الاجتهاد: لقد كان الإمام الخميني {قدس سره} يختلف عن سائر الفقهاء باعتقاده أن إقامة الحكومة الإسلامية معروف لامفرّ من الأمر به، وأن تهياة الظروف لإقامة الحكومة الاسلامية بمثابة شرط واجب من قبيل الوضوء للصلاة، أي أن تمهيد المقدمات وتهيئة شروط الثورة من اجل إقامة الحكومة الإسلامية أمر واجب.
تقوم النظرية السياسية والعملية على تواصل الإمامة كدور ووظيفة واستمرار ولاية الإمام المعصوم من خلال نائبه العام لولي الفقيه.
فالسلطة وفق هذه الرؤية تقوم على أساس المشروعية الدينية رغم تشييد استدلالاتها للنظرية على أسس متعددة فقهية وعقلية وواقعية، وهي سلطة ذات مقام مقدس بحكم نيابة للمعصوم.
أما وظيفتها فكلية وشاملة ديني ودنيوية، وتهدف إلى تنفيذ الأحكام الإلهية، وإقامة العدل وخدمة الناس. ويشترط بالحاكم في هذا النظرية شرطان جوهریان هما العلم والعدالة واما المجال السياسي فهو مجال ملتحم مع الديني لا انفكاك بينهما.
إن انسجام المجال السياسي مع المجال الديني بل التحامه في نظرية الإمام الخميني “قدس سره”، فالسياسي ليس إلا تعبيراً دينياً وتطبيقاً قيمياً ودستورياً للشريعة، فالسياسي لا يلتمس لذاته، وإنما الديني الذي يعطيه المعنى ويحدد له الوظيفة. فهنالك قيمة دينية للسلطة، كلية في وظيفتها وحضارية شمولية في مبتغاها العام.
وتنطوي هذه النظرية الحضارية لوظيفة السلطة على مضمون عقائدي ووجهة رسالية، فهي حكومة القانون الإلهي، وعند السيد الخميني {قدس سره} ان مركز الثقل السياسي إلى ولي الفقيه، وان الأسس القيمي للسلطة عنده هي فكرة العدالة، وتنفيذ الأحكام الإلهية.
إن السلطة هنا مركزية وتقوم على منظومة أفكار محورية ومنوطة بالسلطة. فالسلطة مركز أيديولوجي لإنتاج الأفكار، وتشكيل منظومة المعتقدات ويمكن وصف نظرية ولاية الفقيه عند السيد الخميني {قدس سره} على أساس اندماج السلطة السياسية مع السلطة الدينية.
إن أهمية ولاية الفقيه عند السيد الخميني {قدس سره} تظهر بقوله (فإذا كان العرفان خلاصاً للذات، فالولاية خلاص للأمة).
لقد أحال السيد الخميني {قدس سره} الدورة العرفانية عبر تكميل العباد وتعمير البلاد من صورها الفردي إلى طورها الجمعي.
إن ولاية الفقيه التي منحت الفقيه الجامع لشرائط الفتوى – المجتهد – أي يكون نائباً من قبل الإمام المعصوم (ع) في حال الغيبة ليس في الأمور الحسبية المقيدة بل في جميع ما للنيابة من أمور، وقد صرّح السيد الخميني {قدس سره} أن ولايةَ الفقيه في عصر الغيبة من البديهيات بقوله (ولاية الفقيه فكرة علمية واضحة قد لا تحتاج إلى برهان بمعنى أن من عرف الاسلام احکاماً و عقائداً يرى بداهتها، ولكن وضع المجتمع الإسلامي و وضع مجامعنا العلمية على وجه الخصوص يضع هذا الموضوع بعيدا عن الأذهان، حتى لقد عاد اليوم بحاجة إلى برهان) (۱) .
ولا أريد الدخول في مناقشات الأدلة النقلية والعقلية إثباتاً أو نفياً بل الأمور موكولة إلى محله.
وان الدولة الدينية المعتمدة على نظام الفقيه أقرت مشروعية الفصل بين السلطات الثلاث، ومنحت السلطة البرلمانية حق سن القوانين وتشريعها على أساس مشروعية الدولة.
والتنظير للدولة الدينية تعطي الشرعية لكل المؤسسات الدولة بلا استثناء، فشرعية عمل الأجهزة ابتداء من أعلى منصب وانتهاء إلى أبسط عامل ضمن تلك الأجهزة تكون صحيحة لشرعية الدولة.
يقول السيد الخميني {قدس سره} (إن الحكومة الاسلامية ليست كأي نوع من أنماط الحكومة الموجودة، فهي مثلا ليست استبدادية بحيث يكون رئيس الدولة مستبداً ومنفرداً برأيه، ليجعل أرواح الشعب وأمواله ألعوبة يتصرف فيها بحسب هواه.
فالحكومة لا هي استبدادية ولا مطلقة، وإنما هي مشروطة (دستورية) وبالطبع ليست مشروطة بالمعنى المتعارف له في هذه الأيام حيث يكون وضع القوانين تابعة لأراء الأشخاص والأكثرية، وإنما هي مشروطة من ناحية أن الحكام يكونون مقيدين في التنفيذ والإدارة بمجموعة من الشروط التي حددها القران الكريم والسنة الشريفة للرسول الأكرم (ص) ومجموعة الشروط هي نفس تلك الأحكام والقوانين الإسلامية التي يجب أن تراعي وتنفذ، ومن هنا فالحكومة الإسلامية هو حكومة القانون الإلهي على الناس (۲) و (۳).
ويتوسع السيد الخميني {قدس سره} في الدولة الإسلامية بعد أن جعل حاكمية القوانين الإلهية فيها هو الإسلام وذلك من خلال ما أوضحه بان (الإسلام أسس الحكومة لا على نهج الاستبداد المحكم فيه رأي الفرد، وميوله النفسية على المجتمع، ولا على نهج المشروط – الدستورية – أو الجمهورية المؤسسة على القوانين البشرية، التي تفرض تحكيم آراء جماعة من البشر على المجتمع، بل حكومة تستوحي وتستمد في مجالاتها من القانون الإلهي، وليس لأحد من الولاة الاستبداد برأيه، بل جميع ما يجري في الحكومة وشؤونها ولوازمها، لابد أن يكون على طبق القانون الإلهي، حتى الإطاعة لولاة الأمر.
نعم الوالي ان يعمل في الموضوعات على طبق الصلاح للمسلمين أو لأهل حوزته، وليس ذلك استبدادأ بالرأي، بل هو على طبق الصلاح فرأيه تبعٌ للصلاح كعلمه) (4).
ان السيد الخميني {قدس سره} جعل الحكومةَ الإسلامية هي نتاج الفلسفة العلمية لمجموع الفقه، وتتقدم على الأحكام الفرعية كالصلاة والصوم والحج، وهي ترقي إلى درجة البداهة، وإنما صارت بحاجة إلى الاستدلال نتيجة الأوضاع الاجتماعية للمسلمين بشكل عام والحوزات بشكل خاصة (5) .
ویری لا مفر من إقامة الحكومة الإسلامية، لأن أحكام الإسلام ليست محدودة بزمان ومكان خاصين، بل هي باقية وواجبة التنفيذ إلى الأبد، وعدم إقامتها يؤدي إلى تعطيل الأحكام. (6).
إن اقرار ولاية الفقيه ليس بمعنى جعل الأمة الإسلامية بمنزلة قاصرة، كما ليس معناه استبداد الفقيه بالإدارة والسلطة كيفما شاء دون مشورة او رعاية للمصالح والمعايير الاسلامية.
فاذا نهض الناس بتشكيل الحكومة تحت الضوابط الاسلامية فالفقيه الجامع الشرائط ان يراقب سلوك الحكومة وتصرفاتها فيصحح مسيرتها إذا انحرفت ويعدل سلوكها إذا شذ، فحينئذ تكون ولاية الفقيه ضمانة للاستقامة للدولة ومانعاً من عدولها عن جادة الحق وسنن الدين.
وأما إذا نهض الفقيه بتشكيل الحكومة وجب على الناس أن يسمعوا له ويطيعوه على رأي السيد الخميني {قدس سره}(7) .
ويرى السيد الخميني {قدس سره} يجب على الفقيه تشكيل الدولة الاسلامية إذا لم تكن هنالك دول اسلامية. وأن الفقيه بحكم مسؤوليته تجاه الاسلام والمسلمين يتحرى في جميع الظروف مصالح الأمة، فاذا كانت الحكومة التي اقامتها الأمة الإسلامية موافقة للمعايير الاسلامية ومطابقة للمصلحة الأجتماعية العليا، وجب عليه إمضاؤها وإقرارها وليس له أن يردها
ولأجل ذلك لا يترتب على ولاية الفقيه إلا استمرار واستقرار الحكومة الاسلامية الصالحة، ولا يتغير بولايته أي شيء من الأركان والمؤسسات الحكومية المذكورة سلفا، ولا تتعارض مع حرية الامة واختيارها، فولاية الفقيه خیر ضمان وممارسته لاستقامة الحكومة في المجتمع الاسلامي وإبقاؤها على الخط المستقيم دون أن يستلزم فرض هذه الولاية اعتبار قصور الأمة في تصرفها او يلازم استبداد الفقيه.
وقد فاتت الفرصة الثمينة على العراق عندما سقط النظام البائد البعثي الدكتاتوري بان يكون حكومة اسلامية تحت نظارة الفقهاء واي ضير في ذلك بعدما حكم العراق قرون تحت الدولة العثمانية الدينية واعطاء الفرصة لهذه التجربة الدينية الواقعية.
لقد كان السيد الخميني {قدس سره} يختلف عن سائر الفقهاء باعتقاده أن إقامة الحكومة الإسلامية معروف لامفرّ من الأمر به، وأن تهياة الظروف لإقامة الحكومة الاسلامية بمثابة شرط واجب من قبيل الوضوء للصلاة، أي أن تمهيد المقدمات وتهيئة شروط الثورة من اجل إقامة الحكومة الإسلامية أمر واجب. (8).
إن مبايعة المرجعية – ولي الأمر – وظيفة حتمية وعقلية على الناس، وليست شرطا اختيارياً لتحقيق الولاية، لأن القبول بالدولة الإلهية واجبة على عموم الناس وإطاعتها واجبة.
وذكر السيد كمال الحيدري: للمرجع الديني في عصر الغيبة الكبرى أن يسعى في إقامة الدولة الاسلامية (9).
ان بيعة المرجعية – ولي الأمر-شرط لتنجيز التكليف بالقيادة في حقه، لا شرط جعل الولاية له، وما يفعله الناس إنما هو تمكين ولي الأمر من ممارسة ولايته، ولو استطاع هو من تحصيل القدرة على ممارسة ولايته وجب عليه ذلك حتما. وان الفرق بين مدرستي أهل البيت (ع) ومدرسة الخلفاء هو أن البيعة حسب مدرسة أهل البيت (ع) سبب في تمكين ولي الأمر شعبياً من ممارسة ولايته، وأما حسب مدرسة الخلفاء فهي شرط لتحقق أصل الولاية له.
الهوامش
1- الحكومة الإسلامية / السيد الخميني{قدس سره} / ص۷.
2- الحكومة الإسلامية / السيد الخميني{قدس سره} / ص۷۸.
3- معالم الحكومة الإسلامية / الشيخ جعفر السبحانی/ ص 51.
4- كتاب البيع / السيد الخميني {قدس سره} ص 461
5- الحكومة الإسلامية / السيد الخميني {قدس سره} /ص43.
6- الحكومة الإسلامية / السيد الخميني {قدس سره} / ص 55.
7- الحكومة الإسلامية / السيد الخميني {قدس سره} / ص4۹.
8- نظريات الحكم في الفقه السياسي الشيعي / محسن کديفر / بحوث في ولاية الفقيه /ص ۳۱.
9- مشروع المرجعية الدينية وآفاق المستقبل / السيد كمال الحيدري / ص ۷۷.
المصدر : بحث بعنوان الفقه السياسي في مدرسة النجف الأشرف – للدكتور الشيخ عباس كاشف الغطاء