التجزّي

استحالة التجزّي ومناقشة آراء الآخرين .. المحقق الأصولي الشيخ حسين الحلي (ره)

خاص الاجتهاد: هناك خلاف بين الأعلام في إمكان تجزّي الاجتهاد، حيث ذهب بعضهم الى استحالة التجزّي وذهب صاحب الكفاية رحمه‌الله الى وجوب التجزّي عقلا، وأما المعروف بين الاصوليين فهو الإمكان.

أما القائلون بالاستحالة فاستدلّوا على ذلك بأنّ الاجتهاد ملكة يقتدر بها المجتهد على استنباط الاحكام أمر بسيط غير قابل للتجزئة ، فإمّا ان يكون المكلّف متوفرا عليها فهو حينئذ مجتهد مطلق وإلاّ فليس هو بمجتهد ، ولا برزخ بين الحالتين. وكذا لو كان المراد من الاجتهاد هو الاقتدار الفعلي وانّه ليس من قبيل الملكة ، وانما هو استفراغ الوسع لغرض الوصول للنتيجة الشرعية فإنّه غير قابل للتجزؤ لبساطته.(*)

كلام صاحب الكفاية “قدس سره” في إمكان التجزّي ومناقشته

قد برهن (المحقق الخراساني أعلى الله مقامه) في الكفاية على إمكان التجزّي باختلاف الأبواب في سهولة المدرك وصعوبته، واختلاف الأشخاص في الاطّلاع والمهارة.

ولا يخفى أنّ هذا إنّما ہوجب التّفاوت في الملكة في ناحية الضّعف والقّوة، والذي يتولّد من ذلك هو التّقسيم إلى الأعلم وغير الأعلم، ولكن ربّما كان ذلك موجباً لتحقّق مَلَكة الاستنباط في بابٍ و عدمها في الباب الأخر، فيكون موجباً للتفاوت بحسب القلة والكثرة، وهو حامل الإطلاق والتّجزّئ.

ثم إنه أكمل الاستدلال على إمكان التجزّي بأنه لا محيص عنه لاستحالة الطّفرة(1) حيث إن الملكة إنها تحصل تدريجاً لا دقعة، وحصولها تدريجاً عينُ التّجزئ الذي هو عبارة عن التّدرّج في الملكات، وليس ذلك تبعّضاً في نفس الملكة كي يتوجّه عليه الإشكال – من طرف مانعي إمكان التّجزّئ – بأنها بسيطة لا يتطرّقها التّبعّض، بل هو من قبيل تعدد الملكات، فكل باب له ملكة خاصة به، فلا يكون التّدرّج إلا من قبيل تعدد الملكات، فهو على ما أفاده العلامة الأصفهانيّ في حاشيته من قبيل تعدّد البسيط، لا من قبيل تبعّضه.(2)

قلتُ: وعلى ذلك يكون المتحصّل هو أن التّجزّئ نوعان:

الأول: ما يكون ناشئاً عمّا تقدم من الاختلاف في المدرك والفهم، الموجب لتحقّق الملكة في الباب السّهل المأخذ، و عدم تحقّقها في الباب الصّعب المأخذ.

الثاني: ما يكون ناشئاً عن التّدرّج، فهو في أثناء استمراره يكون قد حصل على الملكة فيما مضى، ولم تحصل له الملكة فيما سيأتي، مع فرض إمكان حصولها له بالاستمرار على العمل بخلاف الأول، فإنه لا يمكنه الحصول إلاّ على ما قد حصل.

والخلاصة: إنّ تبعّض الملكة غير معقول، بخلاف تعدّد الملكات، كما تراه في ملكة علم النّحو مثلاً، وملكة علم الطّب، وملكة علم الحساب.

ولو قيل بالفرق بين ذلك وبين ما نحن فيه: بأن الطب غير الحساب فلا مانع من تعدد الملكة فيها، بخلاف ما نحن فيه فإن الأمر لا يخرج عن الاستنباط، وملكته واحدة لا تعدد فيها.

لقلنا: إنه لا مانع من تعدّد الملكات باعتبار تعدّد أنواع الاستتباطات، كما في ملكة العدالة، فإنها وإن كانت عبارة عن ملكة الإتيان بالواجبات والاجتناب عن المحرمات، إلا أن المكلف إذا انتبه من غفلته التي ألحقته بالحيوانات، بل جعلته أضلّ منها کا تضمّنه قوله تعالى: ( يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ (3) وقوله تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ) إلى قوله تعالى: (أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ(4) ” و أراد أن يتخلّى عن المحرمات، ويتحلّى بالواجبات، فعليه أن يفكر في كلّ واحد واحد من هذه الصفات، ويجاهد نفسه على ترك الغية – مثلاً – بأنواع المجاهدات، من ردعها وتعذيبها على ذلك بأن يحرمها من شهواتها إلى غير ذلك من أنواع المجاهدات، وبعد تلك الاجتهادات يكون تركها عاديّاً له، ثم يترقّى إلى أن يكون ملكة.

وهكذا الحال في جميع صفات التّخلية والتّحلية(5) الراجعة إلى الرّذائل والفضائل، فهو يستمر على تحصيل الملكات فيكون بعد الإكمال من تعدد الملكات، ولكنه مع ذلك يمكن التّفرقة بينه وبين ما نحن فيه، فإن الملكة فيه تحصل بعد الاجتهاد، وما نحن فيه – الذي هو ملكة الاستنباط – لا يكون الاستنباط والاجتهاد إلا ناتجاً عن تلك الملكة، لا أنها ناتجة عنه.

والحاصل: أنّ هذا المتدِّرج في الاستنباط عندما يفرغ عن باب ويريد التنقل إلى الاستنباط في الباب الذي بعده، إن كان له ملكة الباب الثاني قبل دخوله فيه فهذا واجد لملكة الكّل من أوّل الأمر، وإنْ لم يكن له ملكة ذلك الباب: كيف يمكنه الاستنباط فيه مع فرض عدم حصوله على ملكته؟!

مضافاً إلى أنّ لازمه أن يكون للمجتهد المطلق ملكات غير متناهية، أو كما أن الاستنباط في كل باب بغايره في الباب الآخر، فهو في كل فرع يغايره في القرع الآخر، والذي أخاله أنّ لنا مقامین: مقام الملكة، ومقام الاستنباط الفعليّ – أعني استخراج الفرع من أصله – الذي هو عبارة عن العلم بالحكم عن دليله، والذي هو قابل للتّدرّج هو المقام الثاني.

وأما المقام الأول – أعني مقام ملكة الاستنباط والقدرة عليه – فهو غير قابل للتدرج، وهو إنما يحصل بعد الفراغ عن إتقان الأصول بمباحثه اللّفظية وأدلّته العقلية فعند فراغه من ذلك يكون قد حصل على تلك الملكة، وحصلت عنده تلك القدرة، ولم يبقَ له إلا إعمالها في مواردها، و هو لا يكون إلّا تدريجيّاً، بل هو لا يتناهی.

كلام المحقق العراقي (قدس سره) في التجزّي ومناقشته

ومن ذلك يظهر لك التأمل فيها أفاده الأستاذ العراقي “قدس سره” في مقالته صفحة (۲۰۱) بقوله: (وأمّا لو قدر على اعمال جميع القواعد المحتاج إليها في مسألة خاصة فلا قصور في صدق اجتهاده في شخص تلك المسالة وإنْ قصر باعه عن إعمال قواعد مسألة أخرى غير مرتبطة بالمسألة المزبورة.

وتوّهم عدم التفكيك بين المسائل في حصول القدرة على إعمالها – ولو من جهة وجود جهة خفيّة في تطبيقها على المورد مع كون القاعدة منقّحة عنده فضلاً عن عدم تنقیحه بعض قواعدها – في غاية السقوط؛ لاختلاف درجات الفهم والنّظر على وجه لا يكاد يخفى على ذي مسكة إلخ(6)”.

فإنّ اختلاف درجات الفهم لا يوجب عدم التّمكّن من التطبيق، وإنّما يوجب ضعف التّطبيق الرّاجع إلى الأعلمية وعدم الأعلميّة، فالعمدة هو عدم إمكان التفكيك في معلوميّة تلك القواعد، وقد عرفت انه لا يمكن، لارتباط تلك القواعد بعضها ببعض، فهو لا يعرف قاعدة من القواعد إلا بعد معرفة باقي القواعد، ولا يحصل ذلك – أعني معرقة جميع القواعد – إلا بعد إكماله علم الأصول برمته، وحينئذٍ تحصل له الملكة المطلقة، ثمّ يستمر في تحصيل العلم بالأحكام من أدلتها التفصيلية(7)

كلام الميرزا النائيني بإمكان التجزّي

وأما ما عن شيخنا (قدس سره) في أنّ أقلّ مراتب التّجزّئ هو أن يعلم بحجية الظواهر، وأن نضيف إليها حجّية الخبر، فيمكنه حينئذٍ استنباط جملة من الأحكام في العبادات، فلا يخلو عن تأمّل.

فإن ظاهرة الالتزام بأنّ الملكة ذات مراتب، وهي حينئذٍ تختلف في الشّدّة والضعف، وأنّ ما عند المتجزئ هو أقلّ المراتب، وما عند المجتهد المطلق هو أعلاها(8).

كلام المصنف (قدس سره) في استحالة التجزّي

وقد عرفت أنّ هذا الاختلاف لا يتولّد منه الإطلاق والتّجزّئ، وإنما يتولّد منه التفاوت في الفضيلة، وهي راجعة إلى الأعلميّة.

هذا، مضافاً إلى أن مسائل الأصول مرتبطة، يكون الكثير منها بالنسبة إلى الآخر من قبيل الأصول الموضوعة المأخوذة على سبيل التّسليم، فإنّ حجية الظواهر موقوفة على حجية السيرة العقلائية، وحجبة ظهور الكتاب موقوفة على ذلك، ومن جملة أدلتها الأخبار التي أرجعت الرّاوي إلى ظهور الكتاب، مثل قوله عليه السلام : (هذا يعرف من كتاب الله (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (9)(10).

ومن الواضح أنّ حجّيّة السّيرة تحتاج إلى عدم الرّدع، وأحتمال الرّدع لا يُنفى إلا بأصالة العدم، فلا بُدّ له من معرفة أصالة العدم، وما الدليل عليها، الاستصحابُ أو غيره، وما الدليل على الاستصحاب.

فلابُدَّ من إكمالٍ بإكمال مباحث الاستصحاب، ولا تكمل إلا بتمام مباحث الأصول، وهكذا حجية خبر الواحد، فإنها لا تكمل إلا بإكمال مباحث الأصول حتى مباحث الأوامر والنواهي، بل حتى باب الضد والتراحم، ومن جملة ما يعتمد في حجية الخبر الموجود في المسألة هو أن لا يكون له معارض، ولا بد من أصالة عدم المعارض، وهل التعارض من قبيل التزاحم، أو أنه مبحث آخر؟

والحاصل”: أنّ مباحث الأصول مربوط بعضها ببعض، ولا يمكنه الفراغ من مسألة على سبيل الاجتهاد فيها إلا بالفراغ من الجميع، وإذا فرغ من الجميع حصلت له قوة الاستنباط في جميع أبواب الفقه لاسيّما بعد ما يتمرّن عليه من الأمثلة الفقهيّة في طيّ تحارير المسائل الأصولية، وحينئذٍ لا يكون عند فراغه من الأصول إلاّ مجتهداً مطلقاً.

نعم، لا يصدق عليه فعلاً أنّه عالم بجميع الأحكام الفقهية، فإن ذلك لا يكون إلّا تدريجاً، ويكون الاجتهاد بمعنی ملكة الاستنباط أعمّ مطلقاً من العلم بالأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية، فكل عالم بالأحكام الشرعية عن أدلتها يكون مجتهداً مطلقاً، وليس كل مجتهد مطلق عالماً بالأحكام الشرعيّة؛ لما عرفت من حصول ملكة الاستنباط في جميع الأبواب مع أنه لم يستنبط إلا القليل، بل ولو لم يستنبط شيئاً أصلًا.

أما مدار قوّة الاستنباط والمهارة فيه، فهو تابع لقوّة مهارته في الأصول، وربّما قویت تلك القوة، وقربت مهارة الشخص في الاستنباط بالاستمرار فيه، إلا أن هذه القوة وذلك الضعف لیست براجعة إلى التّجزّئ، بل هي راجعة إلى الأفضلية والأعلمية، وحيث قد تحقّق لك أن العلم بالأحكام عن أدلتها التفصيلية غير الاجتهاد، وإن كان الأول متوقّفاً على الثاني.

 

الهوامش

(*) المعجم الأصولي الشيخ محمد صنقور

(1) كفاية الأصول:467، کتاب الاجتهاد والتقليد، فصل تقسيم الاجتهاد الى مطلق وتجز .

(2) لاحظ: نهاية الدّراية في شرح الكفاية : 6 / 372 – 373.

(3) سورة محمد، الآية: 12.

(4) سورة الأعراف، الآية: 179.

(5) المقصود من التّخلية: هو تطهير النّفس من رذائل الأخلاقي، كالحسد والرّياء، والكبر ، والعجب، وحب الدنيا ، و غيرها من الرذائل التي يذكرها علماء الأخلاق.

والمقصود بالتّحلية: هو العمل بالطّاعات والمبرات والقربات، ممّا يترتّب عليه تحلّي القلب وتزكيته بالقضائل كالعفة والشجاعة والحكمة. لاحظ جامع السعادات: ۳/ ۱۵۸ (بتصرف).

(6) مقالات الأصول : 2 / 493.

(7) هذا المقطع وجدته في هامش المخطوط دون إشارة إلى محل وضعه، وقد وضعته هنا لاعتقادي بأن هذا هو مكاه المناسب.

(8) رسائل الاجتهاد والتقليد: ۱۰ وما بعدها.

(9) سورة الحج، الآية: ۷۸

(10) لاحظ : وسائل الشيعة: 1 / 464، کتاب الوضوء، ب ۳۹، ح 5.

 

المصدر: كتاب الاجتهاد والتقليد لآية الله الشيخ حسين الحلي رحمه الله الصفحة ( 82)

تحميل الكتاب

 

 

almojam

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky