الاجتهاد الجماعي

الاجتهاد الجماعي والتخصص في أبواب الفقه / محمد الموسوي

الاجتهاد: تعتبر فكرة الاجتهاد الجماعي من عناصر التجديد التي أوليت عناية خاصّة من الكثير في مجال التنظير، و إن كانت لم تنزل إلى مجال العمل بعد، رغم أن الدعوة إليه لم تكن قريبة العهد، فقد عقد المؤتمر الأول لمجمع البحوث الإسلامية في الأزهر بمصر في شوال ۱۳۸۳ الهجري، ودعا إلى الاهتمام بموضوع الاجتهاد الجماعي، واعتماده كأسلوب من أساليب الاجتهاد،

وجاء في قرار المؤتمر المذكور «إن الكتاب الكريم والسنة النبوية هما المصدران الأساسيان للأحكام الشرعية، وأن الاجتهاد والاستنباط الأحكام الشرعية منهما حق لكل من استكمل شروط الاجتهاد المقررة، و كان اجتهاده في محل الاجتهاد، وأن السبيل لمراعاة المصالح ومواجهة الحوادث المتجددة هو أن يتخير من أحكام المذاهب الفقهية ما يفي بذلك، فإن لم يكن في أحكامها ما يفي به، كان الاجتهاد الجماعي المذهبي، فإن لم يفِ كان الاجتهاد الجماعي المطلق، وينظّم المجمع وسائل الوصول إلى الاجتهاد الجماعي بنوعيه ليؤخذ به عند الحاجة»(1).

كما ذكر الشيخ مرتضى المطهري اقتراحاً في خصوص الاجتهاد الجماعي الذي اطلق عليه شورى الفقهاء، مؤكداً أن التلاقح الفكري، والتعاون، وتبادل الأنظار والأفكار بين الطراز الأول من العلماء، من شأنه أن يسهم في ظهور النظريات الجديدة المفيدة والصحيحة، وتبيّن النظريات و الأفكار الباطلة في وقت مبكر قبل أن يبتلي بها المحصلون والمشتغلون في علوم الشريعة،

ويرى أن حل المشكلات والتقدم العلمي، لا يمكن انتظاره بدون التخصيص وتقسيم الأعمال، الذي يوفره الاجتهاد الجماعي(2)،

ويذكر الشيخ المطهري أن العلامة الشيخ عبد الكريم الحائري اقترح في وقت مبكر طريقة للاجتهاد تعتمد على التخصص في أبواب الفقه، بمعنى أن كل مجموعة من طلبة العلوم الدينية بعد تحصيل الإلمام في الفقه، وإتمام دورة فقهية كاملة، تنبري إلى التخصص في باب معين من أبواب الفقه الكثيرة، كأن يتوجه واحد إلى التخصص في المعاملات، و آخر إلى التخصص في العبادات، كما هو الحال في العلوم الدنيوية، كالطب، و يعتقد الشيخ المطهري أن فكرة التخصص لم تكن جديدة، بل هذه الحاجة و الضرورة ظهرت قبل مائة عام (3).

إن الاجتهاد الجماعي هو استفراغ مجموعة من المجتهدین وسعهم لتحصيل الظن بالحكم الشرعي بطريق الاستنباط، واتفاق أكثرهم أو جميعهم على الحكم بطريق التشاور، وبعبارة مختصرة يعني ممارسة جماعية للاجتهاد، بعد أن صار الاجتهاد الفردي لا ينهض بأعباء المستجدات، ويقصر عن مواكبة التطورات السريعة في مجالات الرقي والتقدم العلمي الذي ألقى بتأثيراته على حياة الإنسان، وبرزت مشاكل و تحديات تحتاج إلى حلول،

وتتضح أهميته إذا عرفنا أن تلاقح الأفكار وتبادل وجهات النظر والنقد والتمحيص والتعمق في الأفكار و النظريات، إذا كان يقوم به جماعة مختصة ومتبحرة في علوم الشريعة، ومنتفعة من العلوم الزمنية، و معتمدة على نظر المتضلعين فيها، سوف يحقق في الغالب الدقة والإصابة، ويجنب الاجتهاد أخطاء الاجتهاد الفردي.

إن الاجتهاد الجماعي يعتبر من أفضل الوسائل الناجعة لعلاج القضايا المعاصرة المتشابكة والمعقدة، التي قد يحتاج إلى معرفة الحق، والوصول إلى رؤية واقعية فيها إلى أكثر من علم واختصاص، فالاجتهاد اليوم يحتاج إلى عالم موسوعي، متخصص في مجالات متعددة، و هذا ما يجعله مستعصياً على فرد واحد؛ إذ كيف يمكنه التوفر على هذا القدر الكبير من العلوم و المعارف والاختصاصات،

فلذا يحتاج إلى من يكمله ويرفده في المجالات التي قصر باعه فيها، والتي أصبحت لازمة للفقیه، و من ضرورات الاجتهاد واکتشاف الحكم الشرعي أو تقليل الخطأ على الأقل بسبب تعاضد أهل الاختصاص في دراسة الواقعة بكل حيثياتها، كل من جهة اختصاصه.

فالاستيعاب الكامل للواقعة، والدراسة العلمية الموضوعية لمفرداتها عبر المتخصصين، وبواسطة الخبراء في معرفة موضوعات الأحكام الشرعية، يساعد بشكل كبير في استنباط الحكم المطابق أو القريب إلى الواقع،

فالفقيه اليوم لأجل استنباط حكمٍ شرعيٍّ يتعلّق بالمعاملات المصرفيّة، يلزمه الاطّلاع على طبيعة تلك المعاملات، ونوعية الفائدة المصرفية، وهل ينطبق عليها الربا، أو أن ملاك تحريم الربا غیر موجود في تلك المعاملات، ولاستنباط حكم الصلاة أو الصوم في القطب مثلا يلزمه الاستعانة بعلماء الجغرافيا أو الطبيعة أو الأنواء؛ لمعرفة طبيعة الحياة هناك، و مقدار الليل و النهار، ليمكنه الإفتاء بعد معرفة الموضوع،

ويصدق هذا بالنسبة إلى الإفتاء في مجال التأمين، والمعاملات الاقتصادية الحديثة، وفي الأحكام المرتبطة بميدان الطب، كأطفال الأنابيب، أو التلقيح الصناعي و نحو ذلك.

مجال الاجتهاد الجماعي
توجد في الشريعة نوعان من الأحكام والقضايا:

النوع الأول منها: هو ما نصت الشريعة على حكمه بشكل واضح وصريح، و النوع الآخر: هو ما لم يوجد فيه نص بالخصوص إما بسبب عوامل معينة أدت إلى ضياعه، أو باعتبار أنه من المسائل المستحدثة، أو كان النص في المورد ظنّيًا أو عاماً.

أما في الحالة الأولى: فلا يجوز الاجتهاد في موردها، وهذا محل اتفاق، وسمّوه بالاجتهاد في مقابل النص،

وأما الحالة الثانية: وهي ما فقد النص الخاص، أو كان ظنياً، فهي مجال الاجتهاد سواء كان على صعيد الاجتهاد الفردي، أو الاجتهاد الاجتماعي، وطبيعة الاجتهاد في هذا القسم هو بتوظيف القواعد والعمومات الواردة من قبل الشارع، فإنه بهذا المعنى لا تخلو منه واقعة من الوقائع أو نازلة،

فعلى أقل تقدير يوجد في موردها أصل عملي، و وظيفة الفقيه أن يوظف تلك القواعد والأصول توظيفة مناسباً، ليخرج بنتيجة أقرب إلى الواقع، فالشارع – وتسهيلا على الناس وتنظيماً لطريقة استفادة الأحكام – وضع قواعد كلية، و مبادئ عامة يستفاد منها حكم ما يستجد من وقائع، وما يخضع للتطور من موضوعات الأحكام، والوقائع و الحوادث، وإن كانت قد تخلو من نص خاص، إلا أنها لا تعدم النّصّ العام، والقاعدة الكلية التي يستوحي منها الحكم في القضيّة الحادثة.

وخلاصة القول أن الجزئيات إما أن تكون منصوصة من قبل الشارع في الكتاب أو الستة، وإما لم تكن كذلك، وهذا هو مجال الاجتهاد على ضوء الكتاب والسنة، وكما نبهنا إلى أن هذا المجال يشمل الاجتهاد الفردي والجماعي على حد سواء، لكن الاجتهاد الجماعي تبرز أهميته بصورة خاصة فيما يكثر فيه الاختلاف، کالعبادات الذي قد تقلّ الضرورة إليه، ویکتفی بالاجتهاد الفردي المتعارف.

الاجتهاد الجماعي في المتغيرات

إن من الأحكام ما كان مبنيّاً على العرف، وكما اشتهر بأنّ كثيراً من موضوعات الأحكام الشرعية عرفية، أو كان مبنيّاً على المصلحة، وكلّاً من العرف والمصلحة من المتغيرات.

وهناك من الأحكام ما يتأثر بالزمان و المكان، فيتغير الحكم تبعاً لتغيرهما، وهذه الأقسام من المتغيرات التي يتأثر الحكم الشرعي بهما، والتي تعتبر مجال الاجتهاد المشروع، تحتاج إلى دقة بالغة وإمعان، لخطورة الولوج فيها دون معرفة وتخصص، وإبداء النظر فيها من غير العالم المتخصص قد يؤدي إلى التلاعب بأحكام الشريعة وتحريفها، و ربما إلى خلط الثابت بالمتغير وإعطاء حكم أحدهما للآخر،

فلأجل صيانة الاجتهاد في المتغيرات من الخلط والالتباس، تظهر ضرورة أن يقوم بهذا العمل مجموعة من الفقهاء المتخصصين بالشريعة من أهل التقوى و الصلاح، مع الاستعانة بالمختصين بالعلوم و الموضوعات الحديثة، مما يرتبط موضوع الحكم الشرعي باختصاصه، ففي الوقت الذي يضمن الاجتهاد الجماعي في هذا المجال الدقة إلى حد كبير، يجنّبنا تأثيرات الهوى والعوامل الذاتية.

دليل الاجتهاد الجماعي

ربما ذكر له من القرآن آیات ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ (4). و (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ).(5)

وأما من الروايات، فقد يدل عليه ما ورد عن سعيد بن المسيّب عن علي “عليه السلام” أنه قال: «قلت: يا رسول الله الأمر ينزل بنا بعدك لم ينزل به القرآن و لم نسمع فيه منك شيئا، قال: أجمعوا له العالمين، أو قال العابدين من المؤمنین واجعلوه شوری بینکم، ولاتقضوا فيه برأي واحد.»(6)، أي برأي فردي، بل المطلوب هنا الاجتهاد الجماعي من أهل العلم.

 

الهوامش

١. نادية شريف العمري، الاجتهاد في الإسلام، ص 264.

۲. مرتضى المطهري، مجموعة الآثار، ج ۲۰، ص 184 – ۱۸۵.

3. المصدر، ص۱۸۲-۱۸۳.

4. آل عمران: 159.

5. الشورى: 38.

6. علي بن حسام الدين المتّقي الهندي، كنز العمّال، ج2، ص 240. و ذكر ابن حزم الرواية أيضاً في الإحكام، ج 6، ص 767 و فيه ” لم ينزل فيه القرآن ولم يمض فيه منك سنّة.

 

 

المصدر: الصفحة  94 من كتاب منهج الفقه الإسلامي في المسائل المستحدثة – محمد الموسوي

تحميل الكتاب

منهج الفقه الإسلامي في المسائل المستحدثة – محمد الموسوي

 

موقع الاجتهاد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky