ابن تيمية: دعوة إلى الاجتهاد أم إلى التوقف والجمود

ابن تيمية: دعوة إلى الاجتهاد أم إلى التوقف والجمود؟ / د. حسن أنصاري

خاص الاجتهاد: منذ بضع سنوات، شهد حقل الدراسات الإسلامية إقبالا متجددا ملاحظا على شخصية ابن تيمية وما خلفه من أفكار ومؤلفات. وقد تمتع ابن تيمية بسيرة حياتية جديرة بالاهتمام إلى حد كبير، ويعود ذلك إلى مكانته التاريخية المتميزة التي عاصرها، وكذلك بعض مواقفه السياسية والدينية المؤثرة، بالإضافة إلى غزارة إنتاجه العلمي، مما يجعله موضوعا شائقا للباحثين في مجالات دراسة الأديان وشؤون الشرق الأوسط.

ومع ذلك، فإن هذا الإقبال المتجدد على نتاجه الفكري ومؤلفاته قد ينبع أيضا من الجاذبية الكامنة في أطروحاته، وذلك لما بذله من جهد في تبسيط القضايا الدينية والمذهبية وتقريبها للأفهام.

يمتلك ابن تيمية في مؤلفاته المتعددة والمطولة، والتي غالبا ما تشتمل على معان متكررة تضفي عليها مللا من هذه الناحية، قدرة عجيبة على تبسيط أعقد المشكلات الكلامية والفلسفية والمذهبية إلى مستوى ساذج جدا من الفهم والتفسير والصياغة، ليقوم بعد ذلك بإصدار أحكام قاطعة وشديدة اللهجة حول تلك المسائل بشكل سطحي للغاية. ولعل هذا التبسيط المخل بالعمق يستسيغه بعض الأفراد، إلا أنني لا أرى له تفسيرا آخر سوى أنه انحدار فكري واضح.

في كتبه “منهاج السنة” و “درء تعارض العقل والنقل” و “اقتضاء الصراط المستقيم” و “مجموعة الفتاوى” الكبرى والصغرى، والتي تحمل في معظمها مضامين متكررة، يعمد ابن تيمية إلى نقل مادة علمية باستمرار من مصادر محددة تماما (وقد يكون ذلك أحيانا دون الإشارة إلى تلك المصادر) وذلك في سبيل تحقيق غايات معينة يرمي إليها. وبدلا من الخوض في عمق المسائل الفلسفية والكلامية، فإنه يميل عادة إلى تبسيط القضايا وتقديم إجابات جاهزة ومعلبة لجميع تلك التساؤلات.

وبهذا المنحى، فإنه في رؤيته – والتي يمكن ملاحظتها بنصها لاحقا في كتب تلميذه ابن قيم الجوزية أيضا – تتشابه المواقف المتنوعة والمختلفة للمعتزلة والجهمية والفلاسفة والباطنية كلها في الكثير من المسائل، ويحكم عليها جميعا بسمة البدعة والكفر والبطلان.

بل إنه في العديد من المسائل الكلامية يسوي بين موقف الأشاعرة وكل هذه الفرق، ويدعو بشكل قاطع إلى التزام السنة والأحاديث الموجودة في المجاميع الحديثية للحنابلة وأصحاب الحديث. وفي هذا الإطار، يرد ابن تيمية حتى في عدد من المسائل الكلامية مواقف بعض الحنابلة أنفسهم، كابن عقيل، بسبب تأثرهم بالمعتزلة والأشاعرة. ويرى أن البدعة ذات مراتب، وأن أظهر صورها يتجلى في معتقدات الفلاسفة المسلمين كابن سينا، بل إنه يعتبره لا يتأثر بفلاسفة اليونان وحسب، بل يتأثر أيضا بالإسماعيلية والباطنية وإخوان الصفا..

كما ذكرت، فإن مصادر ابن تيمية في نقل المعتقدات الفلسفية والكلامية واضحة. لم يكن لديه الوقت ولا القدرة على دراسة وفهم أقوال الحكماء وكتاب “الشفاء” و “الإشارات والتنبيهات” لابن سينا، أو مؤلفات المتكلمين المعتزلة. وكان مصدره الرئيسي لنقل أقوالهم كتب فخر الدين الرازي. إلا أنه حتى في فهمه الدقيق لمؤلفات فخر الدين الرازي لم يوفق كثيرا. ويمكن ملاحظة ذلك بفحص مؤلفاته ومقارنة كتب ابن تيمية بالآثار الفلسفية والكلامية لفخر الدين الرازي. كما أن اهتمامه بأبي البركات البغدادي هو نتيجة لهذا التأثر بكتب فخر الدين الرازي أيضا.

في بضع مسائل كلامية محدودة فقط، يتخذ ابن تيمية مواقف مخالفة للسنة الكلامية والاعتقادية لأصحاب الحديث والحنابلة. ومع ذلك، فإنه يستمد ويقتبس تلك المواقف أيضا من غيرهم، مثل أبي البركات البغدادي، أو أبي المعالي الجويني، أو الغزالي.

صحيح أن ابن تيمية دعا إلى العودة إلى “السلف الصالح” والاجتهادات الجديدة وتجاوز المذاهب الفقهية التاريخية. ولكن لا ينبغي أن ننسى أن هذا الموقف هو في الحقيقة نفس الموقف التاريخي للحنابلة، الذين لم يجدوا لفقه إمامهم أحمد بن حنبل مكانة واضحة في هندسة المذاهب الفقهية الإسلامية. لقد كان أحمد بن حنبل دائما ينظر إليه من قبل مخالفيه وحتى بعض المثنين عليه، لا لمكانته الفقهية بالأساس، بل لمواقفه الاعتقادية ومنزلته في علم الحديث.

ويوجد عنه آراء فقهية متنوعة ومتناقضة في روايات السنن الحنبلية المختلفة، مما كان يسبب ارتباكا للحنابلة على مر تاريخ مذهبهم الفقهي، ولكنه كان يتيح لهم نوعا من التمسك بالخيارات الفقهية المتعددة. فقه أحمد بن حنبل كان أساسا يرتكز على النص وتجنب أنواع القياس والاجتهاد والإجماعات قدر الإمكان، وبالتالي لم يكن ابن تيمية يسير في طريق وعر جدا في هذا المسعى.

حقا، إن ما ميز ابن تيمية عن غيره من الحنابلة هو أنه كان يسعى في الواقع إلى إحلال اجتهاده السلفي الحديثي محل المساعي والاجتهادات والتأويلات الجديدة التي شغلت فقهاء وأصوليي الحنابلة في بغداد والشام لما لا يقل عن ثلاثة قرون في عملية بناء النظام الفقهي والكلامي الحنبلي. لقد كان ابن تيمية في الحقيقة يواجه بشكل ما تلك التقاليد الداخلية للمذهب الحنبلي أيضا.

لم يكن ابن تيمية مجرد مخالف وخصم للشيعة و”الرافضة” والباطنية ويحكم عليهم بالبدعة، بل ويصل الأمر به إلى الحكم بكفر عدد منهم. لقد كان أيضا معارضا للفلاسفة والمعتزلة والأشاعرة والصوفية ومدرسة ابن عربي. وكان يطلق على الفلاسفة صراحة وصف عدم المسلمين، ولم يكن يتردد في وصف عقائد الباقين بالبدعة أو حتى الكفر إذا رأى في ذلك ضرورة.

كل هذا فعله ابن تيمية بحجة الدفاع عن السنة والحديث، ولكن ما هي منزلته الحقيقية في علم الحديث وأي مرتبة يمكن اعتبارها له في هذا العلم؟ الواقع أن ابن تيمية لم يحظ قط بقاعدة راسخة له في أوساط علماء الحديث. فمعرفته بالحديث وطرقه وعلومه كانت ضعيفة، وتعد شبه عدم مقارنة بكبار علماء الحديث كابن حجر العسقلاني.

لقد صنع الحضارة الإسلامية الفلاسفة والمتكلمون والفقهاء والصوفية والفنانون والوزراء والكتاب والخلفاء والملوك، وإضافة إلى هؤلاء جميع “المغايرين للرأي السائد” الذين اتهمهم ابن تيمية بأنواع الكفر والإلحاد والبدعة.

يمثل ابن تيمية شريحة محدودة جدا في الحضارة الإسلامية؛ هم الأولئك الذين نرى آثار رؤاهم وأفكارهم اليوم تحت مسمى الوهابية والسلفية هنا وهناك. والاجتهاد الذي دعا إليه لم يكن فتحا لباب الاجتهاد، بل كان عودة إلى “سلف” أصحاب الحديث؛ دعوة إلى “الانسداد المطلق”.

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

Clicky