الإمام-جعفر-الصادق - الشيعة الجعفرية

ملامح فكرية من شخصية الإمام الصادق “عليه السلام”

الاجتهاد: الإمام الصادق “عليه السلام” عاش قرابة قرن واحد في مجتمع حكم من قبل نظامين: الأموي، والعباسي، وعانى من تناقضات وسلبيات هذين النظامين الشيء الكثير، لكنه رغم كل ما لاقاه من محن ونوائب، فقد تمكن من القيام بعملية تغيير في تفكير الانسان المسلم الذي تلمس طريقه الثقافي في هدى الإمام الصادق./ بقلم الدكتور السيد محمد بحر العلوم.

عاش الامام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق ما بين عام ٨٠ أو ٨٣ – ١٤٨هـ، وكانت ولادته ووفاته بالمدينة المنورة، وقد قضى مع جده الامام زين العابدين، علي بن الحسين قرابة ثمانية عشر عاماً، وكان جده علي معهده الأول في رعايته وتربيته ثم لازم أباه الباقر حتى وفاته سنة ١١٤ هـ ، فيكون مع ابيه محمد الباقر تسعة عشر عاماً وتفرد بأمر الامامة من بعده اربعا وثلاثين عاماً.

وقد قضى الإمام الصادق ثمانية واربعين سنة من عمره في عهد الحكم الأموي وعاصر جل حكام النظام الأموي، ابتداء من عبد الملك بن مروان، وحتى نهاية حكم مروان الحمار، وكانت هذه المدة مليئة بأحداث عنيفة هزت المجتمع الاسلامي، ثم عاصر من العباسيين السفاح، والمنصور، واغتاله الأخير بالسم بعد مضي عشر سنين من ملكه، ودفن بالبقيع من المدينة المنورة.

كما عاش الإمام الصادق المحن المؤلمة والرزايا المفجعة، وكان عليه السلام يقابلها بصبر وجلد ، فلقد فجع بجده الامام علي بن الحسين حيث اغتاله الوليد بن عبد الملك بالسم عام ٩٤هـ ، وكذلك رزء بوفاة ابيه محمد الباقر متأثراً من السم الذي دسه اليه هشام بن عبد الملك عام ١١٤هـ ، ثم صدم بمقتل عمه زيد بن علي ثائر آل الرسول على يد طغاة بني أمية عام ١٢٤هـ ، وما جرى عليه من صلب جسده الشريف ، وحرقه ، وبعد ذلك مقتل ابن عمه يحيى بن زيد على يد ولاة الأمويين عام ١٢٦هـ ، وصلبه على باب مدينة الجوزجان إلى أن ظهر أبومسلم الخراساني داعياً للدولة العباسية، ومنتصراً على الأمويين فأنزل جثمانه من موضع صلبه، ودفنه.

هذا كله إلى جانب ما كان يقرع سمعه من انباء مفجعة في أهل بيته وشيعته، «فقد ملأوا بهم السجون، وصبغوا من دمائهم الارض، وأهتزت باجسادهم المشانق (١) .

وإلى جانب هذه الاحداث، والمحن ، فقد كان عهد الإمام الصادق زاخراً بالثورات والانتفاضات العقائدية، والسياسية، والاجتماعية، التي رافقت نهاية الحكم الأموي وبداية الحكم العباسي، وسواء كان العهد المهدد بالزوال، أو المنذر بالقدوم، فان تلك الفترة كانت حافلة بعدم الاستقرار السياسي، والاجتماعي، وساعدت على ظهور حركات فكرية هدامة للزندقة والغلو، وظهرت مدرستا الرأي والحديث، الأولى بالمدينة، بزعامة مالك ابن أنس والثانية بالكوفة بزعامة ابي حنيفة، كردة فعل للاولى، ومن الطبيعي أن يكون التباين بين هاتين المدرستين واضحاً وبارزاً في الساحة الفكرية، ومدى جمود الأولى، واستعداد الثانية للحركة.

وهذه الجوانب كلها عاشها الإمام الصادق بحنكة، وقابلها بروية، وثاقب رأي، وكان عليه كمسؤول عن الدعوة الاسلامية، أن يضع نصب عينيه رسالة الاسلام واعلاء كلمة الله، من دون تفريط، ومساومة.

والإمام الصادق بصفته عميد الهاشميين، و إمام العلويين كان يمثل مركز الثقل في المدينة، والبلاد الاسلامية على الصعيد العلمي والاجتماعي لأن مدرسة أبيه الإمام الباقر العلمية قد أرست أسس العلم والفضيلة، حتى نقل عن جابر الجعفي أنه قال: حدثني أبو جعفر الباقر (ع) سبعين ألف حديث (٢).

وقال محمد بن مسلم: ما شجر في رأيي إلا وسألت عنه أبا جعفر (ع) حتى سألته عن ثلاثين ألف حديث (٣)، وقال عنه بعض الاعلام: إن علماء عصر الإمام الباقر كانوا يتصاغرون أمامه (٤) ، اعترافاً منهم بسمو منزلته العلمية التي لا يدانيها أحد، كما أن بقايا الصحابة، ووجوه التابعين كانوا يروون عنه، وقد عرفت هذه المدرسة ولده جعفر بن محمد الصادق، ذلك المرجع الذي يملأ الدنيا بعلمه، والذي اشتهر في كل فن من فنون العلم فكان المركز الأعلى فيه.

وقالت عنه بعض المصادر: بأنه رجل رحب أفق التفكير، بعيد أغوار العقل، ملم كل الالمام بعلوم عصره، ويعتبر في الواقع أول من أسس المدارس الفلسفية المشهورة في الإسلام، ولم يكن يحضر حلقته العلمية أولئك الذين أصبحوا مؤسسي المذاهب فحسب، بل كان يحضرها طلاب الفلسفة والمتفلسفون من الانحاء القاصية.

واذا كانت مدرسته العلمية قد عرفت في المدينة المنورة وقصدها كبار أهل العلم للاستفادة، فليس معناه أنها هي الأولى والأخيرة، إنما كان للكوفة سهم وافر في ابراز معالم الحركة الفكرية الإسلامية بزعامته وتأسيس تلامذته، وحين توافد عليه – إلى المدينة – عدد من رجالها، وانتهلوا من نميره، واستفادوا من علمه، فعادوا واسسوا مدرستها العلمية.

والكوفة وإن لم تخط بموطن دائم للإمام الصادق عليه السلام، كما هو حال المدينة إلا أن لها العناية الكبيرة في نفسه، فقد كان يرعاها بزياراته للعراق باقامة فيها واهتمام وافر لمدرستها العلمية، فقد كان العديد من أعلامها هو من طلابه الذين وفدوا عليه في المدينة، وتلمذوا واخذوا يروون عنه، حتى نقل مرة عن علي بن الوشا أنه قال: «أدركت في هذا المسجد (يعني مسجد الكوفة) تسعمائة شيخ كل يقول: حدثني جعفر بن محمد (٥)، كما نقلت الرواية: لقد شوهد الإمام الصادق عليه السلام ذات مرة في مسجد الكوفة بين خلق كثير من الشيعة يعظهم (٦).

ولعل ظهور مدرسة الإمام الصادق في الكوفة يعود إلى أنها كانت من مواطن التشيع لآل البيت، ومركزاً للمعارضة السياسية والفكرية للانظمة المنحرفة عن ائمة آل البيت، حتى ذكر أن الإمام الصادق (ع) قال لبعض اتباعه الذين زاروه في المدينة أيام بني مروان: «من أنتم؟ من أهل الكوفة. قال: ما من البلدان أكثر حباً لنا من أهل الكوفة لا سيما هذه العصابة، إن الله هداكم لأمر جهله الناس، فاحببتمونا، وابغضنا الناس، وبايعتمونا، وخالفنا الناس وصدقتمونا وكذبنا الناس، فاحياكم الله محيانا وأماتكم مماتنا» (٧)

وروى عن الإمام الباقر (ع) انه قال: إن ولايتنا عرضت على أهل الأمصار فلم يقبلها قبول أهل الكوفة » (٨) .
وقد تكون هناك أسباب أخرى دعت أن تكون للكوفة هذا المركز الولائي لآل البيت (٩).

وعلى كل حال فإن مدرسة الإمام الصادق (ع) في المدينة المنورة ازدهرت بشكل ملحوظ ومحسوس، التحق بها جمع غفير من رواد العلوم على اختلاف نزعاتهم وميولهم، وكان عددهم من أضخم ما ضمته المدارس العلمية في ذلك العهد، فقد ذكر الرواة: أنهم كانوا أربعة آلاف شخص، وفيهم من كبار العلماء والمحدثين الذين أصبحوا ائمة ورؤساء لبعض المذاهب الإسلامية (١٠)، أمثال: مالك بن انس – إمام المذهب المالكي وأبوحنيفة ـ إمام المذهب الحنفي – وسفيان الثوري، ويحيى بن سعيد الانصاري قاضي المنصور في المدينة، وعبد الملك بن جريح المكي. احد العلماء المشهورين – وابو سعيد يحيى القطان البصري – من ائمة الحديث، بل عد محدث زمانه، ومحمد بن اسحاق صاحب المغازي والسير، وشعبة بن الحجاج الازدي – من أئمة السنة واعلامهم – وابو ايوب السجستاني، من كبار الفقهاء التابعين، إلى غير ذلك من ائمة المذاهب الفردية والجماعية في الفقه والحديث، إلى جانب كبير من مشاهير ثقات رواة وفقهاء الشيعة (١١)

كما يعتبر من أهم الانجازات الفكرية التي حققها الإمام الصادق هو: أنه وضع أساس التأليف في الاسلام، فانطلق الناس بعده يؤلفون ويدونون تبعاً لتعليماته، ولم يكن تأليف الكتب معروفاً قبل، بل كان نادر الوقوع، فاذا به ينهض بهذا العبء، ويحرض على التدوين والتأليف ويكون هو البادىء بذلك، ثم يتداعى طلابه إلى التدوين والتأليف، حتى يبلغ عدد ما ألفّوه أربعمائة كتاب، لأربعمائة مؤلف، وتبرز دعوته إلى التدوين بمثل قوله لتلاميذه: «أكتبوا فإنكم لا تحفظون حتى تكتبوا».

ومثل قوله للمفضل بن عمر: «أكتب وبث علمك في اخوانك فان متّ فورث كتبك بنيك » (١٢) .

وبعد هذا كله: لم يكن الإمام متخصصاً في فرع من العلوم، أو ناهجاً منهجاً فلسفياً خاصاً، إنما كان العالم في تلك القرون هو: «معلمة عصره، يجد اتباعه عنده: الادب والعلم بالاخبار، والاحاطة بالسنة النبوية، والاطلاع على التفسير إلى جانب المعرفة بالمذاهب الفلسفية، وخلاصة الآراء في الطب، والرياضيات، والفلك، والكيمياء كما يجدون عنده بصراً باسرار النحو والصرف والبيان، ورواية واسعة للغات القبائل العربية ولهجاتها المختلفة . ..

والامام الصادق كان من ركام هذه المعارف في القمة، بل كان الآية الأولى في عصره والنموذج لانسانية المعرفة في العصر الاسلامي الذهبي، بل بداية رائعة له، ولقد كانت جهوده في نقل التراث الفكري والديني إلى الاجيال من بعده جهود فائقة الاثر، بالغة القيمة (١٣).

هذه هي ملامح شخصية الإمام الصادق (ع) أوجزتها برؤوس سطور يمكن ان نستفيد من خلالها أمرين مهمين:

الأول – إن الإمام الصادق (ع) سلك في تحقيق أهداف الإسلام الكبرى، وبناء مجتمعه الانساني اسلوباً فكرياً بحثاً، بحيث تخلى عن الصراع المسلح، الذي اختطه الإمام الحسين (ع) في صراعه مع قوى الطغيان والظلم، والاستكبار الحاكمة حينذاك سواء اكانت في العهد الأموي أو العباسي.

الثاني – أنه عليه السلام أسس مدرسة فكرية، تميزت عن كل المدارس التي عاصرت مدرسة أئمة آل البيت (ع) ممن سبقوه، واسعة الافاق، متعددة الجوانب، حتى قال عنها الجاحظ – من أعلام الادب العربي – : « فجر الإمام الصادق (ع) ينابيع العلم، والحكمة في الارض ، وفتح للناس أبواباً من العلوم لم يعهدوها من قبل، وقد ملأ الدنيا بعلمه » (١٤) .

 

الهوامش:

١. أسد حيدر، الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ٢٨٧/٤
٢- عادل الاديب – الائمة الاثنا عشر : ١٥٩ .

٣. عادل الاديب – الائمة الاثنا عشر : ١٥٩
٤ – اليانعي – مراة الخبان : ٢٤٨/١
٥ – حسن الامين – دائرة المعارف الشيعية: ٧٧/٢ عن السيد امير علي الهندي صاحب كتاب مختصر تاريخ العرب .
٦- الكشي – الرجال ٢٨٠.
٧- الطوسي – الامالي : ۸۹ .
٨- ابن قولویه – کامل الزيارات : ١٦٨
٩- د. عبد الله فياض – تاريخ الامامية، واسلافهم الشيعة ٥٨ – ٦٤
١٠- حسن الامين – دائرة المعارف الشيعية: ۷۷/۲.
١١- المرحوم الشيخ محمد حسين المظفر – الامام الصادق ۱۷۸ – ۱۳۲/۲
١٢- حسن الامين – دائرة المعارف الشيعية : ٨١/٢
١٣- رمضان لاوند – الامام الصادق : علم وعقيدة : ١٦٦ -۱۷۳
١٤. السندوبي _ رسائل الجاهز ١٠٦

 

المصدر: كتاب: دور الإمام جعفر الصادق عليه السلام في مسير الدعوة الإسلامية. بقلم سماحة الدكتور السيد محمد بحر العلوم.

الصفحة ٢٦

 

تحميل الكتاب: دور_الإمام_الصادق_ع_في_مسيرة_الدعوة_الإسلامية_السيد_محمد_بحر_العلوم

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky