فقه المرحلة في القرآن الكريم

فقه المرحلة في القرآن…شواهد وفوائد / نور الدين الخادمي

الاجتهاد: المراد بفقه المرحلة في القرآن الكريم عناية القرآن الكريم بمراحل الزمان وأطوار الحياة، وعرض أدلتها ومبادئها وبيان بعض أحكامها وتفاصيلها.

ومعلوم أنه لا توجد في القرآن الكريم عبارة فقه المرحلة، وإنما توجد شواهد قرآنية تدل على مراعاة ذلك. وأظهر هذه الشواهد هي:

شواهد فقه المرحلة في القرآن الكريم:

الشاهد الأول: نزول القرآن الكريم كان على مرحلتين: مرحلة مكة ومرحلة المدينة. وكان لكل مرحلة أحكامها الخاصة بها، ومنها أن مرحلة مكة هي مرحلة بداية نزول الوحي وتلقيه، وترسيخ الأصول الإيمانية والتربوية والأخلاقية، ومرحلة تكوين النواة الأولى لمشروع الدعوة إلى الله تعالى.

أما مرحلة المدينة فقد اتسمت بكونها مرحلة بناء الدولة وصياغة الوثيقة الدستورية وإقامة المسجد الجامع والأسواق ونظام العيش والوحدة بين الناس.

الشاهد الثاني: تنويه القرآن بالزمن والعصر والدهر والأجل، كقوله تعالى: “والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر” (سورة العصر). وكذلك مجموع الآيات التي أقسم الله فيها بالفجر والليل والنهار والشفع والوتر والضحى، فيفهم من هذه الآيات وغيرها تقرير مكانة الزمن وتعظيم آثاره في الإنتاج النافع والعمل الصالح.

الشاهد الثالث: حديث القرآن الكريم عن المراحل السابقة لبعض الأقوام والأمم، كقوم نوح وقوم إبراهيم.. وبيانه لبعض القرى التي ظلمت، وكيف أن ظلمها حُكم عليه بالوعيد الشديد والعذاب الغليظ.

الشاهد الرابع: التنصيص على مرحلتي الدنيا والآخرة، وبيان كون الدنيا مرحلة مؤقتة ودارا للعمل والابتلاء، وكون الآخرة مرحلة دائمة ودارا للحساب والجزاء. ومن تفصيل هذا التنصيص تقرير مرحلة النعيم في الجنة للمتقين وتقرير مرحلة العذاب لغيرهم.

الشاهد الخامس: حديث القرآن عن مراحل الإنسان، منذ كونه جنينا في بطن أمه، ثم كونه إنسانا حيا مكرما ومكلفا ومستقرا في الأرض، ثم كونه إنساناً محاسباً ومجازى بعد موته.

الشاهد السادس: تقسيم القرآن مدة اليوم إلى مرحلة الليل ومرحلة النهار ومرحلة الضحى والظهيرة والمساء والشفق والغسق، وتخصيص ذلك بأحكام العمل والعبادة والنوم والراحة والاستئذان والاختلاء والتواصل والاستحقاق والالتزام.

الشاهد السابع: تخصيص القرآن بعض مراحل الحياة بأحكامها الشرعية المناسبة لها، كتخصيص زمان (أو مرحلة) رمضان بحكم الصيام والقيام والاعتكاف، وتخصيص زمان (أو مرحلة) أشهر الحج “شوال وذو القعدة وذو الحجة” بأحكام الحج والعمرة والأضحية، وتخصيص الأيام البيض من كل شهر قمري بالصيام على سبيل الندب والاستنان بالسنة الشريفة.

وشواهد أخرى كثيرة ومعروفة ويتفاوت أهل العلم في استخراجها وإعمالها، ومنها آيات سؤال أهل الخبرة، كقوله تعالى: “فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون” (سورة النحل: 43)، فأهل الذكر هم أهل العلم والاختصاص في المجال المعني في مرحلة من المراحل وطور من الأطوار.

فوائد شواهد فقه المرحلة في القرآن الكريم:

الفائدة الأولى: هدي القرآن لجميع مراحل الحياة

فقد توجه القرآن الكريم إلى الناس جميعا وبمراحلهم كافة وأوضاعهم المختلفة، وبين لهم هديه وأحكامه في ذلك كله. كحكم إصلاح الإنسان والأرض، وحكم العدل بين الناس، وحكم الاستفادة من الزمن واغتنام مراحله وأطواره في الخير والنفع والفضيلة، فالقرآن ليس كتابا بعيدا عن واقع الناس وليس منهجا خارج سياقهم وحياتهم، وإنما هو رسالة إليهم وإلى مختلف مراحل وجودهم بما يصلحهم وينير سبيلهم.

الفائدة الثانية: أسلوب القرآن في تأطير مراحل الحياة

لم يكن اعتناء القرآن بفقه المراحل بأسلوب التصريح الجلي والتنصيص المباشر على الكلمة المركبة “فقه المرحلة”، ولم يكن كذلك بأسلوب التنصيص على التعريف والتفصيل والتفريع. وإنما كان بأسلوب إجمالي، وعام وبشيء من التفاصيل، كحديثه عن بعض مراحل الماضي وبعض أحوالهم وأعمالهم ومصائرهم. ثم أحال القرآن فهم فقه المراحل إلى بيان السنة الشريفة وإلى كلام المفسرين والعلماء وفتاوى المجتهدين والفقهاء ومناهج المصلحين والحكماء.

الفائدة الثالثة: فقه المراحل حقيقة قرآنية

العلم باهتمام القرآن الكريم بفقه المراحل والأطوار إنما هو علم بحقيقة قرآنية مهمة، وضرب من ضروب التمعن في نصوصه وأحكامه، وهو استجابة لطلب القرآن بوجوب التدبر في آياته، فمن أدرك هذه الحقيقة بالتدبر فهو عامل بالقرآن ومستجيب لأمره بالتدبر ومثاب على ذلك، ومن انتهج خلاف ذلك فهو مخالف وعاص أو مقصر وغافل.

الفائدة الرابعة: وجوب العلم بفقه المراحل باعتبارها حقيقة قرآنية

إن العلم بأحكام القرآن لا ينبغي أن يقتصر على العلم بأحكام تفاصيله، كأحكام الوضوء والغسل والتيمم، وأحكام الزواج والطلاق والعدة والنفقة، وأحكام بر الوالدين والإحسان إليهما، بل ينبغي أن يشمل جميع أحكامه، ومنها أحكامه المبدئية والكلية، كحكم العدل بين الناس والإصلاح والشورى والأمانة، ومن هذا أيضا حكم أطوار الزمن وأوضاع الواقع ومآلات الأفعال وإمكانيات الناس وحكم التدرج والرفق والتجميع والتوحيد والتقريب، فأحكام القرآن بهذا الشمول والإحاطة، والعلم بهذا كله واجب قرآني وعمل علمي وسلوكي يحصل بالفهم والتدرب والتكوين والتراكم والمراجعة والإرشاد والتوعية والتربية..

 

بقلم الباحث التونسي في الشؤون الدينية الدكتور نور الدين بن مختار الخادمي

المصدر: الجزيرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky