الاجتهاد: ذكر المحقق آية الله الشيخ حسين الحلي رحمهالله لبعض تلاميذه قائلا: «إني مشهور عند الناس بالفقه، واصولي أقوى من فقهي» وليس بالبعيد منه هذا القول، فلقد تأثر شيخنا بفرسان علم الاصول في عصره، وهم: الميرزا النائيني، وآغا ضياء العراقي، والسيد أبو الحسن الاصفهاني.
لازم الشيخ حسين الحلي التدريس منذ كان يواصل دراسته، وكان يلقي درسه في مرحلة السطح العالي، وكان يحضر درسه ثُلَّة من الطلبة، وكان له طريقة فنّية في التدريس، وهي أنّه عندما يشرع في البحث يتناول المسألة الفقهية أو الأُصولية، فيقلِّب فيها وجوه النظر، ويبيّن أقوال العلماء المؤيّدين والمفنِّدين، ثمّ يناقش بعض الأقوال التي تستحق المناقشة على ضوء الأدلّة، وكان من طريقته في البحث أنّه لا يذكر رأيه الصريح في المسألة المبحوث عنها، وعندما ينتهي من إلقاء بحثه يجتمع طلاّبه حوله، فيسألونه عن رأيه في المسألة فكان يجيبهم بقوله: هذا عملكم.
ومنهج المحقق الأصولي الشيخ حسين الحلي “ره” في بحوثه الاصولية ـ كما نقل عنه قدسسره ـ يمتد إلى المدرسة الأصولية التي تصل إلى الشيخ الأنصاري وطلابه الذين تبنوا منهجه في محاولاته التجديدية، ومميزاته التي أعطت المدرسة الاصولية الحديثة حيوية ونشاطا لم تعهد قبلا بالرغم من انحسار التيار الأخباري، فلم يكن مثل هذا النشاط مجرد رد فعل للتيار المذكور ، بل هو انفتاح لآفاق جديدة لعلم الاصول،
وتسرب الفكر الفلسفي والدقة العلمية بالتدريج إلى الفكر الاصولي، واجتماع خيرة القدرات العلمية من أرجاء هذه المدرسة، انتهت إلى حدوث تطورات واسعة وسريعة جدا، بحيث نجد الطلاب الذين ينتهون من الرسائل في هذا اليوم يشعرون بالقفزة الكبيرة بين ما درسوه في مرحلة السطوح وما يدرسونه في البحث الخارج ، حتى كأنهم يحتاجون إلى استيعاب ما دوّنته الأجيال الثلاثة من أفكار عميقة بعد الشيخ ، كي يمكنهم استيعاب ما يطرحه أساتذة الخارج في عصرنا هذا [١].
إن الشيخ الحلي كان يهتم كثيرا ببلورة آراء أساتذته، ثم يعطي الرأي المختار فيها، اعتقادا منه أن طلابه يجب أن يطلعوا على أفكار الأساتذة الذين سبقوه في الموضوع، التي تعبّر عن تطور الفكر الاصولي تبعا لأساتذتهم.
وليس معنى هذا أن لا يكون له رأي في الموضوع، وكمثل على ذلك انطباعات السيد محمد تقي الحكيم عن محاضرات استاذه الاصولية، فقد نقل استاذنا المرحوم السيد محمد تقي الحكيم عن انطباعاته لمحاضرات استاذه الشيخ الحلي في الاصول، وآرائه المميزة ، نذكر منها الآتي :
١ ـ في التعريف :
يرى أن إضافة كلمة اصول إلى الفقه تعطي أن لكل مسألة استقلالها الذاتي في القيام بوظيفتها ، ولا ارتباط لها بالباقي ، ولذا لا تكون مسائل اصول الفقه علما واحدا، وإنما هي مجموعة مسائل لها مدخلية ما في استنباط الحكم الشرعي أو الوظيفة العقلية، شرعية أو عقلية.
ومدخليتها في الاستنباط قد تكون مباشرة كالكبريات المنتجة لها ، وقد تكون غير مباشرة كمباحث الألفاظ التي تقع صغريات ـ غالبا ـ للقياس الشرعي.
وبناء عليه إذا لم تكن علما قائما بذاته استغنينا عن التماس بحث موضوع العلم وما يتعلق به من بحث الأعراض.
وكذلك لا خصوصية لما ذكر من مباحث الألفاظ دون بقية البحوث اللغوية أو النحوية ، وكل ما هنالك أن هذه البحوث لم تقع بحثا في مضانها فحررت هذه في الاصول [2].
٢ ـ تحقيق مصطلح « الحكومة » و « الورود » :
حيث إن هاتين الكلمتين مصطلح متأخر جرى على ألسنة بعض أعلام النجف منذ ما يزيد على القرن، وتداول على ألسنة جميع الأعلام بعد ذلك، وبحثوا كل ما يميزهما عن التخصيص والتخصص، وهما المصطلحان اللذان شاع استعمالهما على ألسنة الاصوليين قديما وحديثا.
والمعروف أن الشيخ الأنصاري ـ رائد المدرسة الاصولية في عصره المتوفى ١٢٨١ ه ـ هو أول من وضع هذا الاصطلاح وتبنى مفاهيمه، إلا أن استاذنا الشيخ حسين الحلي تتبع هذا المصطلح فوجده في كتاب «جواهر الكلام» في أكثر من موضع ، وصاحب الجواهر ( الشيخ محمد حسن ) أقدم طبقة منه ، وإن كانت بينهما معاصرة [3].
٣ ـ الوضع :
يقول أستاذنا السيد محمد تقي الحكيم ـ تغمده الله برحمته ـ :
«قال أستاذنا السيد أبو القاسم الخوئي قدسسره بعد أن ناقش مبدأ التوقيفية في اللغات ودعوى أن الواضع هو الله عزّ وجل: ثم إن الوضع وليد الحاجة بين طبقات البشر لغرض التفاهم وسير حركة الحياة، وهو يختلف باختلاف الامم والأزمان ومقدار الحاجة إليه».
وأضاف سيدنا الاستاذ الحكيم:«ومن رأي أستاذنا الشيخ حسين الحلي قدسسره أن الوضع لدى البدائيين يختلف عنه لدى الامم المتحضرة من حيث توفر عنصر الإرادة فيه وعدمه ، فهو لدى البشر في بدأ تكوينهم لم يكن سوى تعبير لا شعوري عن حاجة من الحاجات يصدر عنه، كما يصدر أي صوت من أي حيوان ، وكما يصدر البكاء منه عند ما يحس بما يدعوه إلى الألم والبكاء.
فالبكاء في حقيقته تعبير عن الألم كما أن الألفاظ تعابير عن معانيها، ومثل هذا التعبير في حقيقته تعبير عن الألم، كما أن الألفاظ تعبير عن معانيها، ومثل هذا التعبير لا يسبق بتصور. ثم يقول: أما بعد تبلور اللغة وتطورها فهذا الكلام ربما يتأتى فيه، لأن الواضعين سواء في الأعلام الشخصية أم غيرها يسبقون الاستعمال باختيار اللفظة وتصورها بعد تصور المعنى الموضوع » [4].
وينتهي استاذنا التقي الحكيم قائلا : ومن هنا يرى أن تقسيمات الوضع القادمة لا تتأتى من البدائيين ، وإن صح ورودها بعد مرور البشر بمراحل حضارية [5].
الهوامش
[١] منذر الحكيم ـ تطوّر الدرس الاصولي في النجف الأشرف ( بحث ) منشور ضمن موسوعة النجف الأشرف ـ إصدار جعفر الدجيلي ٧ / ١٩٣ ـ ١٩٤ / طبع بيروت دار الأضواء ١٩٩٧.
[2] السيد محمد تقي الحكيم ـ انطباعاتي عن محاضرات الشيخ حسين الحلي في الاصول : ١ ( مخطوط ).
[3] محمد تقي الحكيم ـ الاصول العامة : ٨٧ ، هامش ١ من الصفحة نفسها طبع قم / مؤسسة آل البيت للطباعة والنشر ١٩٧٩ ( الطبعة الثانية ).
[4] محمد تقي الحكيم ـ من تجارب الاصوليين : ٢٦ ـ ٢٧ / طبع بيروت المؤسسة الدولية ( الطبعة الثانية ) ٢٠٠٢ عن السيد علاء بحر العلوم ـ مصابيح الاصول ١ / ٣٧ وعن كتابه : انطباعاتي عن محاضرات الاستاذ الشيخ حسين الحلي ( مخطوط ).
[5] المصدر المتقدم : ٢٧.
المصدر: مقدمة كتاب أصول الفقه للأصولي الشهير آية الله الشيخ حسين الحلي “ره” ، – دراسة عن حياة آية الله العظمى الشيخ حسين الحلي قدسسره – أعدّها : العلاّمة الدكتور السيد محمد بحر العلوم.