الاجتهاد: للمؤسسة الدينية دورها الخطير وأثرها الكبير في المجتمع والثقافة، ففي الوقت الذي يمكن لها أن تكون محورا للحركة والتطور والرقي والتحضر والازدهار والاتحاد، فإنها أيضا قد تكون واحدة من أهم عوامل الضعف والتخلف والتمزق والضياع. وذلك من خلال برامجها في التعامل مع العلوم التي تتبناها ومع المجتمع والواقع. / بقلم صائب عبد الحميد
والإمام الخميني “قدس سره” هو ابن هذه المؤسسة الدينية الفطنُ النَّبيه، المتمرِّدُ على جميع أنواع الأمراض الفكرية والاجتماعية، الباحثُ عن جذورها وعللها، وهو قد أبدى جدارة فائقة وشجاعة فريدة في نقد هذه المؤسسة، وفي تحديد المحاور الأساسية لإصلاحها من خلال وعيه الدقيق لدورها في المجتمع:
يقول “قدس سره”:
“إن نشر الإسلام وبيان مفاهيمه وتوضيح معالمه تحتاج إلى إصلاح الحوزات العلمية، وذلك: بتکامل برامج الدراسة واسلوب التبليغ والتعليم، وتبديل التراخي والإهمال وعدم الثقة بالنفس بالجد والسعي والأمل والثقة بالنفس وإزالة الآثار الحاصلة في روحية البعض بسبب دعايات الأجانب وتلقيناتهم..
وإصلاح أفكار جماعة المتظاهرين بالقداسة الذين يعيقون عملية الإصلاح في الحوزات والمجتمع. ونزع عمائم الذين يبيعون الدّين بالدنيا، وطردهم من الحوزات العلمية(1).
فهو هنا يضع أربعة محاور لإصلاح المؤسسة الدينية:
المحور الأول : المناهج وآفاق التفكير
فما زالت الحوزات الدينية تتبنّى مناهج تقليدية في التعليم، وتدور حول مدیات محدودة، ومباحث قليلة الجدوى في عالمنا المعاصر، فيما تغيب أو تكاد عن الاهتمامات الجادة التي ينبغي أن يكون لها فيها الدور الرئيس.
فيوجه الإمام الخميني “قدس سره” نداءه إلى جيل الشباب في الحوزة قائلا:
“انتم جيل الشباب في الحوزات العلمية يجب أن تكونوا أحياء، وان تقوموا بحفظ استمرارية أمر الله حيّاً.” وانتم جيل الشباب تحركوا باتجاه النضج والتكامل الفكريين، ودعوا التفكير الهامشي الذي التصق بكثير من العلوم، لأن هذه النظرة الضيقة تعيق الكثير منا عن القيام بمسوولياته المهمة»(2).
ويأتي بالأمثلة على محدودية التفكير السائد وضيق الأفق، فيقول:
بما أن محور تفكير البعض لا يتجاوز محيط المسجد، إذ أنهم لا يمتلكون سعة الأفق، فتراهم – عند الحديث عن أكل السُّحت مثلا – لا يخطر ببالهم سوى البقال القريب من المسجد الذي يطفِّف في البيع مثلا، والعياذ بالله. فلا يلتفتون إلى التطبيقات الواسعة والكبيرة لأكل السُّحت والنهب التي تمثل ببعض الرأسمالين الكبار، او من يختلسون بیت المال، وينهبون نفطنا، ويحوِّلون بلادنا إلى سوق لبيع المنتوجات الأجنبية غير الضرورية الكماليّة، لكونهم يمتلكون وكالات الشركات الأجنبية، ويملأون جيوبهم وجيوب المتمولين الأجانب من أموال الشعب..
هذا أيضا أكل السحت وإنما على مستوى واسع ودولي، إنه منکر مخيف، وأخطر المنكرات.. ادرسوا أوضاع المجتمع، واعمال الدولة والجهاز الحاكم بشكل دقيق لتروا اي اكل للسحت مرعب يجري عندنا.. (3).
إنها ليست معالجة للمناهج وحدها، بل لآفاق الفقه أيضا، وحوار جادٍّ للانتقال بالفقه من دائرته الفردية، الضيقة إلى دائرة المجتمع الواسعة، ليعالج مشاكل الحياة والمجتمع ويقدم حلوله المطلوبة لمشكلاتها الحقيقية المعاصرة.
فهذا الانحراف في الدائرة الضيقة عَزَلَ الفقه عن الحياة وأضفى عليه صبغة الجمود والعزلة، حتى أصبح خصوم الإسلام والجاهلين به ” يبثون أن الإسلام ليس فيه شيء، وأنه مجموعة من أحكام الحيض والنفاس، وأن على الملالي – رجال الدين – أن يدرسوا الحيض والنفاس! “
يقول الإمام ضمن تشخيصه لهذه الحالة:
“هذا صحيح ايضاً، إذ إن الملالي الذين هم ليسوا في وارد التفكير في بيان نظريات الإسلام وأنظمته ونظراته للكون، ويصرفون أغلب اوقاتهم في ما يقوله هولاء، وقد نسوا سائر كتب الفقه وأبوابه، يستحقون التعرّض لإشكاليات وهجمات كهذه، فهم ايضاً مقصرون “(4).
المحور الثاني: التظاهر بالقداسة
ظاهرة سلبية انطوائية، هي من صنف الحالات الصوفية المتطرِّفة في السلبية والانطوائية، تجرُّ المجتمع إلى الوراء، وتعدّ أي محاولة لاقتحام الحياة وفق مبادئ الإسلام عبثاً وخراباً ومضيعة للوقت الذي ينبغي أن يُصرف في مواضع العزلة والانقطاع.
هذه الظاهرة من أكثر الظواهر التي تحمس ضدّها الإمام وكشف عن سطحيتها، بواقعها المزيف. وجابهها في وقت مبكر بكل قوة وشجاعة، في الوقت الذي يشكل فيه هؤلاء تياراً خطيراً قادراً على إسقاط خصومه بشتى الأساليب.
يقول الإمام الخميني”قدس سره”:
هناك نمط من الأفكار البلهاء موجود في أذهان البعض، حيث يرون مساعدة المستعمرين والدول الجائرة للمحافظة على وضع البلاد الإسلامية بهذه الصورة، ومنع النهضة الإسلامية. هذه أفكار جماعة مشهورين باسم المقدسين، بينما هم في الحقيقية متصنِّعو القداسة، لا مقدسون. ويجب علينا أن نصلح أفكار هؤلاء، ونوضح موقفنا منهم، لأنهم يعيقون نهضتنا وعملنا الإصلاحي، وقد كبّلوا أيدينا».
ثم ينقل لنا موقفه المبكر ورؤيته الواضحة إزاء هذا النمط من رجال الدين فيقول:
اجتمع في منزلي يوماً آية الله البروجردي، وآية الله حجت وآية الله صدر الدين الصدر، وآية الله الخونساري لأجل البحث في امر سیاسي، فقلت لهم: قبل كل شيء احسموا وضع هولاء المتقدسین، فإن وجود هولاء بمثابة تقييد لكم من الداخل، مع هجوم العدو من الخارج. إن هولاء يُدعون مقدّسين، ولكنهم ليسوا مقدسين واقعاً، وليسوا مدركين للمصالح والمفاسد، وقد كبّلوا أيديكم.. فعليكم إيجاد حل لهولاء قبل كل شيء(5)
المحور الثالث: التأثير الاستعماري
يقول الإمام الخميني”قدس سره”: لقد عمل الاستعمار وعملاؤه في الأجهزة التربوية والإعلامية والسياسية للحكومات العميلة لمدة قرون على بث السموم وإفساد أفكار الناس وأخلاقهم. والأشخاص الذين يلتحقون بالحوزة إنما هم من بين أفراد الشعب، ويحملون معهم التأثيرات الفكرية والأخلاقية السيئة ولا شك، إذ الحوزات العلمية جزء من الشعب والمجتمع.(6).
وهذا تفسير منطقيّ يفهمه من هو قريب من المجتمع، واع بالحياة ومعادلاتها فهو في منجاة من تقديس غير مبرر للمؤسسة الدينية بحذافيرها ولكل من انتسب إليها، وكان من ولج أبوابها قد اجتثت جذوره من ماضيه وحاضره واجتثت صلاته بكل ما حوله ليعيش وسطاً مقدساً يغذیه بالأخلاق والقيم مثلما يغذيه بالعلم والمعرفة.. فرجال الإصلاح وحملة الوعي لا تعنيهم المظاهر الخارجية والمعاني الاعتبارية بقدر ما يعنيهم الواقع بسلبه وإيجابه.
إن هذه الآثار ملحوظة بشكل واضح، إذ نجد أن البعض منا في الحوزات يتهامسون بأننا عاجزون عن القيام بمثل هذه الأمور (العمل السياسي من أجل إقامة حكومة إسلامية) ما لنا ولهذه الأمور؟
نحن علينا أن نَعظَ ونجيب على الاستفتاءات فقط… هذه الأفكار هي من آثار تلقينات الأجانب، وهي من نتائج وصايات السوء التي كان يبثّها المستعمرون خلال هذه القرون المتأخرة، ومن ثَمَّ تغلغلت في أعماق القلوب في النجف وقم ومشهد وسائر الحوزات، وسبّبت الضعف والوهن، وهي لا تسمح لحامليها بالرشد والنمو الفكري.(7)
“لقد اشاعت المؤسسات التبليغية للاستعمار بأن الدّين منفصل عن السياسة، وأن علماء الدّين لا ينبغي لهم أن يتدخلوا في أي أمر اجتماعي.. وقد صدّقهم البعض مع الأسف، ووقعوا تحت تأثيرهم، وكانت النتيجة ما نراه الآن.. إنها أمنية الاستعمار في الماضي والحاضر والمستقبل»(8)
المحور الرابع : علماء البلاط
طبقة انتهازية وضيعة مُنِيَ بها الإسلام والمسلمون في كل زمن منذ أيام معاوية وحتى اليوم، همُّهم التقرب إلى السلطان وجلب مرضاته، فيحرفون الدين بالتأويلات الباطلة، وفي ما يسمّونه أحياناَ بالحِيل الشرعية، وبالألاعيب المختلفة، حمايةً للسلطان وتسويغاَ لسياساته وأعماله، مكثرين من الدعاء له والدفاع عنه بشتی الأساليب.
طبقة منافقة مزيَّفة لا بدّ من فضحها وطردها من المجتمع، أو تتوب وتعود إليه بوصفها جزءاً منه لها ما له وعليها ما عليه.. وهذا ما حدّده الإمام منذ البداية، حين جعل أحد أهم الواجبات الضرورية لإحياء المجتمع ونشر التعليم الإسلامي الصَّحيح، أحد أهم هذه الواجبات هو انزع عمائم معممي البلاط… وطردهم من الحوزات (9)
وهكذا تعد المحاور لتستوعب هذه القضية من جميع جوانبها، إنها الركن المهم الذي يجب أن يلعب دوره المباشر في عملية التغيير والإصلاح، ومن هنا كثرت النداءات البليغة لهذه الطبقة من قبل الإمام وفي مختلف المناسبات:
“أبعدوا هذا الجمودَ عنكم.. أكملوا وانضجوا برامجكم وأساليبكم التوجيهية.. وابذلوا الجهود في نشر الإسلام وتعريفه.. وصمموا على إقامة الحكومة الإسلامية.. وبادروا للتقدّم في هذا الطريق…
– ضعوا أيديكم بأيدي الشعب المناضل والباحث عن الحرية.. ثقوا بأنفسكم، فأنتم تمتلكون القدرة والجرأة والتدبير للنضال في سبيل تحرير الأمة واستقلالها…”
– فالفقيه هو الذي لا يخضع لنفوذ الأجانب، ولا يركع للآخرين.. ويدافع إلى آخر نفس عن حقوق الشعب، وعن الحرية والاستقلال، وأراضي الوطن الإسلامي، والفقيه هو الذي لا ينحرف يميناً وشمالاً .
الهوامش
1- أنظر: الحكومة الإسلامية، ص 198.
2- المصدر نفسه، ص 186.
3- أنظر : الحكومة الإسلامية، ص 166 و167
4- أنظر : الحكومة الإسلامية، ص 23.
5- أنظر : الحكومة الإسلامية، ص 207، 209.
6- المصدر نفسه، ص 198.
7- أنظر : الحكومة الإسلامية، ص 198 – 199.
8- المصدر نفسه، ص 206
المصدر: مقالة بعنوان “مشروع الاحياء الديني” (الصفحة 23) في كتاب “موسوعة الفكر السياسي عند الإمام الخميني “قدس سره”ـ قراءات في السيرة والمسيرة”
قرءاة الكتاب عبر موقع archive.org