زيارة الأربعين

زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) في الأربعين / الشيخ حيدر حب الله

الاجتهاد: السؤال: يستدلّ البعض على صحّة رواية الأربعين وغيرها من الروايات الواردة في شأن زيارة الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ في الأربعين ، بالقول: إنّ هذه الروايات مشهورة بين الفقهاء ولو المتأخّرين منهم. ما مدى صحّة ذلك؟ (أحمد، مسقط).

الجواب: لم أعثر ـ فيما يتعلّق بزيارة الأربعين ـ إلا على ما يلي:

الرواية الأولى: ما عن أبي محمّد العسكري (ع)، أنّه قال: (علامات المؤمن خمس: صلاة الخمسين، وزيارة الأربعين، والتختّم في اليمين، وتعفير الجبين، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم). وهذه الرواية وردت في كتاب مصباح المتهجّد للشيخ الطوسي ص788، وكذلك في تهذيب الأحكام ج6 ص52، وهذا أقدم مصدر لها، وهي رواية مرسلة، بل لا سند لها أساساً؛ لأنّ الشيخ الطوسي قال: (رُوي)، وبين الشيخ الطوسي المتوفى سنة 460هـ والامام العسكري (ع) المتوفى سنة 255هـ، حوالي 200 عام تقريباً، فلا تكون الرواية معتبرةً سنداً، ولم يقل أحدٌ من العلماء المحقّقين في الرجال والحديث بصحّة مراسيل الشيخ الطوسي.

هذا وقد أورد المشهديّ (في كتاب المزار: 352) هذه الرواية قائلاً: وبالإسناد عن أبي هاشم الجعفري، عن أبي الحسن العسكري.. والمشهدي نفسه لم تثبت وثاقته عند مثل السيد الخوئي، ولم نعرف إسناده إلى الجعفري.

الرواية الثانية: خبر صفوان الجمّال، عن الإمام الصادق (ع)، قال: قال لي مولاي الصادق ـ عليه السلام ـ: (في زيارة الأربعين تزور ارتفاع النهار، وتقول: السلام على وليّ الله وحبيبه.. ـ وذكر الزيارة، إلى أن قال ـ: وتصلّي ركعتين، وتدعو بما أحببت، وتنصرف) (راجع: تفصيل وسائل الشيعة 14: 487 ـ 479). وهذه الرواية أوضح دلالةً من الأولى (لأنّ الأولى قد يتوقف في المقصود من الأربعين فيها، هل الأربعين مؤمن أو أمر آخر؟

وإن ناقش بعضهم في هذا التوقّف من حيث إنّه لو قصد أربعين مؤمناً لكان ينبغي أن يقال: زيارة أربعين، وليس: زيارة الأربعين). بينما الثانية ليست كذلك على الإطلاق، ولكنّ الرواية الثانية ضعيفة السند أيضاً؛ لأنّ فيها محمد بن علي بن معمّر، وقد حاول بعضهم توثيقه بأنّه من مشايخ الكليني وهذا لا يثبت توثيقاً، أو بأنّه من مشايخ الإجازة، والأمر كذلك، أو بأنّ ابن النديم عدّه من جملة من تحدّث عنهم من فقهاء الشيعة ومشايخهم (فهرست ابن النديم: 278)،

وهذا ليس بدليل؛ لأنّ المدح بالعلم لا يفيد التوثيق، كيف وقد عدّ ابن النديم هناك سهل بن زياد الآدمي الذي ورد تضعيفه صريحاً في كلمات غير واحد من علماء الإماميّة القدامى، وابن النديم ليس بصدد التوثيق، بل هو بصدد ذكر من له تصنيف من الشيعة، وقد حقّقنا في محلّه أنّ مطلق المدح لا يوجب تصحيح السند، بل لابدّ أن يكون مدحهم للراوي من جهة وثاقته أو بما يرجع إلى تصحيح نقله، وإلا فلو قالوا: فلان متضلّع في اللغة، فهو وإن كان مدحاً لكنّه لا يوجب حجيّة نقله في مجال الحديث، ولهذا خالفنا ما ذهب إليه السيد الخوئي في قوله بحجيّة الحديث الحسن، وقلنا لابدّ من التفصيل فإن رجع المدح إلى جهة النقل صار الحديث معتبراً وإلا فلا،

وقد نقل لي بعض حضّار درس الشيخ الوحيد الخراساني ـ حفظه الله تعالى ـ مؤخّراً أنّ سماحة الشيخ أشكل على السيد الخوئي بهذا الإشكال أيضاً في مسألة حجيّة الحديث الحسن.

ويضاف إلى مشكلة ابن معمّر وجود علي بن محمد بن مسعدة في السند وهو مهمل، وإن كان إهماله لا يضرّ بصحّة الرواية؛ لأنّ الحديث روي عنه وعن ابن فضال معاً، كما أنّ هناك في السند سعدان بن مسلم، وهو مجهول الحال، وقد وثقه السيد الخوئي بناء على ورود اسمه في كتابي كامل الزيارة وتفسير القمي ولم يثبت صحّة هذين القولين في التوثيق، كما أنّ القول بأنّ سعدان بن مسلم هو نفسه عبد الرحمن بن أبي نجران (واسمه عمرو بن مسلم) لم نعثر له على وجه يصحّحه، فلم يتعرّض لذلك أحد من علماء الرجال القدامى، كيف وقد ترجم الشيخ الطوسي والنجاشي لهما معاً بترجمتين فيبعد أن يكونا شخصاً واحداً، فنستنج من ذلك أنّ الرواية ضعيفة من حيث السند.

الرواية الثالثة: ما جاء في المصباح وغيره: (في يوم العشرين من صفر كان رجوع حرم الحسين عليه السلام من الشام إلى مدينة الرسول، وهو اليوم الذي ورد فيه جابر بن عبدالله الأنصاري إلى زيارة الحسين ـ عليه السلام ـ وهو أوّل من زاره من الناس) (الطوسي، مصباح المتهجّد: 787؛ والمفيد، مسار الشيعة: 46)، وهذه الرواية مرسلة، بل يمكن القول بأنها لا سند لها في كلا المصدرين.

وبصرف النظر عن السند فإنّ الرواية تتكلّم عن مصادفة مجيء حرم الإمام الحسين من الشام إلى المدينة المنوّرة مع وجود جابر الأنصاري عند الإمام الحسين في كربلاء، أمّا هل أنّ في ذلك سنّة شريفة شرعية واضحة ينبغي الاستمرار عليها إلى يوم القيامة بهذا التوقيت، فهذا ما يحتاج إلى دليل، إذ الرواية لا تتحدّث عن هذا الموضوع لا من قريب ولا من بعيد.

هذه هي النصوص التي عثرتُ عليها في هذا الموضوع، وقد وجدت بعض الكتّاب المعاصرين يستدلّ بأنّ فعل الإمام زين العابدين (عليه السلام) وجابر بن عبد الله الأنصاري هو فعلُ معصوم، ليستدلّ به على الاستحباب، إلا أنّ هذا الكلام فيه شيء من الغرابة؛ لأنّ المعصوم يدلّ فعله على الجواز لا الاستحباب كما حقّقه علماء الأصول، إلا إذا قامت قرينةٌ، من قبيل تكرّر الفعل، كما أنّه لو كان المعصوم في سفر مثلاً وصلّى، فإنّ ذلك لا يدلّ على استحباب الصلاة في تلك اللحظة، بل الاستحباب المطلق الذي لا مخصّص له، وهنا البحث في خصوصيّة الأربعين لا في استحباب زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) ولو في يوم الأربعين، فهذا ممّا لا شك فيه من الروايات المتواترة الكثيرة.. والكلام كلّه في ما لو كانت الروايات الواردة في التخصيص بالأربعين بعنوانه ثابتة، إلا أنّها غير صحيحة السند كما رأينا.

وأمّا ما ذكرتموه في سؤالكم، من أنّ ذلك يمكن الاستدلال عليه بالشهرة بين المتأخّرين، فإنّ الشهرة ـ بغضّ النظر عن النقاش في أصل حجيّتها ـ لا تشمل، كما هو المعروف بين المحقّقين، الشهرة القائمة بين خصوص المتأخّرين، حيث لا تكشف عن الموقف الشرعي.

وبناءً عليه، نستنتج أنّ زيارة الأربعين بعنوانها لا يمكن توثيقها عن طريق الروايات، التي لا تتجاوز على أبعد حدّ الثلاث روايات، الأولى ليس لها سند وهناك من يناقش في دلالتها، والثانية في سندها ثلاثة مجاهيل، والثالثة لا دلالة لها على الموضوع أساساً، ولا يحرز عمل الفقهاء بهذه الروايات من غير باب قاعدة التسامح حتى يكون عملهم جابراً لضعفها السندي، بناءً على قاعدة الجبر السندي.

نعم، يمكن الاستدلال بعمومات زيارة الإمام الحسين (ع) والواردة بالتواتر، فيزور المرء في العشرين من صفر بنيّة الفعل المستحب، دون أن يقصد تعنون الزيارة بعنوان خاصّ، اسمه زيارة الأربعين، اللهم إلا إذا بني على قاعدة التسامح فيؤخذ بالرواية الثانية، من حيث اشتراط جريان القاعدة بوجود دلالة، الأمر الذي يتوفّر بشكل أوضح نسبيّاً في الرواية الثانية، إلا أنّ قاعدة التسامح لم تثبت وفاقاً للسيّد الخوئي.

وأمّا القول ـ على ما نقل ـ بأنّ زيارة الأربعين مأخوذة من اليهود، فهذا ما لم يثبت بدليل، وحتى لو تشابهنا مع اليهود في ذلك فلا يكون هذا بنفسه دليلاً على أنّها تسرّبت منهم إلينا، بما يفضي إلى نوع من تشويه صورة زيارة الأربعين، ما لم يقم دليل على ذلك، إذ المشتركات بين الإسلام واليهودية والنصرانية ليست بالقليلة، فالقضيّة في تقديري تابعة للأدلّة، والأدلّة لم تنهض على استحبابها بعنوانها، لكنّها لا تمنع عن الزيارة في هذا الوقت أخذاً بالعمومات وقصداً لرجاء المطلوبيّة.

وكلمتي الأخيرة أقولها: لا داعي للإصرار على إبطال بعض الأمور الحسنة في حدّ نفسها وكأنّه يراد تهديم الشعائر والأعراف، وأرى استبدال ذلك بتوضيح حيثياتها الشرعيّة للناس، ليعرفوا أنّ القصد يكون للعنوان العام لا للخاص، إلى جانب كفّ الطرف الآخر عن اتهام من يريد أن يناقش في هذه الأمور بطريقة علميّة والتشكيك في تديّنه وعقيدته،

وبدل ذلك كلّه حبذا لو نفكّر جميعاً في كيفية وضع برامج نهضويّة واعية توعوية وتبليغية، لتحويل زيارات الإمام الحسين عليه السلام ـ وغيرها ـ إلى مؤتمر إسلامي شعبي واسع لكلّ المؤمنين الحاجّين إليه من أرجاء المعمورة، فتزدان الطرقات المكتظة بالزوار بمحافل الأدب والشعر والنثر الحسيني والثوري، وبالبرامج الدينية والاجتماعيّة، وبحلقات التوعية الثقافية، وبجلسات العبادة والروحانية، وبلقاء المرجعيات والشخصيات الكبيرة مع الناس والجماهير، تستمع همومها وقضاياها وتتواصل معها وتعظها وتوجّهها، كما كانت عادة أئمّة أهل البيت في كلّ عام في الحجّ والعمرة و..

إنّ هذا الأمر بات ضرورةً اليوم للمزيد من الاستفادة من هذه المناسبات الدينية، وعدم تركها تمرّ دون أخذ أقصى أشكال التزوّد منها للجميع. إنّنا بحاجة إلى المزيد من ترشيد مناسباتنا الدينية وتأمين أفضل توظيف نافع لها لقضايانا الاجتماعية والسياسية والأخلاقيّة اليوم، والحيلولة دون تحوّلها إلى مجرّد عادات لا تحوي مضمونها أو طقوس وبروتوكولات نمرّ عليها مرور الكرام، فيصير حالنا ـ والعياذ بالله ـ كحال الصائم الذي وصفه الحديث النبويّ الشريف بقوله: (ربّ صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش).

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky