الإمام الجواد

علل الأحكام عند الإمام محمد الجواد عليه السلام / الدكتور محمد حسين الصغير

الاجتهاد: قال الراوي، قلت لأبي جعفر(ع): إنهم يقولون في حداثة سنك!! فقال: ( أن الله تعالى أوحى إلى داود أن يستخلف سليمان وهو صبي يرعى الغنم، فأنكر ذلك عباد بني إسرائيل وعلماؤهم!! فأوحى الله إلى داود(ع): أن خذ عصيّ المتكلمين وعصا سليمان، واجعلها في بيت واختم عليها بخواتيم القوم، فإذا كان من الغد، فمن كانت عصاه قد أورقت وأثمرت فهو الخليفة، فأخبرهم داود(ع)، فقالوا: قد رضينا وسلمنا.

ولج الإمام محمد الجواد باب بيان علل الأحكام، وفيه الحكم الفقهي وعلة ذلك الحكم، وكان الإمام قاصداً إلى ذلك لتبديد تلك السحب الكثيفة التي تلبدت في الأفق السياسي من قبل الحكم العباسي ووعاظ السلاطين، وشرائح كبيرة من الموالين للنظام على حد سواء.

لقد أثيرت في طريق الإمام عدة شبهات مضللة كان أقربها إلى أذهان السذج والبسطاء من الناس هي مسألة حداثة السن وصغر العمر، وقد شاء الحكم اللعب بهذه الورقة فما استطاع إلى ذلك سبيلاً.

وعلى الرغم من أن الإمام قد برهن ميدانياً على إمامته في تلك السن المبكرة من خلال إجاباته العلمية والفقهية والعقائدية والتفسيرية والفلسفية، فأن هذه الشبهة تثار في الوسط الرسمي بين الآونة والأخرى، لسبب وآخر.

قال الراوي، قلت لأبي جعفر(ع): إنهم يقولون في حداثة سنك!! فقال: ( أن الله تعالى أوحى إلى داود أن يستخلف سليمان وهو صبي يرعى الغنم، فأنكر ذلك عباد بني إسرائيل وعلماؤهم!! فأوحى الله إلى داود(ع): أن خذ عصيّ المتكلمين وعصا سليمان، واجعلها في بيت واختم عليها بخواتيم القوم، فإذا كان من الغد، فمن كانت عصاه قد أورقت وأثمرت فهو الخليفة، فأخبرهم داود(ع)، فقالوا: قد رضينا وسلمنا)(1).

وفي نص آخر، قال الراوي للإمام محمد الجواد (ع): يا سيدي إن الناس ينكرون عليك حداثة سنك!!
فقال: وما ينكرون من ذلك، قول الله عز وجل؟ لقد قال عز وجلّ لنبيه: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني..(۲).
فوالله ما تبعه إلا علي(ع)، وله تسع سنين، وأنا ابن تسع سنين)(3).

وأنت تجد الإمام (ع) في هاتين الروايتين ينطلق تكوينية وتشريعية بوقت واحد لردّ هذه الشبهة باستخلاف سليمان من قبل داود بأمر الله تعالى، وسليمان صبي يرعى الغنم، فأقام له الحجة حتى رضوا وسلموا.

ومن ثم يعطف الإمام على هذا إتباع علي (ع) لرسول الله (ص) وعمره تسع سنين، وقَبل منه ذلك الاتباع، وعمر الجواد آنذاك تسع سنين أيضا، فهذه كتلك. هذا كله فضلا عن الاختبار الدقيق الذي أسفر عن تقدم الإمام العلمي في الأسئلة المعمقة من قبل أوليائه وأعدائه، فانجلى عنها ألِقَ الجبين بما سخّره من براهين وأدلة وحجج وإفاضات لا تتأتى إلا العلماء الأمة الأفذاذ.

وفي هذا المجال نجد الإمام (ع) مفيضاً بجملة من علل الأحكام الشرعية على قدر بما يرفع فيه هذه الشبهة على الأقل من جهة، وبما يعزز الملحظ التشريعي القائم على أساس من الحكمة ومصلحة البشر.

وقد يسال الإمام سؤالا فقهية ولا يراد منه إلا الإفتاء به، ولكنه -ع- يفتي به، ويعلّل في الموضوع، فيبين علة الحكم وسببه، لعلمه أن ما يفتي به سوف ينتشر بين الناس، والناس يختلفون في مدى استيعابهم للإجابة، فبعضهم يغنيه التلميح عن التصريح، وبعضهم يكتفي بالايجاز والاختصار، وبعضهم يريد إلا طالة والإسهاب.

ولم يكن الإمام ليبخل بالعطاء فيفيض من علمه ما يلبّي رغبات الجميع، كما شاهدنا هذا في إجاباته ليحيى بن أكثم وسواه.
والإمام في عطائه الثرّ هذا ينظر إلى عدة توجهات أساسية، فقد جرد العباسيون من فقهاء العصر أداة يراد منها تعجيز الإمام، فما أفلحوا بذلك قط، بل كان الأمر عكسية إذ انقلب السحر على الساحر، فلجوا بالحجة والمنطق.

وفشلت مسألة العمر، وكانت إجاباته العلمية دليلا على إمامته، وادعوا فيما زعموا أن لا خبرة للإمام فقهيا وكان الرد حاسمة، والتطلعات المولوية في إفاداته الفقهية عتيدة حاضرة، ذلك كله بما أصابهم جراء تواتره وتوافره بالهلع حينا، وبالحسد حينا آخر.
(قال المأمون ليحيى ابن أكثم: اطرح على أبي جعفر محمد بن علي الرضا(ع) مسألة تقطعه فيها!!

فقال يحيى بن أكثم للإمام:
يا أبا جعفر: ما تقول في رجل نكح امرأة على زنا؟ أيحل أن يتزوجها؟
فقال الإمام محمد الجواد(ع):
يدعها حتى يستبرئها من نطفته ونطفة غيره، إذ لا يؤمن منها أن تكون قد أحدثت مع غیره حدثا كما أحدثت معه، ثم يتزوج بها إن أراد، فإنما مثلها مثل النخلة أكل رجل منها حراماً ثم اشتراها، فأكل منها حلالا).
فانقطع يحيى)(4).
وكانت هذه الإجابات ضرورية لإثارة الوعي وتمكين السائل من استيعاب فلسفة الحكم الشرعي، ونشر رأي أهل البيت.

وللإمام (ع) في هذا الجانب مجالات عديدة.

روي أن محمد بن سليمان سأله عن العلة في جعل عدة المطلقة ثلاثة قروء، بينما عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام، فأجاب الإمام:
أما عدة المطلقة ثلاثة قروء، فلاستبراء الرحم من الولد، وأما عدة المتوفى عنها زوجها، فإن الله تعالی شرط للنساء شرطاً، وشرط عليهن شرطاً، فلم يحابهن فيما شرط لهن، ولم يجر فيما اشترط عليهن.

أما ما شرط لهن في الإيلاء… أربعة أشهر، إذ يقول الله عز وجل:( للذين يؤلون من نسائهم تربص اربعة اشهر..)(5) .
فلم يجوّز لأحد أكثر من أربعة أشهر في الإيلاء، لعلمه تبارك اسمه أنه غاية صبر المرأة عن الرجل.
وأما ما شرط عليهن فإنه أمرها أن تعتدّ إذا مات زوجها أربعة أشهر وعشرة، فأخذ منها له عند موته ما أخذ لها منه في حياته عند الإيلاء، قال الله عز وجل: يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا )..(6)
ولم يذكر العشرة أيام في العدة إلا مع الأربعة أشهر في ترك الجماع، فمن ثم أوجبه عليه ولها(7).
وكان هذا التفصيل حكيماً في نظر الشارع الأقدس لغاية صبر المرأة عن الزوج، وما جاء من التعليل واضح لا يحتاج إلى بيان.

ومرة أخرى يسأل محمد بن سليمان الإمام محمد الجواد(ع) عن العلة فيما إذا قذف الرجل امرأته بجريمة الزنا كون شهادته أربع شهادات بالله، وإذا قذفها غيره سواء أكان قريباً لها أم بعيداً جُلِدَ الحد، أو يقيم البينة على ما قال!!

فأجابه الإمام محمد الجواد قائلاً:
( قد سئل أبو جعفر يعني الإمام محمد الباقر (ع) – عن ذلك فقال: إن الزوج إذا قذف امرأته فقال: رأيت ذلك بعيني، كانت شهادته أربع شهادات بالله. وإذا قال: إنه لم يره، قيل له: أقم البينة على ما قلت، وإلا كان منزلة غيره.

وذلك إن الله تعالى جعل للزوج مدخلاً لا يدخله غيره، والد و لا ولد يدخله بالليل والنهار، فجاز أن يقول: رأيت، ولو قال غيره: رأيت، قيل له: وما أدخلك الذي ترى هذا فيه وحدك؟ أنت متّهم، فلا بد أن يقيم عليك الحد الذي أوجبه الله عليك)(8).
وقد تروى هذه المسألة بصورة أخرى والنتيجة واحدة في الجواب (9).

الهوامش:

(1) الكليني /أصول الكافي/1 / 314.
(۲) سورة يوسف، ۱۰۸.

(3) الكليني/ أصول الكافي/1 / 315.

(4) ابن شعبة / تحف العقول/ 404

(5) سورة البقرة، 226.

(6) سورة البقرة ، ۲۳4.

(7) الحر العاملي وسائل الشيعة/15 /45۲ / + الصدوق / علل الشرائع/ ۷۲.

(8) الحر العاملي وسائل الشيعة/ 15/ 594.

(9) المجمع العالمي لأهل البيت / الإمام محمد بن علي الجواد / ۱۸۰/ وانظر مصدره.

 

 

المصدر: كتاب ” الإمام محمد الجواد معجزة السماء في الأرض للدكتور : محمد حسين علي الصغير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky