كانت مباشرة بالنظرة الأولية تبدو انها مستقاة من مداليل الأدلة اللفظية.
فعندما يفترض محمد اقبال مفهوما معينا عن النبوة وختمها، يقوده ذلك المفهوم الى نتيجة مغايرة في اطلاق وأبدية الأحكام لكل العصور، ففي ومضة سريعة يوجز اقبال رؤيته لختم النبوة ،بصيغة لا تتطابق مع المفهوم المتداول في علم الكلام، قائلا : (ان النبوة في الاسلام لتبلغ كمالها الاخير في الحاجة الى الغاء النبوة نفسها.
وهو امر ينطوي على ادراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود معتمدا الى الابد على مقود يقاد منه. وان الانسان لكي يحصَل كمال معرفته لنفسه، ينبغي ان يترك ليعتمد في النهاية على وسائله هو).(22)
ان هذا المفهوم لختم النبوة يفترض ان الحاجة للنبوة تختص بمرحلة الطفولة البشرية، قبل ان ينضج العقل، وتتفتح ملكة النقد لديه، وهو مفهوم يرتكز على (فهم ختم النبوة انها ختم من الخارج، اي ان هذا الختم يضع حدا نهائيا لضرورة اعتماد الانسان على مصدر في المعرفة، ومعيار في السلوك، مستمدين من غير مؤهلاته الذاتية.
انه ايذان بانفتاح عهد جديد في وجه البشرية قاطبة، انه تدشين لمرحلة جديدة في التاريخ، لايحتاج فيها الانسان، وقد بلغ سن الرشد، الى من يقوده، والى من يتكئ عليه في كل صغيرة وكبيرة. وتكون وظيفة نبي الاسلام في هذه الحالة ارشاد الانسان الى مسؤوليته الجديدة، وتحميله تبعات اختياراته، مثله اذن مثل من اغلق باب بيته- الذي هو بالنسبة اليه بيت النبوة، بيت جميع الانبياء- وختمه من الخارج، فلم يبق سجينا له، وساح في ارض الله الواسعة ).(23)
وتستقي رؤية محمد اقبال لتطبيق الشريعة على الاجيال اللاحقة من تصوره هذا للوحي والخاتمية، فهو يحلل طريقة النبي واسلوبه في تطبيق الاحكام على الامة في عصر البعثة، واعتبارها مثالا نموذجيا لما يأتي، فالمقصود كما يرى ليس هو تطبيق الاحكام، وانما مايمكن استخلاصه من مؤشرات قيمية عامة، ورفد وتنمية المشاعر المتسامية والخبرة والتجربة الدينية، يكتب اقبال: (ان القرآن ليس مدونة في القانون، فغرضه الرئيسي هو ان يبعث في نفس الانسان اسمى مراتب الشعور بما بينه وبين الله وبينه وبين الكون من صلات. والطريقة التي يتبعها النبي، هي ان يعلم أمَة معينة، ويتخذ منها نواة لبناء شريعة عالمية.
وهو في هذه الحالة يؤكد المبادئ التي تنهض عليها الحياة الاجتماعية للبشر جميعا، ويطبقها على حالات معينة في ضوء العادات المميزة للامة التي هو فيها.
واحكام الشريعة الناتجة عن هذا التطبيق- كالأحكام الخاصة بعقوبات الجرائم- هي احكام يمكن ان يقال عنها انها تخص هذه الأمة. ولما كانت هذه الأحكام ليست مقصودة لذاتها فلا يمكن ان تفرض بحرفيتها على الاجيال المقبلة).(24)
ويشدد محمد اقبال على التجربة الدينية الباطنية، ويعتبرها احد مصادر المعرفة الثلاثة، بموازاة الطبيعة والتاريخ، ويشير الى استغناء البشرية في العصر الحديث عن الحاجة المباشرة الى تعاليم الانبياء، وكأن الانسان يستغني بالتدريج عن النبي، كما يستغني المريض عن الطبيب، والطفل عن حضانة الأبوين.
فالانسانية تتكامل تدريجيا، وتجتاز مرحلة عقيب اخرى، كيما تنتهي الى مرحلة لاتحتاج معها تعاليم الانبياء. ذلك ان الانبياء بشروا بتعاليمهم ونشروها بين الناس، وأضحت متاحة كالماء والهواء في متناول الجميع، فانتشرت وترسخت تلك التعاليم بنحو صارت حياة الانسان مهتدية بهدي الانبياء، انها بمثابة المؤشرات والمنطلقات العامة، التي انضجت الوعي، فبلغ العقل من خلالها مرتبة الرشد، وتحررت معها ارادة الانسان.(25)
من هنا يتجلى ان القول بأبدية الأحكام وعمومها لكافة العصور، يرتكز على مسلمات الفقيه وقبلياته الذهنية المضمرة، بمعنى ان المضمرات الكلامية للفقيه او ايديولوجيته ورؤيته الكونية، ونظرته للانسان، والفضاء الثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي المنخرط فيه، كل ذلك يساهم في تحديد خياراته في الفتوى، ويدعوه لتبني وانتخاب احد المواقف دون سواه.
ويرتبط نمط فهم النصوص بتطلعات الانسان ومايترقبه من الدين، فالانسان الذي يتوقع من النص استيعابه للنظم الاجتماعية والمعارف والعلوم الطبيعية والانسانية، نراه ينشد انتزاع كافة النظم والمعارف والعلوم من الكتاب والسنة، خلافا لمن لايترقب ذلك، ويفترض ان النص يستوعب مايرتبط بهداية الانسان وسعادته الاخروية فقط، وان الدين ليس بديلا عن العقل ، او التجربة البشرية، وان العقل ومايتراكم من خبرات عبر التاريخ، هو مايتكفل ادارة وتدبير وتنمية الحياة البشرية.
فمثلا يذهب أحد أصحاب هذا الموقف الى ان ( مايتضمنه الكتاب والسنة بشأن العلاقات العائلية والحكومية والقضاء والعقوبات والمعاملات، وما اليها من امضاءات بحتة أو تهذيبات وتوجيهات، لم يكن الهدف منها تقنين العلاقات العائلية او الاجتماعية او مايتعلق بشؤون الدولة، بقوانين ثابتة لاتتغير.
فالثابت والخالد في هذه الامضاءات هو القيم، انها هي المقصودة والمستهدفة من عملية التعديل التي تمت عبر الكتاب والسنة. وهي المعيار والملهم لاجراءات من هذا القبيل. ان هذه القيم ليست امورا مستقلة، بل هي منبثقة من ضرورات السلوك التوحيدي، فتفسر بجوارها، وتكتسب قيمتها منها).(26)
لم ينزل القرآن ليشطب على الحضارات والثقافات الانسانية، وانما جاء ليسبغ على ماهو موجود طابعا جديدا يسير به صوب التوحيد، كما ان الهداية الالهية لاتبلغ للانسان عن طريق الانبياء وحسب، وانما الحلول الانسانية لمعضلات الحياة وترتيب شؤونها هي الأخرى هداية الهية.
ولم يكن الانتشار السريع للاسلام، وتغطيته لرقعة واسعة تمتد من الاندلس الى الصين، بعد اقل من قرن على ظهوره، الا بسبب اعترافه بالتعبيرات الثقافية المتنوعة للمجتمعات، وقبوله الاساليب المتفاوتة للحياة الانسانية لدى الشعوب. وعدم اصراره على طمسها او مناهضتها، والاقتصار على ترشيدها وتقويمها بالقدر الذي يضمن عدم تنافيها مع قيم الاسلام وعقيدة التوحيد.(27)
وقد استطاع الاسلام ان يستوعب ويهضم طائفة من أشكال التمدن والتنظيمات والتدبيرات والمعارف والآداب والفنون السائدة في تلك المجتمعات، ويسكبها في اطار واحد، ويصوغ منها نموذجا عالميا للتمدن والتحضر.
تأسيسا على ماسبق يمكن القول ان الاستنباط الفقهي يستند الى القواعد الاصولية التي تمهد لهذه العملية، وتشكل المقدمات والأدوات اللازمة لصياغة الفتاوى،فلا استنباط للاحكام الشرعية من دون الاعتماد على الاصول، وقواعد اصول الفقه تصدر عن مسلمات وآراء اعتقادية، تتشكل في حقل التفكير الكلامي.
وبكلمة موجزة: ان الاجتهاد الفقهي يعتمد على الاجتهاد الاصولي، ولا إجتهاد في اصول الفقه ما لم يتجدد علم الكلام، أي انه لامعنى لتحديث الفقه من دون تحديث مرجعياته الكلامية.
تجدر الاشارة الى ان هذه الورقة لاتتحدث عن تاريخ نشأة الفقه أو أصول الفقه أو علم الكلام، ولا تؤرخ لولادة ايا من هذه المعارف، او تبحث فيمن هو سابق أو لاحق في تدوينه على سواه، وانما هي محاولة للكشف عن شيء من المضمرات والقبليات والمسبقات والمسلمات والمرجعيات الاعتقادية، الثاوية والمستترة في الذهنية الفقهية عند الاستنباط, والتي عادة ما تتحدد في اطار الرؤية الكلامية للفقيه.
الهوامش
1ــ ابن الجوزي. المنتظم في تاريخ الملوك والامم. بيروت: دار صادر، ج7: ص287، ج8: ص 109-110، ج9: ص 124.
2- محمد بوهلال. اسلام المتكلمين. بيروت: دار الطليعة، 2006، ص 20-22.
3- عبدالجبار الرفاعي. محاضرات في أصول الفقه، ج1، بغداد: مركز دراسات فلسفة الدين، ط4، 2007، ص 55ـــ 56.
4- المصدر السابق. ص346.
5- الطوسي. العدة في اصول الفقه. قم: مؤسسة البعثة، 1417، ص 194.
– المحقق الحلي. معارج الاصول. تحقيق: محمد حسين الرضوي. قم: مؤسسة آل البيت، 1403، ص112.
– العلامة الحلي. منتهى المطلب. تبريز: 1333، ج1: ص148.