الاجتهاد: إن التعقيد الّذي تجد في كتب التدريس يبدو وكأنّه -بل هي بالفعل كذلك- يهدف إلى تعقيد الاجتهاد وتصعيب الوصول إليه. وإلا فإن من الممكن أن يحصل طالب العلم على قدرٍ معيّن وهامّ من العلم بوقت أقصر.
من مشاكل منهج التدريس في الحوزات والمدارس الشرعية مشكلة “التعقيد” التي تستهلك كثيرا من الوقت ومن القدرة العقلية دون نتيجة تذكر. فمن التعقيد كثرة الاشكالات والردود عليها ومناقشتها، والنظر في الألفاظ أكثر من المعاني، وكثرة المباحث التي لا ثمرة فيها، والتباري في استخدام الالفاظ المعقدة.
إنّ التعقيد له ضرر كبير على طلبة العلوم، فهو تستنزف العمر، وتبدّد الجهود، وربّما أدى إلى احباط نفسي خطير عند كثير من الطلبة لا سيما إذا أضفت لذلك احتكار الاجتهاد من بعض الأسر العلمائية.
كما إنّ هذا المنهج أحدث فاصلا خطيرا بين العامة وبين أهل العلم، وهذا له آثار خطيرة. كما إنّ هذه الأسلوب يجعل عقل الطالب مغتربا عن الواقع، بعيداً عمّا ينبغي أن يشتغل به، وهي لا تستهلك العقل فحسب، بل والنفس، وتجعل المرء بليداً لا يشعر بما حوله ولا يهتزُّ لشيء فهو يعيش في عالم خاصٍّ به منغلق عليه.
إنّ هذا المنهج بحقٍّ يقتل الشعور الديني والانساني في نفس المرء، حتّى إنّ كثيراً من الطلبة يأتون لطلب العلم وهم يقبلون على العبادة بل ويكثرون منها، يتخلّقون بخلق حسنٍ، فإذا درسوا تلك المباحث انقلبت حالهم، فإذا بهم يؤدّون الصلاة وهم كسالى لا يشعرون بها ولا يهتمّون لها.
وفي الفقه بل وفي تعاملهم مع الناس يتعلّمون على نهج التبرير أو التخريج كما يسمّى، فهو يقلب الخطأ صوابا والصواب خطأ؛ لأنّه تعلم وفق منهج يسفسط الأمور ويقلب الوقائع.
ويمكن أن نمثّل لذلك بما ذكره السيد محسن الأمين عندما ترجم لبعض العلماء حيث ذكر أنه كان يجتمع عليه الطلبة للتدريس، فكانوا يختارون مسألة واحدة ويأخذ في ذكر الأقوال والأدلة والنقض والإبرام ثم يكثر فيها الوجوه والاحتمالات ويطول الكلام في المسألة الواحدة أياما وأشهر ثم ينقطع عن الدرس. وهذا ما ذكرني هذا بما قاله بأحد المشايخ المولع بالتعقيد والذي أورد في أول بحثه عن أحكام الماء أربعة عشر تعريفا للماء، وناقشها!!!!
إن التعقيد الّذي تجد في كتب التدريس يبدو وكأنّه -بل هي بالفعل كذلك- يهدف إلى تعقيد الاجتهاد وتصعيب الوصول إليه. وإلا فإن من الممكن أن يحصل طالب العلم على قدرٍ معيّن وهامّ من العلم بوقت أقصر، فإنَّ للوقتِ أهميّته التي لا ينبغي إهمالها، كما يمكن أن يتّم ذلك في السنوات أقل من تلك التي يمضيها في بحوث الأصول التي لا تُسمن ولا تغني من جوع.
ولقد ذكر من أهل العلم من أبى أن يلتزم بتلك المباحث التي تروج في المعاهد والحوزات، فلم يؤثر عليه ذلك بل رفعه، وأفضل مثال على ذلك محمد بن علي العاملي صاحب كتاب “مدراك الأحكام” والشيخ حسن بن زين لدين العاملي صاحب كتاب “معالم الدين”. وكانا قد درسا على المقدس الأردبيلي دون أن يلتزما بالنهج الّذي كان يسود في ذلك الوقت، فإذا بهما وقد أصبحا في سنوات ممن يشار إليهم بالبنان، وحتى صارت كتبهُم من أهم ما يرجع إليه.
وقد ذكر الشيخ الشيخ يوسف البحراني أنهما كانا يقرآن في النجف عند الفقيه الزاهد الورع المولى أحمد الأردبيلي، فقرآ عليه من شرح الشمسيّة ما يتوقّف عليه الاجتهاد من مباحث الألفاظ وبعض أحوال القضايا والقياسات. والظاهر أنّه لا يزيد على عشرة دروس!!!!! وقرآ من شرح مختصر ابن الحاجب العضديّ ما يتوقّف أيضاً عليه الاجتهاد وهي دروس معدودة.
وكان الطلبة الذين يحضرون درس الأردبيليّ يهزؤون بهما على هذا النمط من القراءة، فقال لهم : لا تهزؤوا بهما فعن قليلٍ يصلُون درجة الاجتهاد واحتاج أنا إلى أن آخذ تصديق اجتهادي منهم، فكان الحال كما قال، بلغوا إلى رتبة التصنيف والاجتهاد في مدّة ثماني سنوات.
إنّ هذين العالمين الكبيرين ينبغي أن يكونا نموذجين لطلبة العلم لاسيّما من كان على قدرٍ من النباهة بحيث يستطيع أن يميّز الغثّ من السمين، وهو درس لمن يشرف على مناهج التدريس، فإنّ ظهور عددٍ من المجتهدين لن يمثّل خطراً بالضرورة على نفوذهم بين الناس، هذا إذا كان يفكّرون برضا الله ومصالح الناس. وان كنت لا اقتنع أن يأخذ طلب العلم بشيء من النحو وشيء من المنطق وهكذا، لكن أرى أن يبتعد عن التعقيد وعن الاطناب الّذي لا نفع فيه بأي نحو كان غير تضييع الوقت.
كيف يمكنني الحصول على هذا الكتاب