الرشوة

رشوة الموظف العام .. بين الفقه الإسلامي والقانون الوضعي

الاجتهاد: يلقي الدكتور عبد الحميد عبد الفتاح الضوء في الحلقة الأولى من سلسلة أعد حول جريمة الرشوة التي هي من الجرائم التي انتشرت هذه الأيام، على تعريف الموظف العام في الفقه الجنائي الإسلامي، والقانون الجنائي الوضعي.

يؤكد الدكتور عبد الحميد عبد الفتاح على أنّ جريمة الرشوة موضوع عام، وهي من الجرائم التي انتشرت هذه الأيام وكأن الناس في نهاية مطافهم يمتهنون وظائفهم للاتجار بها، والحصول على ربح من العمليات المتعلقة بالدولة.

وتؤكد وقائع التاريخ وتبرهن الأمثلة، على اختلاف درجاتها وتدرجاتها، أن لكل مجتمع من المجتمعات شئوناً إذا هي صلحت صلح المجتمع، وإذا فسدت فسد المجتمع كله.

ولقد لفت القرآن الكريم إلى تلك الحقيقة وشملها في بضع آيات لاتخفى على أي لبيب بقول الله تعالى: “قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ” آل عمران الآية (137 )

ويثبت التاريخ أنه ما من أمة اهتمت بشئونها الاجتماعية والثقافية فأصلحتها،وكانت ركيزتها على نظم قانونية مثمرة ومتطورة، إلا تماسكت وازدهرت حياتها واطردت عزتها.

فإن أهملت في تنظيم شئونها غير مبالية بها، إلا وتمكنت منها روح الفوضى، وعاجلها الفناء والانحدار في مضمار التسابق الاجتماعي.

فلقد ظهر الفساد في الأرض بما كسبت أيدي الناس وتفشت جرائم الإسترشاء، واستشرى الداء حتى قارب درجة التقنيين غير المعلق، وتعالت بعض الآراء التي نادت بضرورة وضع تقنيين لقبول الهدايا والعطايا، في سبيل الحد من استشراء الداء.

وحاولت بعض الاتجاهات تبرير الارتشاء بوطأة الحياة الاقتصادية وشدة الحاجة والعوز، وأضحى الموظف يشكو ربه لعبده من أجلسد حاجته والتذرع لفقرهبالتربح من وراء عمله، ونسى أو تناسى قول الحق تبارك وتعالى : ” نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ” آل عمران الآية (137 ).

فالرشوة خروج على الدين، وسلوك يتصف بالانحلال النفسي والشخصي، وإخلال بميزان العدل، وتمثيل لأخطر الآفات التي تصيب الوظيفة العامة، وأبلغ أنواع الفساد الذي ينخر في الدولة.

فالرشوة وسيلة فساد وظلم، فهي تحريض للموظف على الاتجار بأعمال وظيفته واستغلالها، واستغلال نفوذه لدى السلطات، للحصول لصاحب الحاجة على قرار أو ميزة أو عمل غير حق،بالإخلال بواجبات الوظيفة.

فقد أخبرنا الحبيب المصطفى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فقال: ” كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به قالوا وما السحت قال الرشوة في الحكم”

وفي عصرنا الحاضر أصبحت الرشوة أداة في أيدي رجال الإجرام المنظم، لتسهيل تجارتهم الإجرامية في السلع والخدمات غير المشروعة،للإفلات من ملاحقتهم جنائيا. إنها آفة عصر، حيث خربت الذمم، وتدهورت الأخلاق، وانحدرت القيم، وسارت الأنانية وعدم مراعاة الضمير والدين.

وهي من الجرائم التي تتم عادة في سرية تامة وفي الظلام وبالتالي من الصعب إتيانها. فذلك الموضوع سيكون سلسلة كاملة أعدت للنشر في أكثر من حلقة، وسوف ألقي الضوء في الحلقة الأولى على تعريف الموظف العام في الفقه الجنائي الإسلامي، والقانون الجنائي الوضعي.

أولاً: الموظف العام في الفقه الجنائي الإسلامي

الصفة المفترضة في المرتشي في الفقه الجنائي الإسلامي إذ لابد أن يكون المرتشي هو الشخص الذي يقوم بعمل ممنوع أو واجب عليه نظير مقابل مادي أو معنوي. وقد جاء كلام الفقهاء عنه في باب القضاء، لأن القضاء هو جهة الحكم التي يتحقق فيها الحكم بالحق أو بالباطل.

ولذلك قال بن عابدين في تعريفه للرشوة “إنما ما يعطيه الشخص لحاكم أو غيره ليحكم به أو يحمله على ما يريد والمراد بالحاكم القاضي”.

وإذا كان الفقهاء قد اهتموا بهذه الصفة، وهي صفة القضاء، فذلك لأهمية القضاء. لأن الأصل فيه أنه أقيم للعدل بين الناس، وإعطاء كل ذي حق حقه. لكن الرشوة لاتقتصر على من اتصف بالقضاء فحسب، بل إنها تشمل كل من يقوم بعمل من الأعمال، ابتداء من الحاكم إلى أقل عامل. وعلى ذلك نجد أنه قد ورد في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً من بني أسد يقال له بن اللتبية على صدقة، فلما قدم الرجل قال: هذا لكم، وهذا أهدي إلي.

فقام النبي صلى الله عليه وسلم فصعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ما بال العامل نبعثه، فيأتي فيقول هذا لك وهذا أهدي إلي، فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا؟ والذي نفسي بيده لايأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار، أوشاه تعير. ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه وقال ألاهل بلغت ثلاث.

وتعليل النبي صلى الله عليه وسلم تحريم قبول الهدية بقوله: فهلا جلس في بيت أبيه وأمه! هذا دليل على أن العلة في التحريم على الولاية وهذا يدل على تحريم هدايا الموظفين والعمال والقضاة، وعلى ذلك فإن من يولى أي أمر من أمور المسلمين كان عليه حرمانية في أخذ أي شيء من عامة المسلمين، طالما كان هذا الشيء الذي أدخله على نفسه، بحكم الولاية التي تولاها فيهم.

وقد قال الفقه الإسلامي في أن المرتشي هو من يأخذ الهدايا من أجل جاه بولاية تولاها، من قضاء أو عمل أو لأي صدقة أو جباية مال أو غيره من الأعمال السلطانية، حتى ولاية الأوقاف. كما أن حديث النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن ذلك فقال: ” لعنة الله على الراشي والمرتشي في الحكم”.

والشريعة الإسلامية قد توسعت في مفهوم المرتشي حتى شملت الظلمة، الذين يتعرضون للناس في الطرقات لمنعهم من أداء الواجب. فيقول بن قدامه ” إن من شروط الحج أمن الطريق الذي يمكن سلوكه، فإن لم يكن الغالب في الطريق السلامة لم يلزمه (أي لا يسلك هذا الطريق)، وأن كان في الطريق عدو يطلب صغاره، فقال القاضي لايلزمه السعي وإن كان يسيراً، لأنها رشوة فلا يلزم بذلها في العبادة.

وقد اعتبر الفقهاء أن القاضي الذي يتخذ حاجب يمنع الناس من الدخول عليه حتى يأخذ شيئاً هو في حكم المرتشي، واعتبرت الهدية المباحة لغيره، رشوة بالنسبة له محظور عليه أخذها. فالموظف وإن اختص بذلك، فإن صفة المرتشي لاتكون قاصرة عليه، وإنما تعم كل من أخذ شيئاً بغير حق له فيه.فالمرتشي لايشترط أن يكون من ولاة الأمر، وإن كان اعتبر بهذه الصفة اعتباراً خاصاً فحرم عليه ما أحل لغيره.

فمن هنا نجد تعريفا للموظف العام في الفقه الجنائي الإسلامي بأنه ” كل من كلف من قبل خليفة المسلمين بأمر من أمور المسلمين، ويتقاضى راتبه بسبب هذه الولاية من بيت المال” وإن كانت صفة هذه الولاية اعتبار خاص به فتقع حرمة الرشوة على الموظف العام والقاضي والعامل ،…وغيرهم في الشريعة الإسلامية.

ثانيا: تعريف الموظف العام في القانون الجنائي الوضعي المصري:

لم يشأ المشرع الجنائي أن يعطي مدلولا عاما في هذا الشأن. والحقيقة أن تعريف الموظف العام وتحديد مركزه القانوني من حيث بيان حقوقه والتزاماته، إنما يدخل ضمن اهتمامات القانون الإداري. ونظراً لذاتية القانون الجنائي فنرى المشرع لم يتقيد بالضرورة بالتعريف الذي عرفه الفقه الإداري، بل اعتبر في خصوص جريمة الرشوة أن تتضمن المادة ١١١ عقوبات، قائمة بالأشخاص الذين اعتبرهم في حكم الموظفين العموميين.

وهكذا نكون أمام مفهومين للموظف العام الذي يمكن أن يكون فاعلا لجريمة الرشوة. مفهوم حقيقي يستقي جله من فقه القانون الإداري، ومفهوم حكمي يستخلص من تعداد الأشخاص الذين أوردتهم المادة ١١١ عقوبات. فافترض المشرع المصري لوقوع جريمة الرشوة أن يكون المرتشي موظف عام، أو أن يدخل في طائفة معينة اعتبرهم المشرع في حكم الموظفين العموميين .

فنجد المشرع في قانون العقوبات في المادة ١٠٩ مكرر عقوبات ينوه عن الموظف العام بقوله ” كل شخص بيده نصيب من السلطة العامة “

وقد عرفت المحكمة الإدارية العليا الموظف العام بأنه ” الشخص الذي يعين بصفة مستمرة غير عارضة للمساهمة في عمل دائم في خدمة مرفق عام تديره الحكومة المركزية أو السلطات الإدارية المركزية بالطريق المباشر”
فالمفهوم الحقيقي للموظف العام يستخلص في أن صفة الموظف العام لاتقوم بالشخص ولاتجري عليه أحكام الوظيفة العامة إلا إذا كان معينا في عمل دائم في خدمة مرفق عام تديره الدولة أو السلطات الإدارية بطريق مباشر.

فالموظف العام لابد له من توافر ثلاثة شروط لكي يتسم بصفة موظف عام وهي:

1- تبعية الشخص لأحد المرافق العامة التي تديرها الدولة مباشرة أو تبعيته لأحدالأشخاص المعنوية العامة الأخرى.
2- مشروعية التحاق الشخص بالمرفق العام الذي يعمل به. ويقصد به بذلك أن يكون تعين الشخص في الوظيفة قد تم بطريق مشروعة، وفقا للقانون، وبقرار من السلطة المختصة بالتعين.
3- ذاتية العمل الذي يقوم به الموظف العام تقتضي أن يكون العمل في خدمة المرفق العام بصفة دائمة لا عرضية.

أما المفهوم الحكمي للموظف العام فقد أودت المادة ١١١ عقوبات تعداداًلمجموعة من الطوائف، واعتبرت الأشخاص المنتمين لهذه الطوائف في حكم الموظفين العموميين.

وهذه الطوائف وفقا لما نصت عليه المادة111عقوبات هي:

1- المستخدمون في المصالح التابعة للحكومة أو الموضوعة تحت رقابتها.
2- أعضاء المجالس النيابية العامة أو المحلية سواء كانوا منتخبين أو معينين.
3- المحكمون والخبراء ووكلاء الديانة والمصفون والحراس الفضائيون.
4- كل شخص مكلف بخدمة عمومية.
5- أعضاء مجالس إدارة ومديرو ومستخدمو المؤسسات والشركات والجمعيات والمنظمات والمنشآت إذا كانت الدولة أو إحدى الهيئات العامة تساهم في مالها بنصيب ما بأية صفة كانت.
وتضمن القانون المادة٢٢٢ في رشوة الأطباء، وفي المادة ٢٩٨ في رشوة الشهود، فهم في حكم الموظف العام.

ثالثاً: الموازنة بين الفقه الجنائي الإسلامي والقانون الوضعي في صفة المرتشي

إن استغراق (8) مفهوم المرتشي في الشريعة الإسلامية للحاكم والقاضي والوالي والعامل، أن كل من يملك نفوذاً (وجب عليه بحكم وظيفته) ويتاجر بها، حتى يمنع أو يعلق حصول الناس على حقوقهم، أو دفع المضار عنهم، على حصوله على منفعة، ليس أهلاً لها. لأنه مختص بحكم وظيفته المعروفة من هم ليسوا بموظفين في الدولة.

وبالنظر إلى مفهوم المرتشي في القانون الجنائي نجد أن القانون الجنائي يستلزم لوقوع جريمة الرشوة ضرورة استغلال الوظيفة العامة، ومن ثم لايمكن أن يتصور ارتكاب هذا الفعل إلا إذا كان موظف عام.

 

وللحديث بقية

المراجع والهوامش:

1- د/ حسين مدكور ، الرشوة في الفقه الإسلامي مقارن بالقانون، دار النهضة العربية ، سنة 1984، ص166.

2- حاشية بن عابدين الجزء الخامس ص272

3- صحيح البخاري ، الجزء التاسع،ص76

4- الإمام الغزالي، إحياء علوم الدين ، الجزء السادس ، ص 188

5- المستشار/ إيهاب عبدالمطلب ، الموسوعة الجنائية الحديثة في شرح قانون العقوبات، الطبعة الثانية، المركز القومي للإصدارات القانونية ،سنة2004،ص238

6- د/ سليمان عبدالمنعم ، قانون العقوبات الخاص “الجرائم الماسة بالمصلحة العامة”، دار الجامعة الجديدة للنشر ، الإسكندرية، سنة1993، ص63

7- د/ هشام فريد رستم ، شرح قانون العقوبات القسم الخاص، مركز الكتاب الجامعي ، أسيوط، 2003،ص45

8-د/منصورالسعيد ساطور،جريمة الرشوة والفرق بينها وبين الهدية والعمولة،دار الجزيرة الحديثة،القاهرة،1981،ص18

 

 

المصدر: بوابة دار المعارف الصحفية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky