خاص الاجتهاد: لقد مر الآن مائة وثلاثة أعوام على إعادة تأسيس الحوزة العلمية في قم المقدسة على يد عالم عامل ورع./ بقلم: حجة الإسلام الشيخ علي أصغر مجتهد زادة
يعود تأسيس الحوزة العلمية إلى الأيام الأولى من بعثة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله. فمنذ اللحظة التي اختير فيها النبي للرسالة، بدأ تعليم معارف الإسلام. كان تبليغ الدين واجباً أولاه نبي الإسلام صلى الله عليه وآله اهتماماً خاصاً منذ بداية البعثة. وقد ازدهر هذا المنهج بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله إلى المدينة، ونما بالتزامن مع اتساع نطاق الدعوة الإسلامية، وذلك بفضل جهود النبي صلى الله عليه وآله في تربية الدعاة والمبلغين، وكذلك جهود أصحابه في تبيين الإسلام والترويج له
بعد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، ازدهرت الحوزات العلمية وتنامت تحت إشراف الأئمة المعصومين عليهم السلام، وخاصة مع تأسيس الحلقات الدراسية الواسعة والعريقة في عهد الصادقين عليهما السلام. إن آثار أصحاب وتلاميذ المعصومين عليهم السلام في تصنيف وتدوين أحاديثهم، وكذلك حل بعض المسائل الفكرية والفقهية في عصرهم بالاستعانة ببيانات ودروس المعصومين، شاهد على الحياة النشطة والمفعمة بالحيوية للحوزات العلمية الشيعية في عصر حضور النبي المكرم والإئمة الأطهار عليهم السلام. إن تتبع تاريخ الأمة الإسلامية يظهر أن علماء الشيعة في ضوء أنوار المعصومين كانوا بحق مؤسسي معظم العلوم الإسلامية. بعد عصر الغيبة، وخاصة مع بداية الغيبة الكبرى، ومع تفويض قيادة الأمة الإسلامية إلى الفقهاء من قبل الأئمة الأطهار عليهم السلام وإحالة الناس إليهم، أصبح دور العلماء والحوزات العلمية في هداية الأمة الإسلامية أكثر وضوحًا وبروزًا.
منذ ذلك الحين وإلى الآن، سارت الحوزات العلمية الشيعية على مدى 1400 عام، بالجهد والجهاد وتحمل الصعاب والنفي والاتهامات و… في طريق ترويج وتبين وتطبيق المعارف الشيعية الخالصة، وشهد التاريخ أنها تركت سجلاً ذهبياً
إن ظهور الحوزات العلمية في قم بريادة الشيخ الصدوق (الأب والابن)، ثم في سمرقند وما وراء النهر بجهود الكشي والعياشي، وبعدها حوزة بغداد بحضور الشيخ المفيد (رحمه الله)، ثم حوزة النجف الأشرف بريادة الشيخ الطوسي (رحمه الله)، وحوزات الحلة بقيادة العلامة الحلي (رحمه الله)، وظهور حوزة الشام، إلى ازدهار حوزات أصفهان وقزوين وشيراز في العصر الصفوي بجهود وتوجيه المحقق الكركي وعدد من علماء جبل عامل بشكل رسمي، وتأسيس حوزات كربلاء وسامراء والنجف، وأخيراً ازدهار حوزة قم العلمية من جديد بحضور آية الله الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي وآية الله السيد حسين البروجردي رحمهما الله، يدل على جهود علماء الشيعة في نشر المعارف الشيعية في التاريخ المضطرب لهذه الحوزات. تاريخ يمر معظمه في أوقات العسر والتقية وتحت حكم الحكام الظالمين.
إن الشهداء العظماء والعديدين من الحوزات العلمية الشيعية، الذين يُعتبر بعضهم كالشّهيد الأول والشّهيد الثاني رضوان الله عليهما من علماء الصف الأول في الحوزات، يشهدون شهادة عظيمة على جهاد رجال الدين في عصر التقية والعسر، الذين كتبوا رسائلهم العلمية والعملية بدم الشهادة وحبر الدماء. ومن أهم أبعاد نشاط الحوزات الشيعية في عصر الغيبة الكبرى، تربية ملايين المسلمين المؤمنين بأهل البيت ومذهب أهل البيت عليهم السلام، الذين عبدوا الله في هذه السنين المديدة (الإمام الخامنئي؛ 15 مهر 71)
يمكن تقسيم المئة عام الماضية إلى أربع فترات؛ الفترة الأولى، فترة المرحوم آية الله الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي؛ الفترة الثانية، فترة المرحوم آية الله البروجردي؛ الفترة الثالثة، فترة الإمام الخميني؛ والفترة الرابعة، فترة آية الله الخامنئي.
ففي الوقت الذي كان فيه ظلم رضا خان يوشك أن يخنق أنفاس رجال الدين وينهي هذا الصنف المجدد للدين، علم الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي بعد رحلته إلى مشهد وتوقفه بضعة أيام في قم، بغربة الحوزة العلمية في قم، وبدعوة العلماء، بقي في هذه المدينة وتولى إدارة وتوجيه الحوزة العلمية بحنكة ودهاء في مدينة كريمة أهل البيت العصمة والطهارة وبجوار مسجدها الشريف لمدة خمسة عشر عامًا، وأحدث تحولًا في الحوزة حتى اشتهر بـ “مؤسس الحوزة”. وبحضور هذا الرجل الإلهي في قم، توافدت شخصيات عديدة إلى هذه الحوزة للاستفادة من محضره. وكان كل هم وجهد الشيخ عبد الكريم في العصر الأسود لرضا خان هو الحفاظ على اقتدار الحوزة وتنشئة الطلاب.
إن خدمات المرحوم آية الله الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي والمرحوم آية الله البروجردي خلال فترة إدارتهما للحوزة العلمية في قم جديرة بالاهتمام البالغ. كان الإمام الخميني (رحمه الله) يذكر دائمًا المرحوم الحائري وبساطة عيشه في أوج سلطانه وزعامته بكل خير، وكان يثني عليه من حيث العلم والإخلاص والزهد والتواضع والتقوى وحسن المعاشرة. إن تأسيس حوزة علمية دينية في مدينة قم خلال المئة عام الأخيرة وبإدارة هؤلاء العظماء وأنصارهم المخلصين، يحمل آثارًا وإنجازات جديرة بالتقدير ودائمة، لا تتسع لها هذه المذكرة، ولكن سيتم الإشارة إلى بعضها باختصار.
تشكيل الحكومة؛ إن أحد الإنجازات القيمة ومن أفكار عظماء الدين بقيادة رجال الدين الثوريين الشيعة وتوجيه الحركة الثورية للشعب، هو تشكيل النظام الإسلامي القائم على الفقه الذي فتح آفاقًا جديدة أمام المجتمع العالمي والمتشوقين للحرية والخلاص.
تطوير العلوم الدينية؛
ساهمت الحوزة العلمية من خلال تربية علماء عظام وإصدار الفتاوى والمؤلفات العلمية في توسيع العلوم الدينية مثل الفقه والأصول والكلام وتفسير القرآن والفلسفة. وقد ساعد هذا الأمر وترجمة القرآن إلى 110 لغات حية في العالم، نظرًا لتعطش شعوب العالم الذي لا يوصف للتعرف على المعارف الإسلامية، على بقاء الأفكار الدينية حديثة ومتناسبة مع ظروف العصر.
التأثير على السياسة والمجتمع؛
لعبت الحوزات العلمية كمراكز للفكر والتيارات الاجتماعية دورًا كبيرًا في تقدم الأفكار الإسلامية والسياسية. وكانت الأنشطة السياسية للعلماء الكبار، وخاصة آية الله كاشف الغطاء والإمام الخميني، مؤثرة في التطورات السياسية والاجتماعية في إيران والعالم الإسلامي.
إنشاء المؤسسات الاجتماعية؛
قامت الحوزات العلمية بتأسيس فرق جهادية لتتمكن من مساعدة الناس في الحوادث.
الدراسات الدينية والوحدة الإسلامية؛ قامت الحوزات العلمية بدراسة وتحليل التشيع والتسنن، وساعدت في التعرف على القواسم المشتركة والاختلافات بين هذين المذهبين. يمكن أن يؤدي هذا الأمر إلى مسار الوحدة الإسلامية.
التأثير الثقافي؛
ساهمت الحوزات العلمية من خلال خلق الأعمال الأدبية والفنية وعقد الندوات والمؤتمرات في إثراء الثقافة الإسلامية والإيرانية. وقد أنتجت هذه الأعمال أعمالًا قيمة في مجال الشعر والنثر والفن والفلسفة
مواجهة المستعمرين
لعبت الحوزات العلمية، بصفتها منصة لمكافحة الاستعمار والاستبداد، دورًا مهمًا. لقد سعى علماء الدين، من خلال توضيح الحقائق وتوعية الناس، إلى متابعة حقوق المجتمع وحمايته من الأخطار الخارجية.
تنشئة الأجيال القادمة
تواصل الحوزات نقل العلوم والمعارف الإسلامية إلى الأجيال القادمة من خلال تنشئة الطلاب والباحثين. هذه التنشئة ليست مؤثرة في مجال العلوم الدينية فحسب، بل في العلوم الإنسانية والاجتماعية أيضًا.
مواجهة النفوذ
الوقاية من نفوذ الأجانب ومكافحة المنحرفين المتظاهرين بالقداسة والمتعصبين في الحوزة.
حوزة الأخوات
ولادة الحوزة العلمية للأخوات وتنشئة الفقيه والمبلغ من بين الأخوات الإيرانيات والأجنبيات.
توسع الحوزة في جميع المجالات والمناطق المطلوبة داخل وخارج الدولة، حيث تمتلك 95 بالمئة من الدول الأوروبية والأفريقية وحتى أمريكا مراكز إسلامية وحوزات علمية.
فكر المقاومة؛ تقوية روح المقاومة لدى الأمة الإسلامية والنضال الدؤوب ضد أمريكا والعصابة الإجرامية الصهيونية العالمية.
التكنولوجيا؛ استخدام البرامج والتكنولوجيات الحديثة لتبليغ الدين من قبل الحوزات العلمية.
الحوار والتفاعل مع المذاهب الأخرى؛ قامت الحوزة العلمية في قم بإجراء حوار وتفاعل مع المذاهب الإسلامية الأخرى والأديان المختلفة، وسعت للمساهمة في التعايش السلمي.
التأثير على الثقافة والمجتمع؛ كان لأنشطة الحوزة العلمية تأثير في نشر الثقافة الإسلامية والأخلاقية، وساهمت في تشكيل الهوية الدينية والثقافية للمجتمع، و….
إن ذكر الماضي التاريخي للحوزة العلمية ليس للتفاخر، بل ليعلم الجميع أن للحوزة جذورًا راسخة. البناء الذي له جذور متينة وقواعد عميقة لا يمكن زعزعته بسهولة أو تأثره بعوامل مضادة للعلم والمعرفة وتحصيل المعارف الدينية. النظر إلى الماضي يعني نظر الحوزويين إلى طريق الأنبياء وطريق العلماء الذين حافظوا على هذا الإرث الثمين وقدموه للأجيال القادمة بكل المشقات، ومن خلال التعلم منه كمشعل مضيء، يكونون هداة للمجتمع والحكومة.