الاجتهاد: يبين الدكتور الريسوني في المبحث الثاني من الفصل الثالث من كتابه ( الكليات الأساسية للشريعة الإسلامية ) التضييق الذي حصل في مفهوم الشريعة والتشريع والأحكام الشرعية وحصر مفهوم الأحكام. وهو الأمر الذي امتد وتحول إلى قدر كبير من الإغفال وعدم الإعمال للنصوص والقواعد الكلية، ولمصدريتها وحجيتها في استنباط الأحكام و توجيهها.
الكليات الأساسية للشريعة الإسلامية ” كتاب ألفه الدكتور ” أحمد الريسوني “و نشرته ” دار الكلمة للنشر والتوزيع “. فكما يدل عليه عنوانه، هو كتاب يهدف بالأساس إلى إبراز ” الكليات الأساسية ” بشكل مفصل بسيط ، حيث تكمن قيمة هذا الكتاب في الطرح السلس المتقن الذي لا يبلغه إلا ملم بالمادة ومضطلع إجمالا على التحديات التي تواجه المسلم الفرد والمسلمين المجموعة.
هذه التحديات التي تستلزم استحضار الكليات والإستبصار بها درءا للمفاسد المحتملة والناجمة عن خلط الأصول بالفروع والإضطراب في الأحكام وفي تدابير الحياة عامة وغيرها من الأخطاء العابثة المفضية إلى التيه والضياع عند التعامل الخاطئ مع القرآن والسنة وعموم التراث الفقهي والعلمي، ما يجعلها ” كليات ” و ” أساسية ” ضابطة لميزان التعامل مع المراجع.
و ليس هذا الإتقان غريب على فضيلة الدكتور ” أحمد الريسوني ” ، فهو الأستاذ الشيخ المتخصص في علم أصول الفقه ومقاصد الشريعة الإسلامية، والمعروف بسمته الهادئ وبساطته ودقته الرسالية ومسيرته العلمية والتعليمية. قدم الدكتور ” أحمد الريسوني ” الكتاب في ثلاثة فصول ثم ” كلمة أخيرة “.
أما عن الفصل الأول،
فعنوانه ” الكليات التشريعية ومكانتها في القرآن والكتب السابقة “، إذ تضمن هذا الفصل ثلاثة مباحث :
1) الشريعة والتشريع بين التضييق والتوسيع :
من خلال هذا المبحث بين الدكتور بأنه ليس هناك فرق جوهري بين الشريعة والتشريع. إذ أن ” الشريعة” مصطلح يستعمل بمعنى الأحكام العملية دون الاعتقادات القلبية وأن ” التشريع” أصبح يراد به المعنى الاصطلاحي الضيق من سن للقوانين التي تصدر عن الدول والحكومات. ثم مضى المؤلف بتوضيح شمولية ” الشريعة ” وسعتها على عكس ما شابها وشاع عنها من تضييق، فصار الكلام عن الشريعة وعن تطبيق الشريعة والعمل بالشريعة ومرجعية الشريعة… يراد به عند الكثيرين ، ما يتعلق بالشؤون العامة ويدخل في اختصاص الولاة والقضاة.
في هذا السياق يوضح المؤلف إلى أن هذا التضييق وهذا القصر، لا أساس له، ولا تحتمله أصول الشريعة وقواعدها التشريعية التي لا تعرف التفريق بين عبادات وجنايات وآداب ومعاملات، ولا بين أحوال شخصية وأخرى غير شخصية…وإنما بدأ ونشأ هذا المفهوم الضيق للشريعة والتشريع مع شيوع استعماله على ألسنة السياسيين والقانونيين من أساتذة جامعيين، ومن قضاة ومحامين ومشرعين… “.
و يتم بقوله : ” أما في الشريعة وفي التشريع الإسلامي : فإن الصلاة تشريع، والتيمم تشريع، وقطع يد السارق تشريع، وتحريم الربا تشريع، والطواف بالبيت تشريع، وعدة المطلقة تشريع أو المتوفى عنها تشريع، والشورى تشريع، وتحريم الغيبة والنميمة تشريع، وبر الوالدين تشريع، والجهاد تشريع، وأحكام الزكاة تشريع، وآداب الأكل والشرب تشريع، وخصال الفطرة تشريع، والعدل والإحسان في كل شئ تشريع … وهكذا بلا فرق”.
والتشريع بالنسبة للدكتور ” أحمد الريسوني ” كل ما له مقتضى عملي في حياة الإنسان، أيا كانت صفة هذا الإنسان وأيا كان نوع هذا المقتضى ومجاله، فكل قاعدة كلية تقتضي أثرا وفعلا أو سلوكا في حياة الإنسان أفرادا أو جماعات، فهي عند الدكتور ” أحمد الريسوني ” من ” الكليات التشريعية ” وهي نوع من ” التشريع “، ولا تعنيه – كما يقول – بعد ذلك التصنيفات والتقسيمات الفقهية أو القانونية أو المدرسية أو التاريخية.
هنا استشهد المؤلف بمثال تقسيم الدكتور ” محمد عابد الجابري ” للقرآن إلى قسمين : قسم مكي ينتمي إلى قرآن الدعوة، وقسم مدني ينتمي إلى قرآن التشريع. و بين الدكتور ” أحمد الريسوني ” من خلال هذا المثال الحصر الذي شاب معنى ” الشريعة والتشريع ” وما يمكن أن ينجم عنه من لبس. بعد ذلك ينتقل المؤلف إلى المبحث الثاني من هذا الفصل.
2) آيات القرآن بين الإحكام والتفصيل :
هذا المبحث الثاني يعنى بتوضيح الفرق بين الآيات المحكمات والآيات المفصلة على اعتبار – حسب المؤلف – أن مجموع القرآن الكريم هو عبارة عن آيات أحكمت، ثم فصلت آيات تم إحكامها، ثم وقع تفصيلها، وكل ذلك من لدن حكيم خبير، فهو الذي أحكم المحكمات بحكمته، وفصل المفصلات بخبرته كما يقول. و أن الآيات المحكمات هن أصول وأمهات لغيرها، مما يندرج فيها أو يتفرع عنها أو يخضع لها، من التفصيلات والجزئيات والتطبيقات.
ومجمل الدين وشريعته مؤسس على هذه المحكمات الكليات ونابع منها. وبين المؤلف بعد ذلك الترتيب الذي توالى بحسبه نزول الآيات بالتدريج، والحكمة من هذا الترتيب حيث أنها ليست على درجة واحدة لا من حيث كليتها وعمومها، ولا من حيث رتبتها وأولويتها، بل بعضها أولى على بعض. وتطرق من خلال هذا المبحث إلى أساليب القرآن الكريم في عرض مضامينه وأداء وظائفه من خلال الإحكام والتفصيل والكليات والجزئيات.
3) الكليات المشتركة بين الكتب المنزلة :
هو المبحث الثالث في هذا الفصل حيث يشير الدكتور ” أحمد الريسوني ” من خلاله إلى أن الكتب السماوية والشرائع المنزلة متفقة في الكليات، مختلفة في الجزئيات، واختلافها في الجزئيات لا يعني اختلافها في جميع الجزئيات.
وأما الفصل الثاني : ” كليات القرآن تصنيف وبيان ” :
ففيه أربعة مباحث، إذ يبين من خلاله المؤلف بأن القرآن ليس كتابا تعليميا مدرسيا، ولا تصنيفا فكريا فلسفيا، ولا مدونة قانونية مبوبة، بل هو ابتداء وانتهاء، كتاب هداية وتزكية، وفي سبيل هذه الغاية وفي خدمتها تأتي الأحكام والتكاليف جزئية كانت أو كلية. وفصل فيما بعد تصنيف الكليات إلى أربعة أصناف من خلال المباحث الأربعة التالية :
1) الكليات العقدية، يقصد بها الأصول الاعتقادية الإيمانية الكبرى، التي تمثل المرتكزات الأولية للدين،
وقد سماها ” ابن رشد ” في ( فصل المقال ) ب ” مبادئ الشريعة “، على اعتبار أن الشريعة بمعناها الواسع ترجع إلى هذه المبادئ. ويأتي في مقدمة الكليات العقدية : *الإقرار بالله وحده لا شريك له، *والإيمان بالأنبياء والمرسلين، *والسعادة الأخروية للمؤمنين، *والشقاء الأخروي للمعاندين.
2) الكليات المقاصدية،
هي المعاني الأولية والغايات الأساسية الجامعة، التي لأجل تحقيقها خلقت الخلائق و وضعت الشرائع والتكاليف وجمعها الدكتور ” أحمد الريسوني ” في أربع : *ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، * التعليم والتزكية، *جلب المصالح ودرء المفاسد، * قيام الناس بالقسط.
3) الكليات الخلقية،
وهنا يوضح المؤلف فكرة الأخلاق بطبيعتها قضايا كلية، وأن كل خلق – بمفرده أو مع غيره – يمثل نمطا في السلوك ومنهجا في الحياة، أي أن كل خلق هو قاعدة سلوكية كلية. والأخلاق عبارة عن الخصال النفسية المعبر عنها بواسطة السلوك العملي المستمر، فلا بد في الأخلاق من تحقيق هذين الجانبين : الجانب النفسي، والجانب العملي. وجمع المؤلف الكليات الخلقية في كليتي : ” التقوى و الإستقامة “
4) الكليات التشريعية،
وهي قواعد أصولية فقهية كبرى، وقواعد مرجعية مباشرة لاستمداد الأحكام الشرعية العملية.يذكر من خلال هذا المبحث بأن المؤلف يعني بالتشريع كل ما يقتضي فعلا أو تركا، بشكل مباشر أو غير مباشر. وبهذا المعنى، فجميع الكليات التي سبق ذكرها، هي كليات تشريعية، ولكن بعضها ألصق من بعض بالتشريع وتجلياته العملية. وجمع هذه الكليات التشريعية في سبع مع تفصيل متقن لها :
*الأصل الإباحة والتسخير، *لا دين إلا ما شرَعه الله ولا تحريم إلا ما حرمه الله، *تحليل الطيبات وتحريم الخبائث، *التكليف بحسب الوسع، *الوفاء بالعهود والأمانات، *التصرف في الأموال منوط بالحق والنفع، *وتعاونوا على البر والتقوى.
ثم بعد ذلك يأتي الفصل الثالث والأخير من كتاب الكليات الأساسية للشريعة الإسلامية .
الفصل الثالث : ” الكليات التشريعية : قضايا أصولية فقهية “:
هذه القضايا الأصولية التي تطرقت إلى ” النسخ والتخصيص ” و هو المبحث الأول من هذا الفصل، و الذي يفضي إلى أن القضايا والمبادئ والأحكام الكلية، لا يقع فيها نسخ؛ فهي متكررة مستقرة مستمرة في جميع الشرائع. ثم ” التشريع الإسلامي بين الكليات والجزئيات ” وهو المبحث الثاني.
والذي يبين من خلاله التضييق الذي حصل في مفهوم الشريعة والتشريع والأحكام الشرعية وحصر مفهوم الأحكام. وهو الأمر الذي امتد وتحول إلى قدر كبير من الإغفال وعدم الإعمال للنصوص والقواعد الكلية، ولمصدريتها وحجيتها في استنباط الأحكام و توجيهها.
واختتم الدكتور ” أحمد الريسوني ” كتابه بقوله : ” نحن المسلمين، بدايتنا القرآن الكريم، والقرآن الكريم أنبأنا أن مما فيه: آيات محكمات هن الأمهات، وهن بداية البداية. فعلينا أن نركز أنظارنا، أبصارنا وبصائرنا، على هذه المحكمات الأمهات، فنستحضرها ونستبصر فيها ونتشبع بها. ثم من خلالها نتعامل مع سائر آي القرآن الكريم.
ومن خلالها ومن خلال القرآن الكريم، نتعامل مع السنة النبوية والسيرة النبوية. ومن خلال هذا كله ـ حسب ترتيبه ـ نتعامل مع فقه الصحابة ( ولا أعني ” قول الصحابي ” بمعناه الأصولي)، ثم فقه الأئمة وفقه الفقهاء، وعامة تراثنا العلمي.. وإذا كثرت علينا الأمور وتشعبت، أو اختلطت علينا واضطربت، فلنرجع ولنحتكم إلى البداية وبداية البداية، نفيء إليها آمنين مطمئنين “.
الكليات الأساسية للشريعة الإسلامية