الاجتهاد: يدرس فضيلة الشيخ الأستاذ حيدر حب الله في هذا الحوار (القسم الأول) الذي أجرته معه مجلّة (رسائل) الشهرية الفكريّة والثقافية في إيران، أزمة العلاقة بين الحوزة العلمية في قم وسائر المراكز الفكريّة والدينيّة والثقافيّة في العالم ويشير فضيلته الى العوامل الستة (التاريخية والسياسية واللغوية والانغلاق النسبي، للداخل الإيراني الشيعي وعقدة التفوّق والاُستاذيّة وفي النهاية عامل الانبهار بالغرب) التي تعد من وجهة نظره من عوامل ضعف العلاقات بين الحوزة العلمية في قم وسائر المراكز في العالم.كما يشير إلى النتائج السلبيّة لفتور العلاقات الفكريّة والثقافيّة.
نشكركم فضيلة الشيخ حيدر حبّ الله على قبولكم إجراء هذا الحوار، الذي سنحاول أن ندرس فيه أزمة العلاقة بين الحوزة العلمية في قم وسائر المراكز الفكريّة والدينيّة والثقافيّة في العالم.
ولنبدأ أوّلاً بملفّ الأسباب والعوامل:
أوّلاً: عوامل ضعف العلاقات بين الحوزة العلمية في قم وسائر المراكز في العالم
السؤال الأوّل: من المعضلات الأساسيّة اليوم في الحوزة العلمية في قم أنّها لا تفتح علاقات مع العالم الخارجي، خاصّة أهل السنّة، كما يصرّح بذلك أحد مسؤولي الحوزة في حوارٍ أجريناه معه، فلا يوجد في حوزة قم أيّ مؤسّسة رسمية تقوم بهذه المهمة، نريد أن نعرف ما هي طرق العلاج لهذه المشكلة، أرجو منكم أن تقدّموا لنا الأسباب الرئيسة لتحقّق هذا البتر شبه الكامل في العلاقات، فما هي؟
الجواب: بدايةً، يلزمني أن أشير إلى أنّه من الطبيعي أنّ مجموعةً من الأسباب التي أدّت وتؤدّي إلى هذه العلاقة الباردة أو الضعيفة جداً بين الحوزة العلمية في قم وسائر المراكز العلميّة الإسلاميّة في العالم، وبشكلٍ أساس عند سائر المذاهب الإسلاميّة.. من الطبيعي أنّ بعضها ليس خاصّاً بحوزة قم، بل قد تتحمّل مسؤوليّته سائر الحوزات الشيعيّة في العالم، وكذلك المراكز والمعاهد الدينيّة السنيّة وغيرها، فليست الأسباب هذه خاصّةً بحوزة قم، حتى لا نجلدها، وإنّما بعضها ربما يكون خاصّاً بها، وبعضها الآخر ربما يكون مشتركاً بينها وبين غيرها من سائر المراكز والمؤسّسات.
في تقديري، فإنّ أسباب وعوامل هذه العلاقة المنقطعة أو شبه الميتة بين حوزة قم وسائر المراكز العلميّة خارجها، متعدّدة جداً، ولعلّ بإمكاني أن اُشير لبعضها هنا على نحو العجالة:
1 ـ العامل التاريخي والصراع الصفوي ـ العثماني
العامل الأوّل: العامل التاريخيّ، فقد أرخى هذا العامل ـ في ظنّي ـ بظلاله كثيراً على علاقة شيعة إيران بالعالم الإسلامي، وخاصّةً العالم العربي. وأقصد بالعامل التاريخي ـ بشكل مركّز ـ الفترة الصفويّة التي صاحبتها صراعاتٌ عسكريّة وسياسيّة حادّة مع العثمانيّين، بحيث أفضت هذه الصراعات إلى سلسلة من النزاعات الفكريّة، كما صاحبتها فضاءات ثقافية خاصّة، أدّت إلى تكوّن هُويّة سنية وأخرى شيعيّة شديدتي الاختلاف هذه المرّة.
أعتقد أنّ هذا العامل السياسيّ التاريخي لعب دوراً في بتر صلة شيعة إيران بالكثير من المسلمين في العالم الإسلامي بتراً نسبيّاً، بحيث بات هذا البتر يمثل خلفيّة تاريخيّة عميقة لهذه العلاقة شبه الميتة بين الطرفين منذ قرون. وبكلمة مختصرة: إنّ هذا السياق التاريخي أرخى بظلاله على علاقات شيعة إيران بالعالم وقطع صلاتهم بمحيطهم، عزّز ذلك كلّه في القرنين الأخيرين نموّ النزعات القوميّة في إيران والعالم العربي معاً.
2 ـ العامل السياسي والحرب العراقيّة الإيرانيّة وما بعد
العامل الثاني: العامل السياسي، في العصر الراهن منذ الحرب العراقيّة الإيرانيّة، وصولاً لأزمة المنطقة بعد سقوط النظام العراقي، فإذا انتقلنا من العامل التاريخيّ إلى العامل السياسي المعاصر، فسنجد أنّ هذا البتر قد عاد مجدّداً وبقوّة باندلاع الحرب العراقية ـ الإيرانية، فهذه الحرب وما صاحبها من مواقف سياسية وعسكرية فرضت تراجع شبكة العلاقات الفكرية والثقافية بين الداخل الإيراني ـ بما في ذلك حوزة قم ـ وسائر المناطق الإسلاميّة في العالم العربي، على عكس الفترة التي سبقتها قليلاً، حيث كنّا نجد وضعاً أفضل منذ مطلع القرن العشرين، خاصّة في زمان حكم جمال عبد الناصر.
هذا الوضع استمرّ حتى عام 2003م، لحظة سقوط النظام العراقي، فدخلت المنطقة في وضع جديد عزّز من هذا الانفصال والتشظّي، وترك تأثيره على الحوزة العلمية في قم؛ كونها لا تستطيع أن تخرج عن جغرافيّتها، فهي في نهاية المطاف تقع في هذه الجغرافيا وتظلّ محكومةً لها.
3 ـ الانغلاق النسبي للشيعة
العامل الثالث: الانغلاق النسبي، عبر القرون الأخيرة للداخل الإيراني الشيعي، عن سائر مرافق الحياة الإسلامية في سائر بلدان المسلمين، فقد حصل انغلاق نسبي داخلي، بعيداً عن السياسة نفسها، فالإنسان الشيعي في إيران، صار يشعر بأنّه غير قادر على التواصل مع الآخر، ولا أعني هنا أنّ هناك موانع، بل أعني أنّه في نفسه لم تعد لديه أولويّة ولا قدرة ذاتيّة على التواصل مع الآخر، وربما يكون السبب أيضاً أنّ الآخر لا يتقبّله، فبات يشعر بشكلٍ من أشكال الانغلاق داخل مذهبه ودائرته، وكأنّه في المحيط العام غدا جسماً غريباً، عزّز ذلك كلّه ظهور التيار السلفي منذ ثلاثة قرون تقريباً، فهذا التيار ـ بخطابه المذهبي في العالم السني ـ عزّز فكرة أنّ الشيعة يجب أن يكونوا في الزاوية وعلى هامش العالم الإسلامي، وبالتالي صار الإنسان الشيعي يشعر وكأنّه داخل منغلق، أو في غرفة مغلقة يصعب فيها التواصل مع الآخرين، فغرق في ثقافته المذهبيّة، واستنفد كلّ طاقاته فيها، وأراد له الآخر أن يبقى غارقاً فيها، وهو ما أدّى إلى ضعف علاقاته بالمحيط.
إذن، هناك نشاط انغلاقي نسبي داخلي من قبل الشيعة أنفسهم على قضاياهم المذهبية التي صاروا غارقين فيها، وهناك سعي من الآخر الخصم في أن يعزّز هذا الانغلاق ليستفيد منه في أن يجعلك في الزاوية، حتى تشعر وكأنّك لم تعد قادراً على التواصل مع الناس، حتى أنّك صرت بحاجة لجهود كي تكسب اعترافهم بوجودك، هذه مشكلة كبيرة حصلت في هذا الإطار.
خطورة تحويل التاريخي إلى عقدي
طبعاً واحدة من أهم المشاكل هنا، هو أنّ الانغلاق الطائفي المذهبي عند الشيعة في هذه القرون الأخيرة ـ وهذه نقطة أرجو أن نتنبّه لها جيداً ـ جعل القضايا التاريخيّة قضايا عقائديّة، هذه قضيّة خطيرة جدّاً، فعندما تحوِّل ـ بالحدّ الأعلى ـ التاريخ إلى عقيدة، فهذا يعني أنك تريد أن تثبته في هويّة الإنسان الشيعي، ومن ثمّ فلن يستطيع أن يعيش بمعزل عن المسألة التاريخيّة؛ لأنّها تحوّلت إلى قضيّة عقائديّة تمثل جزءاً من الهويّة، وهذا موضوع في غاية الخطورة وليس بسيطاً أبداً؛ لأنّه يؤثر على هويّتك التي تحدّد بطبيعتها شكل علاقاتك مع الآخر وحدودها، فلا يكفي هنا استخدام مثل قاعدة التسامح في أدلّة السنن؛ لأنّ القضيّة أكبر من حجم تصرّف بسيط يراد له أن تأتي به برجاء المطلوبيّة أو تأتي به بنيّة الاستحباب أو ما شابه ذلك، وإنّما القضيّة التاريخية هنا وبعض القضايا الشعائريّة دخلت بوصفها جزءاً أساسيّاً من تكوين الهويّة والعقيدة، شئت أنتَ أم أبيت، فالهوية العقديّة المجتمعيّة ليست تابعة لنواياك، بل لقواعدها على أرض الواقع، وهذا أمر خطير جداً في هذا الإطار.
مقارنة بين صراع المذاهب المسيحيّة والمسلمة
اليوم مثلاً رغم الصراع الحادّ بين الأرثوذكس والكاثوليك، نجد ليبراليّين أرثوذكس يقولون بأن ّفكرة (فيليوك) التي تعني صدور روح القدس من الإبن، وهي فكرة شكّلت أكبر موادّ الصراع بين هذين المذهبين المسيحيّين الكبيرين، حتى أدّت إلى تشظّيهما في القرن الحادي عشر الميلادي.. الآن هناك من يطرح أنّ هذه القضية تعالوا لنعتبرها قضيّةً تاريخيّة، مع أنّها تشكّل جزءاً أساسياً من هويّة التثليث والأقانيم الثلاثة، وعلاقة الأقانيم الثلاثة ببعضها، فمن الطبيعي أن تغدو قضيّةً عقديّة هناك، لكن مع ذلك هناك سعي لاعتبارها قضيّة تاريخيّة، وذلك بهدف الخروج من المأزق.. هذا ما يفكّر فيه بعضُ أولئك، بينما نحن هنا نشتغل على قلب المشهد تماماً، ونصرّ في عالمنا اليوم أنّ نحوّل بعض القضايا التاريخيّة إلى قضايا عقائديّة مما يؤدّي إلى درجة من صعوبة التواصل مع الآخرين.
التعرّف على الآخر من خلال المتطرّفين أو الجدليّين
وما يزيد الطين بِلّةً، أننا نتعرّف على أهل السنّة من خلال متطرّفي الشيعة أحياناً، وجدليّيهم أحياناً اُخَر، هذه نقطة خطيرة جداً، دعني اُعطي مثالاً: ثمّة من يقول اليوم بأنّ الغرب كلّه ملحدٌ أو لا علاقة له بالدين! لماذا هذه القناعة عند بعضنا أو هذه الصورة عن الغرب؟ لأنّ القناة التي عرّفتنا الغربَ في العالم الإسلامي هي مجموعة من المثقّفين المسلمين الذين لديهم هم مشكلة مع الدين، فترجموا لنا ذلك الجانب من الغرب الذي عنده مشكلة مع الدين، وبالتالي كوّنّا انطباعاً سلبياً عن الغرب، وأنّه برمّته على قطيعة مع الدين، حتى صار هناك من يستدلّ على سلامة الابتعاد عن الدين تماماً بالتجربة الغربيّة؛ لأنّه تصوّر أنّها تجربة مباينة للدين، وهذه الصورة كلّها غير دقيقة، فمن يقرأ يعرف أنّ أدلّة وجود الله قد ازدادت في الغرب نفسه منذ عصر النهضة، وكثير من أولئك المفكّرين الذين يُعتمدون اليوم في بلادنا لنقد أصل الدين، هم في الأصل متديّنون، ولهم ميول دينية مسيحية واضحة، بل ثمّة نظريّات متأخّرة تعتقد بأنّ جذور التحوّل منذ عصر النهضة إنّما بدأت في القرون الوسطى نفسها مطلع الألفيّة الثانية، وليس صحيحاً ما يقال بأنّ هذه التحوّلات نشأت من القطيعة مع الدين.
لا أُريد أن أذهب بعيداً في الكلام عن هذا الموضوع، لكن ما أقصده هو أنّ المترجم المسلم هو الذي صوّر لنا الغرب الملحد أو المناهض للدين، وإذا كانت التجربة الفرنسيّة لها خصوصيّاتها، فالتجربة الأميركيّة وأمثالها لها خصوصيّات اُخر إلى يومنا هذا.
جئت بهذا المثال لأقول بأنّ المشكلة عينها واجهناها في الصورة التي نحتت في أذهاننا عن أهل السنّة والمحيط المسلم، فالقناة التي يتعرّف الشيعي من خلالها على الآخر السنّي هي عادةً قناة المتطرّف الشيعي أحياناً، والجدلي الشيعي أخرى، والجدليُّ كثيراً ما يراوغ فيخفي جزءاً من الحقيقة ويضيء على الجزء الآخر، ويضخّم قضيّةً ويقضم قضيّة أخرى، لهذا لن تصلنا عبر هذا الثنائي (المتطرّف ـ الجدلي) صورة صحيحة عن الآخر، ولن تصله عبر هذا الثنائي عنده صورة صحيحة عنّا، وهذا ما يعزّز القطيعة بعمق وجديّة، أرجو أن نأخذ هذا الموضوع مأخذ الجدّ.
إذن، العامل الثالث هو الانغلاق النسبي الطائفي على أنفسنا، والذي عزّزه الفريق الآخر بنزعته السلفيّة في بعض المواقع، هذا الانغلاق زاد خطورةً بتحويل التاريخيّات إلى عقائديّات، وبتعرّفنا على الآخر من خلال القنوات المتطرّفة أو القنوات غير العلميّة والمحايدة.. هذا كلّه عزّز هذا الانفصال، وبتنا نشعر بصعوبة التواصل مع الآخر السنّي، خاصّة في هذا الفضاء الذي هو في داخل حوزة قم، والذي نعرف جميعاً أنّه مشبع بهذا المستوى من الحال.
4 ـ العامل اللغوي في فتور العلاقات
العامل الرابع: العامل اللغوي، فاللغة عنصر مهم جداً ينبغي أن لا يغيب عن ناظرنا، فموضوع اللغة الفارسيّة واللغة العربيّة على مستوى العالم العربي، وسائر لغات العالم الإسلامي على مستوى خارج العالم العربي، هذا الموضوع ليس بسيطاً، فعدم وجود الكثير من الناطقين والمتعلّمين للغة العربية بجدارة هنا، وعدم وجود أمثالهم على المقلب الآخر، يؤدي إلى شيء من التراجع في العلاقات.. فدائماً الارتباط اللغوي يعزّز التواصل في دائرة واسعة، وفقدانه يجعله أكثر صعوبة ويحصره في قنوات ضيّقة جداً ومساحات قليلة، فلاحظ تواصل المسلمين مثلاً مع الأسبان وتواصلهم مع الناطقين باللغة الإنجليزية، إنّ التواصل الثاني أكبر بسبب حضور اللغة..
طبعاً لا أتكلّم هنا فقط عن العرب واللغة العربيّة، بل عن الجميع؛ لأنني لا أعتقد بما يطرحه كثير من السياسيين العرب ورجال الدين العرب من أنّ الإسلام عربيّ، أو بعبارة أخرى الإسلام يمتلكه العرب ولهم الولاية عليه، هذه قضية مثارة في الوسط السنّي، وكأنّ مسلمي أندونيسيا أو ماليزيا أو مسلمي شبه القارة الهنديّة أو أفريقيا، هؤلاء ليس لهم الحقّ في أن يساهموا في صياغة الإسلام، لا، القضيّة ليست كذلك، هناك من يصرّ على هذا الطرح بهذه الطريقة، وإن كان هنا في إيران أيضاً من يحاول أن يقدّم القضية بطريقة عكسيّة مع الأسف.
5 ـ الحوزة العلمية في قم وعقدة التفوّق والاُستاذيّة!
العامل الخامس: عقدة التفوّق، هذه نقطة إسمح لي أن أقولها؛ لأنّني أعتقد بأنّ لها دوراً كبيراً في مأزق علاقة حوزة قم بالخارج، وهي ذهنيّة التعليم، عنيتُ تعليم المسلمين دينهم، هذه الذهنية لا يمكن بها أن تفتح علاقات طيّبة مع الآخرين، ذهنية أنّني جئت لأعلّمكم دينكم، وكأنّ سائر المسلمين في العالم هم عبارة عن تلامذة عندي، ويجب عليهم أن يتعلّموا منّي! إنّ بناء علاقة حوزة قم بسائر المسلمين في العالم على أساس التلمّذ والتعليم والإرشاد، هو بناءٌ خطأ في نفسه، بل لقد عقّد المشكلة حتى في علاقة الداخل (إيرانيّاً) بالخارج، ولو كان شيعيّاً.
إنّها مشكلة عظيمة أن تنظر إلى سائر المسلمين بنظرة ازدراء، وأنّهم يحتاجون لمن يرشدهم ويعلّمهم، وأنا المرشد المخلّص، وأنّنا نملك كلّ شيء والآخر عليه أن يتعلّم منّا، ونحن إنّما نفتح العلاقة مع الآخر لكي ننفعه بالتعلّم منّا، ولكي يكون مستمعاً ممتازاً لنا.
إنّ هذا الوضع يحدّ في تقديري من التقدّم العلمي في حوزة قم، ويجعلها في معزل عن العالم، يجعلها فقط تتكلّم ولا تقدر على أن تسمع، والناس لا تبني معك علاقات إذا كنت فقط تتكلّم؛ لأنّ الآخرين يحترمون وجودهم ويرون لأنفسهم كينونةً وهويّة، وعليك أن تستمع إليهم أيضاً.
هذه الذهنيّة تعزّزت في العقود الأخيرة بقوّة، ولا يمكنك أن تتعامل مع الآخرين إلا من موقع ندّية، وليس من موقع أنّ الآخر لا شيء، وإلا فإنّه في هذه الحال قد يستمع إليك ليوم أو يومين أو ثلاثة، ولكنّه بعد ذلك لن يستمع إليك، لأنّه يرى لنفسه هوية، وهذه المشكلة لا يمكن حلّها إلا ببرامج التربية والتعليم في الحوزات، فعلى حوزة قم أن تتخذ موقفاً منذ اليوم الأوّل لدخول طالب الحوزة إليها في أن تعلّمه نظريّات سائر مدارس المسلمين، ليعرف أنّ هناك اجتهادات عريقة عند أهل السنّة، وعند الإباضية، وعند الصوفيّة، وعند غيرهم من سائر مذاهب المسلمين، وعند الشيعة من القوميّات الاُخر، لا أن تصوِّر له أنّنا نحن الذين نملك العلم، وسائر الناس عليهم أن يتعلّموا عندنا!
إنّ هذه المشكلة لم تقف ـ مع الأسف ـ في حدود علاقة حوزة قم بسائر المذاهب، بل كانت حتى في علاقتها أخيراً ببعض الحوزات العلميّة الشيعية خارج إيران، وهو ما سبّب مشكلةً وإرباكاً.
أعتقد أنّ ذهنية التفوّق والتميّز التي قد يعيشها بعض الناس هنا تعقّد من علاقتهم مع الآخرين، فالناس لن تستمع إليك إلا بعلاقة متساوية الأطراف، وبطاولة مستديرة، لا مستطيلة، الناس لها هويّتها ولها وجودها وكينونتها وتاريخها ومنجزاتها.
6 ـ عامل الانبهار بالغرب وتأثيره في تغيير البوصلة
العامل السادس: عامل الانبهار بالغرب، ثمّة في حوزة قم فرقاء متعدّدون، منهم فريق تقليدي ـ إذا صحّ التعبير ـ وفريق آخر ربما يصحّ أن نقول عنه بأنّه متأثر بالغرب، والعامل السادس الذي أودّ الحديث عنه يتعلّق بهذا الفريق داخل حوزة قمّ وداخل الفضاء الحوزوي والجامعي عموماً في إيران.
إنّ مشكلة الفريق المنبهر بالغرب هنا أنّه يعرف الغرب أكثر مما يعرف العالم الإسلامي! وهذه واحدة من مصائبنا نحن المسلمين في هذا الإطار، أنّنا نترجم دراسات كثيرة من اللغات الأجنبية مثل الإنجليزية والفرنسيّة والألمانيّة وغيرها ـ وهذا ضروري جدّاً ـ لكن نادراً ما نترجم المشاهد الثقافية والمنجزات الفكرية للمفكّرين والعلماء والباحثين في العالم العربي أو في شبه القارّة الهندية (باكستان والهند) أو في ماليزيا أو تركيا، نحن لا نُترجم، لماذا؟ لأنّ هذا يتأثر بطبيعة ذهنيّتنا التي تكلّمنا عنها قبل قليل، فهؤلاء نحن نترجم لهم أفكارنا، أمّا أن نترجم أفكارهم فلا نفعل ذلك، هذه مشكلتنا، حتى بات كثير من الباحثين المنفتحين هنا يتعرّفون على العالم الإسلامي من خلال الكتابات الغربيّة!
أعتقد أنّ مجموع هذه العوامل الستّة ساعد على عجز حوزة قم، وبالتالي عجز محيطها عن التواصل مع سائر المراكز العلميّة للمذاهب الأخرى في العالم الإسلامي، رغم أنّها تريد أن تفتح هذه العلاقات ولديها إيمان عميق بضرورة فتحها، لكن هذه العوامل تجهض نجاح هذه المحاولات الصادقة، وتستنفد الكثير من الجهود لمدّ الجسور لكن دون فائدة تُذكر، بحيث لا تتناسب حجم الجهود المبذولة لفتح باب العلاقات مع تلك النتائج والمخرَجات.
المُحاوِر ـ مقاطعاً ـ: من المشاكل التي تعيق تعامل الحوزة العلميّة مع الآخرين، هو المشاكل الإداريّة، لكنّكم لم تتحدّثوا عنها.
لقد حاولتُ أن أقترب من الأسباب الثقافيّة والفكريّة والسياسيّة أكثر من الاقتراب من الأسباب الإدارية، وربما لتلك الأسباب متخصّصوها والمتابعون لها الذين يمكن الرجوع اليهم والاستفادة منهم إن شاء الله.
هل انتقلت المشاكل التي كانت في العهد الصفوي والعثماني إلى عصرنا الحاضر؟
لا أعني أنّها بعينها انتقلت، لكنّها خلقت فضاءً وبيئة أدّيا إلى تراجع العلاقات الثقافية والمجتمعيّة، فأنت أمام عدّة قرون من العلاقات الضعيفة، والآن تريد أن تنهض مجدّداً. لقد رأينا أنّ هذه النهضة تحرّكت بعض الشيء مع حركة التقريب في القاهرة في النصف الأوّل من القرن العشرين، وخطت خطوات طيبة مع جهود أمثال البروجردي وشلتوت وغيرهما، لكنّها وبمجرّد أن نهضت جاءتها الحرب العراقية ـ الإيرانيّة، ثمّ وقائع ما بعد 2003م لتقضي عليها وتعيدها لنقطة الصفر.
لا يمكن أن تتكلّم عن العلاقات في وضعنا الحالي بين المؤسّسات العلمية والدينية بمعزل عن السياسة، فهذه المشكلة قائمة، وعلينا أن نجترح الحلول التي تجنّبنا التأثيرات السلبيّة للسياسة قدر الإمكان.
ثانياً: النتائج السلبيّة لفتور العلاقات الفكريّة والثقافيّة
السؤال الثاني: بعد التعرّف على الأسباب ننتقل إلى النتائج السلبيّة لعدم العلاقة مع الخارج؟
الجواب: أعتقد أنّ النتائج السلبية التي تنجم عن هذا الفتور في العلاقات متعدّدة، ومن أهمّها:
1 ـ الثغرة المذهبيّة ودور العلاقات فيها سلباً وإيجاباً
بمجرّد أن لا يكون عندك تواصل مع المراكز الدينيّة والعلميّة في العالم فأنت فتحت ثغرةً للأزمة المذهبيّة، فكلّما تباعدت المراكز العلميّة عن بعضها بين المذاهب صارت هناك فتحة صغيرة يمكن للفتن المذهبيّة أن تلجها، وكلّما ازداد هذا التواصل تقلّصت هذه الإمكانيّة، إذاً واحدة من النتائج التي نراها لضعف علاقاتنا الحوزويّة مع سائر المراكز العلمية الدينيّة في العالم الإسلامي، هو فتح المجال للفتن المذهبية وللتشظّي المذهبي، بل فتح المجال للتشظّي داخل الشيعة أنفسهم، بسبب ضعف علاقات حوزة قم وحوزاتٍ أخر خارج إيران، وقد رأينا كيف أنّ ضعف العلاقات هذا أدّى إلى ظهور تيارات صغيرة، خلقت بعض المشاكل الداخل ـ شيعيّة، فكيف بين الشيعة وغيرهم؟!
إنّني أعتقد أنّ الكثير من الأمور يمكن حلّها بالتواصل، لو كان هناك تواصل حقيقي، لكن بسبب عدم وجود تواصل تأتي الأطراف الأخرى وتصنع عنك صورةً في الأذهان، وبالعكس، وهذه مشكلة حقيقيّة ينبغي أن نقرّ بها.
يجب أن يخرج الشيعة من مرحلة إثبات إسلامهم للعالم، يجب أن تصبح هذه المرحلة وراء ظهورنا، لا ينبغي أن يبقى الشيعة إلى مئات السنين القادمة، يريدون إقناع السنّي بأنّنا مسلمون، هذا شيء غير مقبول، يجب أن نصل إلى صيغة تواصلية، وتقارب حقيقي بين المراكز العلميّة، يُلغي من أذهان سائر علماء المسلمين فكرة أنّ الشيعة يمكن أن يكونوا خارج الإطار الديني الإسلامي، فمن المرفوض أنّك بعد ألف وأربعئمة سنة من وجود مذهب بإسم المذهب الشيعي، ما زلت إلى اليوم تدافع عن نفسك لتثبت أنك مسلم! هذا ظلم بحقّ المذهب الشيعي، هذا شيء ينبغي تجاوزه بالتواصل والتفاهم الحقيقيّين.
نعم أنت من خلال التواصل تستطيع أن تفكّ بعض العقد، ولا أقول بأنّك قادر على أن تحلّ جميع العقد، فبعض التيارات المتطرفة في الجانب السلفي تشتغل على تسليط الضوء على عدم إسلام الشيعة، لكن أنت لو كان لديك قدرات تواصلية هائلة مع سائر علماء المسلمين، لربما تمكّنت من تقليص فرص نجاح تلك المحاولات.
لقد تمكّن الشيعة في فترات في القرن العشرين من أن يكون لهم حضور حتى في الأزهر، وأن يأخذ الأزهر أو بعض فقهائه بفتاوى الفقه الإمامي بوصفها فتاوى فقهية إسلاميّة، وهذا كلّه ببركة التواصل الحقيقي، فقد استطاع أن يوصلك إلى مكانٍ ما من الاعتراف وفضّ الاشتباك مع المحيط، إذاً نحن اليوم بحاجة إلى هذا التواصل، حتى لو كلّفنا ثمناً أو ضرائب معيّنة؛ لكي نخرج من هذه المرحلة، فأهل السنّة كان فيما بينهم في القرون الثمانية الهجريّة الأولى صراعات، ولو قرأت ما كان يقوله الشافعية في حقّ الحنفية وما تقوله الحنفية في حق المالكية وما تقوله المالكية في حقّ الحنبليّة.. لرأيت الكثير من العجب العجاب في إخراج بعضهم بعضاً عن الملة والدين، لكنهم اليوم وصلوا إلى تفاهم نسبي كبير،
فاليوم عندما يدرس السنّيُّ المالكي الفقهَ الإسلامي فإنّه يدرس الفقه الحنبلي ويدرس كلّ الفقه الإسلامي معه، ونحن نصبو إلى أن نصل إلى مرحلة يصبح السنّي فيها عندما يدرس الفقه الإسلامي يدرس فيه الفقه الجعفري بوصفه وجهة نظر، والعكس صحيح، لكن كلّما ضعفت العلاقات فإنّ من آفاتها أنّك لا تستطيع أن توصل صوتك إلى داخل المراكز العلميّة، ولا أن تسمع صوتهم بوضوح، وبالتالي ستبقى في نظر طلاب العلوم الدينية السنّة وكأنك خارج الإطار الإسلامي، والعكس صحيح، لماذا؟ لأنّ الجميع يدرس عشرين سنة ولا يرى إلا كتب مذهبه!
وبكلمة مختصرة: إنّ من سلبيات القطيعة فتح ثغرة في التشظّي المذهبي، والداخل ـ شيعي معاً، ويجب أن يخرج الشيعة من مرحلة إثبات إسلامهم للعالم السنّي، ليصبح هذا الموضوع وراء ظهورنا، وأحد مفاتيحه من طرفنا هو التعامل والترابط الواسع والدائم والحقيقي ـ وليس المجاملات وأخذ الصور ـ بين الحوزات والمشاهد الثقافية في بلدان العالم الإسلامي، لنصل لمرحلة تداخل مذهبي كما حصل بين المذاهب السنيّة الفقهيّة نفسها بعد القرن الثامن الهجري.
2 ـ العجز عن التفرّد بوضع حلول لمشكلات العصر الحديث
كلّما بقيت الحوزة العلمية في قم لوحدها صارت أعجز عن تقديم خطاب إسلاميّ يستطيع أن يجيب عن تحدّيات المرحلة، لاحظوا كيف أنّنا اليوم ـ مثلاً ـ نواجه مشاكل من نوع: الإلحاد، والتردّي الأخلاقي، والتطرّف والعنف بمستوياته، واللادينية، وغير ذلك. إنّ حجم ونوعيّة المشكلات بمستوى لا تقدر الحوزة العلمية في قم لوحدها على مواجهتها، واجتراح الحلول لها، ومن ثمّ يغدو منطقيّاً أن تتعامل هذه الحوزة مع الآخرين الذين يعجزون لوحدهم أيضاً عن المواجهة. واجتماعُ هذه القوى الفكريّة والثقافية والروحيّة يساعد أكثر على تقريبنا من الحلّ أو من تخفيف حجم المشكلات القائمة.
إنّ تعاضد الجهود هذه ووجود حلقات تواصل وتنسيق وتعاون، يمكنه أن يعزّز فرص نجاحنا في تلافي هذه المشكلات ولو نسبيّاً، وطبعاً على الصعيد الديني والثقافي، وإلا فليست كلّ أطراف الخيوط بيد الحوزات والمراكز الدينيّة حتى نحمّلها مسؤوليّة كلّ شيء.
وهذا يعني أنّ من آفات القطيعة بين الحوزة وخارجها هو رفع احتماليات عجز خطابنا عن حلّ المشاكل، ومن محاسن التواصل قدرتنا على إعانة بعضنا بعضاً لتقديم حلول لمشاكلنا المعاصرة، فالخطاب الإسلامي يضعُف بفكّ الارتباط، ويقوى بالتواصل، لماذا؟ لأنّك تشارك الناس في عقولها، ولا تستطيع أن تقول بأنّه لا يوجد عند الآخرين عقل، وأنا فقط الذي أفكر! وقد أثبتت التجارب وقراءة التاريخ أنّ العديد من الخطوات أخفقت بسبب عدم وجود قوى متعاونة معك لمواجهة الوقائع المستجدّة وهذا هو الإنسان الضعيف بطبعه والذي يقوى بالتعاون والتنسيق، بل هذا التنسيق لا يقف عند حدود التعاون داخل المذاهب الإسلاميّة أو بين الشيعة بأطيافهم بل هو يمتدّ للتعاون ما بين الأديان، فالكثير من مشكلات العصر تحتاج تعاوناً على مستويات عالية بين الأديان، خاصّة الإبراهيميّة منها.
المُحاوِر ـ مقاطعاً ـ: إنّ الحوزة العلمية في قم لا تقبل الجامعة في قم نفسها، فكيف بما هو خارج مدينة قم؟!
إذن، لا بد أن نغيّر عقليّتنا لنصل إلى وضع أفضل، ومع تشبّثنا بالعقليّة القائمة اليوم لا أظنّنا قادرين على أن نوصل خطابنا أو حتى أن نبني خطاباً إسلاميّاً معاصراً بما للكلمة من معنى.
وبكلمة مختصرة: نحن اليوم بحاجة إلى خطاب إسلامي إنساني عالمي، وليس إلى خطاب مذهبي طائفي جغرافي محلّي فقط، لا إلى خطاب عربي سنّي ولا خطاب شيعي إيراني؛ لأنّ الكثير من مشاكلنا اليوم ليست مختصّة بجغرافيّاتنا أو قوميّاتنا، بل هي مشاكل إنسان العصر العالميّة، فمثلاً: ما هي أجوبة الفكر الديني عموماً عن مسألة أخلاق البيئة؟ ما هي أجوبته حول قضايا المرأة؟ ما هي أجوبته عن حقوق الأطفال والقاصرين؟ ما هي أجوبته حول وضع الأقليّات في العالم؟ ما هي رؤيته العصريّة لقضايا من نوع الطلاق والمثليّة الجنسيّة والمشاركة السياسيّة والحريّات وغير ذلك؟
لوحدك لا تستطيع أن تفعل شيئاً، ومن ثمّ فيجب أن نتواضع أكثر من المستوى الذي نحن فيه، ونقرّ بأنّنا بحاجة لأن نمدّ أيدينا إلى سائر المسلمين ـ بل وأهل الأديان عامّة ـ ويمدّوا أيديهم لنا، فنتبادل الأفكار ـ وليس الصور والاحتفاليّات ـ معهم، ونولِدَ خطاباً إسلامياً عالمياً يستطيع أن يُسمع في أماكن أخرى من العالم، وليس فقط في أحيائنا الضيّقة.
3 ـ معضل الضعف والتكرار في المنجزات العلميّة
من النتائج ضعفُ منجزاتنا العلميّة وتكرارها، وسأوضح فكرتي هنا، لاحظوا معي ـ وأنا أتكلّم من موقع اطّلاعي المتواضع على المشهد الثقافي الإيراني والمشهد الثقافي العربي ـ كيف أنّ الحوزةالعلمية في قم يمكن أن تفكّر بملفّ وتشتغل عليه لسنةٍ أو سنتين أو عقد أو عقدين، وهو ملفّ كان مطروحاً في العالم العربي منذ خمسين عاماً مثلاً، ووضعت له العديد من الحلول وقدّمت فيه الكثير من الأفكار، ولأنّ الحوزة هنا غير مطّلعة على تجارب مشابهة فإنّها تكون مضطرّةً للانطلاق من نقطة الصفر، والعكس صحيح، حيث نلاحظ بوضوح أنّ العالم العربي يشهد أحياناً نقاشات واسعة حول موضوعات متنوّعة، وينطلقون فيها من نقطة الصفر، ولو أنّهم كان لديهم تواصل حقيقي مع المشهد الثقافي الإيراني لأدركوا أنّه منذ ثلاثين سنة اشتغل المفكّر الإيراني ـ أو الشيعي عموماً ـ في هذا الملفّ، وقدّم فيه أفكاراً نافعة بعد رحلة مواجهة شديدة.
هذا يعني أنّ من نتائج عدم التواصل، تضحيتنا بجهود الآخرين الذين خاضوا تجارب شبيهة ضمن فضاء إسلامي متشابه، ولهذا فنحن نعاني من تكرار المآزق والمشكلات، وكلّ واحد يجلس لوحده ليفكّر في الحلول، وربما يكون الحلّ بجانبه في تجربة أخيه، وهو لا يدري ذلك.
وبهذا يمكنني أن استنتج ـ جواباً عن سؤالكم ـ أنّ نتائجَ عدم وجود تواصل واندماج متعدّدةٌ، تبدأ من الفتنة المذهبية، وتمرّ بتكريس عجز خطابنا الإسلامي عن تقديم الحلول لمشكلات الإنسان المعاصر، وصولاً إلى تكرار جهودنا العلميّة والثقافية لنفسها وإعادة ذاتها بصفة مكرورة وكأنّنا ندور في حلقة مفرغة.
المصدر: موقع الشيخ حيدر حب الله على النت( هنا)