آية الله السيد أحمد المددي الموسوي

النجف الأشرف مهد العلم والفضیلة.. آية الله السيد أحمد المددي الموسوي

الاجتهاد: تناول آية الله السيد أحمد المددي الموسوي في هذا  الحوار الذي اجرت معه مجلة الكوثر موضوعات كثيرة مثل الحديث عن حوزات ايران في فترة دخول سماحته الحوزة وكذلك أوضاع حوزة النجف وذكرياته مع السيد البجنوردي والسيد الشاهرودي والسيد محمّد صادق الصدر وورعه و تقواه، وكذلك تحدث عن حزب البعث وسعيه للقضاء على الدين ومحو آثاره. كذلك يمر سماحته على وضع الكتاب نشراً وطباعةً في العراق وأوضاع دروس الأخلاق والعرفان في تلك الفترة.

سماحة آية الله الأستاذ السيد أحمد المددي الموسوي أحد مدرسي بحوث الخارج والسطوح العالیة في الحوزة العلمية بقم المقدسة. وهو من الجيل الأخير من حوزة النجف. تناولنا مع سماحته بحثاً حول حوزة النجف ومستواها العلمي والأخلاقي.

المجلة: متى تشرفتم بزيارة النجف، وكيف وجدتم النجف في تلك الفترة وما بعدها؟

سماحة السيد أحمد المددي: بسم الله الرحمن الرحيم.

إنتقلت من مشهد المقدسة إلى النجف الأشرف في مطلع سنة 1390 هـ أو أواخر سنة 1389 هـ، ولي من العمر آنذاك (19) سنة. وقد سبق أن سافرت إليها برفقة الوالد، ولكن في السنة المشار إليها سافرت لوحدي بناءً على تجاربي السابقة.
وكانت العلاقات آنذاك بين إيران والعراق خالية من التوتر، والذهاب إلى العراق سهلاً؛ حيث إنّ الحافلات تنقل الزائرين من طهران بأجرة قدرها (20 توماناً) وتوصلهم إلى الكاظمية، ويتمّ التفتيش في نقطة (خسروي) الحدودية بشكل بسيط، والمبيت ليلة واحدة في مدينة (كرند) وربما في مدينة أُخرى في بعض الأحيان.

  آية الله السيد أحمد المددي الموسوي

المجلة: قبل أن تتفضلوا بالحديث عن حوزة النجف، كيف كان وضع الحوزة في مدينة مشهد؟

سماحة السيد أحمد المددي : ضمّت حوزة مشهد في تلك الأونة شخصيات ومراجع عظام كالسيد الميلاني ـ مثلاً ـ الذي كان ركناً عظيماً في حوزة مشهد، وكان فيها أيضاً غيره من الشخصيات العلمية الكبيرة. وفي تلك الفترة التي إنتقلنا فيها إلى النجف كان الشيخ مرتضى القزويني والشيخ هاشم القزويني قد إنتقلا إلى رحمة الله، وكانت للنجف جاذبية تجذب الجميع إليها.

آية الله السيد أحمد المددي الموسوي

المجلة: هل كانت حوزة قم وطهران ناشطتين في تلك الآونة؟

سماحة السيد أحمد المددي: كان في تلك الآونة في حوزة طهران المرحوم الشيخ محمد تقي الآشتياني وولده الميرزا باقر الآشتياني والخوانساري والشيخ محمّد تقي الآملي. وأمّا حوزة قم فقد كانت حافلة بالمراجع، وكانت دروس العلّامة الطباطبائي تضيف حرارة على دروس الحوزة. وأمّا باقي المحافظات غير طهران ومشهد كمدينة همدان فقد كان فيها حوزة جيدة أسسها الملّا علي المعصومي الهمداني. وقد كان العلماء آنذاك في معظم بلاد إيران يشتغلون بالتدريس وتخريج الطلاب، وإن لم يكن الجميع في درجة المراجع ولكنهم شخصيات علمية كبيرة في العالم الشيعي، رحمهم الله جميعاً.

آية الله السيد أحمد المددي الموسوي

المجلة: ما هي أوضاع حوزة النجف عند إنتقالكم إليها؟

سماحة السيد أحمد المددي : عندما توجهنا إلى النجف كانت آنذاك زمام المرجعية بيد السيد الحكيم ـ قدّس سرّه. في تلك الفترة فضّل الإستقرار في الكوفة بسبب بعض الأوضاع السياسية وإتهام ولده من قبل البعثيين بالتجسس لأمريكا، حيث قاموا بإعدام تاجر پاكستاني يدعى (جيته) له صلة بالسيد مهدي الحكيم، ولكن السيد مهدي إستطاع الإفلات منهم إلى خارج العراق.

وكان المقصود بهذه العملية النيل من شخصية السيد الحكيم. ثمّ قاموا بتحريك بعض شباب النجف لرمي بيت السيد الحكيم بالحجارة، وداهمت قوات الأمن بيته وفتشوه بذريعة ملاحقة السيد مهدي الحكيم، علماً بأنّ السيد الحكيم كان يعدّ أبرز شخصية علمية ودينية وقتئذ.

وعلى كلّ حال، فإنّ السيد الحكيم كان وقت ورودنا ـ سنة (89) أو (90) ـ في الكوفة، لكن باقي المراجع كانوا متواجدين في النجف؛ حيث كان فيها السيد الشاهرودي والسيد الخوئي والإمام الخميني والشيخ آغا بزرك الطهراني ـ ولكنه كان في أُخريات عمره ـ وكذلك الشيخ الأميني الذي كانت له ترددات على النجف.

وكان إلى جانب المراجع العظام شخصيات علمية كبيرة ـ ثبوتاً ـ وإن لم يكونوا ـ إثباتاً ـ في مصاف المراجع، مثل السيد البجنوردي (وهو زوج خالتنا) وكان شديد الذكاء نقي الفطرة، يتصف بمواهب قلّما رأيتها عند أحد، وهو من العلماء المجهول قدرهم، وقد كانت فترة مكوثه في النجف طويلة أدرك فيها السيد أبو الحسن الإصفهاني.

حدثني رحمه الله أنّه درّس كتاب الأسفار وهو في الثامنة عشر من عمره في مشهد. وكان المرحوم السيد جلال الآشتياني من تلامذته في النجف، إلّا أنّه عاد إلى خراسان على أثر مرض ألمّ به، وكان يُكنّ إحتراماً كبيراً للسيد البجنوردي، كما كان السيد البجنوردي يمتدحه أيضاً.

وعلى كل حال فإنّه لم يتمّ تكريم هذه الشخصية كما ينبغي وتستحق. وكان يقول ملاطفاً: «إنّ السبب في عدم وصولنا إلى مقام ما نصفه يعود إلى عدم إرادة الله سبحانه ونصفه إليّ شخصياً» يعني بذلك أنّه لم يسعّ إلى المرجعية. وكل ما أصف به هذا الرجل العظيم فهو دون حقه:
يك دهان خواهم به پهنای فلک
تا بگویم وصف آن رشک ملک
لكي أصف غبطة المَلَك للمحبوب ـ فلا يسعني إلّا فم بقدر الفلك.

وللأسف، فقد كان وضعه الصحي سيّئاً، بحيث كان يدرّس وهو في فراش المرض كما ينقل ذلك عنه السيد محمّد حسين الجلالي ـ الموجود حالياً في أمريكا ـ إبان دراسته لديه.

ويحدثنا السيد البجنوردي نفسه عن زمان دراسته فيقول: وكنا ندرس في زمن الشيخ النائيني والسيد أبو الحسن الإصفهاني في شدّة حرّ الصيف في النجف، ولم يكن عندنا عطلة إلّا بعض أيّام محرم. وحتى في شهر رمضان كانت ثمّة حلقة درس ولو واحدة في مثل «قاعدة لا ضرر» أو قاعدة «لا تعاد» وكان الشيخ النائيني يلقي دروسه في أحد غرف الصحن الكبير الذي فيه قبره الآن.
ولا بأس بالإشارة ـ على هامش ذكر الصحن الشريف ـ إلى أنّ بناء هذا الصحن كان في الأساس مدرسة قد رسم خريطتها الشيخ البهائي في عهد الصفوية، وكان إسمها ـ على ما في الكتب القديمة ـ «مدرسة الصحن». وقد تمّ هندسة هذا الصحن بشكلٍ يحتضن أشعة الشمس في أوّل شروقها فيه.

وقد بُني إلى جانب الحرم بعض «الصحون» وهي في الحقيقة عبارة عن مدارس. وقد كانت الغرف الموجودة في الحرم محلاً لسكن الطلاب بكلا طابقيه السفلي والفوقي. وترجع عملية توسيع الحرم بما يشمل الرواق والضريح والرواق الأصلي إلى العهد الصفوي ونادر شاه. وقد كان الحرم يشمل (الأيوان) الذي يقع خلفه المسجد والموجود حالياً أيضاً. وهناك مسجدان آخران أيضاً في الصحن. وعلى أيّة حال فإنّ الصحن كان عبارة عن مدرسة.

حجية الخبر عند السيد المرتضى”ره” .. حوار مع آية الله السيد أحمد المددي

وقد كان السيد بحر العلوم يسكن في (حجرة) في هذا الصحن. ولا يُظن أنّ صحن أمير المؤمنين × في وضعه يشبه الصحن الموجود ـ مثلاً ـ في مشهد أو قم. وقد كان أحد الأصدقاء نزيل أحد حجرات الصحن الشريف في الطابق العلوي ـ وهو في الحقيقة أحد خدّام الحرم ـ وكنت أزوره في حجرته في بعض الليالي ـ وكانت حجرتي آنذاك في المدرسة الشبّرية التي بناها السيد علي شبّر ـ وكان بناء هذه الحجر لطيفاً ومريحاً نفسياً، وأمام كل حجرة شُرفة تطلّ على الخارج، وهو بمثابة الساحة في البيت.

وقد يكون الطبخ وتهيئة الطعام فيه أيضاً. ويوجد في آخر كل (حجرة) شبيه المخزن وهو معدّ للطبخ. وفي الحقيقة تشبه (الحجرة) في وضعها البيت المصغّر. والمدارس القديمة في قم ومشهد هي على هذا الطراز أيضاً كالمدرسة الفيضية، حيث كل (حجرة) تكون مستقلة كـ (المشتمل).

بعكس المدارس الحديثة فإنّها على شكل آخر. وعلى كل حال، فإنّ بعض هذه (الحجر) في صحن الإمام أمير المؤمنين× قد اُبدلت إلى مقابر، وبعض هذه المقابر تمّ توسعتها كمقبرة السيد أبو الحسن الإصفهاني حيث تمّ إلحاق الشُرفة بها لتوسعتها.

آية الله السيد أحمد المددي الموسوي

المجلة: كان حديثكم عن ذكرياتكم مع السيد البجنوردي، فإذا كان هناك شيء تبقّى لم تذكروه تفضّلوا بذكره.

سماحة السيد أحمد المددي : يعتبر السيد البجنوردي ـ من ناحية إثباتية ـ من الطراز الثاني. وكان الشيخ حسين الحلّي يشبهه من هذه الناحية، وكان من حضّار درسي الشيخ الحلّي السيد السيستاني، إلّا عندما جئت إلى النجف كان في أُخريات فترة تدريسه وقد سيطر عليه الضعف، وكان في غاية التواضع في ملبسه ووضعه الخارجي. كنت أمرّ في «شارع الرسول» فيقع نظري على الشيخ حسين الحلّي وهو جالس عند صاحب دكّان هناك، وقد اعتم بعمامة صغيرة غير منتظمة ومن لا يعرفه قد يعتبره إنساناً عادياً من «الدوّارين». ولكن ما كتب من دروسه يكشف عن عمق هذا الرجل ودقته.

وقد كان ثمّة علماء آخرون ممّن هم على شاكلة السيد البجنوردي ممّن لم يُعرف قدره ومقامه، كالمرحوم الميرزا باقر الزنجاني الذي كان له درس مهم وممتاز في المسجد الواقع في الطريق المؤدي إلى باب الطوسي.

وكان درسه (خارج الأُصول) بعد صلاة المغرب والعشاء مقارناً زماناً لدرس السيد الخوئي؛ ولذا لم أكن أستطيع حضور درس الميرزا الزنجاني، ولكن حضرته ذات ليلة ـ بسبب تعطيل درس السيد الخوئي ـ فكان حضّاره قرابة (100) طالب، فوقفت على مهارته الفائقة في التدريس، ولا زالت ذكرى تلك الليلة في ذاكرتي. فقد كان هذا الرجل جامعاً ذو فنون كالسيد البجنوردي.

لم يكن يُشاهد في هؤلاء الأشخاص ذرّة من الهوى وكأنهم يعيشون في عالم آخر، ولم يكونوا يقيمون للدنيا وزناً. إنّ طبيعة كل إنسان تحدو به أن يكون درسه حاشداً أكثر من باقي الدروس، إلّا أنّ هؤلاء لم يكونوا يفكرون بهذه الطريقة. فقد كان السيد عبد الهادي الشيرازي ـ كما نقل لي السيد البنجنوردي ـ يدرّس ثلاثين عاماً تلميذاً واحداً فقط! وعلى كلّ حال فقد كان السيد البجنوردي متعلّقاً بالسيد عبد الهادي الشيرازي بمقدار تعلّقه وحبه للسيد أحمد الخوانساري، كما كان يحترم الشيخ محمّد تقي الآملي أيضاً.
وعلى كل حال، فقد إنخرط السيد البجنوردي في مرجعية السيد أبو الحسن الإصفهاني لإدارة بعض أُمورها، ولو أنّه كان يتفرغ للتدريس لكان درسه أكثر توفيقاً ونجاحاً.

آية الله السيد أحمد المددي الموسوي

المجلة: حدّثونا عن السيد الشاهرودي ونشاطاته العلمية.

سماحة السيد المددي : لقد كان السيد الشاهرودي بحق مظهراً للورع والتقى، وكان معروفاً بالدقّة والعمق، وهو من التلامذة المتفوقين للميرزا النائيني. لقد كان الميرزا النائيني يؤيد إجتهاد من يشهد له السيد الشاهرودي بالإجتهاد. كما كان يحظى بإحترام السيد أبو الحسن الإصفهاني. وتزامن وقت دخوله إلى النجف مع مرجعية الآخوند الخراساني. وكان منذ تلك الفترة عفيفاً، منشغلاً بنفسه منصرفاًَ عن غيره. وكانت تربطه بجدّي المرحوم السيد علي المددي علاقة حميمة.

وقد حضر السيد الشاهرودي درس الآخوند لمدة سنتين، ثمّ حضر على الميرزا النائيني. ومن المحتمل أنّه حضر درس السيد أبو الحسن الإصفهاني أيضاً، ولكنه في الأساس كان يعتبر تلميذ الميرزا، وكان الميرزا يوليه عناية خاصة وفائقة.

وكان السيد الشاهرودي عند قدومنا إلى النجف وجهاً معروفاً في العلم والعمل، يتمتع بقلب ملؤه الرقة والصفاء الذي يسيطر من خلاله على مشاعر الآخرين. كما إذا مرّ بزقاق ووجد طفلاً يبكي تراه لا يواصل طريقه حتى يسكته ثمّ يمضي. ولكنه عندما قدمنا إلى النجف كان قد أثرت فيه الشيخوخة، إلّا أنّه مع ذلك كان قد يدرّس في بعض الأحيان، وكنت أنا في حينها أدرس مرحلة السطوح ولم أحضر درسه.

إلّا أنّ الظاهر أنّ درسه لم يكن في كل ليلة، بل بين ليلة وأُخرى لشيخوخته. وقد توفي السيد الشاهرودي في سنة 1394 هـ، وأتذكر أنّه في ذلك اليوم الذي توفي فيه كنا في مجلس عزاء في منزل السيد البجنوردي يوم الخميس فدخل علينا شخص وأخبرنا بخبر وفاة السيد فنهضنا وذهبنا إلى بيته +

بعد وفاة السيد الشاهرودي كان أهم درس في النجف هو درس السيد الخوئي. وكان للسيد الحكيم في ذلك الوقت درس كبير أيضاً. ويأتي بالدرجة الثانية بعد هؤلاء الميرزا باقر الزنجاني والشيخ حسين الحلّي والسيد البجنوردي والسيد محمّد تقي بحر العلوم وغيرهم. وكان السيد بحر العلوم معروفاً بزهده وتقواه ويأتمّ بصلاته الكثير من المقدّسين في النجف، والظاهر أنّه كان يدرس البحث الخارج أيضاً.

وقد تخرّخ من بيت السيد بحر العلوم بعض الفضلاء الشباب، وكان أحدهم يقرر درس الشيخ حسين الحلّي، إلّا أنّ المشهور بينهم هو السيد محمّد تقي بحر العلوم، وكان نورانياً متقياً. ومنهم أيضاً السيد محمّد صادق بحر العلوم المعروف بالتحقيق، أي تحقيق التراث. وممّن كان يُعنى بهذا الجانب آنذاك أيضاً السيد حسن الخرسان محقق كتاب الإستبصار والتهذيب للشيخ الطوسي، وكان معروفاً بالتقوى والتهجّد، وكان أولاده ـ وهم من طلاب العلم ـ يساعدونه في أمر التحقيق والنشر.

وكان أُستاذ الفلسفة المعروف الشيخ صدرا البادكوبي الذي حضرت عليه السطوح. وكانت له حلقة درس في المكاسب والكفاية. وإلى جانب ذلك كان يدرس المنظومة التي حرّم درسها السيد الشاهرودي، فعطّل الشيخ البادكوبي تدريسها، ولكنه إستمر بتدريسها بشكل خاص.

وقد درس السيد الشهيد محمّد باقر الصدر كتاب «المنظومة» عنده بشكل خاص. وكان الشيخ البادكوبي يدرّس الخارج أيضاً. لكنه إنحصر درسه بعد ذلك بتدريس السطوح. وكان درسه في السطوح يُعدّ أهم درس في النجف لهذه المرحلة. ومن دروس السطوح أيضاً درس الميرزا التبريزي ويعتبر من أبرز تلامذة السيد الخوئي، وقد قام بتدريس الكفاية في أواخر تواجده في النجف.

وكان من أشهر الأساتذة في تلك الفترة: السيد محمّد باقر الصدر والسيد السيستاني والسيد محمّد الروحاني والميرزا علي الغروي وقد درست الجزء الثاني من الكفاية عنده، وكان يتمتع ببيان رائع. ثمّ بدأ بعد ذلك درس الخارج في أواخر تواجدي في النجف. وفي السنة التي قدمت فيها إلى النجف كان السيد محمّد باقر الصدر قد فرغ من تدريس السطوح والظاهر أنّه قد بدأ ـ في سنة قدومي ـ بتدريس الدورة الثانية من بحث الخارج، وكان السيد مصطفى الخميني من المدرسين في حوزة النجف ولكن أذكر أنّه بدأ درس الخارج.

وكان درس الشهيد الصدر والسيد الخوئي أكثر الدروس حضوراً، وعندما جئت إلى النجف كان حضور درس السيد الصدر قليلاً، ولكنه إزداد حضوره بالتدريج ولعله فاق حضوره حتى درس السيد الخوئي أو مساوياً له. وأمّا حضور درس السيد السيستاني فقد كان (20) أو (30) شخصاً. وكنّا من حضّار درسه، ثمّ نشط درس السيد السيستاني بعد ذلك أكثر مما سبق فوصل عدده إلى الأربعين طالباً. وأمّا السيد البجنوردي فقط إنتقل إلى رحمة الله.

كان يعتبر درس السيد الخوئي أكثر صدارة ثمّ يأتي بعده درس السيد الصدر. كما كان لصهره ـ صهر السيد الخوئي ـ السيد نصر الله المستنبط درس جيّد أيضاً في تلك الآونة. وكان هذا السيد صبيحاً وسيماً يتميّز بأدب رفيع قلّما رأيت نظيراً له في العلماء في ظرافته وملاحته. وكان أخوه السيد أحمد المستنبط معروفاً بالتهجّد وصلاة الليل وله تأليف في هذا المجال.

وكان يتميّز بصباحة الوجه أيضاً. وهذان الأخوان كانا محبوبين عند الآخرين. فقد كان السيد نصر الله يتمتع بروح مرحة ومنبسطة. وكان من أؤلئك المؤمنين الذي حزنهم في قلبهم وبشرهم في وجههم.

وأتذكر أنّ المرحوم السيد جواد شبّر قال لي في ليلة من الليالي لنذهب للقاء السيد المستنبط بعد إطلاق البعثيين سراحه من المعتقل، فزرناه مع جميع طلاب المدرسة في بيته، وقد إنجذبنا في ذلك اللقاء لشخصيته وخلقه وتعامله. وكان السيد يدرّس البحث الخارج فكان يحضره جمع، وربما كان الحديث يجري عن مرجعيته بعد السيد الخوئي، ولكنه توفي قبل السيد الخوئي.

وفي تلك الليلة التي وصلنا فيها بخدمة السيد المستنبط حدّثنا بقضية عجيبة لا يخلو ذكرها من فائدة: فقد كان في أحد مدارس النجف خادم يدعى «زائر جعفر» وكان رجلاً مقدّساً وخدوماً يقضي حوائج الطلاب وربما يغسل حتى ثيابهم، وكان الطلاب يتلاطفون معه ويمازحونه بعض الشيء وهو يتحملهم ولا يقول شيئاً.

وفي إحدى الليالي ذهب أحد الطلاب إلى غرفته لحاجة معيّنة فلما إقترب من غرفته وإذا به يسمع حديثاً يدور بين «زائر جعفر» وشخص آخر والغرفة قد إمتلأت نوراً. فإنتظر قليلاً حتى إنقطع الحديث وزال ذلك النور، فدخل الغرفة وسأله عن ذلك، فسكت «زائر جعفر» وقال: لا شيء. ولكن الطالب أصرّ عليه، فقال له: نعم، ولكن بشرطين: الأوّل: أن لا تخبر بذلك أحداً ما دمت حيّاً، والثاني: أن لا يختلف تعاملكم معي عمّا عليه في السابق من المزاح والملاطفة.

فقبل الطالب بذلك. فذكر له القصة وتبيّن أن «زائر جعفر» من الأولياء. يقول هذا الطالب: في يوم من الأيّام أخبرني «زائر جعفر» أنّه إذا جاء في صبيحة يوم غد فسوف لا يجده. فسألته أين تذهب؟ فقال: إنّ أحد أصحاب الإمام الحجّةعجل الله فرجه قد توفي وقد نصبني الإمام مكانه. ولابّد أن أذهب. ولا أذكر جيداً أنّ هذه القصة رآها نفس السيسد المستنبط أو أنها نقلت له بالواسطة.

آية الله السيد أحمد المددي الموسوي

المجلة: حدّثونا بتفصيل أكثر عن الشخصيات المعنوية الموجودة آنذاك في النجف.

سماحة السيد المددي :من الشخصيات المعنوية في ذلك الوقت السيد محمّد صادق الصدر والد السيد الشهيد محمّد الصدر، فقد كان هذا الرجل غاية في الأخلاق والتقى. وكان يقيم الجماعة في «جامعة النجف». وكان من أضراب هذا الرجل كثيرون في النجف.

ينقل والدي عن المرحوم الشيخ عباس التربتي وكان معروفاً بالتقوى وقد ذهب آنذاك إلى الزيارة، فارتقى المنبر في مجلس أقيم في «سرداب» أحد البيوت، فقال: كم في النجف من ورود طيّبة ووجوه نورانية ومقدّسة. ماذا لو جاء هؤلاء العلماء المقدّسين إلى إيران؟ فكم سوف تتغير ويتحسّن وضعها!

لقد كان علماء النجف يعيشون حياة بسيطةً، فالسيد البجنوردي إلى آخر عمره كان منزله إستئجارياً. وكان الكثير من العلماء يسكنون في بيوت وقفية. وكان بيت السيد السيستاني صغيراً جداً، فالطابق العلوي منه مساحته(70) متراً، وهو خاص به، والطابق الأسقل (السرداب) للإستقبال (براني) وهذا البيت في الحقيقة من موقوفات المدرسة الشبّرية ـ وقد إختفى جدّي في هذا البيت مدة ـ وأمثال هذه الموقوفات في النجف كثيرة، ففي كل زقاق بيت أو بيتان من هذه الموقوفات.

ولا يُكلّف الشخص الذي يسكنها سوى مبلغ تعميرها. إنّ ظاهرة «الموقوفات» كانت ظاهرة جيّدة ومفيدة لطلاب النجف. وإني أذكر إلى الآن بيت السيد الخميني، حيث كان له منزلان صغيران في زقاقين متصلين، أحدهما يسكنه والآخر للإستقبال (براني)، ومساحة كل واحد قرابة (70) متراً.

وقد زرته في (البراني)، كما عدناه في مرضه مع السيد البجنوردي. وكانت داره متواضعة وبسيطة، وكان يها ساحة صغيرة وغرفتان صغيرتان في طرفيها وأيوانهما إلى جهة الساحة. وكلا الدارين مستأجرتان. وعلى كل حال، فقد كانت الدور صغيرة وأكبرها مساحة يبلغ (100) متر. في حين أنّ طلبة قم اليوم لا يستطيعون السكن في مثل هذه الدور. ولكن طلاب النجف هكذا كانوا يعيشون.

وكان منزل السيد مصطفى إستئجارياً أيضاً. وقد رأيته في أواخر عمره في درس البحث الخارج وكان يدرّس عصراً في مسجد الشيخ الأنصاري ويحضر درسه (20) طالباً من فضلاء النجف وكانت تربطه بهم علاقات قريبة وبينهم رابطة وصداقة.

لقد كانت مدارس النجف مليئة عندما ذهبت إلى النجف، فإنتظرت مدة حتى وجدت غرفة صغيرة فسكنت فيها. وكان الطلاب الإيرانيون يعدّون بعدة آلاف، وأمّا غير الإيرانييين فقد كانوا من الهند والباكستان وأفغانستان ومن العرب أيضاً.

آية الله السيد أحمد المددي الموسوي

المجلة: إذاً، كان الغالب على الحوزة هو المسحة غير العربية؟

سماحة السيد أحمد المددي : أجل، كانت المسحة الغالبة هي المسحة غير العربية، ولكن السيد الحكيم وبعض المراجع كانوا يدرّسون بالعربية. وهكذا كان درس الشهيد الصدر، وقد كان لتنظيم «حزب الدعوة» دور في دعم هذه الحالة. لقد كان الغالب في الحوزة إلى ما قبل السيد الحكيم والشهيد الصدر هو النزعة غير العربية، إلّا ما يقرؤه بعض قرّاء التعزية الذين كانوا يأتون من القرى والأرياف ويتميّزون بعمامة خاصة بهم كنّا نعرفهم بها، وكانوا بعد دورة مختصرة يرجعون ويمارسون القراءة والتبليغ في محرّم، ويكتفون بقراءة بعض المبادئ، وكانوا قد يخرجون أحياناً لجمع الزكاة إلى خارج النجف.

لقد سعت مرجعية السيد الحكيم (وأولاد السيد كالشهيد السيد محمّد باقر الحكيم وسائر أولاده) وتنظيم حزب الدعوة إلى إستقطاب الطلبة العراقيين إلى الحوزة وتخريجهم علماء فضلاء وعدم الإكتفاء منهم بمسائل التبليغ والمنبر.

لقد توصّل السيد الحكيم إلى عدم كفاية الطبقة التي تتحرك في شهر محرّم فقط. ولذا عزم على تخريج جيل جديد، فبنى لهم مدرسة ووفّر لهم إمكانات، وقد أثمرت تلك الجهود بشكل جيّد وتخرّج بعض الفضلاء العراقيين، وهذا ما كان يصبو إليه السيد الحكيم من السير بالحوزة نحو الطابع العربي؛ وذلك أنّ الطلبة غير العراقيين لم يكونوا بصدد التبليغ لعدم إلمامهم بالنطق بالعربية، فلم يكن لهم هدف سوى الدرس والوصول إلى مرتبة الإجتهاد.

وأمّا الطلاب العراقيين فحيث أنّه يمكنهم ممارسة التبليغ في بلدهم فإنهم سرعان ما يذهبون من النجف إلى مدنهم للإرشاد والتبليغ، فأراد السيد الحكيم معالجة هذه الظاهرة وإبقاء الطلاب العراقيين في النجف لتحصيل المراتب العلمية العالية.

طبعاً هذا لا يعني عدم وجود العلماء العراقيين في الحوزة، فقد كان أمثال الشيخ حسين الحلّي والشيخ عباس المظفّر ـ ولعل السيد محمّد باقر الصدر درس عنده ـ ولكن عددهم كان محدوداً.

ولقد كان لحزب الدعوة دور في الإتجاه بالحوزة نحو الطابع العربي؛ حيث إنّ الكثير من الطلبة العراقيين كانوا يدخلون الحوزة من خلال هذا الحزب، أي أنهم لكي ينخرطوا في صفوف الحزب كانوا يدخلون إلى الحوزة، في الحقيقة كان هذا التوجه يسير تحت إشراف السيد الحكيم ولكن بتنفيذ من حزب الدعوة، وقد قاموا بإستقطاب حتى من لم يكن من الطلاب العراقيين كالشيخ محسن الآراكي ـ الموجود حالياً في لندن ـ بإعتباره كان يجيد العربية مع أنّه إيراني الجنسية.

لقد صادف مجيئنا إلى النجف بعد مضي أربعة أو خمسة أعوام على هذه الحركة، وكان الوضع السياسي قد بلغ الذروة، حيث إزدادت حساسية النظام إتجاه الحوزة فقامت بإعتقال الناشطين من الطلاب العراقيين، وتمّ إعدام بعضهم وإبقاء البعض الآخر رهن الإعتقال، وكانت المدارس التي يتواجد فيها عناصر «حزب الدعوة» في معرض المداهمة المستمرة، وقد كانت المدرسة الشبّرية ـ التي كنّا نسكن فيها ـ إحدى تلك المدارس التي يسكنها الطلاب العراقيون وتعتبر من المدارس التي يتواجد فيها حزب الدعوة. وأتذكر أنّه في إحدى الليالي داهموا المدرسة لإعتقال أحد الطلاب فالتجأ إلى غرفتي وإختبأ فيها.

المجلة: هل كانوا يتعرضون للطلاب غير العراقيين؟

سماحة السيد أحمد المددي : كانوا يتحسسون من الطلبة الإيرانيين كثيراً ويتعرضون لهم حتى في الشارع فيركبونهم السيارة ويرمون بهم على الحدود مع إيران؛ ولذا كنّا نحمل دائماً جواز السفر مع الوثائق المهمة الأُخرى خارج المدرسة لإحتمال إعتراضنا في كل آنٍ من قبل السلطة التي سعت جاهدة إلى تمزيق الحوزة وتشتيتها بمختلف الأساليب ومن دون وازع وبلا رحمة.

المجلة: ما هي الرموز العاملة آنذاك غير الشخصيات الدينية؟

سماحة السيد أحمد المددي : كان من الرموز العاملة آنذاك في الساحة الكاتب المعروف أحمد أمين ولمّ يكن معمّماً، ولكن كان يحمل أفكاراً جيّدة، وله كتاب التكامل في الإسلام، وقد كان له تأثير كبير في الأوساط المثقّفة في الحوزة والمجتمع العربي، وهو يشبه في تأثيره في الوسط العراقي ـ إلى حدٍّ ما ـ تأثير ومؤلفات المهندس مهدي بازركان في الوسط الإيراني. ولا زالت أتذكر تشييع جنازته.

آية الله السيد أحمد المددي الموسوي

المجلة: هل كان يهدف حزب البعث إلى الإنقضاض على الدين أو على معارضيه السياسيين؟

سماحة السيد المددي : لقد كان للبعثيين عدة خطط خماسية، لقد جاؤوا سنة 1967م وعندما ذهبنا إلى النجف كانت الخطة الثانية لهم قد بدأت. وكان هدفهم هو القضاء على الدين ومحو آثاره.

ينقل أحد أصدقائنا السيد أسامة شبّر ـ الذي إستشهد فيما بعد على يد البعثيين ـ أنّ أحد معارفه كان يحضر في الإجتماعات الخاصة للبعثيين وكان الحديث يجري عن طرق إبادة الإسلام، فيقول: لقد توصّل البعثيون إلى أنّ الإسلام في العراق يتقّوم بثلاثة عناصر: المرجعية والأُمّة والرابط بينهما من الوكلاء وعلماء المحافظات.

وحيث إنّه لا يمكن البدء بالمرجعية لما يثيره ذلك من حفيظة الأُمّة، كما أنّه لا يمكن تصفية الأُمة والشعب جميعاً، فلابّد إذاً من البدء بالوكلاء والحلقة الوسيطة بينهما. فلذا بدؤوا بهم. وقد كانت هذه السياسة مستمرة حتى الخطة الخمسية الثالثة أيضاً، فكانوا يعتقلون الوكلاء وعلماء المناطق بأعذار وذرائع مختلفة، والوقوف بوجه تقدّم الطلاب وفصل الجيل الجديد عن الحوزة والعلماء.

وحتى كانوا يندسون في الشعائر الحسينية ويدسّون الشعارات فيها مثل المناداة بشط العرب وأمثال ذلك. وقد قام حزب البعث في سنة 1974 م أو1975 م بجلب جماعة من الشيوعيين من إيران وزوّدهم بالإمكانات والإعلام والصحف للعمل ضد الشاه، وكان إسم جريدتهم «طريق الإتحاد» وهي تصدر بعدّة لغات، وكان بينهم عدّة ضباط فارين بإسم «پناهیان وزهتاب ومراد»، وقد جاء الضابط مراد وكانت له بعض المعلومات التأريخية إلى الدكتور حسين علي محفوظ وكان من علماء الجامعة وله مقدّة مستوعبة على كتاب الكافي فقال للدكتور محفوظ ـ كما ينقل ذلك السيد محمّد حسين الجلالي الذي كان حاضراً هناك ـ إنّا خططنا طوال (25) سنة لإبادة حوزة النجف، وقد فشلنا في ذلك في قضية آذربايجان (يقصد الإتحاد مع الحزب الشيوعي في روسيا) ولكنا سوف لا نفشل هذه المرّة في القضاء على النجف. إذا كان هذا هو منطق ضابط شيوعي فارّ من إيران فكيف يكون منطق وموقف البعثيين إزاء الحوزة؟!

إنّ أوّل منظمة أمنية قام البعثيون بتأسيسها هو «دائرة الأمن»؛ وكان لها عدّة شعب وفروع، أحدها تُعنى بالإقتصاد والأُخرى بالثقافة والثالثة بالسياسة، وكانت الشعبة الخامسة عشر تختص بمكافحة الرجعية حيث كانوا يستدعون كوادر «حزب الدعوة» وغيرهم إلى هذه الشعبة، وكانت شعبة مخوفة يرأسها الخبيث «ناظم گزار» وكان ـ على ما يقال ـ شيعياً شارك في الإنقلاب على أحمد حسن البكر ففشل وتمّ إعدامه.

وكان رجلاً لئيماً، بحيث إنّا إذا بلغنا أنّ أحداً وصل إلى «ناظم گزار» عرفنا نهايته، وعندما أُلقي القبض عليه ـ ولكي يموّهوا أنّه كان يحاول الإنقلاب عليهم ـ بثّ التلفزيون بعض جرائمه وكان منها أنّها عرض دهليزاً فيه بعض الأشخاص الذين قبعوا في هذا الدهليز فترة طويلة لم يروا فيها نور الشمس وقد تدلّى شعرهم. كلّ هذا من أجل التمويه على الشعب بأنّ هذا الشخص كان من الظلمة والمجرمين الذين أوقفتهم الحكومة وحاسبتهم، علماً بأنّ كل من كان في تلك الحكومة كان سهيماً في جرائمه وأنّه لم يفعل ذلك إلّا إرضاءً لرئيس البعث.
وقد تعرّض الكاتب الإيراني أبو القاسم لاهوتي في بعض كتبه ـ الممنوعة في إيران والموجودة آنذاك في النجف ـ إلى أساليب الشيوعية في مواجهة الدين في الإتحاد السوفياتي السابق، وقد لاحظت أنّ كثيراً من تكل الأساليب يشبه أساليب البعث في العراق.

يستعرض هذا الكاتب خطط الحزب الشيوعي في غلق الكنائس والمساجد وتعطيلها، وقد كان حزب البعث أكثر تعسّفاً في إستعمال هذه الأساليب، وقد كانوا في آخر فترة تواجدنا في النجف يعتقلون أي شاب يخرج من المسجد!
من الأساليب الأُخرى التي إتبعها البعثيون في محاربة الدين أُسلوب نشر الفساد والمنكر، وقد وظّفوا الكثير من ثروات العراق ـ والعراق معروف بثرواته ـ في هذا الطريق.

المجلة: كيف كان وضع الكتاب نشراً وطباعة في العراق؟

سماحة السيد أحمد المددي : أفضل من إيران، لقد كان وضع الكتاب في فترة وجودي جيّداً، ولكنه تغيّر بعد ذلك. فقد كانت في النجف عدة مطابع كانت في طباعة مستمرة. كما كان الكتاب اللبناني متوفراً بكثرة، وأكثر كتبي الحالية تتعلق بتلك الفترة، وأمّا وضع الكتاب ـ حالياً ـ فهو في قم أفضل من باقي الأماكن، ولكنه في أوائل الثورة كان وضع النجف أفضل.

وكانت طباعة الكتب آنذاك جيّدة وبأسعار مناسبة، وقد توفرت في بعض الفترات كتب الفكر الماركسي في النجف والتي كانت ممنوعة في إيران، وقد إشتريت بعض هذه الكتب وقرأتها، مثل البيان الشيوعي.
لقد أسدت المطابع في النجف خدمة جيّدة، ومن كان لا يستطيع شراء الكتاب يأخذه وديعة. لقد كانت النجف أفضل من قم وطهران في التعاطي الثقافي، فكثير من الكتب في معطيات العلم الحديث مؤلفة بالعربية، وقد قام المؤلفون العرب بنقل الكثير منها من الأجنبية إلى العربية،

فمثلاً إذا كان ثمّة كتاب لـ «برتراند راسل» تستغرق ترجمته سنتين في إيران فإنّه لا يستغرق أكثر من شهر في البلاد العربية، ومن العوامل المؤثرة في هذه القضية عدد القراء؛ فإنّ قرّاء الفارسية كانوا يكادون أن ينحصروا في إيران فقط. ففي طاجيكستان كانوا يتكلمون «الروسية»، وفي أفغانستان «الپشتو» والفارسية تعتبر أقلية، في حين أنّ الكتاب العربي ينتشر في عشرات الأقطار العربية؛ فلذا نجد أنّ المترجم العربي ينشط للترجمة أكثر.

طبعاً الترجمة كانت تخضع لضوابط معيّنة وليست منفلتة، فقد كان المترجمون يجهدون في إعطاء وتحصيل الكلمة العربية المقابلة، وقد أسسوا «مجمع اللغة العربية» لهذا الهدف، وقرأت في إحدى المقالات أنّهم يستحدثون (8000) لفظة شهرياً. كانوا يقابلون حتى مصطلحات العلوم الحديثة كالفيزياء والكيمياء، فالسيارة التي نستقلها ـ مثلاً ـ وضعوا لها عشرات الألفاظ المقابلة في البلاد العربية، في حين لازلنا في إيران لم نجد ما يقابلها في لغاتها الأصلية.

عندما قدمنا إلى العراق كانوا ينقلون بأن وضع الكتاب سابقاً أفضل منه الآن، ولكن مع ذلك فقد كان وضع الكتاب حين وصولنا أحسن من إيران، ولم يكن الكتاب منحصراً بالكتاب الحوزوي، بل كل العلوم كانت كذلك، فالكتاب متوفر لكل القرّاء.

آية الله السيد أحمد المددي الموسوي

المجلة: ما هو وضع الكتب الفكرية الجديدة هناك؟

سماحة السيد المددي : إنّ حركة التنوّر الثقافي والفكري في العراق تختلف عما عليه في إيران، حيث لم تنفك هذه الحركة عن الحوزة فيما نجد الأمر مختلفاً في إيران، فإنّ المثقّفين الجدد في إيران قد يعتبرون أنفسهم غير العلماء والخط الروحاني، ولقد كان للسيد الشهيد محمّد باقر الصدر الدور الكبير في الربط بين كيان الحوزة وحركة التنوير الثقافي؛ ولذا لا نجد في خطاب المثقّفين الجدد في العراق فصلاً بينهم وبين العلماء والإسلام.

المجلة: ثمّة من يوجد في العالم العربي من يفصل بين خطابه الثقافي الجديد وبين الإسلام.

سماحة السيد المددي :في فترة وجودي في النجف لم تكن ترفع مثل هذه الشعارات، طبعاً نعرف دوماً أنّ كل شعار يرفع لابّد له من أنصار، ولكن المفكرون الجدد في العراق لم يضعوا أنفسهم قبال الحوزة، وإذا حصل ذلك فلعله تأثراً بالكتب القادمة من إيران، فقد توصل بعض المفكرين العرب إلى ضرورة فصل مسارهم عن مسار الحوزة، ولكن إلى الآن في العراق نجد أنّ شعارات الشارع العراقي هي إلى صالح المرجعية «نعم، نعم، للمرجعية».

طبعاً هذا لا يعني عدم ضعف إرتباط الشباب بالعلماء نتيجة الإعلام الغربي الذي لم يجلس ساكناً متفرجاً، فقد أُطلقت الفضائيات وهي في عمل دؤوب في هذا الإتجاه، فالمقرر أن تكون ثمة إنتخابات في سنة 2005م، ولا شكّ أنّهم يخططون لذلك التاريخ.

ويأتي في هذا الإطار إفشاء الفساد وترويج المنكر والخمور لحرف الناس. قد يلاحظ سابقاً في بعض الأحيان شاباً ثملاً يمشي في شوارع النجف، ولكن دخول المسكرات إلى النجف وكربلاء كان ممنوعاً. كما لم يكن في هاتين المدينتين وجود للسفور. لقد إستطاعت حوزة النجف بعراقتها وتغلقلها في المجتمع أن تقف بوجه الكثير من الإنحراف والفساد.

ينقل السيد البجنوردي أنّ حلقة درس الشيخ الآخوند الخراساني كانت تضم ألفي طالب. كما كان للشيخ الأنصاري حوزة منتظمة، فمثل هذه الحوزة لا يمكن أن يغفل تأثيرها على الأوضاع الفكرية والإجتماعية في العراق.

ورد في مذكرات أحد رجال القاجار: أنّ الشيخ الأنصاري كانت تصله (200) ألف تومان في ذلك الوقت، وهو مبلغ كبير جداً لإدارة الحوزة وتنظيمها. لقد تركت الأصالة العلمية للعلماء في العراق ـ في ظل الأخلاق والمعنوية ـ تأثيراً كبيراً في العراق سيّما في المدن الدينية.

ولذا لم يظهر التيار العلماني في العراق، ولا أقل من عدم وجوده في زمان وجودنا آنذاك. ولم يكن ثمّة توجه لحذف العلماء. وقد سجل الآن الشعب العراقي موقفه المؤيد للمرجعية أكثر وأحسن مما سبق بما لا يمكن إنكاره.

ينقل السيد البجنوردي أنّه قبل مجيئه إلى النجف توقّف في طهران سنة، وكان في تلك الفترة يحضر الجلسات العلنية للمجلس الوطني وكان الحديث بين ممثّلي الشعب عن ميزانية الدولة حيث صوّبوا أنّها ثمانية ملايين تومان في ذلك الوقت لكل إيران، في حين أنّ ميزانية الشيخ الأنصاري الواصلة إليه سنوياً من إيران قبل ستين عاماً من هذا التأريخ كانت (200) ألف تومان، الأمر الذي يعكس بلا أدنى شك مدى عقيدة الناس بالعلماء والحوزة، وقد إستطاعت الحوزة بمثل هذا الدعم المادي والمعنوي أن تقف وتقاوم طيلة هذه القرون مختلف الحوادث المريرة التي عصفت بالأمّة.

لقد تألقت الحوزة في زمان الشيخ الأنصاري حيث كان الشيخ يتفق جميع ما يصل إليه من أموال على الحوزة والطلاب، فيما كان هو يعيش حياة متواضعة وزاهدة، وقد إكتسبت حوزة النجف في فترة تألقها هذه طابعاً أكثر جدّية، ففي النجف وحدها كن يدرس آنذاك (12) ألف طالب. وهو عدد كبير جداً، تبلغ حصة الإيرانيين منه 4 آلاف طالب، وعدد الأفغان والباكستانيين ألفان.

ولم تكن أيّة حوزة في إيران تشبه هذه الحوزة على الإطلاق. فقد كانت حوزة مشهد في ذلك الوقت تعتبر أفضل حوزة لدراسة المقدمات ودراسات الأدب العربي، حيث كانت دروس المرحوم أديب معروفة في هذا الجانب.

وكانت حوزة قم مشهورة بدروس السطوح، أي أنّها أفضل حوزة لدراسة هذه المرحلة، وكانت حوزة النجف هي أفضل حوزة لدراسة البحث الخارج، حيث تعتبر أهم مركز للعالم الشيعي وتحتضن مراجع كبار وفي كل زاوية منها دروس للخارج. طبعاً في تلك الفترة كان يقال لنا أنّ الحوزة في النجف كانت أفضل مما هي عليه الآن، ولكنها مع ذلك كانت في غاية الحيوية والنشاط.

لقد شاهدتها مليئة بالمدارس والكتاب فيها متوفر والحركة العلمية فيها دؤوبة، والطلاب يشتغلون بالدراسة والبحث بشكل جاد. ولم يكن للدنيا عندهم قيمة. فالجميع كان يعيش حالة الزهد والجدّ في الدراسة. ففي تلك الفترة التي كنّا فيها في مرحلة الشباب كنا نستشعر أنّ السيد الخوئي يبذل جهداً علمياً بمقدار ما نبذله نحن وأنّه يعيش مثل حياتنا بلا فرق.

وعندما طبع الجزء الأول من كتابه «معجم رجال الحديث» كانت عندنا قناعة بأنّه قد بذل الكثير من الجهد في تأليفه. ولا شكّ فإنّ إستشعار الطالب بأنّ أكابر الحوزة يبذلون غاية المجهود في الدراسة وطلب العلم؛ فإنّ لهذا تأثيراً كبيراً في شحذ هممهم نحو الدراسة وطلب العلم بشكل مستمر من الصباح إلى الليل وبلا هوادة. إنّي أتذكر بأننا كنا ندرس في اليوم (14) درساً، فلم يكن لنا شغل من أوّل الصبح إلى الليل سوى الدراسة والمطالعة والبحث.

السيد أحمد المددي

المجلة: كما يبدو فإنّ إقامة الدروس مساءً كان أمراً متداولاً في النجف.

سماحة السيد أحمد المددي : أجل، الأمر كما ذكرتم، فدرجة الحرارة المرتفعة وإنعدام وسائل التبريد تجعل الدراسة في الليل أفضل، حيث يعتدل الهواء ويساعد على الدراسة أكثر. لقد كانت درجة الحرارة ترتفع أحياناً إلى أكثر من خمسين درجة مئوية (بحيث يطبخ البيض إذا وضعته في الخارج)!
إنّ طبيعة النجف طبيعة صحراوية، والمناطق الصحراوية حارة في النهار باردة في الليل. وقد ترتفع أحياناً درجة الحرارة في الليل أيضاً بحيث يصعب تحمّلها، فالغيوم تتراكم في السماء ويشعر الإنسان بالإختناق فلا مفرّ حينئذٍ إلّا الإلتجاء إلى السرداب وترك السطح بعد صعوبة النوم فيه.

المجلة: ما هو وضع دروس الأخلاق في تلك الفترة؟

سماحة السيد أحمد المددي : لم تكن حاجة إلى درس الأخلاق؛ لأنّ جميع سكنات وحركات وأقوال وسيرة هؤلاء العلماء هي درس في الأخلاق.

أنا لا أتذكر أنّ هناك درساً تحت هذا العنوان؛ إذ لم تكن حاجة إلى ذلك. فحياة العلماء وسيرتهم كلها أخلاق. يقال أنّ الإمام الحجة # كتب للسيد أبو الحسن الإصفهاني: إجلس في الدهليز وتواضع للناس إنا ننصرك. لابّد للعالم أن يصل مرتبة عالية حتى يكون أهلاً لأن يكتب له الإمام ×. وقد كانت عظمة هؤلاء تكمن في عملهم بوصايا الإمام وإمتثالها، حيث كانوا متواضعين وليس لهم همّ سوى خدمة الناس والدين.

لقد وصلت بخدمة السيد الخوئي مراراً عديدة وجدته فيها إنساناً عادياً ليس عنده تكلّف. وكان السيد الشاهرودي كالصديق مع باقي الطلاب. وكل هذه في الحقيقة أخلاق عملية تغني عن الدرس. ينقل عن السيد الشاهرودي أنّه كان يمزح مع الكسبة ويدخل عليهم السرور بذلك. ومن جهة أُخرى كانت حياتهم خالية من التكلّف بحيث إذا لاحظ الطالب ذلك في حياة المراجع هانت عليه الصعوبات.

ينقل عن الشيخ الآخوند الخراساني أنّه كان يردّد الكلام الفارسي، فيقول: «سي سال خورشت نان من، گرمی نان من بود» ومعناه: إنّ طعامي مدة ثلاثين عاماً هو عبارة عن حرارة الخبز الذي أتناوله.

ونقل السيد البجنوردي عن السيد يوسف الحكيم النجل الأكبر للسيد الحكيم أنّه كان يقول: «كنّا نطبخ الباقلاء نأكلها ظهر للغداء، ونتعشّى بماءها في الليل». وحكي في حياة السيد أبو الحسن الإصفهاني أنّه في مرّة من المرّات لم يكن لديه إجار البيت فألقى صاحب الدار به وعياله وأثاثه خارجاً فبات مع عائلته في غرفة من غرف مسجد الكوفة، حيث لم يكن يملك بيتاً فحسب بل لا يملك إجار البيت! وحدثني بعض الأصدقاء بأنّه كان يتحدث مع بعض الطلاب وإذا به يغشى عليه في أثناء الكلام، فلما أفاق قال إنّه لم يأكل من ثلاثة أيّام!

لم يكن هؤلاء الطلاب ليعترضوا بشيءٍ أو يقولوا شيئاً؛ لأنّهم يشاهدون حياة مراجعهم وعلمائهم مثلهم. ينقل والدي عن السيد الخوئي أنّه قال: إني قد أخرج في بعض الأحيان لشراء (اللبن الرائب) فأرجع والإناء خال ليس فيه شيء؛ لأني كنت في طول الطريق مشغول البال بمسألة علمية أُفكر فيها. لم يكن يقصد أحد من هؤلاء التفوق سوى التفوق في العلم والأخلاق والروحانية. إنّ ذلك الوضع غير قابل للمقارنة مع وضع بعض طلبتنا اليوم حيث لا نقتنع بشغل ولا شغلين.

ينقل أنّ حرم الإمام أمير المؤمنين ع كان في وقت السحر يعج بحدود مائتين طالب يتلون دعاء أبو حمزة في قنوت صلاة الليل! وعندما ذهبت للنجف كان الفصل شتاءً، وليل الشتاء طويل، فكانت أبواب الحرم تغلق ليلاً، فحاول نجل السيد الحكيم فتحها في ليالي الجمعة فقط وكسب بذلك موافقة خدّام الحرم.

وقد كان السيد البجنوردي يذهب إلى الحرم فإذا وجد الباب مغلقاً صلّى صلاة الليل خلف الباب، وهكذا كانت سيرة غيره من العلماء. لقد كان جوّ النجف يساعد حتى الطالب غير المجدّ على أن يكون عالماً؛ لأنّه أين ما حلّ يجد مجلس البحث العلمي منعقداً. فكل إنسان يعيش في مثل هذا الجو يصير من أهل العلم بشكل طبيعي.

السيد أحمد المددي

المجلة: هل كان مجال التحقيق منجملة الإهتمامات لدى الطلاب إلى جانب الدرس والبحث؟

سماحة السيد أحمد المددي : كان لأكثر الطلبة إهتمام بالتحقيق، وقد يكتبون هذه التحقيقات والبحوث ويدوّنوها، ولكنهم لم يكونوا يدوّنون كل ما يخطر في بالهم، بل خصوص الأفكار الجديدة التي تستجد عندهم.

المجلة: هل كانت العلوم الأُخرى غير الفقه والأُصول متداولة أيضاً؟

سماحة السيد أحمد المددي: لقد أدخل السيد الخوئي «علم الرجال» في الحوزة. كما إستطاع أن يدخل «التفسير» على حدًٍّ ما في الحوزة. ولكنه إنقطع في فترة مجيئنا إلى النجف من درس التفسير دفعة واحدة في سنة 1390 هـ، وكان قد إستمر فيه إلى آخر سورة الحمد ولم يكن حينئذٍ في الحوزة درس رسمي غير الفقه والأُصول.

السيد أحمد المددي

المجلة: في كتابه «البيان» وصل البحث إلى آخر سورة الحمد ولكن الظاهر أنّه قد تناول شيئاً من سورة البقرة أيضاً. لماذا إنقطع هذا الدرس. هل كان القصد عدم الإستمرار من الأوّل أو أنّه إنقطع لبعض الأسباب؟

سماحة السيد أحمد المددي : نعم، لقد درّس السيد الخوئي مقدمات التفسير وتفسير سورة الحمد وشيئاً من سورة البقرة ثمّ إنقطع بسبب معارضة البعض لهذا الدرس حيث قال بعضهم: أنّ درس التفسير ليس في شأن السيد الخوئي. ولعلّ علم الكلام كان أفضل حالاً؛ لأنّ الشيخ جواد البلاغي أُستاذ السيد الخوئي كان قد هيّأ الأرضية لهذا الدرس، كما أنّ المرحوم السيد حسين البادكوبي ـ أُستاذ الشيخ محمّد حسين الإصفهاني ـ قد هيّأ الأرضية لعلم الفلسفة.

السيد أحمد المدديالسيد أحمد المددي

المجلة: وماذا عن العرفان؟

سماحة السيد أحمد المددي: كان أضعف حالاً من الجميع، وكان العرفان والفلسفة آنذاك متجلّياً في الشيخ عباس القوجاني، وهو من تلامذة القاضي.

وكان السيد حدّاد أيضاً في تلك الفترة ولكن كان يسكن كربلاء، وكان بعض الأصدقاء الذين يترددون عليه يثنون على قوة عرفانه وتقدمه في هذا المجال، غير أني لم أُوفق لرؤيته، ولكن سمعت عنه. وأمّا في النجف فقد كان أُستاذ الفلسفة والعرفان هو الشيخ عباس القوجاني، ومنهجه هو منهج أُستاذه القاضي، وهو شخصية فريدة من نوعه. ولكن لم تكن دروسه بشكل رسمي. وقد درست عنده المنطق وفلسفة المنظومة.

وحضرت عليه جميع منطق المنظومة أو أكثرها. ثمّ درّس الأسفار ولم أُوفق لحضوره. وأدركت أيضاً درس الشيخ صدر البادكوبي، وكان يدرّس الفلسفة مدة ثمّ تركها في أواخر عمره وأخذ بتدريس الفقه والأُصول، وكان يدرّس أيضاً الكفاية والمكاسب. وكان هو والشيخ مجتبى اللنكراني من الأساتذة الماهرين في تدريس السطوح. ولكن الأخير هاجر من النجف إلى أصفهان وأسس حوزة فيها.

 

المجلة: نشكركم على المشاركة في هذا الحوار ونرجو لكم مزيداً من التوفيق.
سماحة السيد المددي: وأنا بدوري أيضاً أشكركم وأتمنى لكم التوفيق ولسائر خدّمة العلم والدين.

مجلة الکوثر الواحد والثلاثون

السيد أحمد المدديالسيد أحمد المددي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky