إن حياة الناس مليئةٌ بالجروح وهم يسيرون في هذا الحقل من الألغام الموقوتة والتي يمكن لكل واحدة منها أن تهدد حياتهم، وذلك أن كل شيءٍ أصبح يدور حول اللا قيم كالمال والسلطة وغيرها بدلاً من أن تكون القيم هي المتحكمة في سلوكنا. ألسنا نلاحظ أن من يسمون بالـ «محترمين» في مجتمعنا هم الذين يركبون السيارات الفارهة ويلبسون الثياب المميزة؟!
الاجتهاد: الحياة تجري من خلال العلاقة مع الآخر، ومن هنا فإن وجود كلٍّ منا مرتبط بشدة بوجود آخرين، وهذا الارتباط ينبغي أن يبنى على أساس سليم؛ فالحياة هي فرصة لتعزيز المزيد من القيم والتي نعبر عنها بـ»جنود العقل»، وهي تتجلى – في الغالب – عند الارتباط مع الآخر وترسم هذه العلاقة على أساس سليم.
وفي قبالها تأتي القيم المضادة، أو كما في تعبير الحديث الشريف «جنود الجهل»، وهي التي تشكل الخطر الحقيقي.
فلو تأملنا المجتمعات التي آلت إلى الانهيار؛ فإنا سنجد أن انهيارها كان بأحد أمرين:
الأول: الصراع بين المصلحة على المدى القصير والمصالح العليا على المدى البعيد، والذي يقع – في الغالب – بين القوى صانعة القرار وبين سائر المجتمع، حيث يكون ما هو جيد بالنسبة للنخبة على المدى القصير هو سيئ بالنسبة للمجتمع ككل.
الثاني: وهو ما يهمنا في هذا المقال، وهو صراع التمسك بالقيم والقيم المضادة أو اللا قيم؛ أنه يصعب على المجتمع على وجه الخصوص أن يتخذ قرارات جيدة عندما يكون هناك صراع في القيم.
ومن هنا؛ فإن قضية قيمية المجتمع ليست قضية ثقافية يتم التنظير لها في الكتب والمجلات، كما أنها ليست قضية مرتبطة بالحياة الأبدية في الجنة والنار فحسب، بل هي قضية واقعية، ترتبط ببقاء المجتمعات البشرية وصونها من الانهيار من جهة، وتنظيم بقائها على أسس سليمة من جهة أخرى.
قيمة الثقة مثالاً
إذا أردنا أن نأخذ مثالاً في ما يرتبط بقيمة من القيم وما يحدث من فوضى في هذا المجال، فإنا نضرب مثالاً بقيمة الثقة، فإن كل واحد منا ربما يتذكر حينما كنا نود الإستقال في التنقل من مكان لمكان عبر الحافلات أو السيارات العامة، قالوا لنا: يجب أن لا نركب مع كل ناقل وإنما ينبغي أن نتحرى المركبات الموثوقة كالحافلات أو سيارات الأجرة العامة.
وهذا أمر طبيعي جداً، فالثقة في أي تحرك تعد الأساس، فالثقة وإن كانت مفهوما غامضا، إلا أننا لا نزال نعتمد عليها في حياتنا للاستمرار؛ فنحن نبني حياتنا على الثقة، وإذا ما تأملنا فسنجد أن هذه الكلمة نستخدمها كثيراً في كل أعمالنا حتى أننا ربما لا نشتري أبسط حوائجنا ممن لا نثق به.
ولكن الغريب أن التكنلوجيا الحديثة قلبت هذه القيمة رأساً على عقب؛ فملايين الناس يومياً يتنقلون في العالم مع سائقي السيارات غير المعروفين لديهم والذين لا تنطبق عليهم أية معايير الثقة المعتادة، وذلك عبر تطبيقات الهواتف الذكية المختلفة.
وكأن التكنولوجيا تصنعُ آليات جديدة للثقة بأشخاص مجهولين، وكذلك الشركات والأفكار والمنتوجات وحتى الأخبار والمعلومات؛ فماذا يحدثُ حقاً؟ هل هي – كما يسميها البعض – قفزة الثقة، عندما يختار الناس مخاطر القيام بعمل شيء جديد أو مختلف عن الطريقة التي اعتادوا القيام بها؟! أم أنها قفزة على الثقة؟!
الوتيرة تتسارع
وبوتيرة متسارعة نجد بين اليوم والآخر تفاقم أزمة فوضى القيم أو ما يعبر عنه بفوضى في السلوك الإجتماعي الذي تعيشه المجتمعات البشرية؛ والمخيف جداً هو سرعة هذا التحول الغريب. ففي مثال الثقة ذاتها نجد أن البشرية – وعلى مدى سنوات طوال – كانت تبني الثقة في إطار العلاقات المحلية الضيقة والتي كانت تتسم بالتماسك؛ فكان البشر يعيشون في مجتمعات صغيرة؛ ويبنون الثقة في ذلك الإطار؛ فإذا أراد أحدهم اقتراض مال مثلاً؛ فإنه سوف لن يخرج من هذه الدائرة الضيقة التي يعيش فيها.
وإذا لم يسدد الدين؛ فإن الجميع سيعرف أنه متملص من الدفع، وستسوء سمعته بين الناس، وبالتالي سيرفض الناس التعامل معه في المستقبل. وبتعبير آخر؛ فإن الثقة كانت – في معظمها – محلية وتعتمد على المساءلة.
في منتصف القرن التاسع عشر، دخلت المجتمعات في مرحلة جديدة؛ فانتقال الناس إلى المدن، وتحول الشركات الصغيرة الى شركات عالمية كبيرة، والتحول الكبير في الأنظمة المصرفية والائتمانية وغيرها، بدأ مفهوم الثقة يتغير عند الناس، وبدؤوا يثقون في الأنظمة أكثر من الأفراد؛ فصار الاعتماد على العقود القانونية والتنظيم والتأمين و..؛ وفي المقابل؛ قلت الثقة في الآخرين، وهي التي سماها البعض بالثقة المؤسسية.
وأما اليوم، فكما أشرنا، الأمر بدا مختلفاً تماماً؛ فأصبحت ثقة الناس بالمعلومات التي يحصلون عليها من الفيسبوك ـ مثلاً ـ أكثر بكثير مما يتعلمونه من الوالدين أو الأقربين!
الكم الهائل من المعلومات المتلاحقة والإعلانات الممولة الأخّاذة التي لا يمكن للفرد ـ لكثرتها وسرعتها ـ أن يدخلها حيز التحليل والنقاش، هي التي صارت تبني ثقة الناس، أو بتعبير آخر تقفز على ثقتهم، أو كما يعبر عنها علماء النفس تتسلق الثقة، ويمكنك أخذ نماذج كثيرة في هذا المجال منها التسارع في ظهور قواعد البيانات الموزعة كالعملة الرقمية «Bit coin».
وهذه مجرد البداية؛ لأن الفوضى الحقيقة التي تجري ليست تقنية؛ بل هي تحول في القيم الثابتة التي أودعها الله في فطرة الناس واستبدالها بغيرها.
الخطر محدق
هل فكرنا في ما يجري من حولنا؟ كم من القنابل الموقوتة اليوم تهدد المجتمعات البشرية والتي من الممكن أن تنفجر في كل لحظة؟ قنبلة المياه الموقوتة، قنبلة التربة الزراعية، التغيير المناخي، الغزو الاستعماري، مشاكل التلوث، الإرهاب، التصحر المهجرون والمهاجرون و..
والنتيجة ستأخذ أحد شكلين:
إما أن نتمكن من إبطال مفعول تلك القنابل بإعادة بناء المجتمعات البشرية وفقاً للقيم الأخلاقية السامية، وبذلك سنكون قد اتخذنا الإجراء العلاجي السليم؛ وإلا فإنها ستنفجر لا محالة وسنجد أنفسنا مجبرين على تحمل تبعاتها، أعني: الحرب، المرض، المجاعة و.. المشاكل الكبرى التي تواجه المجتمعات البشرية اليوم ليست – على الإطلاق – خارج مجال السيطرة؛ فليس الأمر كما لو كان هناك جسم فضائي على وشك الارتطام بالأرض ولا يمكننا القيام تجاهه بردة فعل.
على العكس تماماً؛ فإن كل التهديدات الكبرى التي تواجهنا اليوم هي التي تسببنا بها، فقد {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ}، (سورة الروم: 40)؛ لكن الذي جعل لنا الاختيار في ذلك جعل الاختيار لنا في حلها أيضاً، وهذا يعني اننا نمتلك القوة للتعامل مع تلك المشكلات.
إن حياة الناس مليئةٌ بالجروح وهم يسيرون في هذا الحقل من الألغام الموقوتة والتي يمكن لكل واحدة منها أن تهدد حياتهم، وذلك أن كل شيءٍ أصبح يدور حول اللا قيم كالمال والسلطة وغيرها بدلاً من أن تكون القيم هي المتحكمة في سلوكنا.
ألسنا نلاحظ أن من يسمون بالـ «محترمين» في مجتمعنا هم الذين يركبون السيارات الفارهة ويلبسون الثياب المميزة؟!
إن الاحترام الذي يحضون به ليس احتراماً لإنسانيتهم ولا للقيم التي يحملونها ولا حتى للإنجازات العلمية والعملية التي قدموها للبشرية، وإنما هو احترام للمادة التي تتحكم بهم وتجعلهم في حبائلها.
إلا أن من فضل الله – تعالى- علينا وجود من يختارون الطريق الآخر بأن ينهون عن الفساد في الأرض وهم الذين بيمنهم وبجهدهم يدفع الله عن الناس البلاء، وقد قال تعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}، (سورة هود: 116- 117).
فالخطر مهما كبر إلا أن شخصاً واحداً من المصلحين قد يكفي لتغيير الواقع، وهذا الشخص قد يكون أنت!
ثم سيكون هنالك «أنت» آخر، و»أنت» آخر، ومن ثم يتحول الجميع إلى «نحن» ليقوم هؤلاء بإيقاف عجلة الانهيار، وإعادة الأمور إلى نصابها، ولا يخفى أنه لا يمكن لأي نظام أو شخص أن يلغي قدرة الإنسان على الاختيار، وسيختار الناس القيم على اللا قيم لأنه الطريق الذي يجدونه مطابقا لفطرتهم؛ تلك الفطرة التي فطر الباري الناس عليها، وهو هذا الطريق الأسمى لتعلقه بقيم السماء وفيه نجاة الإنسان؛ دنيا وآخرة.
بقلم: مرتضى محمد كاظم
مجلة الهدى