إن الأحداث التاريخية التي عاشها الإمام الحسين “عليه السلام” يجب أن تخضع للدراسة العلمية المتسمة بالعمق والتحليل، والتجرد من العواطف وسائر التقاليد المذهبية التي أوجبت خفاء الحق، وتضليل الرأي العام في كثير من مناحي حياته العقائدية. / أعتقد أنه لا يمكننا أن نلم إلماماً واضحاً بقضية الإمام الحسين “عليه السلام” وما جرى فيها من الأحداث المفزعة من دون أن نكون قد درسنا الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في ذلك العصر، فإن لها تأثيراً إيجابياً مباشراً في حدوث هذه النكبة. الباحث والمؤرخ الشهير الشيخ باقر شريف القَرَشي (ره).
خاص الاجتهاد: إن أهم فترة في تاريخ الإسلام السياسي هي الفترة التي عاشها الإمام الحسين “عليه السلام”، فقد حفلت بأحداث رهيبة غيّرت مجرى الحياة الإسلامية، وامتحن المسلمون بها امتحاناً عسيراً، وأرهقوا إرهاقاً شديداً، قد أخلدت لهم الفتن والمصاعب، وجرت لهم الخطوب والكوارث، وألقنهم في شر عظيم.
ومن أفجع تلك الأحداث وأخلدها كارثة كربلاء التي هي أخطر کارثة في التاريخ الإنساني، وهي لا تزال قائمة في قلوب المسلمين وعواطنهم تثير في نفوسهم الحزن واللوعة، ولم تكن هذه الحادثة الخطيرة وليدة المصادفة أو المفاجأة، وإنما جاءت نتيجة حتمية لتلك الأحداث المفزعة التي أخمدت الوعي الإسلامي، وأماتت الشعور بالمسؤولية، وجعلت المسلمين أشباحاً مبهمة، وأعصاباً رخوة خالية من الحياة والإحساس، قد سادت فيهم روح التخاذل والانهزام، ولم تعد فيهم أي روح من روح الإسلام وهديه.
وأوضح شاهد على ذلك أن ابن بنت رسول الله” صلى الله عليه وآله وسلم” وريحانته يقتل في وضح النهار،ويُرفع رأسه على أطراف الرماح يُطاف به في الأقطار والأمصار ، ومعه عائلة رسول الله “صلى الله عليه وآله وسلم” سبايا قد هُتِكَت سُتُورُهُنّ وأبدیت وجوههنّ يتصفحها القريب والبعيد، فلم يثر ذلك حفيظة المسلمين فيهبّوا إلى الانتفاضة على حكم يزيد للثأر لابن بنت نبيهم، ورحم الله دعبل الخزاعي إذ يقول:
رأس ابن بنت محمد ووصيه يا للرجال عَلَى قناة يُرفعُ
والمسلمون بمنظر وبِمسمعٍ لا جازعٌ مِن ذا وَلَا مُتَخَشّعُ
ديوان دعبل الخزاعي : 225.
إنّ كارثة كربلاء لم تأت إلا بعد تخدير الأمة، وتغییر سلوكها، وإصابتها بكثير من الأوبئة الأخلاقية والسلوكية الناشئة من عدم تقريرها لمصيرها في أدقّ الفترات الحاسمة من تاريخها، أمثال مؤتمر السقيفة والشوری وصفين.
وعلى أي حال، فإن الأحداث التاريخية التي عاشها الإمام الحسين “عليه السلام” يجب أن تخضع للدراسة العلمية المتسمة بالعمق والتحليل، والتجرد من العواطف وسائر التقاليد المذهبية التي أوجبت خفاء الحق، وتضليل الرأي العام في كثير من مناحي حياته العقائدية، فإن التاريخ الإسلامي لم يدرس دراسة موضوعية وشاملة، وإنما عرض له أكثر الباحثين في التاريخ الإسلامي بصورة تقليدية، وهي لا تجدي نفعاً في المجتمع ولا تفيده، كما لا تلقى الأضواء على واقع تلك الأحداث التي جرّت للمجتمع كثيراً من الخطوب والمشاكل، وأوقفت مسيرته نحو التطور حسب ما يريده الإسلام.
إن الذي لا مجال للشكّ فيه هو أن في تلك الأحداث كثيراً من المنعطفات التاريخية الخطيرة التي تعمّد بعض المؤرخين إهمالها، وعدم الكشف عنها، كما أن التاريخ قد خلط بكثير من الموضوعات التي تعمّد بعض الرواة إلى افتعالها؛ تدعيماً لسياسة السلطات الحاكمة في تلك العصور، وهي مما توجب على الباحث التعمق والتدقيق فيها حتى يخلص إلى الحقّ مهما استطاع إليه سبيلاً.
ونحن لا نجد بداً من عرض بعض تلك الأحداث وتحليلها؛ لأنها من وسائل الكشف عن حياة الإمام الحسين “عليه السلام”، كما أنها في نفس الوقت من وسائل الوقوف على الحياة الفكرية والاجتماعية في ذلك العصر الذي تعد دراسة شؤونه من البحوث المنهجية التي تكشف عن أبعاد الشخصية وتحليلها حسب الدراسات الحديثة.
إني أعتقد أنه لا يمكننا أن نلم إلماماً واضحاً بقضية الإمام الحسين “عليه السلام” وما جرى فيها من الأحداث المفزعة من دون أن نكون قد درسنا الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في ذلك العصر، فإن لها تأثيراً إيجابياً مباشراً في حدوث هذه النكبة.
إن التاريخ الإسلامي في حاجة لأن يتحرّر من التقديس، ويكون – كغيره من البحوث – خاضعاً للنقد والتحليل والشك والرفض، كما تخضع المادة لتجارب العلماء حتى يستقیم و يزدهر، ويؤتي ثمراً ممتعاً.
إن السلطات السياسية في تلك العصور أخذت على المؤرخين أن يضعوا التاريخ تحت تصرفهم، فلا يكتبون إلا ما فيه تأييد للسلطة السياسية؛ ولذلك فقد حفل التاريخ الإسلامي بكثير من الموضوعات التي تكلف أصحابها على وضعها وجعلها جزءاً من تاريخ الإسلام، وقد شوّهت واقعه، وحادت بكثير من بحوثه عن الصواب.
إن الأقلام التي تناولت كتابة التاريخ الإسلامي في عصوره الأولى لم تكن نزيهة ولا بريئة على الإطلاق، فكانت تخيّم عليها النزعة المذهبية، أو التزلف إلى السلطة الحاكمة، فلابد إذن أن يخضع لمجاهر الفحص وأضواء الدراسة والنقد.
المصدر: مقتطف من مقدمة موسوعة سيرة أهل البيت “عليهم السلام” الجزء الثاني عشر؛ الإمام الحسين بن علي عليهما السلام. تأليف المؤرخ والباحث الشيخ باقر شريف القَرَشي، تحقيق مهدي باقر القَرَشي – الناشر دار المعروف مؤسسة الإمام الحسن عليه السلام.
باقر شريف القرشي
سماحة آية الله المحقق الشيخ باقر القرشي (قدس سره) (1344 ــ 1433 هـ)
إنّه المجتهد والمؤرخ والكاتب والمحقّق الذي سبر أغوار التاريخ بتأليفاته وتحقيقاته القيّمة فقد كان مكبّاً على البحث والتقصي والكتابة، حيث صدرت له مؤلفات كثيرة أغنت المكتبة الاسلامية بعنوانات امتازت بالرصانة والدقة والعلمية في الطرح والمنهج، وقد ترجمت كتبه إلى أكثر من إحدى عشرة لغة من لغات العالم، وهي موجودة الآن في أغلب المكتبات العربية والاسلامية، وحتى في كبرى مكتبات العالم كمكتبة الكونكرس الأمريكي.
وقد أنشأ مكتبة عامرة ببناء فخم من أجل أن تقدّم خدماتها للباحثين وطلاب العلم، فكانت حياته مليئة بالمثابرة والعمل والتحقيق والتقصي والتأليف.
ولد في النجف الأشرف، وبدأ دراسته عند علمائها، وأبرز أساتذته هو السيد أبو القاسم الخوئي حيث حضر عنده البحث الخارج ما يقارب من عشرين سنة.
وقد اهتم الشيخ باقر بالكتابة والبحث وقدم بحوث في مختلف المجالات وله مؤلفات عديدة من أهمها موسوعة سيرة أهل البيت (ع) وهي دراسة حول حياة الأئمة (ع)، وفضلاً عن ذلك كتب حاشية على الكفاية والمكاسب، ونظراً إلى ما كان يعيشه من أجواء تحت الحكم العراقي أخذت رسائله وكتاباته طابعاً سياسياً واجتماعياً.
لمطالعة وتحميل موسوعة سيرة أهل البيت عليهم السلام (40 مجلدا) أضغط على الرابط التالي
https://archive.org/details/abualqasimrahem_yahoo_29/page/n89