خرید فالوور اینستاگرام خرید لایک اینستاگرام قالب صحیفه
الرئيسية / موقع الاجتهاد و جميع المواضيع / جميع الأبحاث والأحداث / حوارات ومذکّرات / 5 مذكرة / السيد محمد باقر الصدر.. والتجديد المنهجي لأصول الفقه / بقلم: زكي الميلاد
السيد الصدر

السيد محمد باقر الصدر.. والتجديد المنهجي لأصول الفقه / بقلم: زكي الميلاد

الاجتهاد: يعدّ السيد الصدر في الكتابات الأصولية المعاصرة، أحد المجددين البارزين في ساحة أصول الفقه، وهذا ما كشفت عنه مؤلفاته الأصولية المميزة من جهة، وتجربته الأصولية الطويلة من جهة أخرى، وما طرحه من أفكار ونظريات حديثة من جهة ثالثة.

نشر السيد محمد باقر الصدر في حياته ثلاثة مؤلفات في مجال أصول الفقه، وهذه المؤلفات بحسب ترتيبها الزمني هي: كتاب (غاية الفكر) الصادر سنة 1955م، وكتاب (المعالم الجديدة للأصول) الصادر سنة 1965م، وكتاب (دروس في علم الأصول) الصادر سنة 1978م.

والملاحظ على هذه المؤلفات هو الفاصل الزمني البعيد الذي يفصل بينها، ويقدر بعشر سنوات ويزيد، وهي فترة في المقاييس الفكرية والمعرفية تكون عادة مؤثرة في تغير طبيعة الرؤية، وهذا ما ينطبق على هذه المؤلفات وطريقة النظر إليها، فكتاب (غاية الفكر) كتب في مرحلة مبكرة، وجاء في إطار رؤية معينة عند المؤلف، وفي مرحلة تالية وبعد عشر سنوات جاء كتاب (المعالم الجديدة للأصول)، وعبر عن رؤية أخرى عند المؤلف، وعن طور آخر في تجربته الفكرية والعلمية، جعلت هذا الكتاب يكتسب أهمية واعتباراً يفوق ما كان عليه الكتاب الأول.

وفي مرحلة تالية أخرى وبعد ما يزيد على عشر سنوات، جاء كتاب (دروس في علم الأصول) ليعبر مجدداً عن رؤية مختلفة عند المؤلف، وعن طور آخر أكثر تطوراً وتقدماً في تجربته الفكرية والعلمية، جعلت هذا الكتاب يكتسب أهمية واعتباراً يفوق بدرجة كبيرة ما كان عليه الكتاب الثاني.

ومن المفارقات الأخرى بين هذه المؤلفات الثلاثة، المفارقة التي تتصل بالجانب الكمي والكيفي، فكتاب المعالم يعيد أكثر سعة وتطوراً من كتاب (غاية الفكر)، وكتاب الدروس أو الحلقات يعد أكثر سعة وتطوراً من كتاب المعالم.

هذه المؤلفات وبالذات كتابي المعالم والدروس، ظلت وباستمرار موضع عناية الباحثين والمشتغلين بالدرس الأصولي، الذين وجدوا حاجة في الرجوع إليها، والاستناد عليها، بحثاً وتأليفاً، تعلماً وتعليماً، كما وجدوا فيها تميزاً ولمعاناً، وعطاء علمياً مهماً.

إلى جانب هذه المؤلفات الثلاثة، هناك البحوث الأصولية المتقدمة التي قدمها السيد الصدر على شكل دروس وأبحاث متخصصة، ألقاها على طلابه وطلاب الدارسات الدينية العليا في حوزة النجف الأشرف، وقيل أن هذه الدروس والأبحاث استمرت أكثر من عشرين سنة.

وفي وقت لاحق دونت هذه الأبحاث، وصدرت على شكل ما يعرف في أدبيات الحوزات العلمية بالتقريرات العلمية، ومن أشهر هذه التقريرات ما كتبه السيد محمود الهاشمي بعنوان (بحوث في علم الأصول) صدر في سبعة أجزاء، وما كتبه السيد كاظم الحائري بعنوان (مباحث الأصول) صدر في خمسة أجزاء.

وأهم ما تفترق به هذه الأبحاث عن تلك المؤلفات الثلاثة التي خطها السيد الصدر بيده، هو أن هذه الأبحاث قد عبرت عن الآراء العلمية الخاصة التي توصل إليها السيد الصدر في موضوعات علم الأصول كافة، وعن الآراء التي ينفرد ويختلف بها عن الآخرين، كما كشفت هذه الأبحاث عن النظريات والابتكارات التي تعد من إبداعات السيد الصدر في هذا الحقل.

وأشار السيد الصدر إلى هذه الملاحظة حين اعتبر أن المضمون الكامل لكتابه الدروس بحلقاته الثلاث لا يمثل الوضع التفصيلي لمباحثه الأصولية، ولا يصل إلى مداها كماً وكيفاً، وعلى الراغبين في الإطلاع على مبتنياته الحقيقية في الأصول، وعلى نظرياته وأساليب استدلاله بكامل أبعادها أن يرجعوا إلى بحوث في علم الأصول.

الصدر.. والمنحى التجديدي

يعدّ السيد الصدر في الكتابات الأصولية المعاصرة، أحد المجددين البارزين في ساحة أصول الفقه، وهذا ما كشفت عنه مؤلفاته الأصولية المميزة من جهة، وتجربته الأصولية الطويلة من جهة أخرى، وما طرحه من أفكار ونظريات حديثة من جهة ثالثة.

وهناك الكثير من هذه الكتابات الأصولية التي أشارت إلى المنحى التجديدي عند السيد الصدر في مجال أصول الفقه، ومن جملة هذه الكتابات ما أشار إليه الشيخ محسن الأراكي في كتابه (معالم الفكر الأصولي الجديد.. دراسة لمعالم الفكر الأصولي للإمام الشهيد الصدر مقارنة بمدرسة الشيخ الأنصاري الأصولية)، الصادر في لندن سنة 1999م، في هذا الكتاب حاول الشيخ الأراكي أن يبرز -حسب وصفه- عظمة الجهد الذي بذله السيد الصدر، وقيمة الثروة الفكرية العظيمة التي قدمها في مجال الدراسات الأصولية.

ومن هذه الكتابات أيضاً، ما أشار إليه الدكتور حسن حنفي في مقالة له بعنوان: (تجديد علم الأصول.. قراءة في كتابات الشهيد محمد باقر الصدر)، اعتبر فيها أن السيد الصدر استطاع تجاوز أصول الفقه الشيعي عند القدماء، وأصبح من الأئمة المجتهدين المعاصرين، وكان لديه إحساس بالحيرة وبضرورة التطوير.

ومن هذه الكتابات الأصولية كذلك، ما أشار إليه الدكتور محمد الدسوقي في كتابه (مدخل لعلم الأصول)، إذ اعتبر أن للسيد الصدر محاولة طيبة في تجديد علم الأصول، وتمثلت هذه المحاولة في ثلاثة كتب تعد إسهاماً في نهضة ثانية لعلم الأصول في المدرسة الإمامية في العصر الحاضر.

إلى جانب هذه الكتابات، هناك الكتابات التي حاولت الكشف عن الأفكار والنظريات التي عُدّت من اكتشافات السيد الصدر وابتكاراته في مجال أصول الفقه.

ولعل أهم من كشف عن هذه التجديدات المعرفية، هما السيد محمود الهاشمي في تقريراته للأبحاث الأصولية للسيد الصدر، والسيد كاظم الحائري في تقريراته أيضاً.

ولا شك في أن هذين العالمين بحكم صلتهما القريبة والطويلة بالسيد الصدر ودرسه الأصولي، هما الأقدر من الناحية العلمية، والأكثر موثوقية من الناحية النفسية في الكشف عن طبيعة هذه التجديدات، وتحديد مدى اختلافها وتميزها، وأين تشترك وأين تفترق عن الأفكار والنظريات السائدة والمطروحة في ساحة أصول الفقه.

وفي نظر السيد كاظم الحائري، إن هذه التجديدات تنقسم إلى ثلاثة أقسام، هي:

القسم الأول: التجديدات الجديدة التي لم تُبحث من قبل في الفكر الأصولي. ومن هذا القسم في نظر السيد الحائري، ما جاء به السيد الصدر «من البحث الرائع لسيرة العقلاء وسيرة المتشرعة، فقد تكرر لدى أصحابنا المتأخرين (قدس سره) التمسك بالسيرة لإثبات حكم ما، ولكن لم يسبق أحد أستاذنا (رحمه الله) فيما أعلن في بحثه للسيرة، وإبراز أسس كشفها، والقوانين التي تتحكم فيها، والنكات التي ينبني الاستدلال على أساسها، بأسلوب بديع، ومنهج رفيع، وبيان متين.

ومن هذا القسم أيضاً، بحثه القيم عما أسماه بنظرية التعويض، وهو وإن كان أقرب إلى فن البحوث الرجالية منه إلى الأصول، ولكنه قد بحثه بالمناسبة ضمن مباحث حجية خبر الواحد، وأوضح فيه كيف أننا نعوض أحياناً المقطع السندي المشتمل على الضعف البارز في سند الحديث، بمقطع آخر غير بارز لدى الناظر بالنظرة الأولية، وهذا الأمر وإن وجدت بذوره لدى من تقدم على الأستاذ (رحمه الله) ولكن لم أر أحداً قبله يتعرض لهذه الفكرة على مستوى البحث العلمي، ويدقق في أسس هذا التعويض وأقسامه».

القسم الثاني: التجديدات المغايرة لما اختاره الأصحاب في الفكر الأصولي. ومن هذا القسم في نظر السيد الحائري، ما جاء به السيد الصدر في «بحثه البديع في حجية القطع، الذي أثبت فيه أن رأس الخيط في البحث، إنما هو مولوية المولى وحدودها، وانحدر من هذا المبدأ إلى الآثار التي تترتب على ذلك، وانتهى إلى إبطال ما بنى عليه المحققون جيلاً بعد جيل من قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وآمن بمنجزية الاحتمال، وأن البراءة التي نؤمن بها هي البراءة الشرعية، أما البراءة العقلية فلا.

ومن هذا القبيل، إبطاله لحكومة الأصول بعضها على بعض حينما تكون متوافقة في النتيجة، كحكومة استصحاب الطهارة على قاعدة الطهارة، أو الأصل السببي على الأصل المسببي الموافق له، وكذلك إبطاله لحكومة الإمارة على الأصل لدى توافقها في النتيجة.

ومنه أيضاً، إبطاله لما اشتهر من جريان أصالة الطهارة في ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة، ومنه أيضاً بحثه البديع في الوضع وإبرازه لنظرية القرن الأكيد».

القسم الثالث: التجديدات المعدلة لما اختاره الأصحاب في الفكر الأصولي. ومن هذا القسم في نظر السيد الحائري، ما جاء به السيد الصدر في «بحثه الرائع عن حقيقة المعاني الحرفية، حيث يوافق فيه على أصل ما اختاره المحققون المتأخرون، من كون المعاني الحرفية هي المعاني النسبية والمغايرة هوية للمعاني الاسمية، ولكن مع إدخال تعديل وإصلاح جوهريين على ما أفاده الأصحاب، ومن هذا القبيل بحثه الذي لم يسبق له نظير عن الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية، حيث اختار نفس ما اختاره المحققون من إمكانية الجمع بينهما، وعدم التنافي والتعارض فيما بينهما، ولكن مع التعديل الجوهري لطريقة الاستدلال وكيفية الجمع».

وإلى جانب هذه التجديدات، أضاف السيد الحائري ما وصفه بالأبحاث البديعة للسيد الصدر، كأبحاثه عن الترتب، والتزاحم، وقاعدة لا ضرر.

والجدير بالإشارة أن معظم الذين كتبوا عن التجديدات المعرفية عند السيد الصدر في هذا المجال الأصولي، قد رجعوا بصورة أساسية إلى هذه الأبحاث والتقريرات الأصولية للسيدين الهاشمي والحائري، التي تعد مرجعاً مهمًّا لا يمكن الاستغناء عنه في هذا الشأن.

ومع أهمية هذه التجديدات المعرفية وقيمتها، إلا أن التجديد الأهم في نظري عند السيد الصدر ليس التجديد المعرفي وإنما التجديد المنهجي، وهو التجديد الذي يحسب له، ويسجل إليه، ويكاد يتفرد به عن غيره تقريباً.

أما تلك التجديدات التي تتصل بالجانب المعرفي، فهي في معظمها أفكار ونظريات طالما تعوّد الفكر العلمي الأصولي عند الإمامية، على استقبالها منذ عصر الشيخ الطوسي في القرن الخامس الهجري إلى اليوم.

وذلك في ظل ما كان يشهده الفكر العلمي الأصولي عند الإمامية من تجدُّد وتراكُّم لم ينقطع أو يتوقف، وما اتَّسم به من فاعلية ودينامية ظلّت حية ومستمرة، ونتيجة لروح الاجتهاد التي جعلت هذا الفكر يكون في حالة من اليقظة الفكرية والمعرفية.

إلى جانب أن تلك الأفكار والنظريات، لم تُحدِث تحوُّلاً مهمًّا في مسارات تطور الفكر العلمي لأصول الفقه، ولم تدفع به نحو خطوات جديدة ومتقدمة، على نمط ما أحدثه الشيخ الطوسي من تحوُّل في القرن الخامس الهجري، أو على نمط الدور الذي نهض به المحقق محمد باقر البهبهاني في القرن الثالث عشر الهجري، أو على نمط التقدُّم الذي، أنجزه الشيخ مرتضى الأنصاري في النصف الثاني من القرن الثالث عشر الهجري.

كما أن تلك الأفكار والنظريات أو بعضها، ظلت وما زالت موضع نقد ونقاش عند الأصوليين، ولم تستوِ على سوقها كنظريات فاعلة وثابتة ومعترف بها عند جمهور الأصوليين.

ومن هذه النظريات وأشهرها التي ظلت وما زالت تتعرض لنقد مستمر، نظرية حق الطاعة المتصلة بمبحث البراءة، والتي جاءت في مقابل نظرية قبح العقاب بلا بيان التي تسالم عليها الأصوليون قديماً وحديثاً.

ولعل أوسع من ناقش هذه النظرية بطريقة منهجية ونقدية، الباحث الإيراني إسماعيل دارابكلائي في دراسة له بعنوان: (نظرية حق الطاعة عند الشهيد الصدر.. قراءة تاريخية نقدية).

وهكذا نظرية حساب الاحتمالات، التي حاول السيد الصدر تطبيقها على نظريتي السيرة والإجماع، فقد تراجع الحديث والنقاش عن هذه النظرية منذ فترة، وذلك في إشارة إلى تراجع الاهتمام بها عند الأصوليين.

لهذه المعطيات وغيرها، أرى أن التجديد الأهم الذي نهض به السيد الصدر، لا يتحدد بصورة رئيسية في الجانب المعرفي، وإنما يتحدد في الجانب المنهجي.

والمقصود بالتجديد المنهجي، هو محاولة إعادة صياغة أصول الفقه بطريقة منهجية جديدة وحديثة، كما تجلت وظهرت في كتاب (دروس في علم الأصول)، الذي يقع في مجلدين، ويتكون من ثلاث حلقات مترابطة ومتكاملة، وهذه -على ما أعلم- أول محاولة من نوعها في العصر الحديث عند علماء الإمامية.

والأهمية الفائقة لهذه المحاولة، تكمن في أن الذي نهض بها وأنجزها كاملة هو السيد الصدر نفسه، الفقيه والمفكر والفيلسوف صاحب الأعمال الفكرية الكبيرة والمميزة، والمؤلفات الشهيرة مثل (فلسفتنا)، و(اقتصادنا)، و(الأسس المنطقية للاستقراء)، وهي الأعمال التي ظلت شاهدة على تفوقه وعبقريته.

وكشفت هذه الأعمال، أن العمل الذي ينهض به السيد الصدر هو غير العمل الذي ينهض به غيره، وهذا ما يصدق أيضاً على كتاب الدروس، فلو أن الذي أنجز هذا العمل غير السيد الصدر، لما كانت له مثل هذه الأهمية الفائقة.

لكن الملاحظ أن هذا التجديد المنهجي لم يُقدَّر حق قدره، ولم يُستكشف من هذه الناحية، وما زالت هناك حاجة للقيام بهذه المهمة المنهجية التي تأخرت زمناً، وكشفت من وجه آخر عمَّا تعانيه الدراسات الإسلامية المعاصرة، من ضعف أو نقص أو تأخر في البحث المنهجي، وفي حقل المنهجيات بصورة عامة.

ولعل أهم وصف أطلق على هذا الدور الذي قام به السيد الصدر، هو الوصف الذي أشار إليه السيد محمد الحسيني، وقال عنه: «إنه يمثل ثورة منهجية».

لكن السيد الحسيني لم يتوقف عند هذا الوصف بالتفسير والتحليل، وتركه يمر عابراً، من دون أن يعطيه قوة المعنى، وصلابة المضمون.

التجديد المنهجي.. الرؤية والأبعاد

في مصنفه (دروس في علم الأصول) كتب السيد الصدر مقدمة مهمة، شرح فيها رؤيته المنهجية، التي استند إليها في التطوير المنهجي لعلم أصول الفقه، التطوير الذي تبلور في إعداد منهج دراسي حديث، يُلبي حاجة الطالب في تكوين المعرفة الحديثة بعلم الأصول بصورة متدرجة، تتحدد في ثلاث مراحل زمنية ومعرفية.

هذه المقدمة اكتسبت أهمية كبيرة، لأنها عُرفت برؤية السيد الصدر في التجديد المنهجي لعلم الأصول، وأظهرت السيد الصدر بوصفه صاحب رؤية منهجية في تطوير وتحديث أصول الفقه، وسهّلت على الآخرين تكوين المعرفة بهذه الرؤية، والإحاطة التامة بها.

ومن جانب آخر، فإن هذه المقدمة تمثل مادة حيوية للدراسات التي تتناول أصول الفقه من جهة التطوير والتجديد والتحديث، وسيظل الباحثون في حاجة مستمرة لهذه المقدمة لأهميتها، وأهمية الاطلاع على رؤية السيد الصدر في التجديد الأصولي.

وحين توقّف الدكتور عبدالهادي الفضلي أمام هذه المقدمة عند حديثه عن التطور الفكري لعلم الفقه، لم يرَ -حسب قوله في حدود مراجعاته وقراءاته- من كتب في هذا الموضوع، نظير ما رآه وقرأه في كتابات الأساتذة الجامعيين، باستثناء ما جادت به يراع، أستاذه المجدد الشهيد الصدر، في مقدمة الحلقة الأولى، التي أراد بها أن يلفت نظر الباحثين والدارسين الأصوليين إلى شيء من تطور الفكر الأصولي، فكان الرائد المخلص والموفق في وضع اللبنات الأساس للكتابة في هذا الحقل المهم، مع أنها جاءت مختصرة وغير شاملة.

وعند النظر في هذه المقدمة المنهجية، يمكن تقسيمها إلى أربعة أقسام متصلة ومترابطة فيما بينها، وهذه الأقسام هي:

القسم الأول: مبررات استبدال الكتب الأصولية الدراسية القديمة

قبل الحديث عن هذه المبررات أشار السيد الصدر إلى لمحة موجزة عن مراحل دراسة علم أصول الفقه في مناهج الحوزات العلمية، وتطرّق إلى نوعية الكتب الدراسية المقررة والمعتمدة.

وحسب شرح السيد الصدر، فإن الدراسات العلمية لعلم أصول الفقه تمر في مناهج الحوزة عادة بمرحلتين، إحداهما تمهيدية وتسمى مرحلة السطح أو السطوح، والأخرى عالية وتسمى مرحلة الخارج. والدراسة في المرحلة التمهيدية تتخذ أسلوب البحث في كتب أصولية معينة، يدرسها الطالب ليتهيأ من خلالها لحضور أبحاث الخارج.

ويضيف السيد الصدر أن العرف العام في الحوزات العلمية جميعاً، قد جرى على اختيار أربعة كتب كمناهج دراسية في علم الأصول لمرحلة ما قبل بحث الخارج، وهذه الكتب الأربعة بحسب ترتيبها الدراسي هي:

1- كتاب (معالم الدين وملاذ المجتهدين) المشهور بكتاب المعالم، للشيخ حسن بن زين الدين العاملي (959 – 1011هـ).

2- كتاب (قوانين الأصول) المشهور بكتاب القوانين، للشيخ ميرزا أبو القاسم القمي الملقب بالمحقق القمي (1151 – 1231هـ).

3- كتاب (فرائد الأصول) المشهور بكتاب الرسائل، للشيخ مرتضى الأنصاري (1214 – 1281هـ).

4- كتاب (كفاية الأصول) المشهور بكتاب الكفاية، للشيخ محمد كاظم الخراساني الملقب بالمحقق الخراساني (1255 – 1329هـ).

هذه الكتب الأربعة في نظر السيد الصدر كان لها مقامها العلمي، وهي على العموم تعتبر حسب مراحلها التاريخية كتباً تجديدية أسهمت بدرجة كبيرة في تطور الفكر العلمي الأصولي على اختلاف درجاتها، واختيارها كتباً دراسية لعله جاء نتيجة عامل مشترك هو ما أثاره كل واحد منها عند صدوره من شعور عميق لدى العلماء بأهميته العلمية، وما اشتمل عليه من أفكار ونكات، إلى جانب ما تميّزت به بعض هذه الكتب، من إيجاز المطالب، وضغط العبارة، كما حصل في كتاب الكفاية.

وفي تقدير السيد الصدر، هذه الكتب الأربعة قد أدت دوراً جليلاً، وتخرج في حلقاتها الدراسية خلال نصف قرن الآلاف من الطلبة، الذين وجدوا فيها سلّمهم إلى أبحاث الخارج، غير أن هذا لا يحول دون محاولة تطوير الكتب الدراسية متى ما وُجدت مبررات تدعو إلى ذلك، وإلى وضع كتب دراسية، تكون أكثر قدرة على أداء دورها العلمي في تنمية الطالب، وإعداده للمرحلة العليا.

ومن جهته، يرى السيد الصدر أنه ومنذ زمن كان يجد أكثر من سبب يدعو إلى التفكير في استبدال هذه الكتب الأربعة، بكتب أخرى في مجال التدريس، كتب يكون لها صفة مناهج الكتب الدراسية بحق.

ومبررات التفكير في هذا الاستبدال كثيرة، ولكن السيد الصدر يُحدّدها في أربعة مبررات أساسية هي:

المبرر الأول: إن الكتب الأربعة المذكورة تمثل مراحل مختلفة في تطور الفكر الأصولي، فكتاب المعالم يعبر عن مرحلة قديمة في تاريخ علم الأصول، وكتاب القوانين يمثل مرحلة تخطاها علم الأصول واجتازها إلى مرحلة أعلى على يد الشيخ الأنصاري وغيره من الأعلام، وكتابا الرسائل والكفاية نفسهما نتاج فكر أصولي يرجع إلى ما قبل مائة سنة تقريباً،

وبعد هذين الكتابين، حصل علم الأصول «على خبرة مائة سنة تقريباً من البحث والتحقيق على يد أجيال متعاقبة من العلماء المجددين، وخبرة ما يقارب مائة سنة من البحث العلمي الأصولي، جديرة بأن تأتي بأفكار جديدة كثيرة، وتطور طريقة البحث في جملة من المسائل، وتستحدث مصطلحات لم تكن تبعاً لما تكوَّن من مسالك ومبانٍ، ومن الضروري أن تنال الكتب الدراسية حظًّا مناسباً لها من هذه الأفكار والتطورات والمصطلحات، لئلا يُفاجأ بها الطالب في بحث الخارج دون سابق إعداد».

وهذا يعني -في نظر السيد الصدر- أن هناك فاصلاً معنويًّا كبيراً بين محتويات الكتب الدراسية الأربعة وأبحاث الخارج، فبينما بحث الخارج يمثل حصيلة المائة عام الأخيرة من التفكير والتحقيق، ويعبّر بقدر ما يتاح للأستاذ من قدرة على ذروة تلك الحصيلة، نجد أن كتب السطح تمثل في أقربها عهداً الصورة العامة لعلم الأصول قبل قرابة مائة عام، ساكتة عن كل ما استجد خلال هذه الفترة من أفكار ومصطلحات.

ومن الأمثلة الدالة على ذلك، والكاشفة عن التطورات الجديدة، يذكر السيد الصدر بعض المطالب منها: أفكار باب التزاحم، وفكرة جعل الحكم بنحو القضية الحقيقية بآثارها الممتدة في كثير من أبحاث علم الأصول، كبحث الواجب المشروط، والشرط المتأخر، والواجب المعلق، وأخذ العلم بالحكم في موضوع الحكم، والوجه الجديد لبحث المعاني الحرفية الذي يختلف اختلافاً أساسيًّا عن الصورة الغريبة التي تخلقها آراء صاحب الكفاية في ذهن الطالب.

هذه المطالب وغيرها التي أصبحت تشكّل محاور الفكر الأصولي الحديث، هي في نظر السيد الصدر نتاج الفترة المتأخرة، الذي يظل طالب السطوح جاهلاً به تماماً إلى أن يواجه أبحاث الخارج، وهو لا يملك تصورات ابتدائية أو وسطى عن تلك المطالب، فالطالب لكي ينتقل من كتب السطح إلى درس الخارج كأنه يكلف بطفرة، وأن يقطع في لحظة مسافة لم يقطعها علم الأصول خلال تطوره التدريجي إلّا في مائة عام.

وهذا يكشف للسيد الصدر، عن حقيقة يقررها بقوله: «وكأن اختيار الكتب الدراسية من مراحل مختلفة للفكر الأصولي، نشأ من الشعور بلزوم التدرج في الكتب الدراسية من الأبسط إلى الأعمق، ولما كان علم الأصول في وضعه على عهد صاحب المعالم أبسط منه في عهد صاحب القوانين، وفي هذا العهد أبسط منه في عهد الرسائل والكفاية، فقد لوحظ أن هذا يحقق التدرج المطلوب، إذا جعل الكتاب الدراسي الأول نتاج مرحلة قديمة من علم الأصول، وما يتلوه نتاج مرحلة متأخرة، وهكذا».

وفي تقييمه لهذا الشعور، يرى السيد الصدر أنه يشتمل من جهة على حقيقة، ومن جهة أخرى يشتمل على خطأ، «أما الحقيقة فهي لزوم التدرج في الكتب الدراسية من الأبسط إلى الأعمق، وأما الخطأ فهو أن هذا التدرج لا ينبغي أن يكون منتزعاً من تاريخ علم الأصول، ومعبراً عما مر به هذا العلم نفسه من تدرج خلال نموه، لأن هذا يكلف الطالب أن يصرف وقتاً كثيراً في مطالب وأفكار لم يعد لها موضع في العلم بحسب وضعه الفعلي.

وإنما الوضع الصحيح في الكتب الدراسية الذي يشتمل على التدرج المطلوب، هو أن تتجه هذه الكتب جميعاً على اختلاف مراحلها الدراسية لعرض آخر ما وصل إليه العلم من أفكار وتحقيقات ومصطلحات، ولكن بدرجات من العرض تختلف من ناحية الكم أو الكيف أو من الناحيتين معاً.

والاختلاف في الكم يعني التفاوت في المقدار المعطى من الأفكار، فبدلاً من استعراض خمسة اعتراضات على الاستدلال بآية النبأ مثلاً، يبدأ في الحلقة الأولى باعتراض أو اعتراضين، ثم يستعرض عدد أكبر من الاعتراضات في حلقة تالية.

والاختلاف في الكيف يعني التفاوت في درجة عمق ما يطرح من فكرة، فحينما يراد الحديث عن مسلك جعل الطريقية مثلاً، يعرض في حلقة ابتدائية عرضاً ساذجاً بدون تعميق ثم يعمق في حلقة لاحقة، فيعرض على نحو يميز فيه بين التنزيل والاعتبار، وقد يعرض في حلقة أخرى حينئذ على نحو المقارنة بين هذين النحوين في النتائج والآثار».

المبرر الثاني: إن الكتب الأربعة السالفة الذكر، على الرغم من أنها استعملت ككتب دراسية منذ أكثر من خمسين عاماً، إلّا أنها لم تؤلّف من قبل أصحابها لهذا الهدف، وإنما ألفت لكي تعبر عن آراء المؤلف وأفكاره في المسائل الأصولية المختلفة.

وفرق كبير بين كتاب يضعه مؤلفه لكي يكون كتاباً دراسيًّا، وكتاب يؤلفه ليعبر فيه عن أعمق وأرسخ ما وصل إليه من أفكار وتحقيقات، لأن المؤلف في الحالة الأولى يضع نصب عينيه الطالب المبتدئ الذي يسير خطوة فخطوة في طريق التعرف على كنوز هذا العلم وأسراره، وأما في الحالة الثانية فيضع المؤلف في تصوره شخصاً نظيراً له، مكتملاً من الناحية العلمية، ويحاول أن يشرح له وجهة نظره، ويقنعه بها بقدر ما يتاح له من وسائل الإقناع العلمي.

ومن الواضح عند السيد الصدر، أن كتاباً يوضع بهذا الاعتبار، لا يصلح أن يكون كتاباً دراسيًّا، مهما كانت قيمته العلمية، وإبداعه الفكري، ومن أجل ذلك كانت الكتب الدراسية المتقدمة الذكر، غير صالحة للقيام بهذا الدور، على جلالة قدرها العلمي، لأنها ألفت للعلماء والناجزين، لا للمبتدئين والسائرين.

ومن هنا -كما يقول السيد الصدر- لم يُحرص في هذه الكتب وأمثالها من الكتب العلمية المؤلفة للعلماء، على إبراز كل خطوات الاستدلال، وحلقات التفكير في المسألة الواحدة، فقد تحذف بعض الحلقات في الأثناء أو البداية لوضوحها لدى العالم، غير أن الصورة حينئذ تصبح غير واضحة في ذهن الطالب.

وللبرهنة على هذه الحقيقة، أشار السيد الصدر إلى ثلاثة أمثلة علمية هي:

المثال الأول: في مسألة التعبدي والتوصلي، يذكر في هذا البحث استحالة أخذ قصد الامتثال في متعلق الأمر، وفرّع عليه أن التعبدي لا يتميز عن التوصلي في مرحلة الأمر بل في مرحلة الغرض، إذ لا يُستوفى غرضه إلّا بقصد الامتثال، واستنتج من ذلك عدم إمكان التمسك بإطلاق الأمر لإثبات كون الواجب توصليًّا، وهذا لا يصلح أن يكون بياناً مدرسيًّا،

لأن البيان المدرسي بحاجة لتكميل الصورة في ذهن الطالب إلى إضافة عنصرين آخرين تُركا لوضحوهما، أحدهما أن قصد الامتثال إذا كان بالإمكان أخذه في متعلق الأمر، فحاله حال سائر القيود يمكن نفيه بإطلاق الأمر، والآخر أن الخطاب والدليل مدلوله الأمر والحكم لا الملاك والغرض، وأن استكشاف إطلاق الغرض دائماً إنما يتم عن طريق استكشاف إطلاق متعلق الأمر مع افتراض التطابق بين متعلق الأمر ومتعلق الغرض، فحيث لا يتبرهن هذا الافتراض، لا يمكن الاستكشاف المذكور.

المثال الثاني: في مسألة التزاحم، فإن جل أحكام هذا الباب مبنية على أخذ القدرة شرطاً في التكليف، وعدم كونه دخيلاً في الإدانة والمنجزية فقط، بينما هذا المطلب لم يُبحث بصورة مباشرة، ولم يُوضّح الربط المذكور بل بقي مستتراً.

المثال الثالث: في مسألة المطلق والمقيد، إذ أبرزت كيفية دلالة المطلق على الإطلاق بصورة مباشرة، بينما لم تبرز كيفية دلالة المقيد على أخذ القيد في الموضوع كذلك، وإنما بحث ذلك ضمناً خلال بحث حمل المطلق على المقيد، وكيفية علاج التعارض بينهما.

وعلى ضوء ذلك، نبَّه السيد الصدر إلى بعض الملاحظات المنهجية، التي لم تراعَ في تلك الكتب الدراسية الأربعة، وهذه الملاحظات هي:

1- لم يُراعَ في هذه الكتب الدراسية، التدرج في عرض الأفكار من البسيط إلى المعقد، ومن الأسبق رتبة إلى المتأخر.

2- لم يُراعَ في هذه الكتب الدراسية أيضاً، توفير الفهم المسبق عند الطالب للمسائل والقواعد التي يستعان بها لإثبات المدَّعى في مسألة أخرى، والبرهنة عليها، أو لاقتناص الثمرة الأصولية لها.

3- لم يُحرص في هذه الكتب الدراسية، على وضع كثير من النكات والمباحث في موضعها الواقعي، وبصيغة تتناسب مع كليتها وأهميتها، وإنما دُسَّت دسًّا في مقام علاج مشكلة، أو دفع توهم، أو أثيرت من خلال تطبيق من تطبيقاتها، ومن الواضح أن العالم الممارس يستطيع من خلال ذلك أن يضع النكتة في موضعها الواقعي، ويعطيها حدودها المناسبة، ولكن قلَّما يُتاح ذلك للطالب، فيبقى فهمه لتلك النكات والمطالب فهماً تجزيئيًّا وضمن دوائر محدودة.

4- لم يُحرص -كذلك- على تجنُّب استعمال مصطلحات لم يأتِ بعدُ تفسيرها، لأن الحديث في تلك الكتب مع العالم لا مع الطالب، والعالم محيط بتلك المصطلحات منذ البدء، ولهذا نجد في الصفحة الأولى من الكفاية استعمال مصطلح حجية الظن، بناء على تقرير دليل الانسداد على الحكومة، وهو مصطلح لا يكشف النقاب عنه إلّا في أواسط الجزء الثاني من الكتاب.

المبرر الثالث: إن المقدار الذي ينبغي أن يُعطى من الفكر العلمي الأصولي في مرحلة السطح، يجب أن يُحدّد وفقاً للغرض المفروض لهذه المرحلة، والغرض المفترض لهذه المرحلة هو تكوين ثقافة عامة عن علم الأصول لمن يُريد أن يقتصر على هذه المرحلة، والإعداد للانتقال إلى مرحلة الخارج لمن يريد مواصلة الدرس، وهذا هو أهم الغرضين.

فلا بد إذن أن يكون المُعطى بقدر يكفل ثقافة عامة تحقّق هذا الإعداد، وتوجد في الطالب فهماً مسبقاً، بدرجة معقولة لما سوف يتلقّى درسه من مسائل، ومرتبة من العمق والدقة، تتيح له أن يهضم ما يُواجهه في أبحاث الخارج من أفكار دقيقة وموسعة، وبناءات فكرية شامخة.

ومن الواضح أن هذا يكفي فيه أن تتوفر الكتب الدراسية على إعطاء علم الأصول بهيكله العام، ولا يلزم أن يمتد البحث في تلك الكتب إلى التفريعات الثانوية، ويتلقّى وجهات نظر فيها، بل الأفضل أن تُترك هذه التفريعات على العموم إلى أبحاث الخارج، ما دامت المفاتيح التي سوف يتسلمها الطالب كافية لمساعدته، على الدخول فيها بعد ذلك مع أستاذ بحث الخارج.

المبرر الرابع: إن الطريقة المتبعة في تحرير المسائل، وتحديد كل مسألة بعنوان من العناوين المورّثة تاريخيًّا في علم الأصول، لم تعد تُعبّر عن الواقع تعبيراً صحيحاً، وذلك لأن البحث الأصولي من خلال اتساعه، وتعمُّقه بالتدريج، منذ أيام الوحيد البهبهاني إلى يومنا هذا، طرح قضايا كثيرة وجديدة ضمن معالجاته للمسائل الأصولية المورّثة تاريخيًّا، وكثير من هذه القضايا تعتبر من الناحية الفنية، ومن الناحية العملية معاً أهم من جملة من تلك المسائل المورّثة، بينما ظلت هذه القضايا تحت الشعاع، ولا تبرز إلا بوصفها مقدمات أو استطرادات في مباحث تلك المسائل.

ويمكن أن يُلاحظ بهذا الصدد، المباحث العقلية التي أدرجت في الجزء الأول من الكفاية تحت عناوين البحث عن الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته، والملازمة بين الأمر بالشيء والنهي عن ضده وهكذا، فإن هذه العناوين باعتبار كونها تاريخية ومورّثة في علم الأصول، استأثرت بالمسائل المبحوثة مع أنه وقع البحث في داخل تلك المسائل عن كثير من القضايا العقلية المهمة، التي بقيت بلا عنوان، وكأنها مجرد أبحاث تمهيدية أو استطرادية، فإمكان الشرط المتأخر أو استحالته، وإمكان الواجب المعلّق أو استحالته، وضرورة تقيّد التكليف بعدم الاشتغال بالمزاحم، وعدم جواز تضييع المقدمات المفوتة إلى غير ذلك من القضايا، بقيت كأجزاء من أبحاث تلك العناوين التاريخية.

بينما كل واحد منها تشكّل بحثاً أصوليًّا مهمًّا من الناحية الفنية، ومن ناحية ترتّب الثمرة الأصولية، ولا تقل أهميةً عن تلك المسائل التاريخية المورّثة، بل قد تكون أهم منها.

هذه في نظر السيد الصدر، أهم المبررات التي تدعو إلى التفكير بصورة جادة، في استبدال الكتب الدراسية السائدة، والاعتقاد بعدم صلاحيتها في مجال التدريس، على الرغم من قدسيتها العلمية والتاريخية.

القسم الثاني: مبررات عدم الاقتناع بالكتب الدراسية البديلة

يرى السيد الصدر أن في العقود الثلاثة الأخيرة، صدرت محاولات عدة للاستبدال والتطوير في الكتب الدراسية الأصولية، من هذه المحاولات كتاب (مختصر الفصول) الذي جاء ليحل مكان كتاب (قوانين الأصول)، وكتاب (الرسائل الجديدة) الذي جاء اختصاراً وبديلاً عن كتاب الرسائل، وكتاب (أصول الفقه) الذي جاء ليكون حلقة وسيطة بين كتاب المعالم وكتابي الرسائل والكفاية.

وفي تقدير السيد الصدر أن هذه محاولات مشكورة، وعبّرت عن جهود مخلصة. وأكثر هذه المحاولات استقلالية وأصالة، هي كتاب (أصول الفقه) للشيخ محمد رضا المظفر، باعتباره جاء تصنيفاً مستقلاً، وليس مجرد اختصار لكتاب سابق، لكن هذه المحاولة في نظر السيد الصدر لا تفي بالحاجة، وذلك لثلاثة أسباب أساسية هي:

أولاً: إن جعْل كتاب (أصول الفقه) للشيخ المظفر حلقة وسيطة بين كتاب المعالم وكتابي الرسائل والكفاية، هو أشبه ما يكون بعملية الترقيع، فهي وإن حرصت على أن تُعطي للطالب غالباً الأفكار الحديثة في علم الأصول، بقدر ما أتيح للمؤلف إدراكه واستيعابه، ولكنها تصبح قلقة حين توضع في مرحلة وسطى،

فيبدأ الطالب بالمعالم ليقرأ أفكاراً أصولية ومناهج أصولية في البحث، وفقاً لما كان عليه العلم قبل مئات السنين، ثم ينتقل من ذلك فجأة وبقدرة قادر ليلتقي في (أصول الفقه)، أفكاراً أصولية حديثة، مستقاة من مدرسة المحقق النائيني على الأغلب، ومن تحقيقات المحقق الأصفهاني أحياناً، وبعد أن يفترض أن الطالب فهم هذه الأفكار، نرجع به خطوة إلى الوراء ليلتقي في الرسائل والكفاية، بأفكار أقدم تاريخيًّا، بعد أن نُوقش جملة منها في الحلقة السابقة، واستبدلت جملة منها بأفكار أمتن، وهذا يشوش على الطالب مسيره العلمي في مرحلة السطح، ولا يجعله يتحرك في الاتجاه الصحيح.

ثانياً: إن كتاب أصول الفقه، على الرغم من أنه غيّر من المظهر العام لعلم الأصول، إذ قسمه إلى أربعة أقسام بدلاً عن قسمين، وأدرج مباحث الاستلزامات والاقتضاءات في نطاق المباحث العقلية، بدلاً عما درج عليه المؤلفون من ذكرها ضمن مباحث الألفاظ.

ولكن هذا لم يتجاوز التصرف في كيفية تقسيم مجموعة المسائل الأصولية المطروحة في الكتب السابقة إلى مجاميع، فقد صنفت في أربعة مجاميع بدلاً عن مجموعتين، ولم يمس هذا التصرف جوهر تلك المسائل، ولم يستطع أن يكتشف مثلاً في مقدمات مسألة الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته، مسائل أصولية لها استحقاقها الفني، لأن تُعرض كمسائل أصولية في نطاق الأدلة العقلية، وهكذا اقتصر التغيير على المظهر، ولم يتجاوزه إلى الجوهر.

ثالثاً: إن هذا الكتاب (أصول الفقه)، لا تُعبّر بحوثه عن مستوى واحد من العطاء كمًّا وكيفاً، أو عن مستويات متقاربة، بل إن الكتاب في بعض مباحثه يتوسع ويتعمق، بينما يختصر ويُوجز في مباحث أخرى.

فيلاحظ مثلاً ما اشتمل عليه من تحقيق موسع فيما يتصل باعتبارات الماهية في بحث المطلق والمقيد، وما اشتمل عليه من توسع وإطناب في مباحث الحسن والقبح العقليين، وما اشتمل عليه من توسع كذلك في إثبات جريان الاستصحاب في موارد الشك في المقتضي.

بل الملاحظ في كثير من بحوث الكتاب أنه لا تنسيق بينها، وبين بحوث الكفاية التي فُرض منهجيًّا أن تكون بعده في الخط الدراسي، فجملة من المسائل تعرض بنحو أوسع مما في الكفاية وأعمق، لا يبقى مبرر لدراسة المسألة نفسها من جديد في الكفاية، وجملة أخرى من المسائل تعرض موجزة أو ساذجة على نحو يبقى للكفاية قدرتها على أعطاء المزيد أو التعميق.

القسم الثالث: مبررات الاستبدال الكامل ووضع كتب دراسية جديدة

توصّل السيد الصدر إلى رأي مفاده، أن استبدال الكتب الدراسية القديمة يجب أن يتم بصورة كاملة، فيُعوّض عن مجموع الكتب الدراسية الأصولية القائمة، بمجموعة أخرى تكون مصممة بروح واحدة، ووفق أسس مشتركة، وتنتظم في ثلاث مراحل.

وهذا ما أراده السيد الصدر من هذه المحاولة، التي قام بها في كتابه (دروس في علم الأصول)، آخذاً فيها بعين الاعتبار النقاط الآتية:

أولاً: إن الهدف من هذه الحلقات الثلاث، هو إيصال الطالب إلى مرحلة الإعداد لبحث الخارج، وجعله على درجة من الاستيعاب للهيكل العام لعلم الأصول، ومن الدقة في فهم معالمه وقواعده، تمكّنه من هضم ما يُعطى له في أبحاث الخارج هضماً جيداً.

ومن هنا جاء الحرص على أن يطرح في هذه الحلقات، أحدث ما وصل إليه علم الأصول من أفكار ومطالب.

ثانياً: تشكّل هذه الحلقات منهجاً واحداً، وتستوعب كل واحدة منها علم الأصول بكامله، ولكنها تختلف في مستوى العرض كمًّا وكيفاً، وتتدرّج في ذلك، فيُعطى لطالب الحلقة الأولى أو الثانية قدر مُحدّد من البحث في كل مسألة، ويُؤجّل قدر آخر من المسألة إلى الحلقة التالية، ويسري هذا التدرج في الحلقة الواحدة نفسها أيضاً.

ثالثاً: ليس من الضروري حتى على مستوى الحلقة الثالثة، استيعاب كل الأدلة التي يُستدل بها على هذا القول أو ذاك، لأن هذه الإحاطة إنما تلزم في بحث الخارج، أو في تأليف يُخاطَب به العلماء من أجل تكوين رأي نهائي فلا بد حينئذ من فحص كامل، وأما في الكتب الدراسية لمرحلة السطح، فليس الغرض منها إلّا الثقافة العامة والإعداد، وعلى هذا الأساس يُطرح في كل مسألة الأدلة ذات المغزى الفني، ويهمل ما لا يكون له محصل من الناحية الفنية.

رابعاً: تجاوز التحديد الموروث تاريخيًّا للمسائل الأصولية، وإبراز ما استجد من مسائل، وإعطائها عناوينها المناسبة، وأما بالنسبة إلى التصنيف الموروث للمسائل الأصولية إلى مجموعتين، وهما مباحث الألفاظ والأدلة العقلية، فليس هناك مبرر للعدول عن التصنيف الثنائي، إلى تصنيف آخر، ولكن جرى إدخال تعديل عليه، بجعل المجموعتين هما مباحث الأدلة ومباحث الأصول العملية، وذلك من أجل تقريب التصنيف الأصولي للمسائل، إلى واقع عملية الاستنباط، وما يقع فيها من تصنيف للمواقف، فكما أن عملية الاستنباط تشتمل على مرحلتين مترتبتين وهما الأدلة والأصول، كذلك البحث في علم الأصول يصنف إلى هذين الصنفين، وكما أن الفقيه في مجال الأدلة تارة يستدل بالدليل الشرعي، وأخرى بالدليل العقلي، كذلك علم الأصول يبحث الأدلة الشرعية تارة، والأدلة العقلية أخرى.

خامساً: عند استعراض آحاد المسائل ضمن التصنيف المذكور، جرى ملاحظة الابتداء بالبسيط والانتهاء إلى المعقد، والتدرج في عرضها حسب درجات تعقيداتها وترابطاتها، والحرص على ألَّا تُعرض مسألة إلّا بعد أن يكون قد تم الاستيفاء مسبقاً من كل ما له دخل في تحديد التصورات العامة فيها.

وألَّا يُعطى في كل مسألة من الاستدلال والبحث إلّا بالقدر الذي تكون أصوله الموضوعية مفهومة بلا حاجة للرجوع إلى مسألة لاحقة، الأمر الذي ترتب عليه تغيير ترتيب المسائل من حلقة إلى أخرى.

سادساً: إن تعدّد الحلقات شيء ضروري لتحقيق المنهج المرسوم، لأن إعطاء مجموع الكمية الموزعة للمسألة الواحدة في الحلقات الثلاث، ضمن حلقة واحدة فيه تحميل للطالب فوق ما يُطيقه، ويكون جزء من تلك الكمية عادة مبنيًّا على مسائل أخرى، لم يتضح بعدُ حالها للطالب.

كما أن تثليث الحلقات شيء ضروري أيضاً، على الرغم من أن الحلقة الأولى يبدو أنها ضئيلة الأهمية، وقد يتصور الملاحظ في بادئ الأمر إمكان الاستغناء عنها نهائيًّا، ولكن الصحيح عدم إمكان ذلك، لأن قبل البدء بحلقة استدلالية تشتمل على نقض وإبرام، هناك حاجة إلى تزويد الطالب بتصورات عن المطالب، وعن القواعد الأصولية، حتى يكون بالإمكان في تلك الحلقة الاستدلالية، ضمان الاستدلال والنقض والإبرام لهذه المسألة أو تلك، ولهذا المطلب الأصولي أو ذاك.

وبعد هذه الحلقة، تأتي الحلقة الثانية بوصفها حلقة استدلالية بحق، ولكن بدرجة تتناسب معها، وتمثل الحلقة الثالثة، المستوى الأعلى من الاستدلال، الذي يكفي لتحقيق الهدف المطلوب من دراسة السطح.

سابعاً: إن كل حلقة من هذه الحلقات الثلاث، وإن كانت تستعرض علم الأصول ومباحثه على العموم، ولكن مع هذا قد تذكر بعض المسائل الأصولية في حلقة، ثم لا يعاد بحثها في الحلقة التالية، اكتفاء بما تقدم لاستيفاء حاجة المرحلة، أي مرحلة السطح.

ثامناً: عدم التصرف في العبارة الأصولية تغييراً أو تطويراً، وعدم توخي أن تكون العبارة في الحلقات الثلاث، وفقاً لأساليب التعبير الحديث، حصل ذلك إلى حد ما في الحلقة الأولى فقط، أما في الحلقتين الثانية والثالثة، فقد كان الحرص على أن تكون العبارة سليمة ووافية من جهة المعنى، ولم تكن هناك محاولة لجعلها حديثة، وليس ذلك لعدم الإيمان بأهمية تنشئة الطالب الحوزوي على أساليب التعبير الحديث، وإنما لاعتبارين مهمين هما:

الاعتبار الأول: تمكين الطالب من الرجوع إلى الكتب العلمية الأصولية القائمة وفهمها، وهذا لا يتأتى إلّا إذا تمت مخاطبته بعبارة قريبة من مفردات تلك الكتب، ولو أن هذه الحلقات الثلاث، كتبت بأساليب التعبير الحديث، ووضعت بديلاً عن المصطلحات القديمة، فسوف تنقطع صلة الطالب بمراجع هذا العلم وكتبه، ويتعسّر عليه الرجوع إليها، وهذا يشكّل عقبة كبيرة تواجه نموه العلمي.

الاعتبار الثاني: إن الكتب الدراسية الأصولية والفقهية المكتوبة باللغة العربية، تتميز عن أي كتاب دراسي عربي في العلوم المدنية، بأنها كتب لا تختص بأبناء لغة دون لغة، وكما يدرسها العربي، يدرسها كذلك الفارسي والهندي والأفغاني وغيرهم من أبناء الشعوب المختلفة في العالم الإسلامي، على الرغم من كونها كتباً عربية، وهؤلاء يتلقون ثقافتهم العربية من المصادر القديمة، التي لا تهيئ لهم قدرة كافية لفهم اللغة العربية، بأساليبها الحديثة، فما لم يحصل بصورة مسبقة تطوير وتعديل في أساليب تثقيف هؤلاء، وتعليمهم اللغة العربية، يصعب اتخاذ أساليب التعبير الحديث أساساً للتعبير في الكتب الدراسة الأصولية.

تاسعاً: تختلف الحلقات الثلاث عن الكتب الدراسية الأصولية السائدة، في جهة تتفق فيها مع مناهج الكتب الدراسية الحديثة، فالكتب الدراسية الأصولية القائمة، لا تحتوي على الصعوبة والتعقيد في الجانب المعنوي والفكري منها فقط، بل إنها تشتمل على الصعوبة والتعقيد في الجانب اللفظي والتعبيري أيضاً.

ولهذا تجد عادة أن المدرس حتى بعد أن يشرح الفكرة للطالب، تظل العبارة مستعصية على الفهم، ويحس الطالب بالحاجة إلى عون الأستاذ في سبيل تطبيق تلك الفكرة على العبارة جملة جملة، وليس ذلك إلّا لأن العبارة قد طعّمت بشيء من الإلغاز، إما لإيجازها أو للالتواء في صياغتها، أو لكلا الأمرين.

بينما الكتب الدراسية التي تسير عليها مناهج الدراسة في العالم اليوم، لا تحتوي على هذه الصعوبة، لأن العبارة فيها وافية، وهذا ما جرى عليه العمل في هذه الحلقات، فقد جاءت العبارة فيها وافية بالمراد، لا بمعنى أن الطالب يقتنص المراد من العبارة فقط، بل بمعنى أنه حين يشرح له أستاذه المعنى، يجده منطبقاً على العبارة، ولا يحس في التعبير بالتواء وتعقيد.

عاشراً: التأكيد على أن تبني وجهة نظر، أو طريقة استدلال، أو مناقشة برهان، في هذه الحلقات، لا يدل على اختيار ذلك حقًّا، كما أن المضمون الكامل للحلقات الثلاث، لا يمثل الوضع التفصيلي لمباحث السيد الصدر الأصولية، ولا يصل إلى مداها كمًّا أو كيفاً.

القسم الرابع: تنبيهات استرشادية

قبل أن يختم السيد الصدر مقدمته المنهجية، نبَّه على بعض التوجيهات الاسترشادية المتعلقة بطريقة التعامل مع هذه الحلقات الثلاث، وقصد بهذه التوجيهات الطلبة والأساتذة معاً، وهذه التوجيهات هي:

أولاً: من يكون جديراً بتدريس كتاب (الكفاية)، يكون قادراً على تدريس الحلقات الثلاث جميعاً، والقادر على التدريس كتاب (المعالم)، يكون قادراً على التدريس الحلقة الأولى، والقادر على تدريس كتاب (أصول الفقه)، يكون قادراً على تدريس الحلقة الثانية.

ثانياً: إن الطلبة الذين يدرسون الحلقة الثالثة، عليهم قبل درس كل مسألة فيها، مطالعة المسألة نفسها من الحلقة السابقة عليها، لأن ذلك يساعد على سرعة تفهّم الدرس الجديد، الذي كثيراً ما يشتمل جزء منه على المطالب المتقدمة نفسها في الحلقة السابقة، ولكن بشكل مضغوط وموجز.

ومن يقوم بتدريس الحلقة الثانية، عليه عند التحضير مطالعة المبحث نفسه من الحلقات الثالثة، لأن ذلك يعطيه رؤية أوضح لمن يريد أن يتولى تدريسه.

ثالثاً: إن طلبة الحلقة الأولى، يناسبهم مطالعة كتاب (المعالم الجديدة في الأصول)، لأن هذه الحلقة، هي اختصار مع شيء من التعديل والتطوير لكتاب المعالم الجديدة، والفارق بينهما أن كتاب المعالم الجديدة، حينما وضع كان الهواة في الحساب أيضاً، وجرى شرح الأفكار فيه بطريقة تتيح لهم أن يفهموها من الكتاب نفسه دون حاجة إلى مدرس، وأما الحلقة الأولى من هذه الحلقات الثلاث، فقد وضعت لطلبة العلم خاصة، وإنها تُتلقى من خلال الدرس.

رابعاً: من المفيد أن يتّخذ الطالب من بعض الكتب الدراسية القديمة مراجع له، ككتابي (أصول الفقه) و(الكفاية) خلال البحث، وكون أن المنهجة مختلفة، فالمأمول في مدرسي الحلقة الثالثة، أن يرشدوا تلامذتهم إلى موضع المسألة التي يدرسونها، ومحل التعرّض لها في كتابي أصول الفقه والكفاية، لأن ذلك يوسع من مدارك الطالب، ويسرع به نحو النضج العلمي المطلوب.

خامساً: ينبغي للطالب أن يحاول استيعاب شرح الأستاذ وكتابته، لكي تنمو لديه ملكة الكتابة العلمية، وتترسخ في ذهنه مصطلحات العلم ولغته وأفكاره، ويكون أكثر استعداداً لكتابة أبحاث الخارج فيما بعد.

هذه هي عناصر ومكونات رؤية السيد الصدر في التجديد المنهجي لأصول الفقه، كما شرحها في مقدمة كتابه (دروس في علم الأصول)، حاولت عرضها بطريقة منظمة، تساعد على تكوين المعرفة بها، وفي التعامل معها، والنظر فيها، ولتكون لها ملامح وسمات الرؤية المنهجية.

ملاحظات ونقد

هذه المحاولة من السيد الصدر في التجديد المنهجي لأصول الفقه، والمتمثلة في كتاب (دروس في علم الأصول)، لم تجرِ حولها مناقشات نقدية موسعة في ساحة أصول الفقه، أو في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر بصورة عامة، وما وجدته هو مجرد ملاحظات سريعة وعابرة، لا تتناسب ومستوى العمل المنجز.

من هذه الملاحظات، ما أشار إليه الشيخ محمد مهدي شمس الدين الذي اعتبر أن حلقات الأصول للسيد الصدر، هي عبارة عن أصول قديمة كتبت بلغة حديثة، وحسب قوله: إن حلقات «الأصول للسيد الصدر، وهي مكتوبة بمنهجية حديثة من حيث اللغة والتبويب والتنسيق، ولكنها عبارة عن أصول قديمة كتبت بلغة حديثة، فالتحديث الذي حصل تحديث مفيد سهل كثيراً، ولكنه يكوّن طالب فقه أو طالب اجتهاد من قبيل الشيخ الطوسي، وفي الأزهر يكوّن فقيهاً من نوع الشافعي، إنه منهج قديم أعيدت صياغته».

ومن هذه الملاحظات أيضاً، ما أشار إليه الدكتور محمد الدسوقي الذي اعتبر أن السيد الصدر في كتابه الحلقات جدّد في العرض لكنه لم يجدّد في المضمون، وحسب قوله: «إن العلامة باقر الصدر هضم الفكر الأصولي، وعبّر عن آرائه في أسلوب يجمع بين الدقة الأصولية، والصياغة العربية الصحيحة الميسرة، فهو مجدّد في العرض وإن لم يكن له تجديد واضح في المضمون».

وبين هذين الرأيين هناك تقارب واضح، لكن الذي أراه في هذا الجانب، أن السيد الصدر لم يكن بصدد إحداث تغيير معرفي في أصول الفقه، أو إنجاز تجديد في مضمونه، وإنما كان بصدد إعداد منهج دراسي حديث في أصول الفقه، تنطبق عليه الشروط والمعايير المنهجية الحديثة لمناهج التعليم الحديث.

وهذه الملاحظة، تؤكد ما ذهبت إليه من أن التجديد الذي أحدثه السيد الصدر وسعى إليه، إنما هو تجديد منهجي، وليس تجديداً معرفيًّا.

أما الملاحظات التي وجدتها في هذا الشأن، فهي في معظمها تتعلّق بموقف السيد الصدر من كتاب (أصول الفقه) للشيخ المظفر، وهذه الملاحظات هي:

أولاً: إن أكثر ما لفت انتباهي في هذه المقدمة المنهجية المهمة، هي الطريقة التي تعامل بها السيد الصدر مع كتاب (أصول الفقه) للشيخ المظفر، الذي لم يذكر اسمه قط في كل المرات التي أشار فيها إلى كتابه، فالملاحظ أن السيد الصدر قلل كثيراً من أهمية هذا الكتاب وقيمته، وركز عليه نقده في القسم الثاني الذي تناول مبررات عدم الاقتناع بالكتب الدراسية البديلة، وكان هو المقصود والمستهدف في هذا النقد.

في حين يعتبر كتاب (أصول الفقه) من أحدث وأجود المؤلفات الأصولية الحديثة، وما زال إلى اليوم يحتفظ بهذه الصفة عند شريحة كبيرة من الأصوليين، وقد اعتبره الشيخ محمد مهدي شمس الدين بأنه «كان ولا يزال نموذجاً رائداً في المضمون والصياغة والتبويب».

ثانياً: كما ارتبط كتاب الحلقات بحركة إصلاحية تحديثية قادها السيد الصدر في مدينة النجف وفي العراق عموماً، وكان رائداً في هذه الحركة الإصلاحية التحديثية، كذلك ارتبط كتاب (أصول الفقه) بحركة إصلاحية تحديثية قادها الشيخ المظفر، الذي وصفته الكتابات المعاصرة برائد الحركة الإصلاحية الحديثة في النجف الأشرف، وجاء كتاب (أصول الفقه) ثمرة من ثمرات هذه الحركة الإصلاحية التحديثية.

الأمر الذي كان يُفترض بالسيد الصدر، أن ينظر إليه ويتعامل مع كتاب (أصول الفقه) بطريقة مختلفة، طريقة تُعطي هذا الكتاب دعماً ومساندة لا أن يتركز عليه النقد.

كما كان يفترض بالسيد الصدر، أن يعتبر حركته الإصلاحية التحديثية امتداداً للحركة الإصلاحية التحديثية التي قادها الشيخ المظفر من قبل في مجال تطوير وتحديث المناهج الدراسية في الحوزات العلمية.

فقد أسّس الشيخ المظفر في النجف الأشرف كلية الفقه سنة 1376هـ/ 1956م، وألّف كتابه (أصول الفقه) ليكون منهجاً دراسيًّا حديثاً لطلبة هذه الكلية، محققاً بذلك -في نظر البعض- فتحاً ليس في دنيا مناهج التدريس الديني فحسب، وإنما في كثير من أبعاد علمي المنطق والأصول.

ومن هذه الجهة، يرى الباحث العراقي جعفر الخليلي أن الشيخ المظفر هو أول من التفت إلى وجوب إيجاد حركة تجديدية في طريقة البحث والاستقراء والاستقصاء عن طريق التأليف، والمبادرة إلى إحياء المؤلفات الخطية، ونشرها والتعليق عليها بقالب يتمشى مع العصر.

وقبل كلية الفقه، أسس الشيخ المظفر سنة 1354هـ/ 1935م جمعية منتدى النشر، لتكون -حسب قول الشيخ محمد مهدي شمس الدين- «الإطار التنظيمي والمؤسسي للتعبير عن فكرة التحديث في الدراسات الدينيةً مضموناً ومنهجاً وكتباً دراسية».

ثالثاً: اعتبر السيد الصدر أن كتاب (أصول الفقه)، يحتوي على أفكار أصولية حديثه، مستقاة من مدرسة المحقق النائيني على الأغلب، ومن تحقيقات المحقق الأصفهاني أحياناً.

والملاحظ على هذا الكلام، أن السيد الصدر لم يذكر فضلاً للشيخ المظفر، وهو الذي وصفه الشيخ شمس الدين بالمجتهد المجدد.

رابعاً: قسّم الشيخ المظفر مباحث علم أصول الفقه إلى أربعة أقسام، واعتبره تقسيماً حديثاً تنبَّه له -حسب وصفه- شيخه العظيم الشيخ محمد حسين الأصفهاني، وأفاده في دورة بحثه الأخيرة.

وهذا التقسيم -في نظر الشيخ المظفر- هو التقسيم الصحيح، الذي يجمع مسائل علم الأصول، ويدخل كل مسألة في بابها، وهذه الأقسام الأربعة هي: مباحث الألفاظ، والمباحث العقلية، ومباحث الحجة، ومباحث الأصول العملية.

لكن هذا التقسيم اعتبره السيد الصدر، مع أنه غيّر من المظهر العام لعلم الأصول، إلا أنه لم يتجاوز التصرف في كيفية تقسيم مجموعة المسائل الأصولية المطروحة في الكتب السابقة، ولم يمس هذا التصرف جوهر تلك المسائل. والخلاصة أن هذا التغيير -في نظر السيد الصدر- اقتصر على المظهر، ولم يتجاوزه إلى الجوهر.

وفي مقابل التقسيم الرباعي للشيخ المظفر، فضّل السيد الصدر التقسيم الثاني، المتكوّن من مباحث الأدلة، ومباحث الأصول العملية.

هذا الرأي من السيد الصدر لا يلغي على الإطلاق رأي الشيخ المظفر، وفي ساحة أصول الفقه لعل هناك من يستحسن رأي السيد الصدر في التقسيم الثنائي، إلى جانب من يستحسن رأي الشيخ المظفر في التقسيم الرباعي، ولسنا بحاجة إلى حصر الموقف في رأي واحد بعينه، وإنما التعامل على أساس أن في ساحة أصول الفقه، هناك أكثر من رأي حول تقسيمات مباحث هذا العلم، ولا ضير في ذلك على الإطلاق.

خامساً: في الملاحظة الثالثة حول كتاب (أصول الفقه)، رأى السيد الصدر أن هذا الكتاب لا تُعبّر بحوثه عن مستوى واحد من العطاء كمًّا وكيفاً، أو عن مستويات متقاربة، فهو بينما يتوسّع في بعض مباحثه ويتعمّق، يختصر في مباحث أخرى ويُوجز، ومن المباحث التي توسّع فيها إلى حد الإطناب -حسب قول السيد الصدر- مبحث الحسن والقبح العقليين.

في مقابل هذا الرأي، هناك رأي آخر مختلف ومغاير أشار إليه الشيخ شمس الدين، الذي يرى أن الشيخ المظفر ركّز «أبحاث الكتاب على الموضوعات الأصولية ذات الصلة بعملية الاستنباط، التي تكوّن عند الطالب الأساس اللازم لأبحاث الدراسات الأصولية المعمقة، والمؤهلة للاجتهاد، وأهمل الشيخ المظفر بعض الأبحاث الدخيلة على الأصول، والتي لا تُسهم في تكوين الخبرة اللازمة لطالب الاجتهاد، واختصر بعضها الآخر على نحو يزود الطالب بفكرة عنها دون أن يستغرق في تفصيلاتها، كما أنه عُني بذكر أسس بعض المسائل الأصولية التي كانت تذكر في الكتب القديمة من دون بيان الخلفية العلمية التي تستند إليها، كما نلاحظ في بحثه عن التحسين والتقبيح».

وهذا يعني أننا أمام رأيين مختلفين في هذا الجانب، ولسنا أمام رأي واحد فحسب، والمفاضلة بينهما ينبغي أن تستند إلى التحقيق والنظر، وفي ساحة أصول الفقه سوف نجد من يُقدّم رأي السيد الصدر ويُفاضل به على الرأي الثاني، إلى جانب من يُقدِّم رأي الشيخ شمس الدين ويفاضل به، إلى جانب من يرى رأياً ثالثاً.. وهكذا.

سادساً: لم يتمكن كتاب السيد الصدر بحلقاته الثلاث، أن يحل مكان الكتب الدراسية الأربعة القديمة، وتحديداً كتابي الرسائل والكفاية، أما كتابي المعالم والقوانين فقد جرى من قبلُ التخلي عنهما كمناهج دراسية، كما لم يتمكن هذا الكتاب أيضاً، من أن يزحزح كتاب أصول الفقه من مكانه، ولا أن يغيّر الموقف تجاهه.

والذي حصل أن وجهات النظر تجاه كتاب الحلقات، قد اختلفت وتباينت في ساحة الأصوليين، بين من تحمس له واعتمده كمنهج دراسي بديل عن جميع الكتب الدراسية الأخرى، وبين من تعامل معه بطريقة انتقائية تستند على اختيار بعض الحلقات وليس كلها، وفي هذا النطاق هناك من اختار الحلقة الثالثة فقط دون غيرها من الحلقات الأخرى، وهناك من اختار الحلقتين الثانية والثالثة فقط، وهذا بخلاف التصور المنهجي الذي وضعه السيد الصدر لهذه الحلقات، إلى جانب من تحفّظ كليًّا على هذه الحلقات كمنهج دراسي بديل.

هذه بعض الملاحظات النقدية، التي جاءت في سياق الكشف عن ملامح ومكونات رؤية السيد الصدر في التجديد المنهجي لأصول الفقه.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign