الاجتهاد: عندما نشتري من المتاجر عصيراً معلّباً فمن الشائع أن نجد هذه العبارة مكتوبة على العلبة: «معالج بالحرارة العالية»، فما هو معنى هذه العبارة؟ إعداد: نجوان نجاح الجدة
إن المعنى المراد بهذه العبارة يمكن أن يُراد به أنَّ العصير قد عومل بعملية ( البسترة )، كما يُمكن أن يُراد به أن العصير قد عومل بعملية (التعقیم)؟
فما البسترة؟ وما التعقيم؟ وهل للمعالجة تأثير في حلّية العصائر أو بعضها مما يتطلّب استبيان رأي الشارع فيه؟
بيان المراد بالبسترة والتعقيم؟
أما البسترة: فهي عملية اقترحها “لويس باستور”، وتهدف إلى تقليل كمية الكائنات المجهرية الموجودة في السوائل والأطعمة مع الحفاظ على وجود الفيتامينات فيها. البسترة عملية تسخين مدروسة لا تسعى إلى التخلص من جميع الميكروبات.
وبخلاف هذا التعقيم؛ فهي عملية تهدف إلى التخلص من سائر الميكروبات الموجودة، ونتيجة لهذا فبعض العناصر المفيدة – ومنها الفيتامينات – ستدمّر بالمعالجة الحرارية.
وبعبارة أخرى: البسترة ترفع احتمال عدم المرض بدرجة معقولة؛ فإنها تدمّر الكثير من الميكروبات، ولا بد أن يدخل ضمن تلك الميكروبات ممّا يكون سبباً للإصابة بالمرض.
أما التعقيم فيُفترض به ألّا يؤدي فقط إلى رفع احتمال عدم المرض، بل أن يُقدّم ضمانة قطعية نوعاً ما بعدم الإصابة به؛ لأنه يقضي على الميكروبات جميعاً.
إذن نسأل: لماذا لا يُكتفى بعملية التعقيم؟ وما الحاجة إلى الجهد المدروس المتمثل بالبسترة؟
الجواب: لأن التعقيم يقضي على عناصر أخرى علاوة على الميكروبات، ومنها الفيتامينات كما قلنا، كما أن التعقيم يؤثر بشكل سلبي على جودة طعم المنتوج، الأمر الذي سيؤثر أيضا على فاعلية تسويقه، وبهذا يمكن القول أن التعقيم له من الخصائص ما تنخفض به احتمالية اللجوء إليه من قِبَل مصانع الأغذية، لكن هل تبقى مع هذا احتمالية يُعتدّ بها؟
ريّما، وربّما لا. لكن يُسجّل: بأن تعقيم الأكل والشرب على المستوى التجاري غير شائع بسبب ما ذكرناه آنفا من تأثير على جودة طعم المنتوج.
أنواع البسترة
وعملية البسترة شائعة، وقد ذكروا لها أنواعاً عدّة، منها: البسترة عالية الحرارة، وفي هذا النوع يُمرّر السائل عير أنابيب مسخّنة من الخارج بواسطة الماء الحارّ لدرجة ۷۱٫5 إلى 74 درجة مئوية لمدة تصل من 15 إلى 20 ثانية.
ومن الأنواع: البسترة فائقة الحرارة، والتي تتمّ عند درجة حرارة ۱۳۸ مئوية لمدة لا تتعدّى أجزاء الثانية.
ومن الأنواع: البسترة ذات العمر الطويل، وهو نوع يتميّز بمرحلة مضادة للبكتريا.
ومنها: البسترة المستمرة البطيئة، والمتمثلة بتسخين السائل إلى 63 درجة مئوية لمدة ۳۰ دقيقة في جهاز حلزوني الأنابيب ثم التبريد فوراً بطريقة غير مباشرة.
ومنها: البسترة اللحظية، والتي تتم بالتسخين إلى 140 درجة مئوية لمدة 5 ثوان.
إلى غير هذا من الأنواع.
فقد تلخص من كل هذا الكلام أنّ المعالجة الحرارية للعصائر المعلّبة يمكن أن تكون بطريقة البسترة وربما بطريقة التعقيم، وأن المراد بالتعقيم بالحرارة حتما غلي العصير؛ لأنها عملية تهدف إلى القضاء على جميع الميكروبات، أما البسترة فهي عملية تسخين وتبريد مدروسين، ولعلّ منها ما لا يُؤدي إلى غليان العصير. كما أن من المسجّل: أن التعقيم غير شائع صناعياً.
ونُضيف إلى هذا الكلام ثلاث نقاط :
النقطة الأولى: سنسلّم الآن بأن تلك العبارة المكتوبة على العلبة (معالج بالحرارة العالية) مخبرة عن واقع موضوعي مجمل، وأنها ينبغي أن تُحمل محمل الجد والإخبار الصادق من وجهة الاعتبار الشرعي، وإلا فربما لا ينظر الشرع لها هذه النظرة؛
إذ مَن قال بأن مجرد رقم هذه الحروف على علبة العصير يكون له التأثير المطلوب شرعاً؛ فالفقيه قد يأبه لهذه العبارة باعتبار أنها تقرير خاضع للمراقبة والسيطرة النوعية للمنتوجات الصناعية في البلدان المصنعة لها، وربما لا يجد الفقيه المبررات كافية لكي يُرتّب الآثار الشرعية على مجرد طباعة هذه الحروف على جانب العلبة.
إذن، نحن سنسلّم بأنه سيفعل وأن العبارة ستُرتّب عليها الآثار الشرعية. هذه هي النقطة الأولى.
النقطة الثانية: إن مجرد ثبوت تسخين العصير لا يقتضي – ولا يلزم منه – أن العصير قد بلغ حد الغليان. وهذا أمر واضح. ولكن ربما نترقى فنقول بأنه لا مبرر لافتراض الغليان بمعنى احتماله احتمالا ناهضاً.
فأولاً: تختلف درجة حرارة الغليان باختلاف السوائل، وهي تعتمد على عدة عوامل ترتبط بالسائل نفسه مثل الكثافة والشوائب وغيرها، كما تعتمد على عوامل ترتبط بظروف السائل مثل الضغط الجوي والجاذبية.
وثانياً: إن عملية البسترة وإن كانت تتضمن في بعض أنواعها التسخين إلى درجة الغليان أو ما يتجاوزها، لكن الغليان العرفي للسائل – بمعنى وصوله إلى حال التقلب والفوران المعروفة منه آنذاك. – يحتاج إلى أكثر من وصول السائل إلى درجة الغليان بالتسخين؛ فقد أفاد البعض – والعهدة عليه – أن الغليان يتطلب، علاوة على الوصول إلى درجته الحرارية، المكث على تلك الدرجة وعدم الانخفاض عنها لفترة كافية بما يضمن حصول الفوران والتقلّب المعروفين.
ومن هنا فربما ينبثق التساؤل: هل إن ما يشيع من عمليات البسترة – والتي تتضمن معظمها أو الغالب منها كما يبدو – فترات تسخين سريعة للسائل، هل إن ما يشيع من عمليات البسترة هذه يحصل الغليان العرفي فيها فعلا؟
النقطة الثالثة : الظاهر أن فلسفة البسترة نفسها – إذا صح التعبير – لا تعتمد على عملية التسخين من أجل التخلص من الجراثيم، بل تعتمد على عملية التبريد؛ فالفكرة تتضمن الاعتماد على خاصية التمدد للمواد عموماً عند التعرض للحرارة، والانكماش عند التعرض للبرودة، فبالحرارة العالية يحصل تمدد لأجسام تلك الميكروبات، لكنها في تلك الحرارة تبقى حيّة، وعند التعرض للتبريد المفاجئ تنكمش أجسام تلك الميكروبات بشكل صادم مما يؤدي إلى تهدم الجدران الخلوية لها وبالتالي موتها.
إذن، يمكن القول إن الهدف الصناعي للبسترة ليس الغلي القاضي على الجراثيم، وإنما هذا الغلي يكون هدف التعقيم، لا البسترة.
ولكن قد يناقش في هذه النقطة كما هو واضح. و مورد الانتفاع منها هو أن نعتمد على إخبار هذه الشركات بأنهم عالجوا العصائر حرارياً – بمعنى البسترة – بأن نُفسّر هذا الكلام على أنه إخبار منهم بأنهم لم يسعوا إلى غلي السائل من الأساس، ولم يكن هذا هدفاً لهم.
وبالتالي لعل بالإمكان أن نحمل إخبارهم على أنه لا يقتضي المعالجة لحدّ الغليان، فيما إذا أمكن الاستفادة من هذا الحمل شرعا.
والمسألة التي تهمّنا من هذا الكلام في توظيفه في تحري المصداق والموضوع للحكم الشرعي المعروف بحرمة العصير العنبي إذا غلى ما لم يذهب ثلثاه.
إن الأمر ينحلّ طبعاً إلى موضوعية المعالجة الحرارية المذكورة للغليان المذكور شرعاً، وموضوعية العصير المحفوظ في تلك العلب للعصير العنبي المغلي. ومما ذكرنا آنفا أخذنا فكرة عن المبررات التي يمكن نلمسها من أهل الاختصاص لدفع القول بالموضوعية.
إثارات دائمة لاحتمال الحلّية
وفيما يلي سنذكر جملة من المبررات الشرعية التي يمكن أن يعتمد عليها الفقيه نفسه من أجل إثبات الحلّية:
1- أصالة الحل: فيقال إن عصير العنب من الحلال المؤكد، وأننا نشك بطروّ ما يُفسد حلّيته فنتمسك بالأصل، وندفع الشك به.
ولكن أصالة الحل لن تنهض هنا طبعاً فيما إذا ثبتت موضوعية البسترة للغليان المذكور شرعاً، وربما لن تنهض مع وجود احتمالية يُعتدّ بها من أجل اعتبار هذه الموضوعية لها.
2- أصالة عدم الغليان: ولعل الكلام فيها لا يختلف كثيرا عن الكلام في أصالة الحل، بل هو أوضح هنا؛ إذ مع ثبوت موضوعية للبسترة للغليان المذكور شرعاً يكون دفع أصالة الحل خطوة لاحقة لهذا الثبوت، في حين أن ثبوت الموضوعية للبسترة سيكون بحد ذاته رفعاً لعدم الغليان وإثباتاً له، أي للغليان.
٣- قاعدة سوق المسلمين بفرض إمكان تعميمها لكل الأغذية واستفادة حكم الحلية منها عموماً: فنقول إن هذه العصائر تُباع في سوق المسلمين، وأن هذا أمارة على حليتها.
كان هذا شيء مما يمكن أن يتلمّس به بحث العصير العنبي المعالج حرارياً من أوجه للدفاع عن حليته. ولعله لا يعدو غيضاً من فيض فيما لو بحثت المسألة بالتفصيل والرصانة المطلوبين تخصّصاً.
كذلك قد لا تقصر أوجه المعارضة والذهاب إلى الحرمة عن هذا الفيض(1).
كانت هذه مجرد إثارة، وإلا فإن الفقيه أعرف في كيفية الإفادة من القواعد الشرعية للتعامل مع هذا الموضوع وتطبيقها بدقة في موردها.
المصدر: مجلة الاستنباط العدد الثاني