الاجتهاد: سُميّت هذه القاعدة بقاعدة «لو كان لبان»، وقد يُعبّر عنها ب “عدم الدليل دليل العدم”(3)، والفعل «كان» في هذا التعبير يُراد به «كان» التامة؛ بمعنی: ثبت.
استدلّ غير واحد من الفقهاء (1) في جملة من المسائل التي يعمّ بها الابتلاء بقاعدة حاصلها: ( إنّ عدم اشتهار شيء وعدم ظهوره دليل على عدم ذلك الشيء فيما إذا كان بحيث لو ثبت لبان وظهر).
وذلك: مثل وجوب الاقامة، فيُقال: إن الإقامة للصلاة من الأمور التي يعمّ بها الابتلاء بل يبتلي بها كلّ مكلّف في كل يوم خمس مرات على الأقلّ، فلو كانت واجبة لاشتهر بذلك وبان وشاع، بل أصبح من الواضحات التي يعرفها كلّ أحد، فكيف لم يذهب الى وجوبه عدا نفر يسير من الأصحاب ؟!(2)
وسُميّت هذه القاعدة بقاعدة «لو كان لبان»، وقد يُعبّر عنها ب “عدم الدليل دليل العدم”(3)، والفعل «كان» في هذا التعبير يُراد به «كان» التامة؛ بمعنی: ثبت.
وتفصيل الكلام فيها يستدعي التكلم في أمور:
الأمر الأول: توضيح القاعدة
إن القاعدة المذكورة مشتملة على قياس استثنائي يُدّعى فيه الملازمة بين ثبوت الشيء وبين بينونته وظهوره، ويُستدلّ ببطلان التالي على بطلان المقدم، كما عرفت في مثال الاقامة؛ حيث ادّعي الملازمة بین ثبوت وجوبها وبين ظهور ذلك واشتهاره، ويُستدلّ بعدم ظهوره وعدم اشتهاره على عدم وجوبها.
ومنشأ الملازمة في المثال: أن الإقامة من الأمور التي يعمّ بها الابتلاء، فيُدّعى في مثل ذلك أنّ حكم المسألة مما لا يخفى بل يظهر ويشتهر، فعدم الظهور والاشتهار دليل على انتفاء الحكم.
الأمر الثاني: موارد جریان القاعدة
الأول: إن القاعدة المذكورة قد تجري بلحاظ الحكم الشرعي، كما عرفت مثاله في مستهلّ البحث(4)
الثاني: وقد تجري بلحاظ موضوع الحكم الشرعي، فيُقال – مثلا – : إنّ الموضع الكذائي لو كان میقاتاً لبان وظهر أو إنّه لو كان جزء من المشاعر في الحجّ لبان وظهر؛ وحيث لم يبن ذلك فليس ميقاتاً أو ليس من المشاعر، وكذا إذا استهلّ جماعة كثير فلم يروا الهلال لحُكم بعدم وجوده؛ إذ لو كان لبان وظهر (5)
الثالث: تجري بلحاظ دليل الحكم الشرعي، فيُقال في حجية السيرة العقلائية مثلاً: إن الشارع لو ردع عنها لبان وظهر، فعدم ذلك كاشف عن عدم الردع، كما بُيّن ذلك في مبحث حجية السيرة، فراجع.
ثمّ إن الحكم الذي يُراد نفيه أو إثباته بالقاعدة قد يكون حكماً وضعياً، نحو: نجاسة الدم المتخلف في الذبيحة، فيُقال بأنه لو كان نجساً لبان وذاع، وحيث لم يكن كذلك فليس نجساً (6).
وقد يكون حکماً تکليفياً إلزامياً، مثل: وجوب التغسيل والتكفين، أو غير إلزامي، نحو: استحباب تجدید غسل الجنابة حيث يُقال إنه لو استُحبّ ذلك لبان وشاع ولم يخف ذلك على الأصحاب، مع أنه لم يرد استحبابه في شيء من الروايات، ولم يتعرّض له الأصحاب في كلماتهم (7).
والوجه في جريان القاعدة في الحكم الوضعي والتكليفي غير الإلزامي: أنّ الحكم الوضعي أيضاً مورد للاهتمام ولو باعتبار ما يترتّب عليه من الآثار التكليفية، وكذا الحكم غير الإلزامي فإنه مورد لاهتمام المتدينين وإن لم يكن على حدّ الاهتمام بالحكم الإلزامي، فتجري فيهما نكتة القاعدة، وهي الملازمة بین ثبوت الحكم أو نفيه وبين الاشتهار والشيوع والظهور.
الأمر الثالث: المراد بالاشتهار والظهور
أن المقصود بالتالي في القاعدة وعندما نقول لو كان لبان وظهر واشتهر هو: البينونة والاشتهار في الآيات والأخبار أو في فتاوى الفقهاء وارتكاز المتشرعة وعملهم على سبيل منع الخلوّ.
الأمر الرابع: حجية القاعدة
ثم إنّ الملازمة المدّعاة في هذا القياس إمّا أن تكون قطعية، وإما أن تكون ظنية اطمئنانية، أو ظنية غير اطمئنانية؛ بمعنى أنّ الغالب بحسب العادة أنه لو كان لبان وظهر وإن لم تكن هناك ملازمة قطعية أو اطمنانية.
وكذا في ناحية نفي التالي وهو البينونة والظهور، فقد يقطع بعدم البينونة والظهور، وقد يحصل الظنّ الاطمئناني أو غير الاطمئناني بالعدم.
وبملاحظة كلا الأمرين تختلف نتيجة القياس، وهي استنتاج نفي المقدّم، فإن حصل القطع بانتفائه فلا إشكال في حجية القطع، وكذا إن حصل الظنّ الاطمئناني وقلنا بحجية الاطمئنان.
وبالجملة الاستدلال بالقاعدة منوط بكون النتيجة نتيجة قطعية أو اطمئنانية على الأقل.
نعم، إذا كان نفي التالي – وهو البينونة والاشتهار – ثابتاً بالظن المعتبر كما إذا أخبر بعدم الاشتهار ثقة متتبع إخباراً حسيّاً أمكن الاعتماد عليه إذا كانت الملازمة بين التالي وبين المقدّم ملازمة قطعية أو اطمئنانية عند المخبر؛ إذ يثبت بذلك الإخبار لازمه، وهو انتفاء المقدّم، نظیر: ما إذا أخبر الثقة بالإجماع الكاشف عن رأي المعصوم “عليه السلام”، على ما بُيّن في مبحث الإجماع المنقول.
المناقشة في القاعدة
أنّ المناقشة في القاعدة تارة تكون بالنسبة إلى أصلها، وأخرى بالنسبة إلى عمومیتها:
أولا: المناقشة في أصل القاعدة
نُوقش في أصل القاعدة تارة بالنقض، وأخرى بالحلّ:
أما النقاش نقضاً فبموارد كان المشهور عند القدماء في المسألة التي يعمّ بها الابتلاء حكماً غير الحكم الذي اشتهر عند المتأخرين، كما في مسألة انفعال ماء البئر؛ حيث نسب الى مشهور القدماء انفعاله بملاقاة النجس والى المتأخّرين عدم انفعاله، بل ادُّعي التسالم على ذلك بينهم (8).
فإن هذه المسألة كانت مورد الابتلاء في الأزمنة السابقة كثيراً فكيف لم يتضح حكمها عند المتقدمين حتى تنبه إليه العلامة الحلّي “رحمه الله”، وصار واضحاً عند المتأخرين.
وأما حلاً فبأنّ دأب الأئمة “عليهم السلام” وطريقتهم في البيان لم يكن على وجه اتّضح الحكم في كل مسألة للطائفة؛ فإن الظروف التي كانوا يعيشون فيها لم تساعد على ذلك غالباً؛ لأجل التقية وتدريجية بيان الأحكام وغير ذلك من العوامل،
وفي كثير من الموارد صدر منهم “عليهم السلام ” بیانات مختلفة متعارضة لإيقاع الخلاف بين الشيعة لمصالح أهمّ اقتضت ذلك، ولم تكن طريقتهم في بيان الشريعة مثل ما نشاهده من كثير من الفقهاء من بیان مجموع فتاويهم في رسالة عملية حتى يُقال: إنه لو كان هذا ثابتاً لبان واشتهر، ويُستنتج من عدم اشتهاره عدمه.
ولعله لأجل ذلك ذكر الشيخ الأعظم الأنصاري “رحمه الله”: أن عدم وجدان الدليل فيما يعم به الابتلاء من المسائل لا يُفيد إلا الظنّ بعدم الحكم مع ظنّ عدم المانع من نشره في أول الأمر من الشارع أو خلفائه “عليهم السلام” أو من وصل إليه، وهذا الظن لا دليل على اعتباره (9)
وبالجملة لا يحصل من عدم اشتهار الحكم القطع بعدم ذلك الحكم بل ولا الاطمئنان بعدمه والظن بالعدم لو حصل لا دليل على اعتباره.
الجواب عن المناقشة
هذه المناقشة إنما ترد على القاعدة في الجملة وبالنسبة الى الموارد التي كان البناء فيها إخفاء الواقع من ناحية الأئمة “عليهم السلام” أو كانت هناك مناشيء عقلائية أخر للاختفاء، بحيث كان احتمال ذلك أمراً عقلائياً كما إذا احتملنا أن يكون إفتاء جماعة من الفقهاء متأثراً برأي فقيه كبير مثل شيخ الطائفة “رحمه الله” لقوة سيطرته العلمية على تلامذته واتباعهم؛ بحيث كانت مخالفته للحكم الواقعي الواصل الى مَن تقدّم عليه موجبة لاتّباع من تأخر عنه، وصيرورة الحكم المخالف مشتهراً وواضحاً عند الأصحاب المتأخرين عنه زماناً.
او كانت المسألة اجتهادية قد وردت فيها روایات اختلف الاصحاب في فهم المراد منها او كانت متعارضة فعالجها كل وفق مسلکه.
فهذه الأمور مانعة عن وضوح الحكم على الرغم من كثرة الابتلاء به واشتهاره ولعل مسألة حكم ماء البثر من هذا القبيل.
ففي هذه الموارد لا تجري القاعدة المذكورة؛ لعدم الملازمة فيها بين الثبوت والاشتهار، وأما في غير هذه الموارد فالملازمة تامة، ويصح الاستدلال بالقاعدة.
ثانيا: المناقشة في عمومية القاعدة
المناقشة الأولى: ما تقدّم في الجواب عن المناقشة في أصل القاعدة من أنها لا تجري فيما إذا كان هناك مناشىء عقلائية لاختفاء الواقع.
المناقشة الثانية: ما يُقال من أنها لا تجري لنفي الحكم الترخيصي، كما في مسألة تغسيل وتكفين مَن أُطلق عليه عنوان الشهيد في الأخبار کالمقتول دون ماله وأهله، فلا يصح أن يُقال: إن تغسيله وتكفينه لو لم يكونا واجبين لبانا وظهرا واشتهرا؛ إذ يُحتمل أن يكون الحكم ترخيصياً في الواقع ومع ذلك لم يعمل به المتشرعة، فتعاملوا مع هؤلاء معاملة سائر الأموات؛ لعدم لزوم الأخذ بالرخصة، ولم يُنبّه الفقهاء على ذلك؛ لأن عملهم كان موافقاً للاحتياط، فصار الحكم الترخيصي مهجوراً بمرور الأيام والأعوام، وصار الوجوب واضحاً في الأعصار المتأخرة تدريجياً.
ويمكن إرجاع هذه المناقشة الى المناقشة الأولى؛ لأنّ ما ذُكر من العوامل المؤثرة في اختفاء الواقع، فيُعدّ هذا المورد – أي: ما إذا كان الحكم الذي أردنا نفيه بالقاعدة ترخيصياً – من الموارد التي قلنا بأن القاعدة لا تجري فيها.
الأمر الخامس: شروط جريان القاعدة
قد تحصل مما مرّ أنّ لجريان القاعدة شروطاً وهي:
الأول: عموم الابتلاء بالنسبة إلى ما تجري القاعدة فيه كالحكم او ثبوت منشأ آخر للملازمة بين المقدم والتالي من المناشيء المتقدمة في بيان القاعدة.
الثاني: عدم الظهور والانتشار بالمعنى الذي عرفت.
الثالث: عدم وجود منشأ عقلائي لاختفاء الحكم. فاذا تمّت هذه الشروط صح التمسك بالقاعدة واحراز هذه الشروط في المسألة موكول الى نظر الفقيه ولا يكفي لاحراز الشرط الثالث التمسك باصالة عدم وجود ذلك المنشأ المحتمل، لأنه لا يثبت لازمه العقلي او العادي من نفي ذلك الحكم الذي اردنا نفيه بالقاعدة.
حصيلة البحث في الباب الثالث
والمتحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ هناك قاعدة استدلّ بها غير واحد من الفقهاء حاصلها: أن الأمر الكذائي لو كان كذا لبان واشتهر وحيث لم يشتهر فيُعلم أو يُطمأنّ أو تقوم الحجة بأنّ ذلك لم يكن ثابتاً، أو أن الأمر الكذائي لو لم يكن كذلك لبان وظهر وحيث لم يبن ولم يظهر فيُعلم أو يطمأنّ أو تقوم الحجة بأنّه كانَ ثابتاً، فاستُدلّ بها لنفي أمرٍ تارة ولإثباته أخرى، من دون فرق بین أن يكون ذلك الأمر حكماً وضعياً أو تكليفياً إلزامياً أو غير إلزامي أو موضوعاً أو أمراً آخر راجعاً إلى دليل شرعي کالردع عن السيرة العقلانية،
ويُشترط في جريانها عموم الابتلاء بحيث يؤدي ذلك إلى الاشتهار. وعدم الظهور والاشتهار وعدم وجود منشأ عقلائي لاختفاء الحكم.
والاشتهار الذي يقدح في جریان القاعدة هو أن ينعكس ذلك الأمر في الأدلة أو سيرة المتشرعة وارتكازاتهم أو في فتاوى الأصحاب ولو طائفة منهم على سبيل منع الخلوّ، فلو صار كذلك لم تجرِ فيه القاعدة.
نعم، لا يقدح إفتاء عدد قليل كواحد واثنين، كما لا يقدح إفتاء المتأخرين إذا خالفوا المتقدمين، وهذه القاعدة تجري حتى فيما إذا وردت أمارة معتبرة على خلافها، فتُؤوّل أو تُطرح تلك الأمارة.
الهوامش
1- راجع: أنوار الفقاهة، کتاب الطهارة: 167، ۲۰۱، وكتاب النكاح: 153، وكتاب الخمس: 604 – 605، وموسوعة الإمام الخوئي ۳: ۱۰، و 5: ۱۱، و 9: ۲۰، و ۱۰: 254، و موارد أخرى، ومهذب الأحكام ۱۳: ۷۱، والمرتقي الى الفقه الأرقی، کتاب الحج 1: 16، وغير ذلك.
2- موسوعة الإمام الخوئي ۱۳: 242.
3- راجع: المستند في شرح العروة الوثقی کتاب الصوم ۱: ۳۹۰.
4- ومن هذا القبيل: ما ذكره المحدث الاسترابادي “رحمه الله” في وجه التفصيل في التمسك بعدم الدليل على حكم لإثبات عدمه بین ما يعمّ به الابتلاء وعدمه من المسائل بقوله: «إن المحدّث الماهر إذا تتبع الأحاديث المروية عنهم “عليهم السلام” في مسألة لو كان فيها حكم مخالف للأصل لاشتهر لعموم البلوى بها ولم يظفر بحديث دلّ على ذلك الحكم ينبغي أن يحكم قطعاً عادياً بعدمه؛ لأن جمّاً غفيراً من أفاضل علمائنا – أربعة آلاف منهم تلامذة الصادق عليه السلام” ، كما مر نقله عن كتاب المعتبر – کانوا ملازمين لأئمتنا “عليهم السلام” في مدة تزيد على ثلاثمئة سنة، وكان همهم وهم الأئمة “عليهم السلام” إظهار الدين عندهم وتأليفهم كل ما يسمعون منهم في الأصول، لئلا يحتاج الشيعة إلى سلوك طريق العامة، ولتعمل بما في تلك الأصول في زمان الغيبة الكبرى، فإن رسول الله “صلى الله عليه وآله وسلم” والأئمة “عليهم السلام” لم يضيّعوا من في أصلاب الرجال من شیعتهم، كما تقدم في الروايات المتقدمة، ففي مثل تلك الصورة يجوز التمسك بأن نفي ظهور دليل على حكم مخالف للأصل دليل على عدم ذلك الحكم في الواقع. مثاله: نجاسة أرض الحمام، ونجاسة الغسالة، ووجوب قصد سورة معينة عند قراءة البسملة، ووجوب نيّة الخروج من الصلاة بالتسليم. وقد نُقل عن أمير المؤمنين “عليه السلام” ما يدل على ما ذكرناه؛ حيث قال “عليه السلام” لمحمد بن الحنفية ما مضمونه: لو سألت عن دليل على وحدة الإله فقل لو كان إله آخر لظهر منه أثر …» [الفوائد المدنية: ۲۸۳]
5- راجع: المستند في شرح العروة كتاب الصوم ۱: ۳۹۰
6- موسوعة الإمام الخوئي 3: ۱۰.
7- المصدر السابق 5 :11.
8- راجع: المصدر السابق ۲: 234.
9- راجع: فرائد الاصول ۲: ۹۷
المصدر: كتاب الفائق في الأصول الطبعة الثانية ، الصفحة ” 149.