الاجتهاد: يدور في أروقة دارسي العلوم الشرعية عموما، والفقهية منها على وجه الخصوص، نقاشات ساخنة، حول تجديد منهجية الفقه الإسلامي، في كيفية التعاطي مع مستجدات العصر، والاشتباك مع قضاياه الملحة، وعدم الجمود على مدونات الفقه التي أنتجها الفقهاء المتقدمون لعصرهم. وفي هذا السياق يبرز اتجاه فقهي يدعو إلى التجديد، مستندا إلى إحياء فقه “مقاصد الشريعة” من جديد، وإعماله في فهم الأدلة، وإنزال الأحكام، واستنباط أحكام جديدة تراعي تلك المقاصد وتعظم شأنها وفقا لباحثين شرعيين.
فمن هم “المقاصديون الجدد”؟ وما الذي يميز هذا التوجه الفقهي عن مذاهب الفقه الإسلامي المعروفة؟، وكيف ينظر شيوخ المذاهب الفقهية التقليدية إلى دعاة ذلك الاتجاه وشيوخه؟ وهل يلزم من دعاوى “المقاصديين الجدد”، التفلت من الأحكام الشرعية الثابتة، وإدارة الظهر لأصول ثابتة ومستقرة كما يتهمهم بذلك شيوخ وفقهاء معارضون؟.
المقاصدية منهج شرعي قويم
توضيحا لمفهوم “مقاصد الشريعة” قال أستاذ الفقه الإسلامي وأصوله في الجامعة الأردنية الدكتور عبد الله الكيلاني “مقاصد الشريعة ليست أمرا جديدا ولا طارئا على الدراسات الفقهية الإسلامية، بل هي مبحث أصله أئمة أجلاء، وعلماء نجباء، من أكثرهم شهرة وتوسعا فيه أبو إسحاق الشاطبي صاحب الموافقات.
وبيّن الكيلاني أن مفهوم “مقاصد الشريعة” يتمحور حول معرفة الأهداف والمقاصد التي يرمي إليها الشارع الحكيم من وراء التكاليف والأحكام الشرعية، التي يتم تحديدها باستقراء الأدلة الشرعية الكلية والجزئية.
ولفت الكيلاني إلى أن ثمة تحسسا شديدا في أوساط بعض دارسي العلوم الشرعية من “المقاصدية” أو “المقاصديين الجدد”، لما يتبادر إلى أذهانهم من أن إحياء فقه المقاصد يراد به التفلت من الأحكام الشرعية الثابتة، أو التحلل من أصول الاستدلال المقررة في المنظومة الأصولية كما قررها الإمام الشافعي.
وتابع “نعم إن “مقاصد الشريعة” ليست من الأدلة الشرعية سواء المتفق عليها أم المختلف فيها، لكنها مما أرشدت الأدلة الشرعية إلى اعتباره وملاحظته، فهي المقاصد الكامنة وراء الأحكام والتكاليف الشرعية.
وأضاف الكيلاني “ثمة فرق بين منهج يدعو إلى التجديد الفقهي مستظلا بظل “مقاصد الشريعة” في اجتهاده وتجديده، وبين مسالك بعض العلمانيين والحداثيين الذين يتخذون من عنوان “مقاصد الشريعة” ذريعة لتغيير الأحكام وتبديلها.
وأكدّ الكيلاني أن التصدي لدعوات التحلل من الأحكام الشرعية الثابتة، والنظر إليها بمنهجية تاريخية النص، وزمانية التطبيق، لا يتأتّى إلا بفهم مقاصد الشريعة على وجهها الصحيح، والتعاطي مع مستجدات الحياة بفهم روح الشريعة ومقاصدها العامة.
عزل النص عن الواقع بذريعة المصلحة
من جهته رأى أستاذ الفقه المقارن في جامعة الأزهر، الدكتور عمرو غانم أن مسمى “المقاصديين الجدد” أصبح اسما يطلق على كل من يريد عزل النص الإلهي عن واقع الحياة بحجة المصلحة، وأن الشريعة ما جاءت إلا لتحقيق المصالح أيا كان نوعها.
وانتقد غانم ذلك التوجه بأن أصحابه “تناسوا أن المصالح لا يمكن أن تعلم إلا من خلال نصوص الشريعة وقواعدها العامة”، ممثلا لما يرونه مصلحة متوهمة بما جاء بخصوص الربا، فهم يرون أن آيات الربا نزلت في حق مجتمعات رعوية، أما الآن فقد تغير العالم المالي والاقتصادي تماما، وبالتالي فإنها تسمى “فائدة” وليست ربا”.
ويظهر من كلام الدكتور غانم أن المقصودين بنقده هم أتباع الاتجاهات الحداثية والعلمانية، الذين يسعون للتفلت من الأحكام الشرعية بحجة المصلحة والمقاصدية، ومثُل لهم بقوله “وبعضهم يرى بحجة المصلحة أن الحجاب لم يعد ملائما للعصر لأنه يقف أمام حرية المرأة”.
وأضاف غانم: ألم يعلم أولئك أن الشرع اعتبر التبرج مفسدة، وهو ما يطلق عليه “المصلحة الملغاة” عند الأصوليين، وهي ما تصادم نصوص الشرع، واصفا “المقاصديين الجدد” بـ”أنهم يتسترون وراء المقاصد لإلغاء الفقه وأصوله وقواعده، وهدفهم هدم الشرع” على حد قوله.
وردا على سؤال: كيف يمكن إقامة التوازن بين أصول الدين الكلية ونصوصه الجزئية مع استحضار فقه “مقاصد الشريعة”؟ أجاب غانم بأن “النظرة المقاصدية لا يمكن أن تلغي النص، وإنما تفهم النصوص الجزئية على ضوء أصول الدين الكلية”.
“المقاصدية” إحياء وتجديد
بدوره اعتبر الباحث الشرعي الأردني صالح حمودة الدعوة إلى “مقاصد الشريعة” إحياء وتجديدا لأصول شرعية وفقهية لها أهميتها في فهم الأدلة الشرعية وإنزالها على الوقائع، وفي الوقت نفسه مرونة التعاطي مع مستجدات الحياة باستنباط أحكام شرعية لها.
ومثّل صالح لذلك بما فعله عمر رضي الله عنه، حينما أوقف العمل بتوزيع أرض العراق على الفاتحين، مع أن لهم حقا في تلك الغنائم، لكنه راعى مصلحة الأجيال القادمة حتى لا يحرموا من حق الانتفاع بها لو أنها وزعت على الفاتحين بأعينهم.
وأضاف “ما فعله عمر في هذه القضية وغيرها كذلك، هو اجتهاد منه في إنزال الأحكام الشرعية على الواقع باعتبار المصالح، وباستحضار مقاصد الشريعة، وهو ما نحتاجه في زماننا، بالابتعاد عن حرفية الفهم والتنزيل، إلى مراعاة مصالح العباد المتيقنة، وتحقيق مقاصد الشريعة المؤكدة”.
ولفت صالح إلى أن توجه “المقاصديين الجدد” هو امتداد لمدرسة الشيخ محمد عبده، وتلميذه الشيخ محمد رشيد رضا، في تجديد الفقه باعتبار مقاصد الشريعة الكلية، خاصة فيما يتعلق بالمستجدات والقضايا المعاصرة.
ورفض صالح وصف توجه “المقاصديين الجدد” بأنه يصب في خانة هدم الشريعة وإلغاء أحكامها، موضحا أنه إن كان هذا هو هدف بعض اتجاهات العلمانيين والحداثيين، فهو ليس كذلك لدعاة تجديد الفقه الإسلامي، المنضبطين في اجتهاداتهم، والمخلصين لدينهم ودعوتهم.
وبيّن صالح أن الفرق بين دعاة تجديد الفقه الإسلامي، وبين الجامدين على المدونات الفقهية القديمة، أن المجددين يفرقون بين أحكام فقهية محدودة بزمانيتها وسياقاتها التاريخية، وبين أحكام أخرى مطلقة، لها صفة الثبات والإلزام في كل زمان.
ومثّل للأولى بأحكام ملك اليمين (الرق)، فهي أحكام تاريخية محكومة بزمانيتها، انتهت بانتهاء محل إنزالها وظروف تطبيقها، ولا يجوز بحال الدعوة إلى تطبيقها من جديد، أما الصنف الثاني من الأحكام الثابتة والملزمة فهي كتحريم الربا، ووجوب حجاب المرأة المسلمة، فهذه أحكام ثابتة لا يجوز تغييرها أو تبديلها بحال.
تظهر أهمية التفريق بين منهج الفقه التقليدي، ومنهج الفقه التجديدي، في دراسة نموذج تطبيق واقعي لأحكام الشريعة، من غير تفريق في ذلك النموذج بين أحكام فقهية تاريخية محكومة بزمانيتها، كإرجاع حالة الرق من جديد، وإحياء حكم ملك اليمين مرة أخرى، وبين أحكام مطلقة وثابتة لكل زمان ومكان، ما يسيء للدين نفسه، بسبب عدم مراعاة أولئك المطبقين لمقاصد الشريعة وفهمهم لروحها.
المصدر: عربي 21