الاجتهاد: تعامل الدولة العباسية مع الإمامين العسكريين “عليهما السلام”من الإستنفار الأمني والعسكري والإقامة الجبرية في بيتهما والسجن يدلّ على أنّ قدرة أهل البيت “عليهم السلام” وصلت إلى حدِّ أنّها مسيطران على الساحة الإسلامية بشكل قوي جداً، وأعظم مما تقدَّم في آبائهم “عليهم السلام”.
وهذا مؤشر وعلامة على إتساع قدرة وقوة أئمة أهل البيت “عليهم السلام”، أنّ أتباع أهل البيت “عليهم السلام” قد بلغوا من النفوذ والانتشار والقدرة إلى درجة تختلف عما سبق من عهد أئمة أهل البيت “عليهم السلام”.
ومن المعلوم أن ابن حنبل والبخاري ومسلم ويحيى بن أكثم كلهم كانوا في زمن الإمامين العسكريين “عليهما السلام”، ولكن الدولة العباسية لم يكن لديها أي تخوُّف من هؤلاء، إذن لماذا كل هذا التركيز والمراقبة على الإمامين العسكريين “عليهما السلام”؟
لماذا هذا التصعيد:
لقد صعَّدت الدولة العباسية هذا التصعيد مع الإمامين العسكريين “عليهما السلام” بحيث جعلتهما سجينين عسكريين في أكبر قاعدة عسكرية على وجه الأرض يحرسها العسكر بكل قوة وتدبير واحتياط،
ومن المعروف أن مدينة سامراء فيها وحدات سكنية وأسواق، ولكن حول هذهِ الوحدات السكنية سور عسکري، ومع كل هذا قامت هذهِ الدولة بسجن الإمامين العسكريين “عليهما السلام” لأكثر من مرَّة في سجن علي أوتامش(۱) وهو سجن داخلي في القلعة والقاعدة العسكرية لسامراء،
بل لما جعلتهما “عليهما السلام” تحت الإقامة الجبرية في بيتهما الذي هو داخل هذا السور العسكري جعلت عليهما مراقبين أمنيين في داخل بيتهما “عليهما السلام”، وخصوصاً الإمام الحسن العسكري “عليه السلام”، فقد أوعز المعتمد خواصه بملازمة دار الإمام “عليه السلام”.
يقول أحمد بن عبيد بن خاقان(2): لما اعتل ابن الرضا”عليه السلام”، بعث جعفر بن علي إلى أبي: أنًّ ابن الرضا “عليه السلام” قد اعتل، فركب أبي من ساعته مبادراً إلى دار الخلافة، ثم رجع مستعجلاً ومعه خمسة نفر من خدم أمير المؤمنين، كلهم من ثقاته وخاصته فمنهم نحرير، وأمرهم بلزوم دار الحسن بن علي، وتعرُّف خبره وحاله …. (3). ولم تكتف السلطة بذلك بل فرضت الحصار الاقتصادي على الإمامين أيضا.
فهذا الاستنفار الأمني لم يكن صدفةً أو جزافاً بل له أسبابه الخاصة، بل قاموا بإرعاب الإمامين “عليهما السلام” بإجراء استعراض عسكري في محضرهما وعُدَّ بتسعين ألف فارس، حيث استعرض جيش المتوكل أمام الإمام الهادي “عليه السلام”، حيث استدعاه المتوكّل وقال له:
استحضرتك لنظارة خيولي، وقد كان أمرهم أن يلبسوا القجافيق ويحملوا الأسلحة، وقد عرضوا بأحسن زينة وأتمَّ عِدَّة وأعظم هيبة، وكان غرضه أن يكسر قلب كل من يخرج عليه وكان خوفه من أبي الحسن أنْ يأمر أحداً من أهل بيته أن يخرج على الخليفة.وهذا نظير المناورات العسكرية الحالية التي تجريها الدول لأجل وغرض الردع الأمني من هجوم دول أخرى.
فقال له أبو الحسن “عليه السلام” وهل أعرض عليك عسكري؟.
قال: نعم، فدعا الله سبحانه فإذا بين السماء والأرض والمشرق والمغرب ملائكة الله مدججون فغشي على الخليفة، فلما أفاق قال أبو الحسن: نحن لا ننافسكم في الدنيا، نحن مشتغلون بأمر الآخرة فلا عليك شيء مما تظن(4).
ولو نُدقِّق في تحليل هذه القضية أكثر، حيث أنَّ الدولة العباسية جعلت هذهِ القاعدة العسكرية العظمی عاصمة لها، الآن في زماننا هذا متى يجعل رئيس الجمهورية أو الملك أو رئيس الوزراء عاصمته قاعدة عسكرية لا عاصمة مدنية؛
إذ الحالة الطبيعية أنَّ عاصمة الدولة تكون عاصمة مدنية الاعسكرية، وإنما تكون العاصمة عسكرية حينما يرى ويتخوف الحاكم من تقوِّض کیانه، بحيث لا يستطيع أن يسيطر على التغيير الآتي بحيث لا يوجد هناك أي استقرار أمني، حيث لاتنفع كل قدراته العسكرية والاستخباراتية والأمنية،
والخلفاء العباسيون في عهد العسكريين “عليهما السلام” تخندقوا في قاعدة عسكرية في سامراء وجعلوها عاصمة لدولتهم بدلاً من بغداد، وهذا دليل على مدى تطاول نفوذ وقدرة إمامة العسكريين “عليهما السلام” وأنها أصحاب القدرة في دين الله لا بآليات عسكرية ولا بآليات تنظيمية، بل بآلیات نظم إلهي.
أسباب هذا الاستنفار
إنَّ أئمة أهل البيت “عليهم السلام” لهم وجودهم العظيم المتجذر في الدين وفي الأمة الإسلامية من زمن أمير المؤمنين علي “عليه السلام” إلى الإمام الحسن العسكري “عليه السلام”، وهو السبب لما نراه من توجس السلطة الأموية أو السلطة العباسية الخيفة من أهل البيت “عليهم السلام”، وبمقتضى توازن القدرة أنَّ أي دولة وأي نظام سياسي يعي المنافس الحقيقي له، ويعي من هو ذو خطر مُحدق عليه، ونرى دائماً أنَّ صاحب القوة يعي من يصارعه أو من ينافسه أو من يمكن له القدرة أن يدافعه عن موقعیته.
نعم، يأتي – بعد كل هذه المعطيات والشواهد التاريخية مترجم من كتب الرجال عند المذاهب الإسلامية الأخرى لا يعطي في ترجمته الإنصاف عندما يترجم حياة الإمام الرضا أو الجواد أو الهادي أو العسكري “عليهم السلام” ولكن هل هذا يطمس الحقيقة؟!.
إنَّ تعتيمهم على تألُّق وقممية وأوج شخصيات أهل البيت”عليهم السلام”، وخصوصاً من الإمام الكاظم “عليه السلام” إلى الإمام المهدي “عليه السلام” وإخفاء عظمة شخصيتهم من قبل كثير من الكتاب المسلمين تبيِّن مدى تخوفهم منهم، ومهما حاولوا لا يمكن لهم أن يطمسوا حقيقتهم؛ لأنَّ حقيقتهم “عليهم السلام” وضّاءة وقّادة وتشعّ دائماً بالحقيقة، وإلاّ فلماذا لم يستدعِ المأمون غير الإمام الرضا “عليه السلام” وكذلك باقي الأئمة”عليهم السلام”،
لماذا لم يستدعِ شخصية غير الأئمة “عليهم السلام” من بني هاشم أو من قريش أو من فقهاء المسلمين من المذاهب الأخرى، ولكن نراه يتحسس من الإمام الرضا”عليه السلام”، فهل لدى الإمام تنظیمات سياسية يرعاها أم هي إمامة قرآنية ناخرة في عقيدة المسلمين والقرآن، ودائماً هذهِ الإمامة تنبض بقنوات وجذور قوة وقدرة يعيها المسلمون، ويتعاطفون معها في كل آن ولحظة إذا أبعد عنهم إرهاب السلطات الحاكمة.
بيعة الأئمة “عليهم السلام”:
ولو نلاحظ مبايعة المسلمين لعلي بن أبي طالب “عليه السلام” واختلافها عن مبايعة باقي الخلفاء الثلاثة تماماً، في اختصاصها بكونها بيعة جماهيرية عارمة بلا أنْ يلجئهم أي أحد عليها، ولم تكن محصورة في ضمن لوبيات أو جماعات خاصّة، بل بيعة اندفاعية من شرائح عموم المسلمين من النخب ومن القاعدة الجماهيرية العامة، وهذا إنّما حدث بسبب داعوية وباعثية تعاليم القرآن للمسلمين وليسَ بالإرهاب أو الخوف.
وهكذا كانت بيعة الإمام الحسن بن علي “عليهما السلام”، فقد كانت بيعته”عليه السلام” باندفاع ذاتي من المسلمين، ومن المهاجرين والأنصار الذين كانوا أكثرهم آنذاك، ومن دون أي إرغام أو إرهاب وهم يعلمون أن الحسن هو بن الخليفة السابق علي “عليهما السلام”.
ولكن في المقابل نرى أن المهاجرين والأنصار استنكروا على معاوية أشدّ الاستنكار عندما عقد البيعة لولده يزيد من بعده تحت وطأة الإرهاب بالسيف والقتل أو التطميع بالأموال، واعترضوا عليه بأنه كيف تجعل الخلافة في الابن في حين لم يكن هذا الاعتراض موجوداً في بيعة الإمام الحسن “عليه السلام” بعد أبيه أمير المؤمنين “عليه السلام”.
حيث روي ” ولمّا قتل أبوه علي “عليه السلام”، بایعه أكثر من أربعين ألفاً، كلهم قدْ كانوا بايعوا أباه علياً قبل موته على الموت، وكانوا أطوع للحسن وأحب فيه فبقي نحواً من أربعة أشهر خليفة بالعراق وما وراءها من خراسان(5).
وهذه ظاهرة حادثة وملحمة تاريخية عظيمة تدل على مدى الرصيد الموجود لأهل البيت “عليهم السلام” في ثقافة المسلمين وعقيدة المؤمنين.
وهكذا أيضا كانت بيعة الإمام الحسين “عليه السلام” بعد هلاك معاوية، فإنَّ الكتب التي أتت لسيد الشهداء “عليه السلام” كانت من العراق والشام فضلاً عن اليمن وأهل مكّة والمدينة، وهذا ما صرَّح به الإمام الحسين “عليه السلام” خلال حديثه مع الحر بن يزيد الرياحي(6).
الطائفية والمذهبية:
إذنْ لماذا كل هذا التحسس من السلطة الأموية والعباسية تجاه أئمة أهل البيت “عليهم السلام” ؟!؛ لأن المنافس والرقيب الخطير الذي يستخدم أسلوب مدني شفاف وبلا أي إمكانيات عسكرية وأمنية وفي قبضته القاعدة الإسلامية هم أئمة أهل البيت “عليهم السلام”، من الإمام السجاد “عليه السلام” إلى أن وصلت النوبة إلى الإمام الجواد”عليه السلام” وهو في ريعان عمره الشريف، حيث أقامت عليه السلطة العباسية الإقامة الجبرية في بغداد بعد استدعائه من المدينة المنورة. وهكذا ولديه – العسكريين “عليهما السلام”.
وهذا يدل على قوة التعاطف من جميع شرائح المسلمين مع أئمة أهل البيت”عليهم السلام” ، ولذلك لو خُلي المسلمون وأنفسهم دون السلطات والأنظمة السياسية لما كانت هناك طائفية ولا مذهبية، بل لكان هناك فقط وفقط حب وولاء أهل البيت “عليهم السلام” وانتصاف لحقوق جميع الناس وجميع البشر وعدل بينهم بالسوية.
فإن الذي يفتعل المسرحيات الطائفية والمذهبية هي السلطات والحكام؛ لأجل أن يبقى استئثارهم بالثروات والقوة واستبدادهم بالحكم؛ بينما أهل البيت “عليهم السلام” ليست دعوتهم لأنفسهم بل إلى استرداد حقوق واستحقاقات الطبقات المحرومة من شعوب المسلمين بل من البشرية أجمع،
ولم تكن لديهم فرعونية، ولا دكتاتورية، ولا استبداد، ولا أنانية، بل هم ترابيون وذو نبل وقيم وخلوص ونزاهة وطهارة، وعِفَّة علم بكيفية تدبير العدالة في المجتمع وازدهار الأمَّة الإسلامية فهم أصحاب إيثار في فعالية نظام حاکميتهم لا الاستئثار بالاموال والثروات وجعل الحكم وسيلة لذلك كما في نظام حكم غيرهم، وهذا ما تشير إليه سورة الإنسان والدهر وسر نزولها في شأن على وفاطمة والحسن والحسين “عليهم السلام”.
ولكن السلطات الظالمة والحكّام الظلمة هم من يفتعلون الأزمات الطائفية والمذهبية ويخدعون فيها على الشعوب الإسلامية بتصوير أن المواجهة مذهبية وبين الأتباع وبين طوائف ، فيستغفلون جماهير الناس عن منقذها الحقيقي وعن مخلصها من أيدي المستأثرين خوفا على مآربهم الشخصية.
إذن المنقذ الحقيقي للشعوب الإسلامية وللمشروع الإسلامي هم – أئمة أهل البيت “عليهم السلام”، وهذا ليس تعصباً لذواتهم الشخصية “عليهم السلام” بل حرصاً على المشروع الإلهي لكي يقام في كل بقاع الكرة الأرضية
كما نص وصرح به القرآن الكريم أنّ فيء الأرض وثرواتها لابد أن يكون بيد الله تعالى ثم بید الرسول ثم بید قربي الرسول أهل البيت “عليهم السلام” كي لاتكون ثروات الأرض دولة تداول ويتداولها الأغنياء المستأثرين، حيث يقول تعالى “مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ(7).
الهوامش
(1) الكافي ج1 : ۵۰۸.
(2) وهو عامل السلطان يومئذ على الخراج والضياع بكورة قم وكان من أنصب خلق الله وأشدّهم عداوة لهم.
(3) کمال الدین ج ۱: ۵۱.
(4) بحار الأنوار 50: 158.
(5) الاستیعاب، ج1: 385.
(6) الإمام الحسن بن علي شجاعة قيادة وحكمة سياسية: 54.
(7) سورة الحشر: الآية 7.
المصدر: كتاب الحياة السياسية للإمامين العسكريين عليهما السلام
تحميل الكتاب
الحياة_السياسية_للإمامين_العسكريين