خاص الاجتهاد: يعتقد الشيخ الدكتور محسن الحيدري في الفصل الرابع من كتابه “ولاية الفقيه تاريخها مبانيها” بعد أن يبين مباني ولاية الفقيه لدى فقهاء الشيعة والمقصود من مبنى الحِسبة، أن السيد الخوئي (ره) كان في أوائل كتبه شديد الاحتراز حتى من استعمال لفظ الولاية للفقيه، إلا أنه تدريجياً ظهر منه التمايل إلى ذلك بل اثبت المسألة في بعض كتبه على مبنى النصب والنيابة كالأدلّة اللّفظيّة وأخيراً صرّح في آخر کتاب له طبع في أواخر حياته بالولاية المطلقة للفقيه.
یقول الشيخ الحيدري في بداية الفصل الرابع للكتاب: السيد الخوئي عالج موضوع الولاية الفقيه في أبحاثه الفقهية سواء كان بمناسبة أحكام الاجتهاد والتقليد أو بمناسبة مسألة أولياء التصرف من البيع أو غير ذلك واستوفى البحث فيها في عدّة من الكتب التي طبعت تقريراً لأبحاثه العلمية أو رسائله العمليّة والفتوائيّة من قبيل:
١۔ مصباح الفقاهة في المعاملات تقرير أبحاثه بقلم الشيخ محمد على التوحيدي.
٢- التنقيح في شرح العروة الوثقی، تقرير أبحاثه بقلم الشهيد الميرزا على الغروي التبريزي.
٣- فقه الشيعة تقرير بحثه بقلم السيد محمد مهدي الموسوي الخلخالي.
4 – صراط النجاة في أجوبة الاستفتاءات .
5- مباني تكملة المنهاج .
6- منهاج الصالحين .
وملخص كلامه في تلك الكتب: انه وان ناقش في دلالة الأدلة اللفظيّة الدّالّة على ولاية الفقيه إلا أنه اختار هذا الرأي استناداً إلى أدلّة الحسبة فاثبت ان حقّ التصدي لتلك الأمور إنما هو للفقيه الجامع لشرائط الفتوى. والسيد الخوئي(ره) كان في أوائل كتبه شديد الاحتراز حتى من استعمال لفظ الولاية للفقيه، إلا أنه تدريجياً ظهر منه التمايل إلى ذلك بل اثبت المسألة في بعض كتبه على مبنى النصب والنيابة كالأدلّة اللّفظيّة وأخيراً صرّح في آخر کتاب له طبع في أواخر حياته بالولاية المطلقة للفقيه.
ومن اجل ان نلّم بهذا التحول الفكري والفقهي لذلك الفقيه العظيم يلزم الإمعان في دراسة أبحاثه الفقهية حسب التسلسل الزمني مهما أمكن من خلال كتبه المذكورة.
وإليك تفصيل البحث باختصار:
١۔ مصباح الفقاهة في المعاملات:
ان هذا الكتاب مجموعه ابحاث السيد الخوئي (ره) الفقهيّة التي ألقاها في مجلس درسه منذ أكثر من خمسين سنة إلى هذا الزمان أي عام ۱۴۲۳هـ. وذلك لان السيد قد قرّض الكتاب ومدح المقرّر بتاريخ ۱۳ رجب / ۱۳۷۳. والكتاب طبع عدة مرات في سبع مجلّدات وتعرض لبحث المسألة تحت عنوان الكلام في ولاية الفقيه .
وبعد أن اعترف بثبوت الولاية والمنصب في مجالي الإفتاء والفضاء بحث حول ولايته على التصرف في الأموال والنفوس من جهتين :
أ- استقلال الولي بالتّصرّف في مال المُولّى عليه أو نفسه مع قطع النظر هل يوجد مستقل بالتصرف غيره أو لا ؟.
ب. عدم استقلال الغير بالتصرف في أموال ونفس المُولّى عليه وأنّ تصرفه متوقف على إذن الولي بحيث يعتبر إذنه شرطا لتصرّفات الآخرين.
وبعد أن اثبت كلتا الجهتين للنبي (صلی الله علیه و آله) والأئمة (علیهم السلام)، شرع في دراسة ثبوت الولاية الفقيه وقسّم ما يمكن أن يُستدل به عليها إلى صنفين وهما الروايات والأصول العملية(۱).
وبعد نقل الروايات ومناقشتها، وصل إلى هذه النتيجة انه لم يدل أي دليل لفظي على ولاية الفقيه بالتصرف في الأموال والنفوس، وغاية ما يستفاد منها منصبه في الإفتاء والقضاء.
وبالنسبة إلى الأصول العملية فقد أجرى أصالة البراءة(۲) من لزوم استیذان الفقيه في بعض الموارد وأجرى أصل الاحتياط (۳) والاشتغال في لزوم استیذانه في الموارد الأخرى وقال بثبوت ولايته فيها.
ومثّل لمجرى البراءة بما لو شك في لزوم الاستیذان للفقيه في إقامة صلاة الميّت بعد العلم بأصل وجوبها فيجري الأصل عن لزوم الاستیذان ويلزم أقامتها ولو بدون إذنه .
ومثّل لمجرى الاشتغال والحكم بعدم جواز التصرف بلا إذن من الفقيه بمثل هذه الموارد:
١- إقامة الحدود والتعزيرات الشرعية .
۲ – التصرف في الأوقاف العامة .
٣- التصرف في سهم الإمام عليه السلام من الخمس .
٤- التصرف في الأمور الحسبية كتولّي أموال القاصرين من الأيتام والغيّب والمجانین و مجهول المالك.
٥- تزويج الصّغيرة من الصّغير أو الكبير.
٦- بيع أموال الصغير .
والأخيران يدخلان في الأمور الحسبيّة ان صارا في معرض التلف .
وفي النّهاية صرّح بما يلي: فتحصّل انه ليس للفقيه ولاية بکلا الوجهين على أموال الناس وأنفسهم… نعم له الولاية في بعض الموارد لكن لا بدليل لفظي، بل بمقتضى الأصل العملي كما عرفت.
نعم ان ثمرة ثبوت الولاية بالأصل أو الدّليل، هو أنه إذا كان الشيء واجباً وشك في كون صحته مشروطة بإذن الفقيه، فبناء على ثبوت ولايته بالدّليل، لا يجوز لغيره أن يتصرّف بدون إذنه. لعموم الدليل عليه، لكونه مثلا من الحوادث الواقعة، فلا بد فيه وان يرجع إلى الفقيه أو يتصدى له بإذنه وذلك كصلاة الميت إذا شك في اعتبار إذن الفقيه فيه، وان كان ثابتا بمقتضى الأصل فلا بد أن ينفي احتمال اعتبار إذنه بأصل البراءة.
وأما في الأمور الأخرى التي نشكّ في أصل وجوبها بدون إذن الفقيه أو في مشروعيتها أو في كليهما كما تقدم فلا يفرق الحال فيها بین ما كان ولاية الفقيه ثابتة بدليل أو بأصل، بل في كلا الفرعين، لا يجوز التصرف في الأوقاف وسهم الإمام عليه السلام وأموال الصغار حسبة إلا بإذن الفقيه سواء كانت ولاية الفقيه ثابتة بأصل أو بالدليل (٤).
وخلاصة الكلام: ان السيّد الخوئي (ره) لم يقل في هذا الكتاب بثبوت الولاية الفقيه بالأدلّة اللّفظيّة واعترف بها ببركة الأصل العملي في بعض الموارد.
2- التنقيح في شرح العروة الوثقى
وهو مجموعة تقريرات أبحاث السيد الخوئي (ره) على أساس العروة الوثقی. بدأ بإلقائها على فضلاء النجف الأشرف عام ۱۳۷۷ هـ ق. وقد طبع التنقيح في عدة مجلدات بقلم الشهيد الميرزا على الغروي وتعرّض المحقق الخوئي (ره) لبحث ولاية الفقيه بمناسبة البحث عن الاجتهاد والتقليد تحت عنوان «الولاية المطلقة للفقيه». والمطالب التي ألقاها في هذا الكتاب تشبه تلك التي ألقاها في مصباح الفقاهة مع اختلاف يسير .
وإليك تلخيص ما جاء في التنقيح حول المسألة :
ان السيد الخوئي (ره) قسم الدلائل التي يمكن الاستدلال بها لإثبات الولاية المطلقة إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الرّوايات المرويّة كالتوقيع الشريف و غیره و قد ناقشها جميعاً سندا أو دلالة.
القسم الثاني : القول بأن الإمام علیه السلام حيث نصب الفقيه قاضياً، لا بد وان يكون قد خوّله جميع صلاحيات القضاة من قبيل نصب القيّم على القُصّر ونصب المتولي على الأوقاف والحكم بثبوت الهلال وما شاكله .
وقد ناقش فيه بأن القاضي المنصوب لا صلاحيّة له إلا في فصل الخصومات واما الصلاحيات الأخرى فلا تخوّل إليه ضمن القضاء بل يمنح بها استقلالاً عن القضاء وعليه فلا يثبت إعطاء الولاية للفقيه شرعا كشأن من شؤون القضاء.
القسم الثالث : دليل الحسبة وهو: الثالث: أن الأمور الرّاجعة إلى الولاية مما لا مناص من أن تتحقق في الخارج.
مثلا إذا مات أحد ولم ينصّب قيما على صغاره ولم يوص إلى وصي ليقوم بأمورهم، واحتیج إلى بيع مال من أمواله أو تزويج صغيرة من ولده، لان في ترکه مفاسد كثيرة أو ان مالاً من أموال الغائب وقع مورد التصرف، فان بيع ماله أو تزويج الصغيرة أمر لا بد من وقوعه في الخارج، ومن المتصدّي لتلك الأمور؟
فان الأئمة (علیهم السلام) منعوا عن الرجوع إلى القضاة، وإيقاف تلك الأمور أو تأخيرها غير ممكن لاستلزامه تفويت مال الصغار أو الغائب أو انتهاك عرضهم ومعه لا مناص من ان ترجع الأمور إلى الفقيه الجامع للشرائط، لأنه القدر المتيقن ممن يحتمل أن يكون له الولاية في تلك الأمور، لعدم احتمال أن يرخّص الشارع فيها لغير الفقيه كما لا يحتمل أن يهملها لأنها لابد من أن تقع في الخارج، فمع التمكن من الفقيه لا يحتمل الرجوع فيها إلى الغير . نعم، إذا لم يمكن الرجوع إليه في مورد، تثبت الولاية لعدول المؤمنين”(۵).
ثم لخص نظره في المسألة تحت عنوان فذلكة الكلام، حيث قال :
ان الولاية لم تثبت للفقيه في عصر الغيبة بدليل، وإنّما هي مختصّة بالنبي والأئمة عليهم السلام بل الثابت حسبما يستفاد من الروايات أمران: نفوذ قضائه وحجيّة فتواه، وليس له التصرّف في مال القصّر أو غيره مما هو من شؤون الولاية إلا في الأمر الحسبي.
فان الفقيه له الولاية في ذلك لا بالمعنى المدّعي، بل بمعنی نفوذ تصرفاته بنفسه أو بوكيله وانعزال وكيله بموته، وذلك من باب الأخذ بالقدر المتقين، لعدم جواز التصرف في مال أحد إلا بإذنه ، كما أن الأصل عدم نفوذ بيعه لمال القصّر أو الغيب أو تزويجه في حق الصّغير أو الصّغيرة، إلا أنه لما كانت الأمور الحسبية لم يكن بد من وقوعها في الخارج، كشف ذلك كشفا قطعيّاً عن رضي المالك الحقيقي وهو الله (جلّت عظمته) وانه جعل ذلك التصرف نافذا حقيقة، والقدر المتيقن ممن رضی، دون الولاية.
وبما بينّاه، يظهر أن مورد الحاجة إلى إذن الفقيه في تلك الأمور الحسبيّة ما إذا كان الأصل الجاري فيها أصالة الاشتغال، وذلك كما في التصرف في الأموال والأنفس والاعراض، إذ الأصل عدم نفوذ تصرف أحد في حق غيره.
ومن جملة الموارد التي تجري فيها أصالة الاشتغال ويتوقف التصرف فيه على إذن الفقيه هو التصرف في سهم الإمام علیه السلام لأنه مال الغير، ولا يسوغ التصرف فيه إلا بإذنه .
فإذا علمنا برضاه بالتصرف فيه، وعدم وجوب دفنه أو إلقائه في البحر أو تودیعه عند الأمين ليودعه عند أمين آخر، وهكذا إلى أن يصل إلى الإمام علیه السلام عند ظهوره وذلك لأنه ملازم عادي لتفويته ولا یرضي علیه السلام به یقينا، وقع الكلام في ان المتصرف في سهمه علیه السلام یصرفه في موارد العلم برضاه هل هو الفقيه الجامع للشرائط أو غيره، ومقتضى القاعدة عدم جواز التّصرف فيه إلا بإذنه، والمتيقن ممن نعلم برضاه علیه السلام و إذنه له في التصرف فيه، هو الفقيه الجامع للشرائط، لعدم احتمال إذن الشارع لغير الفقيه.
وأما إذا كان الأصل الجاري في تلك الأمور أصالة البراءة كما في الصلاة على الميّت الذي لا ولي له ولو بالنصب من قبل الإمام علیه السلام فان الصّلاة على الميت المسلم من الواجبات الكفائية على كل مكلف، ومع الشك في اشتراطها بإذن الفقيه نتمسّك بالبراءة، لأنها تقتضي عدم اشتراطها بشيء، ومع جريان أصالة البراءة لا نحتاج إلى الاستیذان من الفقيه.
وعلى الجملة : الولاية بعد ما لم تثبت بدلیل، وجب الرجوع في كل تصرف إلى الأصل الجاري في ذلك التصرف وهو يختلف باختلاف الموارد، والاحتياج إلى إذن الفقيه إنما هو موارد تجري فيها أصالة الإشتغال(۶).
إذن فمن حيث المجموع لا فرق بين مصباح الفقاهة والتنقيح إلا في شيء واحد وهو انه في الكتاب الأول كان يجتنب كثيرا من نسبة الولاية إلى الفقیه وكان يعنونها بصرف جواز التصرف في الأمور الحسبيّة. لكنه في التنقيح ركّز على الولاية أكثر ونسبها إلى الفقيه في موارد الأمور الحسبيّة وما يجري فيها الاشتغال.
٣- فقه الشيعة
وهو كتاب يحتوي على الأبحاث الفقهية للسيّد الخوئي (ره) حول الاجتهاد والتقليد والطهارة وأبواب أخر بقلم أحد تلامذته وهو السيّد محمد مهدي الموسوي الخلخالي. وقد جاء في هذا الكتاب حول المسألة بما هذا نصّه:
لا إشكال في ثبوت ولاية الفقيه على النصب في الجملة إجماعا ونصا، والقدر المتيقن منهما على القضاء إلى أن قال : نعم يثبت له بعض الولايات من باب الحسبة … (۷).
والاتجاه الكلي في هذا الكتاب نفس الاتجاه في التنقيح حيث قبل الولاية الفقيه في حدود القضاء والأمور الحسبيّة وعبر هنا عن جواز التصرف فيها بالولاية أيضاً.
وبديهي أن الأمور الحسبيّة لا تنحصر بالأمثلة المذكورة هناك كتولی الصغار أو الأوقاف العامّة وما شاكلها. بل تشمل أصل تشكيل الحكومة الإسلامية وإيجاد النظم والانتظام والقيادة الصحيحة للمجتمع المسلم وقطع أیدي الظالمين وتهيئة المناخ الحاكمية الصالحين أيضاً. فيجب الالتزام بهذه الأشياء حتى بناءً على ثبوت الولاية الفقيه من باب الحسبة إلا أن السيّد لم يذكرها، لعله لأجل التقية أو انه يراها غير ممكنة التحقق في هذه الظروف. ولذلك حتى لم يذكرها كمثال للمسألة نعم ذكرها بعض تلامذته وهو الميرزا التبريزي في صراط النجاة كما مرّ قبل ذلك.
4. صراط النجاة في أجوبة الاستفتاءات.
وهو مجموعة استفتاءات وأجوبتها التي صدرت من قبل المرحوم آية الله السيد أبو القاسم الخوئي (ره) مع تعليقات وملحق لسماحة آية الله الميرزا الشيخ جواد التبريزي. جمعه موسی مفید الدین عاصي العاملي وطبع في مجلدين عام ۱۴۱۶ه.ق في إيران.
والسيد قال في جوابه سؤال حول ولاية الفقيه بما هذا نصه:
اما الولاية على الأمور الحسبيّة كحفظ أموال الغائب واليتيم إذا لم يكن من يتصدّی لحفظها كالولي أو نحوه، فهي ثابتة للفقيه الجامع للشرائط، وكذا الموقوفات التي ليس لها متولّ من قبل الواقف، والمرافعات فإن فصل الخصومة فيها بيد الفقيه وأمثال ذلك، وأما الزائد على ذلك فالمشهور بين الفقهاء على عدم الثبوت، والله العالم (۸).
والظاهر من هذا الكلام أن ولاية الفقيه ثابتة في الأمور الحسبيّة و مجمع عليها والاختلاف في الزائد عليها، وهو وجود الصّلاحيات الواسعة والمطلقة للفقيه بمثل ما ثبت للنّبي صلی الله علیه و آله والأئمة علیهم السلام في أمر الحكومة. وصرّح بأن الزائد على ذلك عدم ثبوته لدى المشهور.
يلاحظ عليه : بأننا نقلنا نظرات العشرات من فقهاء الإمامية الذين صرّحوا بالولاية والنيابة المطلقة للفقيه وادّعى بعضهم الإجماع عليها والشيخ الأنصاري نسبها إلى المشهور ولم يقيّدوها بالأمور الحسبيّة إذن فكيف يمكن القول بأن المشهور بين الفقهاء عدم ثبوتها؟
۵- مباني تكلمة المنهاج
وهو كتاب كتبه السيد الخوئي (ره) بقلمه يحتوي على المباني الفقهيّة لتكملة منهاج الصّالحين في عدّة من الأبواب الفقهيّة وهي القضاء والشهادات والحدود والقصاص والديات. وقد تعرض لمسألة ولاية الفقيه تحت ذيل المسألة ۱۷۷ و هي: يجوز للحاكم الجامع للشرائط إقامة الحدود على الأظهر.
فقال توضيحا لذلك: هذا هو المعروف والمشهور بین الأصحاب، بل لم ينقل فيه خلاف إلا ما حُکي عن ظاهر ابني زهرة وإدريس من اختصاص ذلك بالإمام أو بمن نصبه لذلك. وهو لم يثبت ويظهر من المحقّق في الشرائع والعلّامة في بعض كتبه التوقف ويدل على ما ذكرناه أمران:
(الأول) أن إقامة الحدود إنما شرّعت للمصلحة العامة ودفعا للفساد وانتشار الفجور والطّغيان بين الناس، وهذا ينافي اختصاصه بزمان دون زمان، وليس لحضور الإمام عليه السلام دخل في ذلك قطعا فالحكمة المقتضية لتشريع الحدود تقضي بإقامتها في زمان الغيبة كما تقضي بها زمان الحضور.
(الثاني) أن أدلّة الحدود – کتاباً وسنة – مطلقة وغير مقيدة بزمان دون زمان كقوله سبحانه :
(الزّانية والزّاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) (٩).
وقوله تعالی :
(والسّارة والسّارقة فاقطعوا أيديهما…) (١٠).
وهذه الأدلّة تدل على أنه لا بد من إقامة الحدود، ولكنها لا تدل على أن المتصدّي لأقامتها من هو؟ ومن الضروري أن ذلك لم يشرّع لكل فرد من أفراد المسلمين. فانه يوجب اختلال النظام، وان لا يثبت حجر على حجر، بل يستفاد من عدة روايات أنه لا يجوز إقامة الحد لكل أحد إلى أن قال :
و تؤيد ذلك عدة روايات : منها – رواية إسحاق بن يعقوب قال : سألت محمد بن عثمان العمري ان يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت علی، فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان عليه السلام، امّا ما سألت عنه أرشدك الله وثبتك – إلى أن قال : وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فانهم حجتي عليكم وانا حجّة الله .
ومنها رواية حفص بن غياث قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام من يقيم الحدود، السلطان أو القاضي؟ فقال : إقامة الحدود إلى من إليه الحكم فإنها – بضميمة ما دل على ان من إليه الحكم في زمان الغيبة هم الفقهاء – تدل على أن إقامة الحدود إليهم ووظيفتهم(١١).
والملفت للنظر في هذا الكتاب أن السيد الخوئي (ره) استدلّ على مسألة ولاية الفقيه وشرعيّة أقامته للحدود الشرعيّة بالأدلّة اللفظيّة، مضافاً إلى الأدلّة العقليّة كشاهد ومؤيّد. والحال أنه كان يناقش في دلالتها على المسألة وكان يردّها ردّاً باتاً في الكتب المذكورة قبل هذا الكتاب .
ويمكن أن نعتبر هذا منه خطوة مهمّة لتحوّله في الاستنباط الفقهي.
٦- منهاج الصالحين:
وهو كتاب فقهي فتوائي ألفه السيد الخوئي (ره) على غرار منهاج الصالحين للسيد محسن الحكيم، بعد ان ادرج تعاليقه على أصل الكتاب في الأصل وقد طبع هذا الكتاب في حياته ثمانية وعشرين طبعة، آخرها في ذي الحجة عام ١٤١٠ أي بثلاث سنوات قبل وفاته.
وتعرّض في هذا الكتاب لمسألة ولاية الفقيه في عدّة مواضع منها:
أ- قال في كتاب الخمس: مسألة ۱۲٦٥: النصف الراجع للإمام عليه وعلى آبائه أفضل الصلاة والسلام يرجع فيه في زمان الغيبة إلى نائبه وهو الفقيه المأمون العارف بمصارفه اما بالدفع إليه أو الاستئذان منه، و مصرفه ما يوثق برضاه عليه السلام بصرفه فيه (١٢)…
ب – قال في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
مسألة ۱۲۷۳: إذا لم تكف المراتب المذكورة في ردع الفاعل ففي جواز الانتقال إلى الجرح والقتل وجهان، بل قولان أقواهما العدم، وكذا إذا توقف على كسر عضو من يد أو رجل أو غيرهما، أو اعابة عضو کشلل أو اعوجاج أو نحوهما، فان الأقوى عدم جواز ذلك، وإذا أدى الضرب إلى ذلك – خطأ أو عمداً – فالأقوى ضمان الآمر والناهي لذلك، فتجري عليه أحكام الجناية العمدية، ان كان عمداً، والخطأية إن كان خطأ. نعم يجوز للإمام ونائبه ذلك إذا كان يترتب على معصية الفاعل مفسدة أهم من جرحه أو قتله، وحينئذ لاضمان عليه(١٣).
والملاحظ أن السيد الخوئي (ره) في كتابه الخمس والأمر بالمعروف والنهي عن المنکر عبّر عن الفقيه الجامع للشرائط بنائب الإمام عليه السلام. وهذا التعبير يتناسب مع القول بنيابة الفقيه المطلقة عن المعصوم عليه السلام في غيبته ولا يتناسب مع مبني تصديّه من باب الحسبة.
ويمكن أن يقال في تفسير هذا التحول الذي شوهد في مواجهة السيد الخوئي (ره) للمسالة : أنه إمّا أن يكون قد عدل عن مبناه السّابق في ولاية الفقيه او أنه رأی إمكان إثبات الولاية من طريق الأدلّة اللفظية وباب الحسبة معاً.
وإما أنه لم يعدل عن مبناه إلا أنه بسبب رواج عنوان النيابة للفقيه بين الفقهاء بكثرة هائلة، تسامح بهذا التعبير انسجاماً مع المصطلح الفقهي الطّافح في الكتب الفقهيّة من القدماء إلى المعاصرين وعلى أي حال فهذا التعبير لا ينسجم مع ما مرّ منه في صراط النجاة .
ج – انه بعد إثبات مشروعية الجهاد الابتدائي في عصر الغيبة(١٤) على الرغم من شهرة عدم مشروعيته قال :
وإمّا أنه لم يعدل عن مبناه إلا أنه بسبب رواج عنوان النيابة للفقيه بين الفقهاء بكثرة هائلة ، تسامح بهذا التعبير انسجاماً مع المصطلح الفقهي الطاقح في الكتب الفقهية من القدماء إلى المعاصرين وعلى أي حال فهذا التعبير لا ينسجم مع ما مرّ منه في صراط النجاة.
ج – انه بعد إثبات مشروعية الجهاد الابتدائي في عصر الغيبة(۱۵) على الرغم من شهرة عدم مشروعيّته قال :
المقام الثاني: أنا لو قلنا بمشروعية أصل الجهاد في عصر الغيبة فهل يعتبر فيها إذن الفقيه الجامع للشرائط أو لا؟ يظهر من صاحب الجواهر (قدس سره) اعتباره بدعوی عموم ولايته بمثل ذلك في زمن الغيبة.
وهذا الكلام غير بعيد بالتقريب الآتي، وهو انّ على الفقيه ان یشاور في هذا الأمر المهم أهل الخبرة والبصيرة من المسلمين حتى يطمئن بأن لدى المسلمين من العدّة والعدد ما يكفي للغلبة على الكفّار الحربيّين وبما أن عملية هذا الأمر المهم في الخارج بحاجة إلى قائد وآمر يرى المسلمون نفوذ أمره عليهم، فلا محالة يتعيّن ذلك في الفقيه الجامع للشرائط، فانه يتصدى لتنفيذ هذا الأمر المهم من باب الحسبة على أساس أن تصدّي غيره لذلك يوجب الهرج والمرج ويؤدّي إلى عدم تنفيذه بشكل مطلوب وكامل (۱۶).
والظاهر من الكلام المذكور أن القيادة في أمر اجتماعي هامّ جداً مثل الجهاد الابتدائي في عصر الغيبة تختص بالفقيه الجامع للشرائط بحيث لا يجوز لأحد أن يتصدّى لذلك بغير إذنه. نعم أن هذا القول مبتني على مبنى الحسبة أيضاً وهو دليل عقلي لا لفظي.
د. وفي كتاب الجهاد أيضاً من المنهاج بعد ان قسّم الغنائم إلى ثلاثة أنواع قال بالنسبة إلى النوع الثالث:
نعم لولیّ الأمر حقّ التّصرّف فيه كيفما يشاء حسب ما يرى فيه من المصلحة قبل التقسيم، فإن ذاك مقتضی ولايته المطلقة على تلك الأموال، ويؤكّده قول زرارة في الصحيح: الإمام يجري وينقل ويعطي ما يشاء قبل أن تقع السهام، وقد قال رسول الله “صلی الله علیه و آله” بقوم لم يجعل لهم في الفيء نصيباً ، وان شاء قسّم ذلك بينهم.
ويؤيّد ذلك مرسلة حمّاد بن عيسى عن بعض أصحابنا عن العبد الصالح في حديث قال: «وللإمام صفو المال – إلى أن قال – وله ان يسدّ بذلك المال جميع ما ينوبه من مثل إعطاء المؤلّفة قلوبهم وغير ذلك الحديث».
وأمّا رواية حفص بن غياث عن أبي عبد الله علیه السلام ، قلت: فهل يجوز للإمام أن ينفل؟ فقال له: «أن ينفل قبل القتال، وأما بعد القتال والغنيمة فلا يجوز ذلك، لان الغنيمة قد أحرزت “فلا يمكن الأخذ بها لضعف الرواية سنداً(۱۷).
والملاحظ في هذه العبارة انه وصف ولاية ولي الأمر بالمطلقة. ولا ريب أن مقصوده عن ولي الأمر هو الأعم من الإمام المعصوم علیه السلام والفقيه الجامع الشرائط والشاهد على ذلك:
أولاً: أنه قد قرر سابقاً بأن الجهاد في عصر الحضور مشروط بإذن المعصوم علیه السلام وفي عصر الغيبة بإذن الفقيه . فانه هو الذي يتصدّى للجهاد الابتدائي ولا يجوز لغيره بغير إذنه.
وثانياً: أنه صرّح في مسألة أخذ الجزية من أهل الكتاب بأنها في عصر الغيبة مشروعة ولكن وضعها عليهم بيد الحاكم الشرعي. وعبارته كما یلی:
المسألة ۶۳ : الظاهر انه لا فرق في مشروعيّة أخذ الجزية من أهل الكتاب بين أن يكون في زمن الحضور أو في زمن الغيبة لإطلاق الأدلّة وعدم الدليل على التقييد، ووضعها عليهم في هذا الزمان إنما هو بيد الحاكم الشرعي كمّاً وكيفاً حسب ما تقتضيه المصلحة العامّة للأمة الإسلامية(۱۸).
وثالثاً : أنه ذكر خلال عشرين مسألة من مسائل الجهاد من هذا الكتاب توقف الأحكام المختلفة للجهاد على إذن ولي الأمر وحيث انه يرى مشروعيّة الجهاد الابتدائي في عصر الغيبة، يعلم منه أن المقصود من وليّ الأمر أعم من الإمام المعصوم علیه السلام والفقيه الجامع للشرائط.
ورابعاً: أن تصدّي السيّد الخوئي (ره) کوليّ للأمر في قضية الانتفاضة الإسلامية للشعب العراقي ضدّ العفالقه عام ۱۴۱۱هـ ق بعد الهجوم الأمريكي على العراق لتشكيل مجموعة تشبه مجلس الثورة من العلماء والفضلاء وخوّل إليهم متابعة القضايا المرتبطة بعامة الناس، ان تصدّيه لذلك أدلّ دليل على اعتقاده بولاية الفقيه وان الفقيه هو ولي الأمر في عصر الغيبه .
وخلاصة الكلام، يمكننا أن نصل على ضوء ما ذكرناه من آراء السيد الخوئي (ره) في مسألة ولاية الفقيه ، أنه قد حصل تغيير ما في نظره، لأنه كما قلنا، كان يتحاشی من نسبة الولاية إلى الفقية في مصباح الفقاهة وكان يرى جواز تصدّيه في حدود ضيّقة، لكنّه انطلق في هذا الكتاب الأخير الذي طبع في أخريات حياته الشريفة. فصرّح بالولاية المطلقة للفقيه . وحيث لم يطبع کتاب آخر بعد ذلك ينفي هذا الموقف، نستنتج بأن هذا هو نظره الأخير وان كان مبناه هو الدّليل العقلي المتثمّل بالحسبة وجعل الأدلّة اللفظيّة مؤيّدة لذلك.
الهوامش
(۱) المقصود من الأصول العملية : هي الأصول التي جعلت مرجعا للمجتهد عند حيرنه وشكه في التكليف او في المكلف به في صورة قصور يده عن الاستفادة من الأدلة الشرعية (القرآن، السنة، العقل والإجماع). وحيث أنها معتبرة لرفع الحيرة في مقام العمل اطلق عليها “الأصول العملية” وعمدتها البراءة والاحتياط والتخيير والاستصحاب.
(۲) اصل البراءة يجري فيما لو كان الشك في أصل التكليف ولم تكن أو لم تلاحظ حالة سابقة للموضوع. مثلا إذا شك في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال أو حرمة التتن تجري البراءة عن الوجوب في الأول والحرمة في الثاني.
(۳) أصل الاحتياط أو الاشغال يجري في ما لو كانت ذمة المكلف مشغولة بالتكليف الإلزامي کالوجوب أو الحرمة ولكن شك في متعلق التكليف (المكلف به) مثل ما لو علم بوجوب الفريضة في ظهر يوم الجمعة وشك في وجوب الظهر أو الجمعة، والاحتياط يقتضي هنا الجمع بينهما.
(۴)راجع: مصباح الفقاهة، تقرير بحث السيد الخوئي (ره)بقلم الميرزا محمد علي التوحيدي التبريزي ج۵،ص ۳۴-۲هـ وطبعة انصاریان . قم.
(۵) التنفيح ج۱، من كتاب الاجتهاد والتقليد ص ۳۵۹ ط مؤسسه إحیاء آثار الإمام الخوئي (ره).
(۶) المصدر نفه ص ۳۱۰- ۳۹۱.
(۷) فقه الشيعة، ج1 ص ۲۱۹ – ۲۲۰.
(٨) صراة النجاة، القسم الأول. ص١٠.
(٩) سورة النور/ ۲.
(١٠) سورة المائدة ۳۸.
(١١) مباني تكمله المنهاج الجزء الأول ص ۲۲٤ – ۲۲٥ ط دار الزهراء بيروت.
(١٢) منهاج الصالحین جلد ۱ ص ۳٤۸ : ۲۸ مدينة العلم قم.
(۱۳) منهاج الصالحين، ص ۳۵۳.
(۱۴) المصدر نفسه، ج ۱/ ص ۳۶۵.
(۱۵) منهاج الصالحین ، ۳۶۶.
(۱۶) المصدر نفسه، ص ۳۹۲.
المصدر: كتاب: ولاية الفقيه (تاريخها مبانيها) تأليف: الشيخ الدكتور محسن الحيدري.