خاص الاجتهاد: جسّد التلاحم المنقطع النظير للشعب الإيراني في الأيام الأخيرة مشهدًا تاريخيًا من الإخلاص للوطن، حيث تبدّل “الفرار من البلاد” إلى “ميثاق للوحدة والمساندة”. هذا النمط السلوكي، الذي يتباين بوضوح مع الانسحاب من الأراضي المحتلة، يمثل ثروة استراتيجية للنظام الإسلامي، وقادر على إفشال العديد من المخططات ضد الجمهورية الإسلامية.
رغم المساعي المقدرة التي قامت بها جموع غفيرة من الحوزويين في ترسيخ هذا التلاحم، والتي تستوجب الشكر الجزيل لكل القائمين عليها، إلا أن التساؤل المحوري يكمن هنا: لماذا تعمل بعض التيارات التي تثير الضجيج في الأوساط الحوزوية على تقويض هذا الرصيد الوطني؟ يزداد هذا التساؤل إلحاحًا، لا سيما وأن بعض القنوات الحوزوية (خاصة على منصة إيتا) بدلًا من الالتفات إلى الأوضاع العصيبة التي تمر بها البلاد، تنشغل بـمحاكمة وجوه سياسية أو استجواب فلان المسؤول السياسي. هؤلاء، ودون دراية منهم، يسعون إلى ترسيخ فكرة الأعداء لدى النظام في صنفين: “العدو القريب والعدو البعيد”، مطالبين بإدانة “العدو القريب”.
هذا بينما لطالما شدد قادة الثورة الإسلامية على ضرورة “توجيه كل صرخاتكم نحو أمريكا”، وهم يعتبرون إسرائيل في جوهرها مجرد أداة لأمريكا وقوتها بالوكالة.
لكن هذه المنهجية لا تقتصر على فئة معينة من الطلاب الذين يدعون الثورية ويثيرون البلبلة؛ بل إن بعض الأفراد والمؤسسات المنتمية للتيار الفكري في الحوزة يسعون أيضًا، من بين ركام الحرب، إلى إثارة قضايا مثل الإفراج عن السجناء السياسيين، وإصلاح أساليب الحكم، وتفضيل التهدئة على المواجهة العسكرية. هذا قد يقود إلى تغافل استراتيجي ويبعد تفكيرنا عن وقف إطلاق النار الهش. ودون أن أزعم أن هذه القنوات تمثل كامل الحوزة العلمية، أؤكد أن أعداد متابعيها الهائلة في الفضاء الرقمي تُظهِر هذه التيارات وكأنها “لسان حال الحوزة”. في حين أن شرائح واسعة من الحوزويين يرون أن هذه المرحلة هي وقت مساندة مقام الولي الفقيه والحفاظ على الوحدة الوطنية.
وسأذكر فئتين من بين كثرة القنوات على “إيتا” التي، كبيرة كانت أم صغيرة، تدق طبول الحرب والإعدام باستمرار:
أ- معاداة أذربيجان بدلًا من معاداة إسرائيل: اللعب في ملعب العدو
انظروا إلى بعض القنوات الحوزوية خلال فترة الهدنة بين إيران وإسرائيل، وكيف تُحدث زعزعة وتخلق انقسامات خاطئة وبالية بين القوى الثورية، ومع طرح قضايا مثل دور جمهورية أذربيجان في الحرب الأخيرة، تتسبب في تعطيل عملية التحليل والحسابات الاستراتيجية. في الواقع، بدلًا من التركيز المباشر على مواجهة إسرائيل، فقد وجهت مدفعيتها الإعلامية نحو أذربيجان.
تتحدث القنوات المذكورة دائمًا عن دور هذا البلد دون تقديم وثائق موثوقة، بينما ترفض حكومة أذربيجان هذه الادعاءات رسميًا. إن وصف هذه الدولة بأنها “دمية لليهود” لا يؤدي فقط إلى عداء هذا البلد لإيران، بل يجعل الوضع الحربي في إيران أكثر فوضى ويزيد من توتر الأجواء النفسية.
في الواقع، هذه القنوات، “بتحويل مدفعيتها الإعلامية عن “التهديد الرئيسي” (إسرائيل) نحو “الجار الشمالي” (أذربيجان)، ارتكبت ثلاثة أخطاء استراتيجية:
* إنتاج ادعاءات لا أساس لها بشأن دور باكو في الحرب الأخيرة، دون تقديم أدنى وثيقة موثوقة.
* تجاهل النفي الرسمي لحكومة أذربيجان والإصرار على روايات غير موثقة.
* تحريض المشاعر المعادية للجيران، والتي لا ينتج عنها سوى تدمير العلاقات الإقليمية وتصعيد الأجواء النفسية المتوترة.
ب. معاداة السلام الممنهجة: مشروع صناعة الأعداء الوهميين
توجد قنوات أخرى في “إيتا” تعكس خطًا إخباريًا مهمًا بين الحوزويين. تستخدم هذه القنوات أيضًا مصطلح “السلام المفروض” بدلًا من “وقف إطلاق النار”، وتعتبره مشروعًا للاختراق يهدف إلى إضعاف المقاومة وممارسة الضغط على النظام. تسعى هذه القنوات باستمرار إلى تحديد المتغلغلين في هيكل النظام، وتتحدث عن “عقيدة الضاحية” كنموذج للفشل بعد سلام لبنان، وذلك للتحذير من تكرار مثل هذه التجربة في إيران.
كما توجه هذه القنوات انتقادًا شديدًا للأداء الرسمي للمسؤولين، بما في ذلك وزارة الخارجية والمجلس الأعلى للأمن القومي، عبر الإيحاء بأن القرارات اتُخذت دون تنسيق مع القيادة. هذه القنوات المثيرة للمشاكل، والتي تعتبر نفسها “اللب الصلب للنظام” و”مفسرة لتصريحات القيادة”، تسعى إلى خلق القلق والاضطراب والانقسام الاجتماعي من خلال التركيز على الاختراق والخيانة داخل بنية النظام. وفي النهاية، تسعى هذه القنوات، عبر خط إخباري واضح، إلى تقديم وقف إطلاق النار على أنه نتيجة للاختراق، ونشر جو من الفرقة والانقسام بين رجال الدين.
تحذير أخير: رجال الدين عند مفترق طرق التاريخ
هذه القنوات الحوزوية، الصغيرة منها والكبيرة، التي ترفع راية الثورية أو التنوير، تهدد في الواقع التماسك الوطني بإنتاج مثل هذه الخطابات. لطالما عانى رجال الدين الشيعة عبر التاريخ من التيارات المتهورة والمثيرة للمشاكل. إن اختبار الهدنة اليوم هو فرصة تاريخية للحوزات العلمية لكي تمنع، بكل يقظة، تحولها إلى بوق لإشعال الحروب الداخلية وتأجيج نيران الخلاف. إن استمرار هذا التوجه لن يؤدي فقط إلى استنزاف “الرأسمال الشعبي” الداعم للنظام، بل سيجعل رجال الدين في نظر التاريخ مسؤولين عن الانقسامات الاستراتيجية.