ليلة-القدر

تاريخية ليلة القدر .. الدكتور عبدالحكيم الفيتوري

الاجتهاد: تتفاوت الاديان في تحديد مواعيد الليلة المباركة أو الليلة المقدسة أو ليلة القدر، وعلامات حضورها، وثواب قيامها، لكن يوجد شبه اتفاق كامل بين الاديان أن ثمة ليلة أو ليالي بمباركة ومقدسة ينبغي على المؤمنين الحرص عليها وتحريها والاكثار من العبادة فيها. كذلك يتفق اتباع الاديان على ضرورة اختلاق الميثولوجيا حول أهمية هذه الليلة وضرورة اعتقاد وجودها وامتدادها عبر التاريخ والجغرافية.

تبدو فكرة الليلة المباركة أو الليلة المقدسة أو ليلةُ القدر بمختلف تسمياتها فكرة تضرب بجذورها في تربة الديانات السماوية وغيرها، حيث تدور في فلسفة الليلة المباركة؛ أنها ليلة خاصة من السنة، تنزلت فيها رسالة إلهية، أو ولد فيها نبي، وفي هذه الليلة يتم غفران ذنوب المصلين، ويتضاعف أجور عبادتهم في تلك الليلة المقدسة والمباركة.

وتتفاوت الاديان في تحديد مواعيدها، وعلامات حضورها، وثواب قيامها، لكن يوجد شبه اتفاق كامل بين الاديان أن ثمة ليلة أو ليالي بمباركة ومقدسة ينبغي على المؤمنين الحرص عليها وتحريها والاكثار من العبادة فيها. كذلك يتفق اتباع الاديان على ضرورة اختلاق الميثولوجيا حول أهمية هذه الليلة وضرورة اعتقاد وجودها وامتدادها عبر التاريخ والجغرافية.

فمثلا تحتفل الصابئة اتباع نبي الله نوح ويحي عليهما السلام، والتي تعد من أقدم الديانات في المنطقة، بليلة القدر حيث تأتي هذه الليلة بعد صلاة الاكاليل والتي تقع بين يومي السادس والسابع من السنة الجديدة، ويقوم المؤمنون بالصلاة والذكر والدعاء في تلك الليلة حتى الصباح، فينال القائم الداعي الذاكر رضى ربه وتستجاب دعوته وتتحقق له مطالبه الدنيوية والأخروية.( انظر: منتديات الشامل، مقال بعنوان الصابئة المندائيون)

وفي ثوب اسطوري يقدم رئيس الطائفة المندائية في البصرة الشيخ رعد كباشي ليلة القدر بأنها ليلة بداية الخليقة فيقول: بهذه المناسبة العظيمة حيث تكون العالم المادي وتعتبر بداية السنة المندائية وهذه المناسبة عادةً تكون في العشرين من تموز ولكل أربعة سنوات وتعد هذه المناسبة ( بدأ الخليقة للعالم) عندما كانت الأرض في حينها الماء الغازية وليست لها حياة وبحكمة الخلق انزله جبرائيل وجعل فيها الحيوان ومن ثم نبينا آدم وحواء .

لذلك تبدي اليوم الأول في الشهر المندائي ويكون عندنا كديانة مندائية ليلة القدر وتكون أبواب عالم النور مفتوحة للدعاء وهذه الليلة ايضاً تكون عيد للديانة المندائية ومن يوم 21 من تموز ولغاية 27 منه تبدأ عملية الخلق وعملية التكوين بها واليوم السادس والسابع تتدفق المياه الجارية وتصبح الحياة كاملة ولكن تحتاج إلى البشر ..

وتحت هذا الشكل من الميثولوجيا يزيد رموز كل ديانة مزيد من الفضائل والمميزات لاقناع الاتباع بتلك الخرافات، فمثلا الشيخ كباشي يحث الاتباع على القيام والصيام والذكر في هذه الليلة بالطريقة الوعظية المتبعة في الاديان؛ أيا تكن الطبيعة الحقيقية لتلك الديانة المندرجة في مدى التاريخ، فيقول:…وبعد مرور الكثير من الأزمنة خلق الله آدم وحواء وتكاثرت الذرية، وفي هذه المناسبة نحن نحتفل هذا اليوم وتكون نسبة الطهارة عالية جداً ونعمل على الثواب والنذور ونطلب المغفرة والرحمة وتعبر هذه(36) ساعة عبادة وصيام عن الطعام…

ثم طريقة الاعتماد على الروايات والاسانيد الدينية لتحريك مشاعر الاتباع نحو القيام والصيام فيقول: نص يتحدث في كتب الطائفة يقول:كل من يصتبغ في كنشوز دلي يوم التطهير ويلتزم بـ(36) ساعة سوف يمنح (60) رحمة ، وإذا مايلتزم سوف يمنح(60) عقوبة وسوف مأواه الظلام. (انظر مقال: صابئة البصرة تحتفل بمناسبة بداية السنة المندائية لمحمد جواد الدخيلي)

كذلك الديانة الايزيدية وهي ديانة متكونة من خليط سماوي وأرضي، وتعد الايزيدية من الديانات القديمة التي ظهرت في عهود ما قبل الاسلام، حيث يحتفل الايزيدون سنويا في منتصف شهر شعبان حسب التقويم الهجري، بقدوم ليلة ( بشفبرات) أي ليلة القدر حتى مطلع الفجر.

فقد جاء على لسان مسؤول القسم الثقافي في مركز لالش الإيزيدي، شمو قاسم،قوله: إن الإيزيديين يحتفلون سنويا في منتصف شهر شعبان بحسب التقويم الهجري، بقدوم ليلة “بشفبرات” أي ليلة القدر، وهي إحدى المناسبات الاجتماعية المهمة للإيزيديين التي يتجمع فيها الشبان والشابات ويؤدون الأغاني والرقصات والألعاب الشعبية حتى مطلع الفجر، فضلاً عن إحضار أنواع مختلف من الأطعمة. ( انظر: السومرية نيوز مقال الايزيديون يحتفلون بشفبرات حتى مطلع الفجر).

ويعتبر معبد (لالش) المقدس عند الايزيدية عمره يزيد عن ستة آلاف سنة، به الكثير من أسرار الديانة والأثار التي يحتفظون بها، ويعتقدون أنها تعود لبداية الحياة على الأرض. يحوي المعبد الذي يحج إليه الايزيديون، ويقع في محافظة دهوك بإقليم كردستان العراقي على نبع يؤمنون أن ماءه يعود للطوفان الذي حمل سفينة النبي “نوح”، ونبع آخر يسمونه “زمزم” وصخرة يقولون إنها جزء من القالب الذي صنع فيه “آدم” أبو البشر.( انظر: موقع جبلة.كوم)

ويبدو أن فكرة الليلة المقدسة كانت حاضرة في نصوص العهد القديم والجديد، ففي العهد القديم جاء ذكر الليلة المقدسة في قسم أخبار الأيام الثاني بعد أن ذكر دعوة سليمان قادته إلى الاجتماع في خيمة الاجتماع مسكن الله، يتوجه سلميان وجميع الذين معه إلى مذبح النحاس الذي في خيمة الاجتماع أمام الرب ويقدم عليه ألف محرقة.

(وفي تلك الليلة تجلى الله لسليمان وقال له: أطلب ما تريد وأنا أعطيك…….فقال الله لسليمان: بما أنك هذا ما تريد، ولم تطلب غنى وثروة وكرامة ولا موت مبغضيك، ولا عمرا طويلا لك، بل طلبت لك الحكمة والمعرفة لتحكم شعبي الذي ملكتك عليه، فأنا أعطيك الحكمة والمعرفة وسأعطيك غنى وثروة وكرامة لم يكن مثلها للملوك من قبلك ولن يكون مثلها لأحد من بعدك. ( العهد القديم التوراة)

كذلك نجد في العهد الجديد (الانجيل) ثمة ليلة مقدسة أو ليالى مقدسة أكبرها واعظمها عند النصارى هي ليلة عيد ميلاد المسيح، الليلة التي سطع فيها نور الهداية والإيمان على البشرية كما يعتقد اتباع المسيح، بحيث تعتبر ليلة السلام، وليلة المسامحة، وليلة الغفران، وليلة الفرح والسعادة. وتحاط هذه الليلة بترنيمات التقديس التي تسمى بـ(نشيد الملائكة في الليلة المقدسة).

وقد أحيطت ليلة ميلاد المسيح عند الاتباع بأساطير وخيالات كما في سائر الاديان، ومن هذه الاساطير اسطورة (بابا نويل) الذي يأتي في ليلة الميلاد بالخير والارزاق والهدايا لاتباع المسيح.

وهكذا يستسلم الاتباع بفعل افتتانهم الذاتي بسحر الاساطير إلى فتنة أخرى تثيرها تعزيم الواعظ وأساليب الميثولوجيا في الحكايات، ويتحولون بدورهم إلى مصدقين بالمطلق لحكايات تدعو للشبهة وتثير اسئلة كثيرة صعبة على أصل الديانة جملة.

وهكذا تصور المؤمنون في كل الاديان أن ثمة ليلة مباركة مقدسة، وسبب تقديسها يعود إما إلى خلق آدم، أو ولادة رسول، أو اللقاء بالرب، أو نزول رسالة سماوية، ويتم أحياء هذه الليلة والاحتفال بها كل بطريقته من ناحية الطقوس والعبادات والأوقات، ولكن اللافت للنظر أن النص المؤسس الاسلامي حسم مواعيد وأوقات تلك الليالى بأنها في شهر رمضان، وهذا الحسم بدوره يضع الليالى المقدسة على المستوى الملّي محل اشكال ونظر لكونها جاءت من مصدر واحد، فقد جاء في القرآن أن شهر رمضان هو شهر أنزلت فيه الرسائل الإلهية،

فقال تعالى: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن. وبينت الاحاديث تواريخ نزول القرآنات (الشيء الذي يقرأ) على الأنبياء بأنها في شهر رمضان، فقد جاء عن واثلة بن الأسقع، أن رسول الله قال أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان. (رواه أحمد، والبيهقي، والطبراني في الكبير، وابن عساكر، وقد تكلم بعض أهل الحديث في سنده، وحسنه الألباني في سلسلة صحيح وضعيف الجامع الصغير).

ليلة القدر في القرآن

جاء ذكر ليلة القدر في القرآن بصورة واضحة في سورة كاملة سميت فيما بعد بسورة (القدر)، ذكر فيها سبب تشريفها هو بدأ نزول القرآن على رسول الله، فقال تعالى: إنا أنزلناه في ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر، ليلة القدر خير من ألف شهر، تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر، سلام هي حتى مطلع الفجر.

وفي سورة الدخان سميت ليلة القدر بالليلة المباركة كما في قوله: أنا أنزلناه في ليلة مباركة. وهذا السبب ينم عن تشابه كبير لدى الديانات الأخرى التي تعظم بعض ليالى السنة لديها، ولا غرار فإن الديانات السماوية مصدرها واحد. ولكن الاشكال يكمن في تسلل الحكايات والاساطير عبر الاسانيد والروايات حول هذه اليلة المقدسة، وهذا ما تجلى في اختلافات أهل الاسلام في تحديد معنى ليلة القدر، وعلاماتها، ووقتها.

فقد اختلف الفقهاء والمفسرين في تحديد دقيق لمعنى( القدر) منهم من قال العظيم، ومنهم من قال أن من يحييها يصبح ذا قدر عظيم، ومنهم من قال أن القدر بمعنى التضييق أي إخفاء الليلة وعدم تعيينها، ومنهم من قال القدر بمعنى يقدر فيها أحكام تلك السنة.( انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري، كتاب فضل ليلة القدر )

كما اختلفوا في وقتها بحسب اختلاف الاسانيد والرواية المنسوبة للنبي، فقال بعضهم: أنها كانت على عهد رسول الله ثم رفعت أصلا. وقال بعضهم في ليلة من ليالي السنة. والجمهور على أنها في شهر رمضان، واختلفوا في تلك الليلة، منهم من قال هي أول ليلة من شهر رمضان، وقيل اليلة السابع عشر، وقيل العشرة الأخيرة من رمضان، ومنهم من جزم في ليالي الوتر من العشرة الأخيرة، ومنهم من أكد على أنها ليلة السبع والعشرين.

كما قال الحافظ ابن حجر: وقد اختلف العلماء في ليلة القدر اختلافا كثيرا. وتحصل لنا من مذاهبهم في ذلك أكثر من أربعين قولا…( انظر: الحافظ ابن حجر فتح الباري، وتفسير البغوي ، غيرها من كتب الاحاديث)

وذهبت الشيعة إلى أن ليلة القدر هي أول ما خلق الله من الدنيا، وفيها خلق أول نبي ووصي، ويهبط الوصي كل سنة في ليلة القدر بتفسير الأمور إلى مثلها من السنة المقبلة، فقد وروى الكليني بسند معتبر عن أبي جعفر قال: لقد خلق الله عزّوجلّ ذكره ليلة القدر أوّل ما خلق الدنيا، ولقد خلق فيها أوّل نبيّ وصيّ يكون، ولقد قضى أن يكون في كلّ سنة ليلة يهبط فيها بتفسير الأُمور إلى مثلها من السنة المقبلة …(كتاب الحجة من كتاب الكافي)

وفي رواية: انه ينزل في ليلة القدر إلى ولي الأمر تفسير الامور سنة سنة، يؤمر فيها في أمر نفسه بكذا وكذا . وفي رواية : انما يأتي الأمر من الله في ليال القدر إلى النبي صلى الله عليه وآله والى الأوصياء عليهم السلام : افعل كذا وكذا. (راجع: الكافي للكليني)

وبهذا المنطق المتعدد الاسانيد، وعبر مدارجه المتنوعة الطائفية والمذهبية، اختلفوا في علاماتها، منهم من قال تكون وضيئة مضيئة، ومنهم من قال لا تكون حارة ولا باردة، ومنهم من قال أنها ليلة مطر وريح، ومنهم من قال الشمس تطلع في صبيحتها من غير شعاع، ومنهم من قال تصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة،

ومنهم من قال لايحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ، ومنهم من قال ليلة لا تنبح فيها الكلاب، ومنهم قال تسجد فيها كل الكائنات، أو أنها ليلة طلقة بلجة، ومنهم من قال أن الاشجار في تلك الليلة تسقط إلى الارض ثم تعود إلى منباتها، ومنهم من قال لا يرسل فيها شيطان، ولا يحدث فيها داء.

ومنهم من قال إن المياه المالحة تعذب تلك الليلة. ( انظر الحافظ ابن حجر فتح الباري، كتاب فضل ليلة القدر، باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر)

ويبدو أن الغرابة في تحديد ليلة القدر تشكل نقطة إنطلاق في الفكر الاسلامي، فقد وصل الاختلاف بأهل التفسير إلى حد يمكن أن يوصف بأنه تمزق أولى في عقيدة ليلة القدر، حيث اضطربت أقوالهم في تحديد مكان نزول سورة (القدر) هل نزلت في مكة أم في المدينة( انظر: تفسير المحرر الوجيز لابن عطية،المتوفى 546)

أما عن أسباب نزول سورة القدر لم تكن أقل غرابة عن الأولى رغم وضوحه في القرآن، فقد ذهب فريق من أهل التفسير إلى أن سبب نزولها كان وراءه خلافة بني أمية، ولا يخفى أن الوضع السياسي والتدافع السلالي على سدة الحكم هو الدافع لصناعة هذا السبب.

فقد جاء في كتب التفاسير أن سورة القدر نزلت في بني أمية كما روي عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما أنه قال حين عوتب في تسليمه الأمر لمعاوية: إن الله تعالى أرى نبيه في المنام بني أمية ينزون على منبره نزو القردة، فاهتم لذلك فأعطاه الله ليلة القدر، وهي خير من مدة ملك بني أمية، وأعلمه أنهم يملكون الناس هذا القدر من الزمان.ا.هـ ( انظر: المحرر الوجيز لابن عطية، وتفسير ابن كثير)

بينما ذهب فريق أخرى إلى حشر نزول سورة القدر في صراع مليّ يحمل في طياته رسالة تميز للإسلام وتحقيرا للطرف الأخر، فقال: أنها نزلت في رجل من بني اسرائيل كان مرابطا في سبيل، عن مجاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر قال: فعجب المسلمون من ذلك، قال: فأنزل الله عز وجل: إنا أنزلنه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر. التي لبس ذلك الرجل السلاح في سبيل الله ألف شهر.(راجع: تفسير مفاتيح الغيب، التفسير الكبير للرازي،المتوفى عام، 606 )

فإذا كانت ليلة القدر بهذا الحجم من الاختلاف بين المسلمين في تحديد مكان نزولها، وسببها ، ومعانيها، ووقتها، وعلاماتها، فإن القدر المحكم في هذه اليلة أنها ليلة نزول القرآن( أنا أنزلناه في ليلة القدر)، وأن نزول الملائكة والروح فيها كان وقت التنزيل، لأن جبريل الروح الأمين هو الموكل بالوحي وأنزال الرسائل على الرسل، وبموت الرسل تنتفي بالضرورة نزول الروح والملائكة معه ( نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين). (… تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم ).

ولعل في المدارسة القرآنية بين جبريل والنبي في ليالى شهر رمضان حتى طلوع الفجر ما يشير إلى هذا الفهم، فقد جاء في البخاري(…وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن…).

إشكالات متعددة:

ويبدو أن تاريخ الاختلاف الدلالي حول (ليلة القدر) يشكل نوع من الانعطاف، وبداية خط منحن في تباين أولي بين وضوح ليلة القدر في القرآن وما اصطلح عليه رجال المخزن(= رجال الدين والسلطة)، يكشف عن عمق الخلط بين الدين المنّزل من رب العالمين، والدين الأرضي المؤوّل الذي صنعه رجال المخزن، فمثلا ثمة رواية عند البخاري تقرر أن ليلة القدر رفعت بسبب تخاصم أثنان من الصحابة.

بينما هنالك روايات جاءت بضرورة تحريها في الليالى الوترية، وفي المقابل تؤكد مدونات الأحاديث أن لكل بلد رؤية هلال مما يعنى الليالى الوترية عند بلد تكون ليالى زوجية عند أخرى، ويبدو أن مرد هذا الاشكال يعود إلى الاعتقاد الخاطيء بأن الارض مسطحة وليست كروية؛ حيث كان يعتقد في وقت تدوين الروايات أن غروب الشمس يعني غروبها عن الارض كلها كما في رواية البخاري التي جاء فيها قال: النبي‏ ‏لأبي ذر ‏ ‏حين غربت الشمس ‏ ‏أتدري أين تذهب قلت الله ورسوله أعلم قال فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش. بينما الحقيقة العلمية والواقعية أن الشمس تغرب غروبا نسبيا؛ تغرب في بلد وتشرق في أخرى ولكنها لا تغيب، فالارض تدور والشمس ثابتة.

وهذا التوجه الاشكالي من قبل رجال الدين بدوره يفتح إشكالا أخرا مفاده: تعدد ليلة القدر بحسب اختلاف مطالع الهلال، مما يعني أن جبريل والملائكة في حالة نزول مستمر حتى طلوع الفجر لمدة ثلاثة ليالى أو أربعة يقدر فيها أجال وأرزاق الناس وما هو كائن وما سيكون خلال العام ، وهذا لا يستقم مع التصور الاسلامي، بل إنها شهادات كافية تنزع صفة القداسة عن تصور ليلة القدر، وتبين فكرة البدايات الاسطورية التي نسجت حولها من قبل رجال المخزن.

وبصورة لا واعية تقدم حزمة الاسانيد المؤسطرة عبر رواياتها المتضافرة اعتقاد خاطيء يرفضه منطق الوحي، مفاد هذا الاعتقاد المنحرف أن الانسان مسيّر وليس مخيّر، ما دامت الاجال والارزاق والصحة والعافية تقدر سنويا خلال ليلة القدر. ويبدو أن هذا الاعتقاد بقدرية الامور هو الذي حمل المخيال الاسلامي إلى صناعة حزمة الاسانيد التي تصور ليلة القدر بتلك الأساطير النويلية (بابا النويل)، والتي كانت المحفز الحقيقي للمتلقي التمجيدي لقيامها وتحريها.

علما بأن تلك الاسانيد المزعومة تلعب في الحقيقة دور فلسفة الحياة ووسائل السيطرة على المصير حين يتفاقم القهر، ويستفحل عجز الانسان وتنعدم قدرته على التأثير في الأحداث.

هكذا يكتشف المرء درجات الالتباس والخلط بين الاحتفال بنزول القرآن في شهر رمضان ولياليه، وبين الاعتقاد بتكرار ولادة ليلة القدر كل عام ، فمثلا الاحتفال بمولد المسيح عند النصارى لا يعني ولادة المسيح كل عام، كذلك الاحتفال بنزول القرآن في ليلة القدر لا يعني بالضرورة تكرار نزول القرآن كل شهر رمضان من السنة، وإنما الاحتفال بتلك الليلة وما تضمنه القرآن من قيم وأخلاق تشيع السلام في الأرض والضمير، بدون حاجة إلى التعلق بالأساطير التي شاعت حول تلك الليلة في أوهام العامة والخاصة.

 

كاتب وباحث ومفكر إسلامي ليبي

المصدر: الحوار المتمدن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky