الاجتهاد: كان العلامة محمد باقر المجلسي رحمه الله حريصاً في طلب العلم وحفظ التراث من الضياع حيث كانت الأصول المعتبرة مهجورة، إما لاستيلاء سلاطين المخالفين أو لرواج العلوم الباطلة بين الجهال المدعين للفضل أو لقلة اعتناء جماعة من المتأخرين، فطفق يجمع العلوم من خلال كتاب الله و أخبار أهل البيت “عليهم السلام”.
بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار علیهم السلام أحد كتب الحديث المشهورة لدى الشيعة الإثني عشرية. جَمَعه محمد باقر المجلسي (1037 هـ-1111 هـ) في زمن الدولة الصفوية. يحتوي على الكثير من الأحاديث من النبی و الأئمة الاطهار علیهم السلام ، ويعدّ من أكبر كتب الحديث حيث يتكون من 110 مجلدات.
السجايا المعنوية للعلامة المجلسي
إن رجال الدين لا يتلقون دروس العلم والمعرفة فقط من اساتذتهم، بل يكسبون ايضاً” النهج والسلوك المعنويين من هؤلاء العرفاء بالله، والعلامة المجلسي اجتاز بسرعة الدرجات المعنوية والكمالات الروحية بعد اجتيازه الدرجات العلمية، ولذلك يمكن نعته، بـ (العالم الرباني)
ويتضح هذا الادعاء من خلال التفحص في سجاياه الاخلاقية وخصائصه التي نشير كما يلي الى ابرزها:
1ـ ذكر الله:
ويقول تلميذ المجلسي (نعمت الله جزائري) حول استاذه: لم يغفل العلامة أبدا عن ذكر الله حيث كان يؤدي كل اعماله بقصد القربة الي الله تعالى.
2ـ الزيارات:
كان العلامة يعير اهتماما كبيرا لزيارة ائمة الهدى عليهم السلام، ورغم الصعوبات في ذلك الوقت والامكانيات البسيطة جدا، فقد تشرف بزيارة الائمة في العراق والبقيع ومشهد المقدسة، وكان يقيم مدة طويلة في جوارهم في كل سفر، وقد تشرف ايضا بأداء مناسك الحج لبيت الله الحرام عدة مرات.
3- التوسل:
الاهتمام الخاص بالتوسل بالمعصومين عليهم السلام أدى الى أن يدرج العلامة المجلسي مواضيع كثيرة حول الأدعية والزيارات في كتابه “بحار الأنوار”، كما ألف عدة كتب منفصلة في موضوع الأدعية والزيارات، منها:
“زاد المعاد” و هو مصدر مهم في كتب الادعية الأخيرة، و”تحفة الزائر” وترجمات من “الزيارة الجامعة الكبيرة”، و”دعاء السمات”، وغير ذلك.
4- الزهد والتقوى:
ابرز صفات هذا الرجل الكبير في حياته هو زهده و تقواه وبساطة معيشته، حيث كان العلامة المجلسي يعيش في العصر الصفوي، وكان شيخ الاسلام في هذه الحكومة، وكانت كافة امكانيات الحكومة تحت تصرفه، ولكن مع كل ذلك كانت حياته الشخصية بسيطة يلفها الزهد.
5- التواضع:
إن التواضع هي احدى ميزات العلامة المجلسي، حيث لم يكن ينظر الي المنصب الاجتماعي علوا و دنوا أو أعمار الناس، ولقد نقل مواضيع كثيرة في كتاب بحار الأنوار عن السيد علي خان مدني، الشارح الفاضل للصحيفة السجادية، علما بان السيد علي خان يصغره بـ 15 سنة، وكان أقل مكانة ومنزلة اجتماعية منه.
لقد اجتمعت كل هذه الخصال الروحية والكمالات المعنوية مع علمه ومعرفته الوفيريْن لدي العلامة، ما جعل منه شخصية عالية يصعب العثور على مثله في التاريخ.
الاوضاع السياسية
إن علماء الشيعة الكبار رغم الضغوط والحرمان والاضطهاد الكثير طيلة التأريخ بذلوا جهودا مضنية وقيمة، وتركوا لنا تأليفات غنية، ورووا شجرة التشيع بصبرهم وجهودهم الكبيرة، وأوصلوا تراث النبي العظيم (ص) إلينا.
وخلال ذلك كلما تحسنت الظروف نسبيا آنذاك وقلت الضغوط على الشيعة، نشاهد ازدهارا لامثيل له في ظهور فقهاء وعلماء وفلاسفة شيعة، ومن هذه الفترات، عصر الشيخ المفيد والشيخ الطوسي اثناء حكم آل بويه، وكذلك خلال العهد الصفوي وزمن العلامة المجلسي.
ونظرا لانتساب الملوك الصفويين الى التشيع ونسبهم للائمة الاطهار عليهم السلام، استفاد العلامة من هذه الفرصة خير استفادة، وتأليف أكبر موسوعة لأحاديث الشيعة كان صعبا في غير هذه الفترة، مع عدم وجود امكانيات اقتصادية كبيرة.
الفترة الزمنية:
لقد ولد العلامة محمد باقر المجلسي في زمن شاه عباس الاول الذي كان رجلا يتمتع بالسياسة والكفاية وكان في نفس الوقت رجلاً” قاسي القلب وظالما، وعند ما وصل شاه صفي بعده الى السلطة، انفصل العراق من الدولة الايرانية، وبعد شاه صفي وصل شاه عباس الثاني الى السلطة، وكان عمره 9 سنوات، حيث طلب العلامة منه في مراسم التتويج أن يمنع شرب الخمر وبيعه وبعض الاعمال المنكرة، وقد نفذ توصيات العلامة، ولكن بالتدريج انغمس هو ايضا كبقية الملوك في شرب الخمر.
المكانة الاجتماعية:
كان العلامة المجلٌسي يحظى بنفوذ كبير بين الناس، حيث استطاع ان يوجه الناس من الخمارات والمقاهي نحو المساجد بعلمه الغزير ونفوذه المعنوي وبيانه الساحر، وقد تميزت المساجد في عهده بازدهار كبير، وخاصة في شهر رمضان المبارك وليالي القدر حيث كانت المساجد تكتظ بكثافة.
وكان للعلامة ايضاً” نفوذ واسع بين السلاطين الصفويين، لقد كان سياسيا مقتدرا وقد حفظ البلد من هجوم واعتداء الأعداد بتدبيره اثناء حكم السلاطين الفاشلين.
ولقد عمت الفوَضى في البلد بعد وفاة العلامة المجلسي إذ هجم الأفغان علي ايران وأسقطوا الحكم الصفوي.
وقام العلامة باستنساخ كثير من المخطوطات النادرة وكتب القدماء فأنقذ الثرات الشيعي العظيم من الضياع.
سلوكه العلمي
كان للعلامة محمد باقر المجلسي اسلوب معتدل بين الاصولية والإخبارية، رغم أنه كان متحدثا كبيرا، كان يهتم اهتمالا خاصا بالعلوم العقلية، ويعتبر من الرجال الكبار واساتذة العلوم العقلية كالفلسفة، لكنه كان يجد كل شئ في مصدر وينبوع الوحي، وقد كرس حياته وجهوده لنشر روايات المعصومين عليهم السلام.
إن حساسيته الوحيدة كانت تكمن في الانحراف في الدين، وكان يرى في زمانه انتشار الصوفية، وبادر لمكافحتها بحزم فانتصر انتصارا باهرا في هذا الاطار بالاستعانة بأهل البيت عليهم السلام.
لقب (العلامة)
لقد نال المجلسي لقب العلامة من شخصيات كبيرة مثل الوحيد البهبهاني والعلامة بحر العلوم والشيخ الأعظم الأنصاري، وهؤلاء الكبار يعدون بحرا متلاطما من العلوم والمعارف الاسلامية، وحين وجدوا شأن ومنزلة العلامة المجلسي استعملوا هذا اللقب بحقه حيث أنه كان في الواقع علامة زمانه.
وجه التسمية بـ المجلسي
قال العلامة محمد باقر المجلسي نقلا عن مرآة الأحوال: إنه لما كان جده “مقصود علي” بصيرا ورعا مروجا لمذهب الإثني عشرية جامعا للكمال والحسن في المقال، وكان له أبيات رائعة بديعة، ولحسن محاضرته وجودة مجالسته سمّي بالمجلسي فصار هذا لقباً في هذه العائلة الجليلة والسلسلة العلية، وقيل أن ذلك يعود الى قرية في اصفهان يقال لها «مجلس» كان الشيخ محمد تقي يقطنها فلقبت الاسرة بها.
دعاء أبيه له
روي عن والده الجليل المولى محمد تقي أنه قال: إنه في بعض الليالي بعد الفراغ من التهجد عرضت لي حالة عرفت منها أني لا أسأل من الله تعالي شيئا حينئذ إلا استجاب لي، وكنت أتفكر فيما أسأله عنه تعالي من الأمور الأخروية والدنيوية وإذا بصوت بكاء محمد باقر في المهد فقلت: إلهي بحق محمد وآل محمد (ص) اجعل هذا الطفل مروج دينك وناشر أحكام سيد رسلك (ص) ووفقه بتوفيقاتك التي لا نهاية لها. وعن صاحب قصص العلماء أن المولى محمد تقي أمر زوجته أن لا ترضعه الا وهي علي طهارة .
شيخ الاسلام في اصفهان
لقد تم تعيين العلامة محمد باقر المجلسي سنة 1098 بمنصب شيخ الاسلام في اصفهان من قبل الشاه سليمان الصفوي، ولقب “شيخ الاسلام” كان أعلى واهم منصب ديني وتنفيذي في ذلك العصر، لقد كان قاضيا وحاكما في النزاعات والدعاوي، وكافة الشؤون الدينية كانت تتم تحت اشرافه المباشر وجميع الأموال الشرعية ترسل اليه.
كان شيخ الاسلام يتولى مسئولية أبناء السبيل واليتامى، وقد قبل هذا المنصب بطلب والحاح من الشاه، وقد تولى العلامة كان يتولى هذه الوظيفة المهمة حتى نهاية حياته.