الاجتهاد: يعتبر المحقق الحلي ـ بلحاظ تاريخ علم الفقه ـ من علماء المرحلة الثالثة المعروفة بمرحلة تجديد حياة الفقه، وهي مرحلة مسبوقة بمرحلة الركود وتوقّف علم الفقه. فقد صار لعلم الفقه في هذه المرحلة حياة جديدة جسماً وروحاً، وهي المرحلة التي يمكن تسميتها بمرحلة تكامل وتطوّر الفقه الاستدلالي وذكرها بكلّ فخر واعتزاز، وذلك لأجل القواعد المبتكرة والمناهج الجديدة والاهتمام الخاص باُصول الفقه والتنوّع في التصانيف العلمية والفقهية و…
إن نشر الثقافة والمعارف الدينية هي من المسؤوليات الكبيرة التي تقع على عاتق وسائل الاعلام بصفة خاصة، ولهذا فقد أولت صحيفة الوفاق أهمية لهذه المسؤولية لأجل تحقق هذا الهدف وتأتي سنوية تكريم أحد علماء وفقهاء الإمامية وهو المحقق الحلي رحمه الله (28 ربيع الثاني 602 هـ.ق.) الذي كان من أعاظم أساطين مدرسة الإمامية، وذلك من خلال حوار علمي أجرته الصحيفة مع أحد علماء الحوزة العلمية بمدينة قم المقدسة وأستاذ بحث الخارج في الفقه والأصول سماحة آية الله الحاج الشيخ مهدي نيازي الشاهرودي للحديث عن هذه الشخصية العلمية والفقهية والمكانة الرفيعة للمحقق الحلي (رض)، وكذلك بيان مكانة علم الفقه ضمن منظومة العلوم الإسلامية، وكذلك دوره وأثره في المجتمعات الإسلامية عموماً والمجتمع المسلم في ايران خصوصاً.
وفيما يلي نقدّم لكم نص الحوار:
السلام عليكم، سماحة الأستاذ بداية نود أن نتقدّم لكم بالشكر الجزيل على الوقت الذي منحتمونا اياه وعلى مشاركتكم في هذا الحوار العلمي، نرجو منكم كمقدّمة للدخول في البحث الحديث عن ضرورة تكريم وتعرّف وإعادة دراسة شخصية مشاهير علماء الشيعة وفقهائهم في الوقت الحاضر، ومدى أهمية ذلك للجيل المعاصر؟
بسم الله الرحمن الرحيم وعليكم السلام ورحمة الله، اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد، ربّ اشرح لي صدري ويسّر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي، واهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، انّك تهدي من تشاء الى صراط مستقيم.
في البداية نذكر تيمّناً رواية عن الامام علي بن موسى الرضا عليه آلاف التحية والثناء، قال: “تفقّهوا في دين الله فإنّه أروي من لم يتفقّه في دينه ما يخطئ أكثر ممّا يصيب، فانّ الفقه مفتاح البصيرة وتمام العبادة والسبب الى المنازل الرفيعة وخاص (وحاز) المرء بالمرتبة الجليلة في الدين والدنيا، وفضل الفقيه على العباد كفضل الشمس على الكواكب، ومن لم يتفقّه في دينه لم يزكِ الله له عملاً” (الفقه المنسوب الى الامام الرضا (ع): 337).
ثمّ انّي أشكركم لتمهيد هذا الحوار العلمي، وأرجو أن يتقبّل الله تعالى منّا ومنكم جهودكم وأن يكون ذلك محلّاً لتوجه وعناية أهل البيت (عليهم السلام)، ومفيداً للعلماء والفضلاء وطلّاب المعارف الاسلامية، خصوصاً العاملين في مجال الفقه والفقاهة إن شاء الله.
انّ الهدف من دراسة مختلف جوانب الحياة للشخصيات العلمية الاسلامية الكبيرة بشكل عام والشيعية بشكل خاص هو تكريم جهودهم والتزوّد ممّا لديهم من كنوز ثمينة، وأيضاً معرفة ماضيهم ودرك ظروفهم وأبعاد حياتهم الفردية والاجتماعية والثقافية والعلمية والسياسية و… ومعرفة وجه اختلافهم وما يمتازون به عن الآخرين، والتعرّف على مدى تأثيرهم القيم على المجتمع وعصرهم، وأيضاً معرفة تصانيفهم وآثارهم العلمية،
لأنّ الوصول الى الهدف لا يحصل الّا بالتأسّي والاقتداء بهم وهما أمران ضروريان، واتباع هؤلاء العلماء الذين بذلوا عمرهم الشريف في سبيل الحصول على مقامات علمية ومعنوية يسهّل السير في طريق التكامل، ومن حسن الحظ توجد في تاريخ الاسلام شخصيات قيمة ونماذج كثيرة، لذا من الواجب علينا ـ خصوصاً الحوزات العلمية ـ معرفة هذه الشخصيات والتعريف بها وبما لديها من كنوز ثمينة للمجتمع المسلم وسائر المجتمعات، لأنّ ذلك يعكس قدرة الإسلام وعظمته في تربية وتقديم مثل هذه الشخصيات القائمة والواقفة على ذروة العلم والأخلاق، والاستفادة من آثارها العلمية ومقاماتها المعنوية خصوصاً في ساحة الفقة والفقاهة.
لقد قدّم لنا تاريخ الاسلام اللامع وبالأخص تاريخ الشيعة بمختلف مراحله وجوهاً علمية ومعنوية كثيرة، قدّم كل واحد منها ـ نظراً الى الظروف الخاصة ومقامه الاجتماعي ـ للتاريخ والثقافة والمعارف الاسلامية وعلوم أهل البيت (عليهم السلام) خدمة جليلة في سبيل تبيينها ونشرها بكل تواضع ورغبة، وتحمّلوا في ذلك الكثير من المشاق، جزاهم الله جميعاً خيراً، ورحم الماضين منهم، وحفظ الباقين، ان شاء الله.
كما تعلمون أنّ موضوع هذا اللقاء هو الحديث عن أحد كبار وأعاظم الفقه والفقاهة وهو المحقق الحلي (رض)، اذكروا لنا مكانة المحقق الحلي ومنزلته بلحاظ النسب والاُسرة، ومكانته العلمية بين العلماء المعاصرين والمتأخّرين.
ولد المحقق الحلي (رض) عام (602هـ) في الحلة، وهو من أبرز علماء القرن السابع، كان من اُسرة علمية وزعامة دينية، وكان جدّه وأبوه من كبار علماء عصرهما، فترعرع في هكذا بيئة علمية ودينية اُسرية ومحلّية، طوى المراحل العلمية والمدارج المعنوية الواحدة تلو الأخرى بنجاح وفاز بمدارج عالية علمية ومعنوية فصار من أبرز العلماء عموماً، وأخصّهم في ميدان الفقه والفقاهة، له تصانيف وآثار قيمة، وكان له كرسي بحث وتدريس نافع ومفيد، وقد تربّى عليه تلامذة كبار كالعلّامة الحلّي وابن داود الحلّي وابن سعيد الحلّي والفاضل الآبي و…
يعتبر المحقق الحلي ـ بلحاظ تاريخ علم الفقه ـ من علماء المرحلة الثالثة المعروفة بمرحلة تجديد حياة الفقه، وهي مرحلة مسبوقة بمرحلة الركود وتوقّف علم الفقه. فقد صار لعلم الفقه في هذه المرحلة حياة جديدة جسماً وروحاً، وهي المرحلة التي يمكن تسميتها بمرحلة تكامل وتطوّر الفقه الاستدلالي وذكرها بكلّ فخر واعتزاز، وذلك لأجل القواعد المبتكرة والمناهج الجديدة والاهتمام الخاص باُصول الفقه والتنوّع في التصانيف العلمية والفقهية و…
بدأت هذه المرحلة بعلماء كبار أمثال ابن ادريس الحلّي، وانتهت بأعاظم أمثال المحقق الحلي والعلّامة الحلّي وفخر المحقّقين والفاضل الآبي وغيرهم.
توفّي (رض) تقريباً في الربع الأخير من القرن السابع (676هـ) ، وكان بداية هذه المرحلة منذ أوائل القرن السابع الى أواخر القرن العاشر، وقد امتازت هذه المرحلة بمزايا وعناصر المرحلة المتكاملة بلحاظ التغيرات الفقهية الحادثة فيها من قبيل الأبحاث الاستدلالية، النقد والاشكال، الحداثة الفقهية، التوسّع في المسائل الفقهية والاُصولية، تأليف موسوعة فقهية هامّة، والدخول في بحث علم الدراية وظهور اصطلاحات فقهية وقواعد جديدة مختصّة بالفقه الشيعي، والخروج من حالة الركود والتقليد التي ألقت بظلالها منذ زمان الشيخ الطوسي (رض).
وهناك شهادات علمية بحقّ المحقق الحلي ومقامه العلمي تدل على مكانته وفضله ومنزلته الفقهية و…
ومن الشواخص البارزة في شخصيته الدقّة في النظر وسرعة انتقال الذهن، وهما من الصفات التي ذكرها الأعلام له في حياته وبعد ذلك امّا من خلال الحضور في درسه، أو خلال المناظرة والحديث معه، أو من مراجعة تأليفاته وتصانيفه،
وهنا نشير الى نماذج من تلك الشهادات:
– الفاضل الآبي (رض): من أعيان العلماء، ورأس الفضلاء.
– العلّامة الحلّي (رض): كان أفضل أهل عصره في الفقه.
– ابن فهد الحلّي (رض): أعظم الفقهاء المتبحّرين.
– الفاضل المقداد (رض): العلّامة المحقّق والأفضل المدقّق.
– المحقّق الكركي (رض): رئيس الامامية في زمانه، محقّق المطالب الفقهية، منقّح الدلائل الشرعية.
– الشهيد الثاني (رض): شيخ الطائفة في وقته الى زماننا هذا.
– الشيخ بهاء الدين العاملي (رض): كان سلطان العلماء في زمانه.
– الشيخ الحر العاملي (رض): كان مرجع أهل عصره في الفقه وغيره.
– السيد حسن الصدر (رض): هو أول من نبع منه التحقيق في الفقه وعنه اُخذ، وعليه تخرّج ابن اُخته العلّامة الحلّي وأمثاله، أرباب التحقيق والتنقيح و…
ما هي مراحل الفقه والاجتهاد الشيعي من وجهة نظركم، وأيضاً دور المحقق الحلي (رض) في عصره، والحوادث العلمية في تلك المرحلة؟
كما تعلمون أنّ لفقه الامامية عصرين:
1- عصر التشريع أو صدور الروايات والأحكام من ناحية المعصومين ( عليهم السلام).
2- عصر تكوّن وتطوّر علم الفقه وحركة الاجتهاد الفقهي الذي دُوّنت فيه الأحكام ومسائلها، والتي ظهرت على شكل كتب فقهية وحديثية، وينقسم هذا العصر منذ بدايته وحتى الآن ـ بحسب العوامل والمضمون وخصوصياته والمسائل الفقهية ودور الفقهاء في ظهوره ـ الى ستّ مراحل.
وبعبارة اُخرى: تنقسم مراحل فقه الاجتهاد أو الاجتهاد الفقهي لدى الامامية ـ بعد امعان النظر في محتوى وباطن علم الفقه ومسائله لا العوامل الاُخرى الخارجة عن مضمون ذات علم الفقه ـ الى ستّ مراحل.
وهذا التقسيم ناظر الى طبيعة أحكام وموضوعات علم الفقه وبلحاظ ذاته ونفسه، حيث تنقسم المتعلّقات وأحكامها الشرعية الى مجموعات متناسبة، ولم يلحظ البحث عن فلسفة الأحكام والأغراض في التقسيم، بل يكون التقسيم على أساس نوع المجموعات لهذه المسائل، ونوع ومتعلّق الحكم، وهو تقسيم فنّي ومناسب.
بينما ذكر البعض هذا التقسيم بنحو آخر نظراً الى أخذ عوامل اُخرى بنظر الاعتبار، من قبيل تأسيس الحوزات العلمية من قبل الفقهاء، أو من الناحية الاجتماعية والسياسية والجغرافية، وهو أنّ الحوزات العلمية في اي زمان من الحكومات والحكام ازدهرت وتوسّعت، أو أنّ التقسيم على أساس تراجم الفقهاء وتاريخ طبقاتهم و… ، ولكن بالمعنى الذي ذكرناه، أي أخذ المحتوى والتغيير الحادث في باطن الفقه بنظر الاعتبار فانّه يمكن تقسيم المراحل الى ست، وهذا يعني أنّ علم الفقه أساساً في أي زمان تكوّن ودُوّن بشكل علمي مستقل، وما هي المسيرة العلمية في تكامله، وكم هي المراحل في توسّعه والتحوّل الحاصل في محتواه؟
ولا يخفى أنّ لكلّ مرحلة مواصفاتها وخصائصها الخاصة بها، وكانت المرحلة الثالثة مرحلة التكامل والتوسعة والازدهار، وعلم الفقه كما ذكرنا مرحلة عظيمة ومباركة بدأت منذ زمان المحقق الحلي (رض) واستمرّت الى زمان المحقّق الكركي (رض)، والحق والانصاف أنّه يمكن القول أنّ المحقق الحلي (رض) كان رئيس وعظيم هذه المرحلة، حيث تربّى على يديه علماء أعاظم أمثال العلّامة الحلّي، فخر المحقّقين، الشهيد الأول، الفاضل المقداد، جمال الدين السيوري، ابن فهد الحلّي و… الذين كانوا من أعلام وأقطاب هذه المرحلة.
وعلى الرغم من وجود أعاظم وفقهاء كانوا من مشاهير هذه المرحلة يمكن الاشارة الى نجم الدين جعفر بن الحسن الحلّي المعروف بالمحقّق الحلّي بصفته أحد الأعلام ومؤسّس هذه المرحلة التي نشهد فيها ازدهار وتكامل الفقه الاجتهادي.
وأمّا بالنسبة الى المقطع الثاني من سؤالكم فانّه يمكن الاشارة الى ما حدث من تطورات في مسيرة قافلة علم الفقه والفقاهة لهذه المرحلة، وهي عبارة عن:
1– طرح الأبحاث، عرض آراء علمية وفقهية جديدة، الخروج عن حالة الركود والتوقّف.
2– المنهج الاستدلالي الجديد في الأبحاث الفقهية وتعميق المباحث الاستدلالية وتكاملها وتوسيعها.
3– الابداع الجديد في الاجتهاد الفقهي الذي عبّرعنه بالاستدلال طبقاً للأشباه والنظائر في المسألة والفرع الفقهي.
شرح ذلك: انّ الفقه الشيعي يبتني من جهة على ردّ وردع القياس وترك العمل بالاستحسان وأمثال ذلك، ومن جهة اُخرى يتمتّع الاجتهاد الشيعي ـ اعتماداّ على المصادر والأدلة الاجتهادية الفقهية كالآيات الشريفة والروايات الصادرة عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) وانفتاح باب الاجتهاد ـ بالاتقان والاحكام، لذا قد تقع مسائل كثيرة في بعض الموارد تحت أصل فقهي وتتفرّع عليها فروع كثيرة قد عبّر عنها بالأشباه والنظائر، فيكتسب الفقيه بسبب معرفة المتشابهات ونظائر المسألة خبرة وتضلّعاً واحاطة على ساحة الفقه، لذا لو طُرح مثل هذه المسألة فانّ الفقيه من خلال الاستدلال بطرق ومناهج مشابهة يُظهر تضلّعه وقوته وتسلّطه على الفقه من جهة، ويُثبت اتقان وقوّة الاستدلال والاجتهاد الشيعي بالنسبة لمناهج المذاهب الأخرى من جهة اُخرى.
لقد اشتهرت هذه الطريقة من الاجتهاد والتفريع في هذه المرحلة وصارت رائجة، وصُنّف في هذا المجال عدّة تصانيف من قبيل: نزهة الناظر في الجمع بين الأشباه والنظائر لابن سعيد الحلّي، عقد الجواهر في الأشباه والنظائر لابن داود الحلّي و… لكن للأسف لم يستمر هذا المنهج وهذا النوع من البحث والتأليف بنحو شائع ورائج.
4– كثرة الاختلاف الفقهي وظهور آراء جديدة في هذه المرحلة مقارنة بالمرحلة السابقة، أي ما قبل زمان الشيخ الطوسي(ره) والفترة التي تليه.
5– اتساع رقعة المسائل الفقهية والاُصولية وتصنيف تصانيف هامّة في الفقه والاُصول وسائر العلوم المقدماتية كعلم الدراية والرجال و…
6– ظهور اصطلاحات وقواعد فقهية جديدة.
7- تهذيب الأخبار والروايات لدى القدماء، والحديث الصحيح عبارة عن الخبر الذي تدل على صحّته وصدوره عن المعصوم (عليه السلام)، وبالطبع كانت معرفة القرائن والوقوف عليها في القرون الاًولى والقريبة من عصر التشريع أمراً ممكناً وميسوراً، لكنّنا كلّما ابتعدنا عن عصر النص والتشريع صارت هذه القرائن والشواهد أقلّ، بل أكثر اشكالاً وغموضاً، لذا كان من اللّازم وجود طرق ومناهج لمعرفة هذه القرائن وتحصيلها، لكي يمكن معرفة الحديث الصحيح من غيره، وهذه الحاجة الملحّة والفراغ في هذه المرحلة سدّه الفقهاء بجهودهم، وقُسّم الحديث الى الأقسام الأربعة: (الصحيح، الموثّق، الحسن، الضعيف)، وعلى هذا التقسيم الشائع العمل الى اليوم.
وهذه الاُمور بأجمعها أدّت الى أن تكون هذه المرحلة مرحلة مثمرة وقيّمة مقارنة بالمرحلة السابقة عليها، وذلك نتيجة الجهود العلمية والفقهية بزعامة المحقق الحلي (رض)، فكُتبت صفحات وأوراق قيّمة اُضيفت الى علم الفقه وكتبنا الفقهية، فكانت مفيدة للجميع في مختلف المجالات (الفردية، العبادية، المعاملاتية، الاجتماعية والقضائية و…).
ما هي المجالات التي كتب فيها المحقق الحلي (رض) خصوصاً كتابه الشريف شرائع الاسلام في الحلال والحرام، وماهي مكانة تصانيفه العلمية بين الكتب الفقهية للعلماء والفقهاء؟
لا يخفى أنّ بعض تصانيفه كان في الفقه والاُصول، وهي كالتالي:
– شرائع الاسلام، وهو من الكتب الفقهية والاستدلالية التي كانت دائماً موضع اهتمام خاصّ للفقهاء في مقام التدريس، التحقيق والتأليف، وهو الى الآن من الكتب الأساسية في علم الفقه، وعليه شروح كثيرة (90 – 100) شرح، من قبيل: مسالك الأفهام، مدارك الأحكام، جواهر الكلام، هداية الأنام، مصباح الفقيه و… بحيث حلّ هذا الكتاب محلّ الكتب الفقهية المتقدمة عليه.
– المختصر النافع، وهو من المتون والنصوص الفقهية المتقنة، وهو مختصر لكتاب الشرائع.
– المعتبر، وهو من الكتب الفقهية الاستدلالية المقارنة.
– شرح نكت النهاية، وهو عبارة عن جملة من تعاليقه على كتاب النهاية للشيخ الطوسي (رض)، وهو على شكل سؤال وجواب.
– المعارج، في علم اُصول الفقه، وهو نص متقن، مختصر، مقارن، وهو زبدة أفكاره الاُصولية، ويعتبر بمثابة تهذيب وتنقيح للأدلة وتبويباً للمسائل.
وأمّا كتاب الشرائع فهو نقطة عطف في تاريخ علم الفقه، ومن شواهد وميزات هذه المرحلة، وحاكياً عن تمكّن وقدرة المحقّق الحلّي (رض) العلمية والفقهية، وقد استطاع هذا الكتاب أن يحلّ محلّ الكتب الفقهية السابقة عليه، وكانت أكثر الكتب الفقهية والشروح بعد صاحب الشرائع يدور رحاها حول هذا الكتاب تأليفاً وتدريساً، لذا فانّ هذا الكتاب الفقهي الفاخر يعتبر الى اليوم محوراً للكثير من الكتب المهمّة، ومداراً للبحث، التحقيق، التدريس، التعليق والشرح.
ما هي خصائص تأليفاته بين سائر كتب ومصنّفات ذلك العصر والمرحلة المتقدمة على عصره؟ وما هي أهم جهوده العلمية في تلك المرحلة فيما يرتبط بالاجتهاد الفقهي الذي يعتبر فصلاً جديداً في ميدان الفقه والفقاهة والعلوم المرتبطة بهما؟
ج: لتصانيفه ثلاث خصائص:
1- تلبية حاجة العصر، الحداثة والتفريع الجديد لمختلف الفروع، وكانت هذه ضرورة ملحّة آنذاك في مجال الفقه والاُصول.
انّ سدّ الفراغ العلمي في ذلك العصر يعتبر خصيصة مشهودة قياساً لكتبه وتصانيفه مع الكتب الفقهية السابقة.
2- غلبة جانب الكيفية العلمية على الجانب الكمّي في آثاره وتأليفاته، فقد رجّح الاتقان على الاكثار، وتحقّق هذه الخصيصة رهين اُمور ثلاثة: قدرة البيان، التسلّط التام على المسائل والمباني الفقهية، الاُصولية، الكلامية، الرجالية و… مقروناً ذلك بالدقّة في النظر، دراسة ونقد المباحث.
3- توسعة دائرة البحث والاهتمام بجميع الأدلة والمصادر المعتمدة لدى الجانب المقابل في مقام النقد والدراسة، بنحو تكون ثمرة هذه الاُمور بلحاظ المضمون والمحتوى العلمي النافع والمنهج جملة من المصنّفات المهذّبة والمنقّحة لكي تُقدّم لعالم العلم والفقاهة.
وأمّا بالنسبة الى المقطع الثاني من السؤال فقد تقدّم بعض الكلام عنه، وهنا نقول: انّ مميّزات تلك المرحلة عبارة عن:
1- تهذيب، تبويب وتوسعة مباحث الفقه الشيعي الذي كان قبل تلك المرحلة ممزوجاً بآراء الآخرين (المذاهب الأخرى) حيث ارتفع هذا النقص بفصله عن غيره، فاستقلّ فقه الشيعة كمّاً وكيفاً بذلك، وصار مهذّباً من أقوال ومناهج استدلال المذاهب الأخرى.
وبعبارة اُخرى: انّ تهذيب النصوص الفقهية من الاستدلال الضعيف والغريب المتّخذ منهج العامّة من جهة، واتقان الفقه والتعويل على الروايات والقواعد المستنبطة من كلام أهل البيت(عليهم السلام) من جهة اُخرى، صار سبباً في أن تكون كتب المحقق الحلي (رض) والعلّامة الحلّي (رض) ـ التي اتصفت بالاستقلال والاتقان ـ مدار الرحى في الشروح والتعاليق والاستدلال من قبل من تلاه، وليست هي ككتب الشيخ الطوسي (رض) التي كانت قبل هذه المرحلة متناً لكتب استدلال الآخرين (المذاهب الأخرى).
2- ترتيب وتبويب مباحث علم الفقه، وقد نهج المحقّق الحلّي (رض) في كتاب الشرائع هذا المنهج الهام.
انّ الترتيب الذي سبق مرحلته لم يكن شاملاً وكاملاً لاعتماده على نكات امّا غير مقبولة، أو لا ترتبط بعلم الفقه، أو لم يكن التقسيم حاصراً ومستوعباً.
وقد حاول المحقّق الحلّي (رض) من خلال هذا التقسيم والتبويب لمباحث الفقه الى أربعة أقسام (العبادات، الايقاعات، العقود والأحكام) ملأ هذا الفراغ، فأخرج علم الفقه بذلك من حالة التتابع للمسائل والأحكام الى حالة فنّية وصناعية متقنة ومرتّبة.
وبعبارة اُخرى: ترتيب وتبويب المسائل الفقهية ووضع المسائل في مواضعها يعتبر من خصائص وانجازات هذه المرحلة، وقد بقي هذا الترتيب والتقسيم رائجاً ومعروفاً الى يومنا في الكتب الفقهية، لكن على الرغم من ذلك الظاهر وجود نواقص واشكالات في التقسيم المذكور، نشير اجمالاً اليها:
– الاشكال الأول: عدم شمولية هذا التقسيم الرباعي، وعدم أخذ بعض المباحث الفقهية بنظر الاعتبار على الرغم من كثرة الأبواب والأحكام التي لا تدخل تحت أيّ من هذه الأقسام، كأحكام السكن، الثياب، حرمة الكبائر كالكذب، وجوب صلة الرحم، الواجبات الكفائية و… لذا فالقسمة غير حاصرة.
الاشكال الآخر الذي أشكله بعض الأعلام والأساتذة على هذا التقسيم هو: أنّ المحقّق الحلّي (رض) أورد بحث الاقرار ضمن الايقاعات، وبحث الشهادة ضمن الأحكام، في حين أنّ الاقرار كالشهادة كليهما من أدلة الاثبات، ولا يلزم أن يكون الانشاء فيهما بمعنى التصرّف الوضعي، لأنّ الاقرار والشهادة من سنخ واحد، وأنّهما اخبارين لا انشاءين.
وبعبارة أوضح: الاقرار اخبار وليس انشاءً لكي يكون في قسم الايقاعات والعقود، وكذا جعل الاستيلاء في الايقاعات، والارث في ضمن الأحكام، والحال أنّ كليهما ليسا بحاجة الى انشاء، وليسا ايقاعاً أوعقداً.
وفي رأيي أنّ هذا الاشكال على تقسيم المحقّق الحلّي (رض) يمكن الجواب عنه بأن نقول: انّ الاخبار هو انشاء نوعاً ما، لأنّه عبارة عن ايجاد الاخبار (انشاء مصطلح)، لأنّ الانشاء طلب أو ترجّي أو تمنّي أو…، وهذا الإخبار مصطلح انشاء الخبر، فالإخبار هو انشاء أيضاً نوعاً ما، لكن إنشاء الخبر.
وبعبارة: نعمّم الايقاع الذي هو عبارة عن ايجاد أمر، سواء كان الموجد الطلاق أو العتق أو الابراء، أو كان خبراً، فانّ هذا نوع ايجاد أيضاً، وهو ايجاد الخبر، وفي الاقرار باخباره، فهو في الحقيقة يُنشأ، أي يُوجد الخبر، والمخبر قد يكون متعلّقاً بالماضي، وقد يكون متعلّقاً بالحاضر، وقد يكونا معاً اقراراً في الفقه وان قلنا انّ الاخبار ليس انشاءً نوعاً ما، ولا بدّ في الايقاع أن يوجد شيئاً غير الخبر، وحيث انّ الاقرار اخبار ملزم ذو أثر شرعي، فانّ لبحثه ضمن الايقاعات والعقود مجال، لأنّ الانشاء هناك لا خصوصية له ولاموضوعية، بل المهم كونه ملزماً وذي أثر شرعي، فكم من انشاء لا أثر له،
لذا فالانشاء الذي لا أثر له لا يبحث في الفقه، في قبال بعض الاخبارات كالاقرار، فانّه في حال كونه اخباراً فهو ملزم ذي أثر شرعي، لذا يمكن بحثه ضمن باب الايقاعات والعقود، فالمهم كونه ذي أثر شرعي سواء كان من مقولة الانشاء أو من مقولة الاخبار.
على أنّنا ان لم نسلّم البيان المذكور وقلنا انّ الاقرار من مقولة الاخبار وليس انشاءً، لكن الاخبارات على نوعين: فقد يكون الاخبار اخباراً صرفاً (لا يستتبع الالزام ولا يترتّب عليه أثر)، وقد تترتّب على الاخبار آثار (بأن يكون ملزماً ويستتبع لوازم)، لذا صحيح أنّه اخبار عمّا وقع أو عمّا في الحال، لكن قد يكون الاخبار ملزماً، فهذا الاخبار الملزم نعتبره من مقولة الانشاء بالبيان المتقدّم، أو نعتبره أمراً ثالثاً بين الانشاء والاخبار، أو نعتبره نوعاً من الاخبار ( كما هو الصحيح، لأنّ الاخبارفي الحقيقة على نوعين). وعلى أيّ حال، هذا النوع من الاخبار في الفقه يُبحث عنه أيضاً. نعم، ينتفي البحث عن الاخبار الصرف الذي لا يستتبع الزاماً وأثراً.
كما أنّ هناك انشاءات لا يترتّب عليها أثر وليست ملزمة، فانّ هذه لا تبحث في الفقه، اذن لماذا بحثوا عن الاقرار في حال كونه اخباراً في باب الايقاعات والعقود؟ جواب ذلك ماذكرنا، لكن مع ذلك الظاهر وجود اشكالات على التقسيم الفقهي للمحقّق الحلّي (رض).
ولا يخفى أنّ الشهيد السعيد آية الله السيد محمد باقر الصدر (رض) ذكر تقسيماّ جديداً في الفتاوى الواضحة للمسائل والأحكام الفقهية يختلف من حيث الشكل والمنهج، وهو الى حدّ ما جامع ومانع في هذا الباب.
3- استقلال اُصول الفقه كعلم، أي تأليف كتاب اُصول الفقه بشكل مستقل عن كتب المذاهب الأخرى، حيث أضاف اليه قواعد وأبواب اُصولية جديدة مستوحاة من روايات وأحاديث أهل البيت (عليهم السلام) فكسب بذلك صبغة أكثر شرعية، كمباحث الحجج والاُصول العملية و… فكتب المحقّق الحلّي (رض) في هذا المجال كتاب “المعارج”، وصنّف العلّامة الحلّي (رض) كتاب “النهاية”.
4- تصنيف فقه القواعد، فقد لفوا الفقهاء و منهم المحقّق (رض) في هذه المرحلة الى أنّ لبعض المسائل الفقهية الموجودة في أنظار الفقهاء لها حالة القاعدة الكلّية التي قد تكون آثارها ونتائجها عامّة يمكن الاستناد اليها في التفريعات وفي كثير من المسائل، لذا صُنّف في هذا المجال كتاب “نضد القواعد الفقهية” لابن فهد الحلّي (رض) و… ثمّ انفصلت القواعد الفقهية تدريجياً عن المسائل الفقهية التفريعية والجزئية، فطرحت بعنوان أنّها قاعدة كلّية وفقه القواعد.
5- اهتمامه الخاص بالفقه المقارن وآراء علماء المذاهب الأخرى، وقد صُنّفت في هذه المرحلة ـ كفرع خاص من مباحث الفقه الاجتهادي الشيعي ـ تصانيف بهدف التطبيق والمقارنة بينها ككتاب “المعتبر” للمحقّق الحلّي (رض) و”التذكرة” و “منتهى المطلب” للعلّامة الحلّي (رض). ولا يخفى أنّ العلّامة الحلّي قام بعمل آخر في كتابه “مختلف الشيعة” وهو عرض نوع من الفقه المقارن في باطن فقه الشيعة، ذكر فيه اختلاف فقهاء الشيعة واستدلالاتهم وأخضعها للبحث العلمي.
6- تدوين علم الدراية والحديث كعلم. نعم، صنّف الشيخ الطوسي (رض) وغيره كتباً في الحديث، لكن علم الدراية اُسّس في هذه المرحلة، فكسبت الأبحاث الرجالية والحديثية صبغة علمية وفنية اُخرى، وحدثت أقسام جديدة في الحديث أدّت الى تأسيس علم الدراية الشيعي، فكان تقسيم الحديث الى الأقسام الأربعة: (الصحيح، الموثق، الحسن، والضعيف) من ابداعات هذه المرحلة، وأيضاً بيان المناط في حجّية الحديث وغيرها من الأبحاث.
7- لم يكن تقسيم الرجال، الأحوال، مشتركات الرجال، تعيين الضوابط والقواعد الرجالية في رجال الشيخ الطوسي (رض) بهذا النحو، لذا فانّ من الاُمور التي حدثت في هذه المرحلة:
– خروج أبحاث رجالية من حالة البساطة الى كونها أبحاث علمية دقيقة في الفقه.
– رفع الكثير من الأخطاء والالتباسات في هذه المرحلة من قبل علماء أمثال المحقّق الحلّي (رض) والعلّامة الحلّي (رض) وابن داود الحلّي (رض) وآخرين.
بشكل عام ما هي المكانة العلمية والفقهية للمحقّق الحلّي (رض)، وكيف تقيّمون المنهج الفقهي والاجتهادي لدى المحقّق الحلّي (رض)؟
دراسة الأبعاد العلمية للأعاظم بحاجة الى مجال أوسع، وبيانها بهذا المقدار لا يكفي ولا يعطي المطلب حقّه. لكن اختصارا نقول: انّ ما يظهر من كتب المحقّق الحلّي (رض) الفقهية في مختلف الأبواب أنّه كان في مقام الاستنباط وتفريع الأحكام الفقهية يهتم ويؤكّد على جملة اُمور، هي كالتالي:
1- قدرة البيان والتسلّط التام على المسائل والمباني الفقهية، الاُصولية، الكلامية، الرجالية و… مقروناً ذلك بالدقّة والدراسة المعمّقة ونقد الأبحاث.
2- الاهتمام الخاص بآراء العلماء والفقهاء الماضين من المتقدّمين والمتأخّرين.
3- دقّة النظر والتأمّل في أفكار وآراء الآخرين، والدقّة في التنقيح والنقد المنصف لها.
فمن باب المثال أبدى المحقّق الحلّي (رض) آراءه ونقد آراء الفقيه المتقدّم ابن ابي عقيل العماني في كتبه بكلّ شجاعة وانصاف علمي، لكونه متّهماً من قبل من عاصره من الفقهاء ومن تأخّرعنه بالعمل بالقياس في منهجه الاجتهادي وفي مقام الاستنباط، لذا لم يتعرّض الفقهاء لآراءه التي كان بعضها شاذ وخلاف المشهور، وله متفرّدات في الفقه.
ولا يخفى أنّ أصل هذا الاتهام محلّ بحث، لذا رفض بعض من تأخّر عنه، بل بعض من في زماننا كسماحة آية الله السيد المعظم السيستاني (حفظه الله) النسبة المذكورة، وأثنوا على المنزلة العلمية للحسن بن أبي عقيل العماني (رض) وبرّؤه من العمل بالقياس بالمعنى المصطلح الذي عليه مذهب العامّة وأبوحنيفة.
4- توسّع دائرة البحث والالتفات الى جميع الأدلة والمصادرالمعتمدة لدى الجانب المقابل في مقام النقد والدراسة.
5- مراعاة المنهج المنطقي والرصين في دراسة نظريات الآخرين.
6- معرفة دور الزمان والمكان في استنباط الأحكام، والمراد بذلك مجموعة الاُمور القانونية، الثقافية، السياسية، الاقتصادية و… الحاكمة على ذلك الزمان. وبعبارة اُخرى: معرفة الزمان والبيئة الذين وقعا ظرفاً لموضوع الحكم الشرعي، فقد تؤثّر هذه الشرائط والظروف على مصاديق الموضوعات والأحكام الفقهية فتغيّر فيها.
ويمكن العثور على مصاديق ونماذج لذلك في فتاواه كالمضاربة، كيفية بيع السلع، الولاية من قبل السلطان الجائر، الجهاد الابتدائي زمن الغيبة، بيع السلاح لأعداء الدين والاسلام، أحكام المعاملات وعشرات المسائل الأخرى.
7- الحداثة وذكر فروع جديدة.
8- الاحاطة والاهتمام بالفقه المقارن.
وحكي عن آية الله السيد المعظم البروجردي (رض) أنّه قال: انّ فقه بعض الفقهاء أفضل من فقه الآخرين، كفقه المحقّق الحلّي(ره)، العلّامة الحلّي (رض)، الفاضلين، فخر المحقّقين والشهيدين، وذلك لاحاطتهم ـ مضافاً الى فقه الشيعة ـ بفقه أهل الخلاف.
9- الاهتمام الخاص بالقواعد الفقهية.
وكذا حكي عنه قوله: انّ المحقّق الحلّي (رض)، العلّامة، الشهيد و… وبالاستعانة بهذه القواعد الفقهية بسطوا الكلام في فقه واُصول الشيعة، وفتحوا بذلك آفاق جديدة.
10- الدقّة والاهتمام الخاص بالقرائن في ردّ وقبول الروايات.
11-التبحّر في الحديث وعلم الرواية.
12-دراسة وتحليل النص الروائي.