ابن طاووس

تعدد المسالك الرجالية للشيعة وعدم انحصارها في مسلك السيد ابن طاووس!

خاص الاجتهاد: إن مدرسة السيد أحمد ابن طاووس -رحمه الله -الآن، تكاد توحي لكثيرين أنّ النجاشي كان مسلكه هذا المسلك، وهذا خطأ كبير، بشواهد كثيرة ذكرناها، منها أنّ النجاشي – رحمة الله عليه – قد يضعّف الطريق، ولكن يقول: كتابه صحيح، عملت به الطائفة، وأحاديثه صحيحه، مما يدل على أنّ الصحة عنده ليس مدارها الحصري الوحيد هو الطريق، ربما يكون عنده الراوي ثقة لكنّ كتابه ضعيف، ومضامينه منكرة. فإذن النجاشي وابن غضائري وغيرهما مسلكهم مسلك المشهور.

نقدم لكم الجزء الثالث والأخير من الحوار الذي أجرينا قبل أشهر مع آية الله الشيخ محمد السند حول المناهج الروائية عند العلماء الإمامية.

كان يرى فضيلته (هنا) أن هناك اهتمام كبير بمسائل علم الحديث في المدرسة القُمّية وذلك بسبب السيد البروجردي “رحمة الله عليه”، لأنه كان تلميذ شيخ الشريعة لعشر سنين، فتأثّر السيد البروجردي بشيخ الشريعة كثيراً.

وقد اهتم شيخ الشريعة إلى جانب التتبع وجانب المقدمات المؤثرة في الاستنباط من علم الحديث، وتميز السيد البروجردي في هذا الجانب كثيراً، فلكل مدرسة خصائص ونقاط إيجابية نستطيع أن نلمسها.

أودّ أن أستمع إلى رأيكم بخصوص المنهج الروائي الذي ذكرتموه، فنحن نواجه أثرا كبيراً للسيد الخوئي”رحمه الله”، أو من سبقه، أو الذين يدّعون أنهم غيروا الطريق الروائي عند الشيعة، إذ لم تكن العناية بالسند والرجال سابقاً إلى هذه الدرجة.

سبق أن صدر لي ثلاثة مجلدات في علم الرجال، وسيصدر الجزء الرابع إن شاء الله، ولضيق الوقت والمجال لا أستطيع أن أبسط الحديث كاملاً إلا أنه يمكن أن أذكر فهرساَ من هذه المجلدات.

أولاً: لا بد أن نلتفت إلى وجود مدارس رجالية متعددة لعلماء الإمامية.

هناك حصلت غفلة لدى متأخري هذا العصر، تجاه المدرسة الرجالية، وهي مدرسة السيد أحمد بن طاووس وتلميذيه؛ أي: ابن داوود(1) والعلامة الحلي(2) الذي تابع الأخير أستاذه السيد أحمد بن طاووس في علم الرجال في كتابه “خلاصة الأقوال في علم الرجال” وبعض كتبه فقط، ولم يتبنّ في غالب كتبه مدرسة أستاذه السيد أحمد بن طاووس، ثم تابع ذلك الشهيد الثاني؛ “صاحب شرح اللمعة والمسالك”، ثم المقدس الأردبيلي وتلميذيه بإفراط أكثر؛ وهما السيد محمد صدر الدين؛ صاحب المدارك، والشيخ حسن صاحب المعالم؛ ابن الشهيد الثاني، إلى أن وصل الأمر إلى السيد الخوئي رحمة الله عليه. هذه المدرسة تقابل وتغاير مدرسة المشهور. كما تغاير مباني مدرسة النجاشي ومدرسة ابن الغضائري المعروف بتشدده، مدرسةَ السيد أحمد ابن طاووس “ره”.

يوجد هنا منظومة كبيرة سواء من زواياها المرتبطة بعلم أصول الفقه أو المرتبطة بعلم الرجال أو المرتبطة بعلم الدراية،.

نلاحظ مثلاً من النجوم العظيمة في هذا القرن الأخير: “آغا بزرك الطهراني“(1389 – 1293 هـ) في موسوعته الذريعة، هو في قناعتي أعلم المتأخرين في علم الرجال، سواء في بحث اعتبار الكتب أو في بحث تنقيح حال المفردات، لناقديته ودقته ونبوغه وتخصصه.

ربما أستحيف إذا قلت عنه نجاشي العصر؛ بل هو النجاشي وهو الطوسي، ولا نظير له في علم الرجال والدراية والكتب، ولا أقولها تعصباً بل لدي شواهد رقمية كثيرة، ولقد أحيا آغا بزرك الطهراني الكثير من المدارس القديمة الرجالية التي ظُن أنّها اندثرت، أو في علم الحديث، أو في علم الدراية، أو في علم الرجال، أو بما يرتبط بالتراث والحديث من علم الرجال، ولقد عمّر كثيراً، وقضى سبعين سنة من عمره في كتابة الذريعة.

أنا أنقل عن تلاميذه لأني أدركت الكثير منهم، وطالعت كتاب الذريعة في كثير من المفردات التي كانت موضع اهتمامي، فوجدته بحراً زخّاراً ونيقداً كبيراً جداً، أنا في قناعتي لا أقارن به أحد من الرجاليين المتأخرين.

قد يكون السيد الخوئي (ره) بذل الكثير من الجهد في “الطبقات”، لكن في الحيثيات الأخرى في علم الرجال لا أستطيع أن أقارن بالآغا بزرك الطهراني أحد.

منهج آغا بزرك الطهراني هو منهج المشهور كما ذكرت لك، ولو تراجع كلمات الشيخ المفيد التي نقلها الشيخ الأنصاري عن المفيد والمرتضى وابن براج وابن إدريس وابن زهرة وغيرهم من القدماء، تراها مختلفة تماماً عن السيد أحمد بن طاووس في زوايا عديدة، في كيفية حجية الخبر وفي كيفية معالجة التراث ولا يسع المجال أن أذكرها الآن.

وقد أشار الشيخ البهائي في موضع إلى هذا الشيء؛ أنه ربما يتحامل الأخباريون على العلامة الحلي بينما صاحب هذا المشروع هو السيد أحمد بن طاووس، وعلى أي تقدير، هذا المشروع وهذه المدرسة تقابل مدارس أخرى.

ذكرت لك أن النجاشي وابن الغضائري – الابن وليس الأب- فضلا عن أبيه، يخالفان في مبناهما السيد أحمد بن طاووس والعلامة الحلي وابن داوود في علم الرجال.. و يخالفان في عدة بُنى في حجية الخبر، وفي التراث.

السيد أحمد ابن طاووس عنده الطريق هو الأول والآخر، بينما النجاشي عنده في موارد عديدة، الأول والآخر المضمون ثم الكتاب، (نفس مسلك الشيخ المفيد) ثم بعد ذلك يجعل الطريق في الكتاب عبارة عن شرط مكمّل.

فأين من يجعل الطريق ركنا ركينا حصريا، ممن يجعل الطريق شرط مكملا فلا تختل به حجية الخبر، لأنّ الخبر فيه جهات للحجية؛ حجية الصدور، وحجية الدلالة، حجية المضمون، وعدم المعارض، والعمل به، ربما في بحثنا في الأصول أحصيناها إلى إحدى عشرة جهة من كلمات المشهور كي تتم حجية الخبر، فهذه النظرة تختلف عن نظرة السيد أحمد بن طاووس تماماً.

وهل السيد أحمد ابن طاووس هو مؤسس هذه المدرسة؟

نعم، السيد أحمد، وليس السيد علي رضي الدين، مسلكه مسلك المشهور، في كتب الأدعية كالإقبال وغيره، وله مباني رجالية عظيمة قيمة، وهو يختلف عن السيد أحمد بن طاووس تماماً.

هل كان السيد أحمد طاووس بعده؟

لا، السيد أحمد معاصر له، وأستاذ العلامة الحلي وابن داوود.
فهذا في الحقيقة نوع من الغفلة العلمية والأزمة العلمية التي انتشرت في الأذهان، مثلا الوحيد البهبهاني وهو من نجوم علم الأصول، وهو المجدد في علم أصول الفقه، ويسمى أستاذ الكل، ينتقد في “فوائده” وتعليقه على منهج الرجال، هذه المدرسة نقداً لاذعاً ويخطئها، ويبين أنّ مسلك المشهور ليس هذا المسلك.

هناك أيضاً الشيخ علي الخاقاني؛ تلميذ الشيخ مرتضى الأنصاري، ولديه كتاب في شرح فوائد ومباني الشيخ الوحيد البهبهاني، هو أيضاً بيّن الكثير والكثير من مباني الوحيد البهبهاني التي تنتقد مدرسة السيد أحمد بن طاووس.

كذلك الشيخ سليمان الماحوزي صاحب البُلغة الذي كان رئيس الأصوليين في البحرين، وله باع طويل، ويعبّر عنه الوحيد البهبهاني بالمحقق البحراني.
مسلك هؤلاء والميرداماد ليس مسلك السيد أحمد بن طاووس، بل مسلكهم مسلك الوحيد البهبهاني.

ذكرت لك أن مدرسة السيد أحمد بن طاووس -رحمه الله -الآن، تكاد توحي لكثيرين أنّ النجاشي كان مسلكه هذا المسلك، وهذا خطأ كبير، بشواهد كثيرة ذكرناها، منها أنّ النجاشي – رحمة الله عليه – قد يضعّف الطريق، ولكن يقول: كتابه صحيح، عملت به الطائفة، وأحاديثه صحيحه، مما يدل على أنّ الصحة عنده ليس مدارها الحصري الوحيد هو الطريق، ربما يكون عنده الراوي ثقة لكنّ كتابه ضعيف، ومضامينه منكرة.

فإذن النجاشي وابن غضائري وغيرهما مسلكهم مسلك المشهور، وعندنا إن شاء الله في الجزء الرابع شواهد نستسقيها في كل هذا الجانب.

أنا في قناعتي أنه يمكن استخراج عدة كتب من الذريعة للآغا بزرك الطهراني وعدة موسوعات؛ موسوعة رجالية في المفردات الرجالية، موسوعة في قواعد علم الرجال، موسوعة نستخرج منها اعتبار الكتب القديمة وحال الكتب، ولا أظنّ أن هناك من ينافس الآغا بزرك الطهراني في المستوى العلمي في بحث اعتبار الكتب، لأنّ هذا هو تخصصه؛ مضافا لأنه درس عند الميرزا الكبير، والآخوند، والميرزا النوري، وعند الكثير من الكبار، ولقد محض كل حياته العلمية مع نبوغه في علم الرجال، فلذا لا يدانيه في هذا الجانب أحد، وهو رجل نيقد ودقيق ومتضلع، وعاش مع الكبار، وله مدرسته المشهودة.

الشيخ آقا بزرك الطهراني قدس سره مع السيد محمد حسن الطالقاني رحمه الله في مكتبة آقا بزرك الطهراني

طبعاً هناك مدارس أخرى أيضاً، نفس السيد الخوئي اعترف في مقدمة علم الرجال عند الحديث عن قاعدة أصحاب الإجماع التي تقول: ” أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عن هؤلاء”. يقول: أصحاب الاجماع اعتمدوا على كثير من الرواة، يروون عنهم وهم ضعاف.

فهو يعترف أنّ مسلك مشهور الرواة، وكبار الرواة، وفقهاء الرواة، وفقهاء علماء الإمامية ليس مسلكهم مسلك السيد أحمد بن الطاووس؛ ضعف الراوي أو وثاقة الراوي فقط، بل مسلكهم مسلك آخر.

جملة من الكتب الروائية الموجودة رواها أصحاب الإجماع عن أصحابها، بعض أصحاب تلك الكتب قد ضُعّف؛ مما يدل على أنّ مسلكهم لا يجعل المدار على الطريق فقط، بل على صحة الكتاب، وصحة المضمون، وهذا بحث طويل الذيل.

إن لم يكن للباحث في علم الرجال وعلم الحديث باع في علم أصول الفقه، فلن يلتفت إلى هذه الدقائق؛ أيّ حيثية في حجية الخبر هي الركن الركين، ثم الركن الأنزل، ثم .. ثم.. إلى أن يأتي شيء ليس برمز، مثلاً فاتحة الكتاب في الصلاة، الفاتحة واجبة في الصلاة، ولكنها ليست بركن، رغم أنها واجبة؛ فالشرط المكمل شيء، والشرط الركن أو ركن الأركان شيء آخر.

وكلمات علماء الأصول في بداية بحث الانسداد تصبّ في هذا المبحث أيضاً، وهناك مواطن أخرى كثيرة.

وعلى أية حال بالنسبة للتراث هناك غفلات كثيرة وعندي عتب ولاء على المرحوم المجلسي لأنه يقول عندما يقيم السند في مرآة العقول: ضعيف، ثقة، على المشهور، فهذه النسبة للمشهور ليست صحيحة، هذه غفلة من المجلسي الثاني صاحب البحار، هذا ليس مشهورا، هذا مشهور عند الطبقات المتأخرة الذين تابعوا السيد أحمد بن طاووس وليس مشهور بحسب القدماء، وبحسب أكثرية مدارس علماء الإمامية، هذا من الأسباب التي سببت مزيداً من الغفلة أيضاً، رغم أنّه ليس مبناه.

هذا ليس مبنى المجلسي؟

لا، ليس مبناه. لا مبنى المجلسي الأول، ولا المجلسي الثاني.
المجلسي الأول – الأب – من الذين انتقدوا مدرسة السيد أحمد بن طاووس، يقول في روضة المتقين أو في شرحه الفارسي على “من لا يحضره الفقيه” (لوامع صاحبقراني): إني تابعتُ ابن أبي عمير خمسين سنة، وأعرف من خصائص ابن أبي عُمير ما لا يعرفه حتى النجاشي، هذه مسألة هي الاجتهاد في علم الرجال والتراث.

حتى السيد البروجردي مدرسته مدرسة الاجتهاد، مدرسة انفتاح باب العلم في علم الرجال، وليس مسلكه مسلك السيد أحمد بن طاووس.

لكنه هو مشهور بهذا!

لا، أبداً ابداً، يخطأ من يظن أن مسلك ومبنى السيد البروجردي هو مسلك السيد أحمد بن طاووس، أو مسلك السيد الخوئي، وهذا له شواهد عديدة، ولذلك ألّف كتاب “جامع أحاديث الشيعة”، والشاهد على ذلك أنّ السيد البروجردي علّق على كتاب “جامع الرواة “(مجلدين) للأردبيلي _وليس هو المقدس الأردبيلي بل هو شخص آخر_ هذا الكتاب قطعا ليس مبناه مبنى السيد أحمد بن طاووس، ولذا الأردبيلي استكشف حال عشرات مئات الرواة المجهولين الذين لم ينص عليهم النجاشي بشيء.

نعم، يشترك السيد البروجردي من جهة مع السيد الخوئي في بحث أهمية علم الطبقات، لكن السيد الخوئي -رحمة الله عليه – وظّف علم الطبقات فقط لتمييز المشتركات وتصحيح النسخ.

بينما السيد البروجردي وظّف علم الطبقات لمعرفة أحوال الرواة، ومدى وثاقتهم، ومدى ضعفهم، على عكس ما يقال، ولم نشاهد هذا من السيد الخوئي كثيراً، وهذا هو الفارق الجوهري بين السيد البروجردي والسيد الخوئي.

كيف استطاع هذا المنهج الذي نعتبره غير مشهور، أن يسود الحوزة وعلى أقل تقدير في هذا العصر؟ وأنتم تقولون بأن الشيخ المجلسي وهو رجل عالم في هذا المسار ينسبه إلى المشهور، فكيف ساد في دراساتنا الحوزوية؟

نعم هي غفلات حصلت، في فترة من الفترات كانت المرجعية العليا للشهيد الثاني (صاحب المسالك) فتبنى هذا المسلك.
وفي فترة من فترات الأخرى كانت المرجعية العليا للمقدس الأردبيلي، وليست حصرية به، لأن علماء أصفهان كانوا موجودين أمثال الشيخ البهائي وغيره، ولكن كان لديه صدارة في المرجعية العليا.

فالمرجعيات العليا عند الشيعة والنجمية العلمية تبنت هذه المدرسة، كأنما طغى الجانب الرسمي، وإلا السيد محسن الحكيم حتى في كتاب “المستمسك” ليس ممن يتبنى هذا المسلك، وصاحب الجواهر أيضا ليس ممن يتبنى هذه المدرسة حرفياً.
ولا صاحب “كشف اللثام” يتبناه مع أنه كان من أصحاب المرجعية العليا، ولا صاحب “مفتاح الكرامة” ولا الوحيد البهبهاني.

إن مدرسة السيد وحيد البهبهاني برُمّتها، بما فيها العلامة بحر العلوم في رجاله، لا تتبنى مدرسة السيد أحمد ابن طاووس.
للأسف لقد غفل عن هذه الفوارق التي ذكرتها بين مدرسة السيد أحمد بن طاووس ومدرسة النجاشي الكثيرون.

ما سبب هذه الغفلة؟ مجرد رئاسة هذه الأعلام في فترة من الفترات أدى إلى ذلك أم لا؛ هناك عوامل أخرى كدروسهم؟

أنا أتصور عدم الدقة، علاوة على تبني جملة من مراجع الطبقة الأولى لهذا المسلك لعدة قرون.
السبب الثاني هو الغفلة عن المداقة الأصولية في قواعد علم الرجال، ربما ترى رجالي شهير، لكنه لا يملك بصيرة في قواعد علم الرجال ولديه غفلة، هذه الغفلة تبعد البصيرة، إذا دقق الباحث في علم الرجال، ربما يرى في القرون الأخيرة والقرن الذي نعيش فيه، الكثير ممن له باع رجالي، ولكن قدرته التحليلية الأصولية في قواعد علم الرجال ليست بتلك المكانة، وهذا ما يغفله عن التمييز بين المدارس الرجالية أو المدارس الأصولية في علم الرجال.

هل لحضور كتب هؤلاء الأعلام الذين تبنوا هذه المدرسة – مدرسة السيد أحمد بن طاووس، والشهيد الثاني – والتي صارت منهجاً تعليمياً للحوزات مدّة من الزمن دوراً في ذلك؟

نعم، له نوع من الدور، ولايزال مستمراَ.

هذا نوع من التغييب للوعي العلمي بالمدارس الأخرى، وتاريخ أيّ علم لا تقل خطورته عن البحث الاستدلالي في ذلك العلم، فلذا تغييب التاريخ العلمي لأيّ علم، سوف يحدث غفلة علمية كبيرة في ذلك العلم.

إذا أردنا أن نحصي علماءنا؛ المراجع الذين تبنوا هذه المدرسة أو الذين لم يتبنوها، أو من لهم كتب، من بعد السيد أبو الحسن الأصفهاني هل يمكننا أن نعرف لمن الأكثرية؟ إلى أي مدرسة كان ينتمي السيد الحكيم، الإمام الخمينيّ، السيد الخوئي، الشاهرودي، السيد الشهيد الصدر، السيد البروجردي؟

الآغا بزرك الطهراني هو أعلم من في العصر الأخير في علم الرجال توسعاً وتبحراً مع احترامي الكبير إلى جهود السيد الخوئي والشيخ عبد الله المامقاني والكثيرين غيرهم ممن له جهود ولا يمكن أن تُنكر، وعظيمة في أبواب من علم الرجال، والميرزا النوري ايضاً له باع في ذلك وهو الآخر لا يتبنى طبعاً مدرسة السيد أحمد بن طاووس.

ولكن على أي تقدير، أن المحقق الآغا بزرك له شيء كبير، وكان بصيرا في هذه المدارس والمباني، وأستطيع أن أقول إنّه متميز جداً إلى جانب تبحره طبعاً.

لا نريد أن نعرف من هو الأعلم. أقصد إجراء إحصائية في القرن الأخير.

كما ذكرت لك، السيد البروجردي لا يتبنى مدرسة السيد أحمد بن طاووس وفي قناعتي شواهد كثيرة على ذلك، وكذلك السيد محسن الحكيم، لكن إذا أردنا أن نقتصر على من لهم باع رجالي وتضلّع في علم الرجال شيء آخر. قد يكون له تضلع في الفقه والأصول لكنه ذو ممارسة متوسطة في علم الرجال.

المسلك الذي اتخذه الفقهاء في فقههم لم يكن مسلك السيد أحمد بن طاووس. السيد محسن الحكيم لم يكن مسلكه ذلك، والسيد البروجردي، السيد الخميني هكذا.

السيد اليزدي _حسب ما يلاحظ_ كذلك، ليس مسلكه مسلك السيد أحمد بن طاووس. الإنسداديون طُرٍّا هكذا، السيد صاحب الرياض ليس هذا مسلكه، وصاحب مفتاح الكرامة، وبحر العلوم. أستطيع أن أقول إن أغالب تلاميذ الوحيد البهبهاني ليس مسلكهم مسلك السيد أحمد بن طاووس.

ماذا عن بقية المشاهير؟ أو تلامذة السيد الخوئي مثلا الشهيد الصدر أو الشيخ وحيد الخراساني؟

الذين تلمّذوا على يد السيد الخوئي غالباً متأثرين بالسيد الخوئي.

وهل هم مستمرون في مسلكه بنفس التشدد؟

بعضهم أكثر، والكثير منهم لا.

برأيكم كيف كان مسلك الإمام الخميني(ره) في علم الحديث؟

من خلال متابعاتي الفقهية التي حصلت لي مع استدلالات السيد الخميني -رحمة الله عليه – أظن أنه ليس ممن يبني على مدرسة السيد أحمد بن طاووس لذلك الحد، و ربما تأثّر (في الرجال) بالسيد البروجردي أكثر من تأثره بمدرسة السيد أحمد بن طاووس.

هذا التشدد الذي تفضلتم به…

هذا ليس تشدداً. أنا لم أنصف إن قلت تشددا. إنه مدرسة، فالتشدد هو الجهد العلمي الدقيق.

لنقل هذا التمحور حول السند

نعم. التمحور حول السند والطريق، حقيقة السند والطريق هل هو في الطريق أو في الكتاب؟ هذا بحث علمي وصعب، محل البحث معرفة أنّ حقيقة الطريق في صورة الطريق أو في الكتاب؟

أنا لا أنصف الحقيقة إن قلتُ إنّ مدرسة السيد أحمد بن طاووس متشددة، هي متساهلة في التحليل والمباني العلمية من جهات عديدة، وليست متشددة، المتشدد هو الذي يراعي أكثر.

أقصد التشدد في الأخذ بالسند

حتى ولو كان قصدك هكذا، هذا ليس تشددا. بل كان عندهم تساهل في جوانب عديدة.

هذا التمحور حول السند كركن للاعتبار..

إذا كان الكتاب غير موثوق، فهل يوثق بصورة السند الموجودة فيه؟! ثَبّت العرش ثم انقش، أليست صحة السند وعدمها من صورة الرجال الموجودة فيه؟ لذلك عند القدماء الكتاب هو روح السند.

المنهج في مدرسة السيد أحمد بن طاووس يعتمد على الصورة وليس على اللب والروح، لذلك أقول ليست بمدرسة متشددة، هي في الحقيقة صورية تماماً وقشرية، هي مسلك محدثين أكثر مما هي مسلك أصوليين ومحققين، ولا أعنّف في الحديث إن قلت إنها ليست مدرسة تحقيق أصلاً بل مدرسة تسفيل صوري قشري، مع احترامي الكبار.

وهل تذكرون مثالاً على أخذهم برواية واعتبارها صحيحة رغم أنها في كتاب غير موثوق به؟

قوة الكتاب ووثاقته ليست لديهم ذات أهمية، المهم وثاقة صاحب الكتاب. بينما القدماء لم يكونوا كذلك؛ فقد اعتنوا بدرجات ضبط الكتاب، وصاحب ضبط الكتاب، وقوة الكتاب واشتهاره يضفي على السند شيء آخر، بل هو روح السند وهو حقيقة السند، بمعنى أن السند هو الموضوع، وصحته هي المحمول، فإذا لم يكن أصل الموضوع مبيّنا فمن أين تظهر الصحة؟

يخيل الى الذهن أن من يبحث عن الصدور من جوانب متعددة ويجعل للسند أيضاً درجة من الاعتبار لكنها ليست الوحيدة؛ تتقلص خزانته الحديثية، لكننا نرى أنّ الذين يعتقدون بالسند كمحور وكركن ركين هم الذين تتقلص عندهم الخزانة الحديثية، حتى أن البعض يعتقد أنّ من يلتزم بهذا المسلك سيذهب ثلثي الكافي من عنده.

هذا خطأ أيضاً، أحد جوانب الغفلة عند أتباع مدرسة السيد أحمد بن طاووس هي نسيان المتواتر ونسيان المستفيض، نظرة المتواتر والمستفيض ليست نظرة أحادية للخبر، أن تنظر إلى الخبر الواحد نظرة أحادية وكأنه هو موجود فقط ولا خبر غيره، من المشاكل الموجودة في مدرسة السيد أحمد بن طاووس.

منعزل عن أي شيء؟

منعزل عن كل المنظومة، والحال أنّ المتواتر الذي هو أعظم من الخبر الصحيح والمستفيض الذي هو أعظم من الخبر الصحيح يعتمد على نظرة منظومية مجموعية. فلو افترضنا أنّ حديثا باُحاديته وانفراده لم تتوفر فيه شرائط فمن قال إنّه بمنظومية مجموع لا تتوفر فيه حينئذ آثار، أقوى مما لو كان صحيحا.

هذه من الغفلات الكبيرة جداً في مدرسة السيد أحمد بن طاووس، والتي انعكست بقوة للأسف على مدرسة السيد الخوئي.
يعني أن أنظر إلى الخبر الواحد أحاديا وانفرادياً ليست هذه نظرة واقعية، الواقع المجموعي لنظام الحجية هو مجموعي، وليس انفراديا وأحاديا.

هل أستطيع أن أعمل بالخبر الصحيح من دون أن أفحص عن معارض أو مخصص أو مفسّر؟ لا! لماذا؟ لأن طبيعة حجية الخبر الواحد منظومية.

لهذا أنا أقول أنّ مدرسة السيد أحمد بن طاووس ليست مدرسة تشدد، بل هي مسلك أقرب إلى مسلك المحدثين منها إلى مسلك الأصوليين.

هناك من يثور على مسلك السيد خويي والسيد أحمد بن طاووس، يقول إذا أخذنا بهذا المنهج فلن نستطيع إثبات ولادة الحجة (عج) والكثير من الأمور.

هذا ايضاً من الغفلات، فهذا المسلك ليس من قاموسه أن ينفي التواتر، أو ينفي الاستفاضة، والتواتر على الأقسام: لفظي، معنوي، إجمالي. وتنقسم الاستفاضة إلى أقسام كثيرة. وحيث لا ينفون غفلوا عن مراعاة النظرة المجموعية، لا أنّ مبناهم ينفيها، هم لا يمكنهم أن ينفون؛ لأن الدين ثابت بالتواتر، فكيف ينفون! فهذه غفلة في غفلة.

هم لا ينفونه ولا يبينونه بشكل كامل.

لا يستطيعون أن ينفون، بنيوياً الأمر قائم على هذا، ولكن غافلوا عنه نعم، الغفلة موجودة، حتى على مسلك السيد الخوئي، يمكن إثبات ذلك؛ من يقول ذلك ليس له باع ولا تضلع لا في علم الحديث ولا في علم الرجال. يطلق الكلام على عواهنه؛ لأنه يوجد على مسلك السيد الخوئي سند صحيح قطعي الصدور، وسند صحيح في إرشاد الشيخ المفيد عن رؤية أربعين عالماً من علماء الشيعة لصاحب العصر والزمان في محضر أبيه الإمام الحسن العسكري، وكثير وكثير غيره.

يعني هذا الكلام ناتج عن عدم التتبّع والاطلاع؟ وحتى على مسلك السيد الخوئي لا يذهب من عندنا الشيء المهم والكثير؟
لا، لأنّ هناك نوافذ أخرى نلزمهم بها لقوة التراث وضخامته.

فما هو الأثر إذن؟

هذا منبّه على أنّ هذا المسلك ليس مسلك يعتمد على البنى العلمية بشكل كامل، بل فيه غفلات ولا أقول فيه إنكار، بل فيه غفلات عن نوافذ أخرى غير مفعّلة، في حين أنه تخدشه جملة من المباني.

ما هو الأثر الفقهي الواقعي في الفقه الإمامي باختيار المنهجين؟

فيه الشيء الكثير، طبعاً ليس فقط منهجين، أنا أقول هناك مدارس لعلماء الإمامية، مدارس كثيرة، لاحظ طابع المسار الفقهي عند السيد الخوئي وطابع المسار الفقهي عند المستمسك للسيد محسن الحكيم أو الجواهر.

مثال ذكرته؛ لو تلاحظ الدورة الفقهية الاستدلالية لصاحب الرياض وصاحب الجواهر ومفتاح الكرامة وكشف اللثام ومستند النراقي وغيرها من موسوعات فقهية كثيرة، وحتى كتب العلامة الحلي؛ المبسوط، والمعتبر، لا تراهم يستثنون الأخبار الضعيفة، إلا إذا كانت معارضة.

فهناك فرق بين النظرة المجموعية وبين النظرة الأحادية؛ بخلاف مسلك صاحب المدارك، أو مسلك المقدس الأردبيلي، أو مسلك السيد الخوئي المتشدد، فإذن هناك فارق كبير بين المسلكين، طبعا هذا الفارق في المساحات غير الضرورية، والمساحات النظرية.

تقصد لا يوجد اختلاف كبير في العمل الفقهي؟

لا، لا يمكن لأحد أن يرفع اليد عن الضروريات. لكن الذي في الجانب النظري أو غير الضروري يوجد اختلاف في الفتاوى، وبالتالي مشهودة.

حسبما استجد الآن من ظروف وأسئلة ورجوع إلى الدين من قبل الشرائح المتنورة أو المثقفة أو التي عاشت في أجواء غير إسلامية، ظهرت أسئلة ومستجدات، فهل يوجد فارق في اختيارنا لهذا المسلك الروائي أو ذاك من المسالك ومناهج الأخرى في الإجابة عن هذه الأسئلة؟ وهل تؤثر هذه النظرة المجموعية وهذه النظرة المنظومية، في قدرة الدين وفي قدرة الفقه الشيعي على الإجابة عن الأسئلة الجديدة أم لا أثر لذلك في هذه المجالات؟

أحد جوانب في مدرسة السيد أحمد بن طاووس تعتمد على النقل الحسي أو السماع أكثر من اعتمادها على ركن الفهم، فالمقصود بـ: ” لولا نفرَ” أخذ الرواية. وبـ ” ليتفقهوا” ليتفهموا. إذن محور الفقاهة سواءً في الفروع أو المعارف أو في التفسير أو في الأخلاق هو الفهم والتحليل للمنظومة، بينما محور الرواية له مسلك التحديث، والسماع، بلا شك لا بدّ من السماع والرواية، لكن الرواية لأجل غاية الدراية والفهم.

لذلك هناك فرق بين المنهجين، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: “رب حامل فقه وليس بفقيه”، أو “ربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه”، فترى أنّ النبي أكدّ على جانب الفهم، الذي أكدت عليه الآية القرآنية؛ فالنفر يعني الرواية لأجل غاية أكبر هي فهم الرواية، لا فهم كلام البشر.

لدينا في معاني الأخبار للصدوق: “حديث تدريه خير من ثلاثة أحاديث ترويها”. وفي رواية أخرى: “حديث تدريه خير من عشرة أحاديث ترويها”. في رواية ثالثة: “حديث تدريه خير من ألف حديث ترويه”؛ فبحسب درجة الفقاهة والفهم تكون الأهمية والأفضلية، وهذا هو مسلك المشهور الذي نقول إنّه يعتمد على المضمون والفهم، والرواية فيه شرط مكمّل، بينما مسلك السيد أحمد بن طاووس يجعل الرواية هي الركن الركين، ويصبح الفهم على الهامش، وهنا تكمن الخطورة، لا بدّ للفهم مع الرواية إذ الدين قائم على الفهم.

في رواية أخرى ذكرت في بدايات الکشي إلى جانب روايات متعددة، وجاءت في الكافي أيضاً، يقول الامام الباقر لابنه الصادق عليهما السلام: “يا بني اعرف منازل الشيعة على قدر رواياتهم ومعرفتهم، فإنّ المعرفة هي الدراية للرواية”.

لذلك نقول مسلك المشهور هو مسلك الفقهاء، بينما مسلك السيد أحمد بن طاووس هو مسلك الرواة، الاعتماد فيه على الجانب الصوري والقشري أكثر من جانب الفهم الذي هو شيء غير مرئي.

ماذا يجب أن نفعل كي نقوّي الجانب الفقهي الفقاهتي في الحوزة؟

يجب أن نهتم بكلّ التراث، لأننا نتعامل معه بلحاظ مضمونه، لاحظ النجاشي وابن الغضائري ” الابن” والكشّي، وكلهم من القدماء، يقول: الراوي ضعيف، ولكن أحاديثه تُعرف، أو حديثه يعرف وينكر. ماذا يقصدون بـ “يُعرف”؟ يقصدون حديثه مطابق للأصول والمحكمات. أي يدرس المضمون ولا ينظر فقط إلى الراوي.

بينما على ما أتذكر إذا لم يتم الراوي عند السيد أحمد بن طاووس، يكون عنده كالعدم، وهذا خلاف النجاشي وابن الغضائري والكشّي والطوسي، وخلاف كل القدماء.

أعتقد أننا عندما نأخذ بمنهج المشهور، تكتمل المنظومة الدينية عندنا أكثر؟

طبعاً، يصير الاعتماد على البُنى الدستورية في الدين، وعلى المحكمات.

أكبر شرط ذُكر في الروايات حول الخبر الواحد هو: وافق الكتاب، وخالف الكتاب، وافق السنة القطعية، وخالف السنة القطعية. يعني المضمون.

القرآن الكريم في آية (إذا جاءكم فاسق بنبأ) هل يقول: فأعرضوا عن هذا الخبر وعن هذا النبأ، واعتبروه كالعدم؟ أم أنه يقول ابحثوا وافحصوا، هل مضمونه صحيح أم لا؟ هذا فرق جوهري بين مدرسة السيد أحمد بن طاووس والسيد الخوئي ومدرسة المشهور.
والقرآن يقول: (فتبينوا)، أي افحص لا أنك ترد الخبر، الآية الكريمة أحد أدلة حرمة رد الخبر، لا تَرُد بل تبين وافحص، ليكن الاحتمال عامل وسبب للفحص وليس عامل نوم وسبات.

ختاما لهذا الحديث حول المنهج الروائي هل لديكم توصية للطلبة أو إشارة أو شيء تودون أن تضيفوه؟

أنا أؤكّد على ضرورة اطلاع جو العلمي على تعدد المدارس الرجالية للعلماء، وإن لم يحصل انتباه دقيق إلى تعدد المدارس فسوف تكون غفلات خطيرة، وكنموذج أوصي كثيرا بكتاب الذريعة لمباني المحقق الآغا بزرك الطهراني والوحيد البهبهاني -رحمة الله عليهما -له مباني قوية جداً، وهي تشرح مباني مشهور القدماء من أصوليين.

 

الهوامش

(1) أبو محمد الحسن بن علي، الملقب بتقي الدين (647ـ بعد 707 هـ)

(2) الحسن بن يوسف بن علي بن محمد بن مُطهّر الحلي (648 ـ 726 هـ)، المعروف بالعلامة الحلّي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Slider by webdesign

Clicky