الاجتهاد: إنّ الزمان والمكان بالمعنى المصطلح هما مجموعة الشروط والظروف الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والفكريّة والثقافيّة التي تُنشئ الحضارات وتشكّل المدنيّات، والتي تميّز أمّةً عن أخرى، ومجتمعاً عن آخر، وحقبةً زمنيّةً عن حقبةٍ زمنيّةٍ أخرى.
وهذه المجموعة من الظروف والشروط لا يقتصر تأثيرها على موضوعات الحكم الشرعي فحسب، وإنّما يطال الدين بشكل عامّ، والدين لا يتلخّص بالأحكام الشرعيّة، وإنّما هو – بالإضافة إلى ذلك – يضمّ المسائل العقديّة والأخلاقيّة والسلوكيّة والتاريخيّة، وغيرها من المعارف التي اشتمل عليها الكتاب العزيز والروايات الواردة عن الرسول الأكرم والأئمّة الأطهار[2]؛ لذا فإنّ مؤثّريّة الزمان والمكان لا تنحصر في مسائل الفقه الأصغر، بل تتعدّاه؛ لتمثّل مفتاحاً مهمّاً من مفاتيح عمليّة الاجتهاد الديني، وقاعدةً من قواعد علم أصول المعارف الدينيّة بشكلٍ عامّ.
والدين[3] – كما تقدّم – أساسه النصّ الديني، المتمثّل بكتاب الله عزّ وجلّ والسنّة[4]، بمعنى: أنّ مظانّ المنظومة المعرفيّة الدينيّة هما هذان المصدران، لذا فإنّ فهم الدين متوقّفٌ على فهم النصوص القرآنيّة والروائيّة[5].
إنّ المدّعى هو تأثير الزمان والمكان في فهم الإنسان للدين، ووفقاً لهذا المدّعى يُسأل عن المبنى الذي على أساسه يُقال بمؤثّريّة الظروف والشروط الفكريّة والثقافيّة والاجتماعيّة والحياتيّة على هذا الفهم، حيث إنّ تغيّرها قد يُغيّر من المعرفة الدينيّة وما يفهمه الإنسان من الدين؟[6].
للإجابة عن التساؤل أعلاه، لابدّ من عقد الكلام في جهتين:
الجهة الأولى: بيان أنواع منظومة المعرفة الدينية
اشتملت المنظومة الدينيّة على نوعين من المعارف:
النوع الأوّل: ما كان الهدف الأساسي منها هو العمل
اشتمل النصّ الديني على معارف يُطلب العمل بها بالدرجة الأساس، من قبيل: الصلاة للرحمن، وصوم رمضان، وحجّ بيت الله المنّان.. وهكذا باقي المعارف المرتبطة بفروع الدين؛ إذ من الواضح أنّ الغرض من معرفة هذه الفروع ليس العلم بملاكات أحكامها، وإنّما العمل بها؛ فعلى الإنسان إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وحجّ البيت الحرام.. سواء أكان عارفاً بفلسفة هذه الفروع وأسرارها أم لم يكن عارفاً بها.
يشهد لذلك: أنّ المكلّف لو وقف على ملاكات الأحكام وعلى مصالحها ومفاسدها ولكنّه لم يمتثل الحكم الشرعي، فإنّ ذلك العلم لا يفيده شيئاً ولا يكون معذّراً له تجاه ساحة الحقّ جلّ وعلا؛ بل قد يكون مَثَلُه مَثَل الذي يحمل الأسفار دون أن يستفيد منها شيئاً.
وعلى العكس: لو لم يعلم بملاكات تلك الأحكام، ولم يعرف المصالح والمفاسد المترتّبة على فعلها أو تركها، فإنّ ذلك لا يضرّه إذا عمل وامتثل؛ فهي معارف لا يُسأل الإنسانُ عن حقيقتها وحكمتها وفلسفتها، ولا يُكلّف بمعرفة الآثار المترتّبة على امتثالها أو الأضرار المترتّبة على تركها.
وعدم التعرّف على حقيقتها وعلى المصالح المترتّبة عليها والمفاسد الناجمة عن تركها، لا يمنع الإنسان من الاعتقاد والإيمان بها تعبّداً وترتيب العمل بها خارجاً.
النوع الثاني: ما كان الغرض الأساسي منها هو العلم
وهي المعارف المرتبطة بالبُعد العقدي للدين، متمثّلةً بأصول الإيمان، الغرض من بيانها في النصوص الدينيّة الاعتقاد القلبي؛ من قبيل: الإيمان بوجود الخالق، وأنّه واحدٌ أحدٌ، فردٌ صمدٌ، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤاً أحد، وأنّه سبحانه: {مَعَكُمْ أَيْنَما كُنْتُمْ} [الحَديد: 4]، وأنّه: «مع كلّ شيءٍ لا بمقارنة، وغير كلّ شيءٍ لا بمزايلة»[7]. وأنّ محمّداً رسول الله، أرسله بالهدى ودين الحقّ، وأنّ الكتاب حقّ، والجنّة حقّ، والنار حقّ، وأنّ الله يبعث مَن في القبور[8].
فليس الغرض من بيان هذا النوع من المعارف في القرآن الكريم وحكايتها في روايات العترة الطاهرة، تلاوتها ولقلقة اللسان بها فقط، للحصول على الثواب[9]؛ لأنّ ذلك معناه أنّ القرآن الكريم يثبت للباري عزّ وجلّ أموراً لا يفهمها الناس، ولا يجوز السؤال عنها؛ فيخرج الكتاب عن كونه هدىً للناس.
وعدم قصد العمل بهذا النوع من المعارف لا يصيّر وجودها في الدين عبثاً، بل هي معارف قُصد منها الفهم والتعقّل للدلالة على أشياء تعدّ الركيزة الأساسيّة التي تعتمد عليها المعارف العمليّة.
واعتقادنا أنّ للزمان والمكان تأثيراً في فهم معارف المنظومة الدينيّة[10]، سواءٌ أكانت معارف عقديّة إيمانيّة أم معارف عمليّة[11].
الجهة الثانية: بيان معاني مصطلحات الفصل
إنّ فهم الحكم الشرعي لا يمكن أن يكون بمعزل عن فهم القرآن الكريم، والحديث الشريف، والعقيدة الإسلاميّة، والقواعد العقليّة؛ فهذه المجموعة من المعارف – وغيرها – تشكّل كلّاً واحداً يسمّى الدين، ولهذا الدين فهمٌ وفلسفةٌ؛ فهذه اصطلاحاتٌ ثلاثةٌ بحاجةٍ إلى بيان.
الاصطلاح الأوّل: الدين
ثبت في محلّه من علم الكلام: أنّ الدين الإسلامي[12] في واقعه كاملٌ وباقٍ وثابتٌ، لا يقبل التغيير ولا التبدّل، ولا الإضافة ولا الحذف؛ قال تعالى: {وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النّحل: 89]، وقال أيضاً: {ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ} [النّحل: 96]، وهو من عند الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عِمرَان: 19].
بعبارة أخرى: «الدين يحمل خصائص عديدةً، منها خصوصيّة أنّه حقٌّ وصدقٌ ومطابقٌ للواقع؛ بمعنى: لا يوجد في الدين شيءٌ لا يكون صادقاً، ولا يوجد في الدين شيءٌ غير مطابقٍ للواقع، ولا يوجد في الدين شيءٌ لا يكون حقّاً، إنّما هو الحقّ كلّه. وخصوصيّة الدين أنّه كاملٌ لا نقص فيه.. فالدين الإسلامي دينٌ كاملٌ لا نقص فيه ولا يُتصوّر فيه أيّ نقص.
والدين خالصٌ لا يشوبه غير الحقّ، خلوصاً كاملاً، وهذه الصفة أو الخصوصيّة تغاير الصفة أو الخصوصيّة السابقة؛ لأنّ الشيء قد يكون كاملاً، ولكنّه مشوبٌ مع الباطل»[13].
والحقيقة الدينيّة التي تحمل الخصائص المتقدّمة موجودةٌ في قلب النبيّ الخاتم والأئمّة الأطهار من أهل بيته؛ لأنّهم معصومون، ولا يحتاجون إلى زيادةٍ في هذا النوع من المعارف الدينيّة[14].
الاصطلاح الثاني: الفهم الديني
الفهم الديني هو ما نمتلكه من معرفةٍ دينيّة، في قبال الدين الواقعي الموجود عند المعصوم والمتشكّل من القرآن الكريم والرواية؛ فما يمتلكه الفرد العاديّ من فهمٍ للنصوص يمثّل المعرفة الدينيّة، أمّا ما عليه الواقع ونفس الأمر فهو الدين.
بعبارة أخرى: «ما نمتلكه فهو ما نعبِّر عنه أنّه معرفةٌ دينيّةٌ لذلك الواقع ومعارف دينيّةٌ تستند إلى ذلك الواقع، ودائرة المعرفة الدينيّة والمعارف الدينيّة تشمل أبعاداً متراميةً من المعارف، كــــ(علم الفقه، وعلم أصول الفقه، وعلم التفسير، وعلم الكلام) وغيرها من العلوم والمعارف التي ترتبط بفهم الدين»[15]. والفهم الديني قابلٌ للتكامل، والزيادة، والنقصان، والتبدّل، بعكس الواقع الديني.
الاصطلاح الثالث: فلسفة الدين
من أبرز سمات المعرفة الدينيّة – التي وجدت عند العلماء – على مرّ التأريخ؛ من الصدر الأوّل للإسلام مروراً بالحاضر، إلى المستقبل[16]: اختلاف العلماء فيها، ويشهد لذلك فتاواهم المتأرجحة بين الإثبات والنفي، ففي الوقت الذي يُفتي البعض منهم بتكفير الغير، يُفتي الآخر بلزوم التعايش السلمي مع الجميع، وهكذا هو الحال في الكثير من المسائل.
والاستفهام عن حجّية جميع الأقوال أم حجّية بعضها ليس من شأن المعرفة الدينيّة، وإنّما هو من شأن فلسفة المعرفة الدينيّة؛ لأنّ العالم في المعرفة الدينيّة يعتقد أنّ ما انتهى إليه هو الحقّ والحجّة والمطابق للواقع؛ إذ مع الشكّ لا معرفة دينيّة.
فمن يقول بطهارة أهل الكتاب – مثلاً – نجده معتقداً بقوله مائة في المائة، وإلّا لما كان يقينٌ في البين، ولما جاز له الفتوى بالطهارة. وحينئذٍ لا يمكنه القول إنّ جميع الأقوال على اختلافها حجّةٌ عنده؛ لأنّها أقوالٌ متنافيةٌ بنظره.
إذن، مَن كان في موقع المعرفة الدينيّة والفهم الديني يُفتي بالدليل على أنّ من أنكر المفردة الكذائيّة فهو كافر؛ بينما يُفتي الآخر – الذي أيضاً يحتلّ موقعاً في المعرفة الدينيّة- بأنّ من أثبت تلك المفردة فهو الكافر، وهذا يعني أنّ أحدهما يُكفّر الآخر. أمّا من كان في موقع فلسفة المعرفة الدينيّة فبإمكانه القول إنّ كلا القولين صحيح؛ لأنّ كليهما يستند إلى دليل.
وبما ذكرنا يندفع قول البعض إنّ اعتراضه ليس على الدين وإنّما على الفهم الديني؛ لأنّ مَن كان في موقع المعرفة الدينيّة يعتقد أنّ ما توصّل إليه هو الدين، وهذه المعرفة توجب عليه العمل بما انتهى إليه.
بعبارة أخرى: القول إنّ هذه النتيجة هي الفهم من الدين وليست هي الدين، قول مَن كان في موقع فلسفة العلم لا مَن كان في موقع الفهم الديني؛ لأنّ الثاني يعتقد دائماً أنّ فهمه من الدين هو الدين؛ فيعمل به ويدعو إلى ذلك؛ وإلّا لما كان لفتواه قيمة.
معنى الحجّية في المقام
إنّ من سمات المعرفة الدينيّة: الاختلاف وتعدّد الآراء؛ فهناك رأيٌ بطهارة أهل الكتاب وآخر بنجاستهم، ورأيٌ بوجوب النزح من البئر، وآخر بعدم الوجوب، ورأيٌ بمدخليّة الظروف الزمكانيّة في عمليّة الاستنباط، وآخر بعدمها، وهكذا، فأيّ الآراء حجّة؟[17] للإجابة عن هذا التساؤل لابدّ من تحرير معنى الحجّية في المقام، فنقول: إنّ المراد من الحجّية أحد احتمالين:
الأوّل: المطابقة للواقع
المراد من الحجّية – في المقام – هو أنّ المعرفة الدينيّة مطابقةٌ للواقع ونفس الأمر.
وهذا الاحتمال غير معقول، لأمرين:
أحدهما: انسداد الطريق لإثبات أنّ ما فُهم من الدين هو الدين الواقعي. نعم يستطيع مَن كان في موقع المعرفة الدينيّة القول إنّ الأدلّة التي يمتلكها تؤدّي إلى هذه المعرفة. أمّا القول إنّ تلك المعرفة هي الواقع جزماً، فهذا لا يكون إلّا لمن أطلعهم الله على الواقع ونفس الأمر.
بعبارة أخرى: لمّا كان الواقع ليس بيد مَن كان في موقع المعرفة الدينيّة؛ لذا لا يمكنه إثبات أنّ ما انتهى إليه هو الدين الواقعي. نعم، في بعض القضايا يكون الواقع واضحاً وجليّاً كما في المحسوسات؛ وحينئذٍ يمكن للشخص إثبات أنّ معرفته هي الواقع، كمن رأى زيداً واقفاً، فقال بذلك.
ثانيهما: لمّا كان الواقع واحداً والأفهام مختلفة[18]؛ خصوصاً إذا كانت الآراء متنافيةً بين الإثبات والنفي، فمن المستحيل أن تكون كلّها مطابقةً للواقع ونفس الأمر، فمثلاً: الطهارة والنجاسة متضادّتان؛ لذا من غير المعقول أن يكون كلاهما مطابقاً للواقع.
فإن قلتَ: بعضها حجّةٌ دون البعض الآخر. قلتُ: إن كان بعضها المعيّن، لزم الترجيح بلا مرجّح، وإن كان بعضها غير معيّن فهو لا ينفع.
بعبارة أخرى: بعد القبول بتعدّد الاجتهادات للدين، أتكون جميعها حجّة أم إنّ بعضها حجّة دون الآخر؟[19].
فإذا كان الأوّل فكيف يكون ذلك والواقع واحدٌ؟ وإذا كان البعض هو حجّة، هل بعضها المعيّن حجّةٌ أم بعضها غير المعيّن؟ فإذا كان المعيّن هو الحجّة يلزم الترجيح بلا مرجّح، وإذا كان بعضها غير المعيّن، فهذا يشكّل علماً إجماليّاً حاصله: أنّ فهماً واحداً صحيحٌ، وأفهاماً عدّةً خاطئةٌ، وحينئذٍ إمّا أنّ الجميع يسقط عن الحجّية أو لابدّ من العمل بالاحتياط.
نعم، إذا كان في الأمور العمليّة، يمكن إجراء الاحتياط – إذا لم يلزم منه دوران الأمر بين المحذورين – أمّا في الأمور العقائديّة فغالباً لا يمكن تصوّره. إذن، لا يمكن أن يُراد من الحجّية المطابقة للواقع ونفس الأمر.
الثاني: استناد الفهم إلى دليل صحيح
المراد بالحجّية: أنّ الفهم والنتيجة الحاصلة قائمةٌ على أُسسٍ مستدلٍّ عليها باستدلالٍ عقليٍّ أو نقليٍّ صحيح.
وعليه، يمكن الاعتماد على هذه النتيجة وعقد القلب عليها إذا كانت أمراً عقديّاً، ويجب العمل بها إذا كانت أمراً عمليّاً؛ سواءٌ أكانت مطابقةً للواقع أم مخالفةً له.
بعبارة أخرى: إنّ حجّية المعرفة الدينيّة ليست هي الإصابة للواقع، وإنّما هي استناد المعرفة الدينيّة والفهم الديني إلى منهجٍ صحيحٍ، بغضّ النظر عن إصابة الواقع وعدمها.
فلو حصلنا على معرفةٍ دينيّةٍ من خلال الاعتماد على منظومةٍ فكريّةٍ ومنهجٍ استدلاليٍّ أقيم الدليل على صحّته، فسوف تكون هذه المعرفة حجّةً، وأمّا إذا لم يكن الأمر كذلك؛ بمعنى أنّها لم تستند إلى منهجٍ معرفيٍّ مستدلٍّ على صحّته فلا تكون حجّةً، وإن أصابت الواقع صدفةً واتّفاقاً.
فمثلاً: لو بنى شخصٌ معرفته الدينيّة على المنام والرؤية، فمعرفته لا تملك الحجّية؛ إلّا إذا استدلّ على صحّة الاستناد إلى المنام بالآيات والروايات، أو المباني العقليّة.
وعليه، لا يمكن لكلّ أحدٍ أن يأتي بقراءةٍ ويقدّمها في سوق الفكر إلّا بعد أن يبيّن منهجه[20]، ويستدلّ على صحّته[21].
قال السيّد الصدر[22] – في بحثه حول الاتّجاهات المختلفة التي نكوّنها عن المذهب الاقتصادي في الإسلام -: «إنّ الصورة التي نكوّنها عن المذهب الاقتصادي، لمّا كانت متوقّفةً على الأحكام والمفاهيم، فهي انعكاسٌ لاجتهادٍ معيّنٍ؛ لأنّ تلك الأحكام والمفاهيم التي تتوقّف عليها الصورة نتيجةٌ لاجتهادٍ خاصٍّ في فهم النصوص، وطريقة تنسيقها والجمع بينها.
وما دامت الصورة التي نكوّنها عن المذهب الاقتصادي اجتهاديّة، فليس من الحتم أن تكون هي الصورة الواقعيّة؛ لأنّ الخطأ في الاجتهاد ممكن، ولأجل ذلك كان من الممكن لمفكّرين إسلاميّين مختلفين أن يقدّموا صوراً مختلفةً للمذهب الاقتصادي في الإسلام[23]؛ تبعاً لاختلاف اجتهاداتهم، وتعتبر كلّ تلك الصور صوراً إسلاميّةً للمذهب الاقتصادي؛ لأنّها تعبّر عن ممارسة عمليّة الاجتهاد التي سمح بها الإسلام وأقرّها، ووضع لها مناهجها وقواعدها، وهكذا تكون الصورة إسلاميّة[24] ما دامت نتيجةً لاجتهادٍ جائزٍ شرعاً، بقطع النظر عن مدى انطباقها على واقع المذهب الاقتصادي في الإسلام»[25].
وقال أيضاً: «قد مرّ بنا أنّ اكتشاف المذهب الاقتصادي يتمّ خلال عمليّة اجتهاد في فهم النصوص وتنسيقها، والتوفيق بين مدلولاتها في اطّرادٍ واحدٍ، وعرفنا أنّ الاجتهاد يختلف ويتنوّع، تبعاً لاختلاف المجتهدين في طريقة فهمهم للنصوص وعلاجهم للتناقضات التي قد تبدو بين بعضها والبعض الآخر، وفي القواعد والمناهج العامّة للتفكير الفقهي التي يتبنّونها.
كما عرفنا أيضاً أنّ الاجتهاد يتمتّع بصفةٍ شرعيّةٍ وطابعٍ إسلاميٍّ ما دام يمارس وظيفته، ويرسم الصورة ويحدّد معالمها ضمن إطار الكتاب والسنّة، ووفقاً للشروط العامّة التي لا يجوز اجتيازها.
وينتج عن ذلك كلّه: ازدياد ذخيرتنا بالنسبة إلى الاقتصاد الإسلامي، ووجود صورٍ عديدةٍ له، كلّها شرعيٌّ وكلّها إسلاميّ. ومن الممكن حينئذ أن نتخيّر في كلّ مجال أقوى العناصر التي نجدها في تلك الصورة، وأقدرها على معالجة مشاكل الحياة وتحقيق الأهداف العليا للإسلام.
وهذا مجال اختيارٍ ذاتيّ يملك الباحث فيه خبرته ورأيه، ويتحرّر عن وصفه مكتشفاً فحسب، وإن كانت هذه الذاتيّة لا تعدو أن تكون اختياراً، وليست إبداعاً، فهي تحرّرٌ في نطاق الاجتهادات المختلفة، وليست تحرّراً كاملاً»[26].
وقال أيضاً: «فالاجتهاد إذن عمليّةٌ معقّدةٌ، تواجه الشكوك من كلّ جانب. ومهما كانت نتيجته راجحةً في رأي المجتهد، فهو لا يجزم بصحّتها في الواقع[27]، ما دام يحمل خطأه في استنتاجها، إمّا لعدم صحّة النصّ في الواقع وإن بدا له صحيحاً، أو لخطأ في فهمه، أو في طريقة التوفيق بينه وبين سائر النصوص، أو لعدم استيعابه نصوصاً أخرى ذات دلالةٍ في الموضوع ذهل عنها الممارس أو عاثت بها القرون.
وهذا لا يعني إلغاء عمليّة الاجتهاد أو عدم جوازها، فإنّ الإسلام – بالرغم من الشكوك التي تكتنف هذه العمليّة – قد سمح بها[28]، وحدّد للمجتهد المدى الذي يجوز له أن يعتمد فيه على الظنّ، ضمن قواعد تُشرح عادةً في علم أصول الفقه، وليس على المجتهد إثمٌ إذا اعتمد ظنّه في الحدود المسموح بها، سواءٌ أخطأ أو أصاب»[29].
إذن، كلّ قراءةٍ يمكن أن تكون إسلاميّةً إذا كانت ناتجةً عن اجتهادٍ ومنهجٍ مقبولٍ في الشريعة. أمّا إذا رفضت الشريعة نوعاً من الاجتهادات فحينها لا يكون مقبولاً، فلو حصرتْ الشريعةُ فهمَ الكتاب بنظريّةٍ معيّنةٍ – مثلاً – لزم تلقّيها بالقبول، ورفض غيرها وإن كان اجتهاداً؛ لأنّه اجتهادٌ مرفوضٌ من قبل الشريعة[30].
الهوامش
[1] – المقال مقتطف من الباب الثاني من كتاب العقل الفقهي، للسيد كمال الحيدري، والصادر عن دار مؤمنون بلاحدود للنشر والتوزيع.
[2] – عندما يرجع الباحث إلى كتاب الكافي لثقة الإسلام الكليني (م. س) فسوف يجد تنوّعاً في الروايات التي تشير – بمجموعها – إلى منظومةٍ متكاملةٍ من المعارف الدينيّة، وهكذا الحال في بعض المصادر الثانويّة ككتاب بحار الأنوار، وكتاب الوافي. وما الفقه الأصغر إلّا جزءٌ من كلّ، وليس هو منفصلاً عن الأبعاد الأخرى لمنظومة المعارف الإسلاميّة بشكلٍ عامّ؛ لذا لا يمكن الاكتفاء بالمنظومة الفقهيّة والبناء الفقهي الفوقي فقط لاكتشاف تأثير الزمان والمكان، بل لابدّ من الدخول في المسائل العقائديّة والأخلاقيّة وغيرهما للوصول إلى رؤيةٍ واضحةٍ ومتكاملةٍ حول تأثير الزمان.
[3] – إنّ الدين في حقيقته واحدٌ لا يتعدّد؛ قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَما اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ} [آل عِمرَان: 19]، فهو التسليم للبيان الصادر عن مقام الربوبيّة في المعارف والأحكام، وهو وإن اختلف كمّاً وكيفاً في شرائع أنبيائه ورسله على ما يحكيه الله سبحانه في كتابه، غير أنّه ليس في الحقيقة إلّا أمراً واحداً، وإنّما اختلاف الشرائع بالكمال والنقص دون التضادّ والتنافي، والتفاضل بينها بالدرجات، ويجمع الجميع أنّها تسليمٌ وإطاعةٌ لله سبحانه فيما يريده من عباده على لسان رسله. إذن، الدين – في الاصطلاح القرآني – هو الإسلام بمعناه العامّ، وهو واحدٌ لا يتعدّد. نعم، الشرائع تتعدّد، فهناك الشريعة اليهوديّة والمسيحيّة والإسلاميّة. وكلام السيّد الحيدري – أعلاه – هو في الإسلام بمعناه الخاصّ، أي: في الشريعة الإسلاميّة التي نزلت على قلب النبيّ محمّد صلّى الله عليه وآله.
[4] – المراد بالسنّة، هنا: المعنى الأعمّ لها، الشامل للسنّة القوليّة والفعليّة والتقريريّة، وسواءٌ أكانت صادرةً عن النبيّ، أم عن أحد الأئمّة، وقد مرّ تفصيل الكلام في معناها في المباحث السابقة.
[5] – لا يعني ذلك إنكار دور العقل في فهم الدين، إذ له دورٌ مهمٌّ في ذلك ليس هاهنا محلّ بيانه. ثمّ إنّ السيّد الحيدري إنّما يميّز بين النصّ القرآني والنصّ الروائي؛ باعتبار أنّ لكلّ قسمٍ منهما قواعد خاصّةً في التعامل معه، فلا ينبغي التعامل مع النصّ القرآني بنفس القواعد التي يتعامل بها مع النصّ الروائي.
[6] – سوف يُجيب سماحة السيّد عن التساؤل أعلاه في فصول هذا الباب بنحوٍ مفصّل.
[7] – نهج البلاغة: خطب أمير المؤمنين عليه السلام، م. س: الخطبة 1
[8] – إنّ كون الهدف الأساس من المعارف العقديّة هو الإيمان بها، وعقد القلب عليها، لا يمنع من ترتّب بعض الأمور العمليّة عليها. (الحيدري).
[9] – إنّ كلّ عاقلِ يرفض أن تكون معارف القرآن وخطب أمير المؤمنين وروايات الإمام الرضا في أصول الدين وفي معارف التوحيد هي لمجرّد التلاوة ولقلقة اللسان أو للحصول على الثواب فقط. إذن، ليس من الصحيح الاعتقاد أنّ ما بينّه القرآن الكريم وبينّه إمام الموحّدين وبقيّة الأئمّة الطاهرين عليهم السلام من المعارف هو لغرض التلاوة والتسبيح ولقلقة اللسان أمّا فهمها وتعقّلها فليس مطلوباً. (الحيدري).
[10] – من أهداف هذه الدراسة: التأسيس إلى منهجيّةٍ جديدةٍ في عمليّة الاستنباط وفهم الدين قائمةٍ على أساس عدم الفصل بين هذه المعارف.
[11] – الخارطة الإجماليّة لمباحث هذه الدراسة ترسمها ثلاثة محاور أساسيّة: المحور الأوّل: أثر الزمان والمكان على فهم النصّ الديني بشكلٍ عامّ. المحور الثاني: أثر الزمان والمكان على المعارف العقديّة. المحور الثالث: أثر الزمان والمكان على المعارف العمليّة.
[12] – المراد من الدين الإسلامي: النصّ الديني المتمثّل بالكتاب الكريم والسنّة الشريفة.
[13] – الثابت والمتغيّر، محاضرات آية الله السيّد كمال الحيدري، بقلم: علي العلي، دار فراقد، قم، 1429هــــ، ص ص49- 50
[14] – لبيان أنواع علومهم، وما تقع فيه الزيادة وما لا تقع، ينظر: علم الإمام.. السيّد الحيدري، م.س.
[15] – الثابت والمتغيّر، للسيّد الحيدري، م. س، ص37
[16] – الحديث عن المعرفة الدينيّة الإسلاميّة.
[17] – اتّضح ممّا ذكره السيّد الحيدري أنّ جواب التساؤل أعلاه لا يرتبط بالدين ولا بالفهم الديني المتمثّل بآراء العلماء، وإنّما مرتبط بفلسفة المعرفة الدينيّة.
[18] – سيأتي الحديث في بيان وإثبات هذا الأصل الموضوعي في المباحث اللاحقة إن شاء الله تعالى.
[19] – من الأمثلة على تعدّد الاجتهادات الدينيّة إفتاء بعض الفقهاء بنجاسة الكتابي، وبعضهم بطهارته، وقبول بعضهم نظريّة ولاية الفقيه، ورفض الآخر لها، وقول بعضهم بأنّ الإسلام قابلٌ للتطبيق في زمن الغيبة، واشتراط الآخر حضور الإمام في إمكان تطبيق الإسلام، وهكذا.
[20] – فمثلاً: الأخباري عندما أنكر حجّية ظواهر الكتاب، استند إلى عدّة أدلّة، ولم يدّعِ ذلك جزافاً، وهكذا عندما أنكروا حجّية العقل. ولكنّ هذا لا يعني أنّ منهجهم مطابقٌ للواقع جزماً، ولا يمكنهم أن يدّعوا ذلك. كما أنّ الأصولي لا يمكنه ذلك. نعم، لكلٍّ منهما أن يدّعي أنّ منهجه هو الحجّة – بالمعنى الذي ذُكر – وكلّ منهما عليه أن يلتزم بلوازم منهجه.
[21] – لقد طرح السيّد الحيدري العديد من الدروس من أجل بيان المنهج والأدلّة التي استدلّ بها على مدخليّة الظروف الزمكانيّة في عمليّة الاستنباط، وفي الفهم الديني بشكلٍ عامّ. فمَن وافق فبها، ومَن خالف فليخالف، ولا يُنقص ذلك من النظريّة شيئاً بعد أن قامت على منهج وقام عليها الدليل.
[22] – لا حاجة أن يذكر السيّد الحيدري عبارة أستاذه الشهيد الصدر إلّا من باب الخروج من وحشة الوحدة، وإلّا فإنّه معتقد بما قنّنه؛ مستدلٌّ عليه بأدلّةٍ كثيرةٍ.
[23] – ما ذكره السيّد الصدر هو من باب المثال؛ باعتبار أنّه كان يتحدّث عن المذهب الاقتصادي، وإلّا كان من الممكن لمفكّرين إسلاميّين أن يقدّموا صوراً مختلفةً للمذهب العبادي في الإسلام، وللمذهب الاجتماعي في الإسلام، وللمذهب المالي في الإسلام، والمذهب السياسي للإسلام. فمن الممكن أنّه يوجد مجتهدون متعدّدون يقدّمون رؤىً سياسيّةً متعدّدةً، وكلّها تكون حجّة.
[24] – فإذا كان المراد من الاجتهاد: المطابقة للواقع، فلا يعقل أن تكون كلّ الصور إسلاميّة.
[25] – اقتصادنا، السيّد محمّد باقر الصدر، م. س، ص383
[26] – م. ن، ص395
[27] – يتحدّث السيّد الصدر عمّن كان في موقع فلسفة المعرفة الدينيّة، فمهما كانت نتيجته راجحةً في رأي المجتهد فهو لا يجزم بصحّتها في الواقع. أمّا من كان في موقع المعرفة الدينيّة والفهم الديني فمن حقّه أن يجزم، بل إذا لم يجزم لا يمكنه أن يفتي الناس. نعم، يمكنه من موقع فلسفة العلم أن يقول يقيناً أنّ بعض المسائل التي أفتيتُ بها غير مطابقٍ للواقع. أمّا في موقع المعرفة الدينيّة فأيّ مسألة وضع يده عليها يجزم بأنّها حكم الشارع.
[28] – أي: إنّه في موقع المعرفة الدينيّة وموقع الاجتهاد كان يعتقد أنّ النصّ الذي اعتمده صحيحٌ، وأنّ ما فهمه من النصّ هو الحقّ، وأنّه لا يوجد نصٌّ معارضٌ له، وأنّ جمعه بينه وبين النصوص الأخرى كان صحيحاً.
[29] – اقتصادنا، السيّد محمّد باقر الصدر، م. س، ص397
[30] – لذلك كان علماء الأصول عندما يبحثون في الحكومة والورود والإطلاق والعموم وأمثالها، يبحثون عن شواهد من الشرع أو من العقل الممضى من الشارع؛ لأنّهم يريدون أن يجتهدوا في كلام الشرع.
المصدر: مؤمنون بلا حدود