الاجتهاد: يعتقد علماء الشيعة، بان حكم الحاكم الاسلامي على أساس المصلحة انما هو حكم ولائي مؤقت، لابد من اتباعه على أساس وجوب اتباع الحاكم الإسلامي، لا أنه حكم شرعي أولي يجب العمل به دائما. أما السنة فهم يرون ذلك تشريعا للفقيه في الدين وذلك لانهم عدّوا “المصالح المرسلة” مصدرا من مصادر الاجتهاد.
مقدمة: المصلحة لغوياً تعني المنفعة وتستعمل في مقابل المفسدة. قال ابن منظور: “الإصلاح نقيض الافساد، والمصلحة: الصلاح» (1).
المصلحة ما يترتب على الفعل ويبعث على الصلاح، يقال: رأى الامام المصلحة في ذلك، أي هو ما يحمل على الصلاح، ومنه سمي ما يتعاطاه الانسان من الاعمال الباعثة على نفعه (۲).
وقد شرحت الكتب اللغوية أيضا غير الكتابين المذكورين معنى المصلحة أيضا.
وقد وردت المصلحة في الكتاب والسنة والكتب الفقهية بهذا المعنى، واستعملت بمعناها الأوسع لتشمل منافع الدنيا والآخرة.
ذكر صاحب الجواهر:
«يفهم من الأخبار وكلام الاصحاب، بل ظاهر الكتاب (3) من أن جميع المعاملات وغيرها انما شرعت المصالح الناس وفوائدهم الدنيوية والأخروية مما تسمى مصلحة وفائدة عرفاً» (4).
مكانة المصلحة في الفقه
ان المصلحة منبثقة من روح الدين وجوهره. وقد تناولها الفقهاء في عدة مواضع من أبواب الفقه. وقد أفرد لها فقهاء السنة بابا أسموه باب “المصالح المرسلة». حيث اعتبرها اغلب فقهائهم مصدراً للاحکام الثابتة والمتغيرة التي لم يقم عليها الدليل الشرعي.
وقد خاض فقهاء الشيعة أيضا في صنفين من الأحكام والمصالح، ثم صرحوا قائلين بأن هناك أحكاما ثابتة ومتغيرة ومصالح ثابتة ومتغيرة أيضا (5). فللأحكام الثابتة مصلحتها الثابتة التي لا تنحصر بزمان ولا مكان ولا أمة دون أخرى، أما الأحكام المتغيرة فمصالحها متغيرة ايضا حسب الزمان والمكان ويقال لهذا النوع من الأحكام ” الأحكام الولائية » أيضا.
كل احکام الوحي التي يبلّغها رسول الله “ص” للامة ذات مصالح ثابتة وليس للمصالح المتغيرة من سبيل اليها، إلا أن يتغير موضوعها أو تتزاحم مع أحكام أخرى أكثر أهمية (6).
والحديث الشريف: «حلال محمد حلال ابدا الى يوم القيامة وحرامه حرام أبدا الى يوم القيامة » (7) ليعالج هذا الصنف من الأحكام.
أما الأحكام التي صدرت منه “صلى الله عليه وآله وسلم” أو من سائر الأئمة المعصومين عليهم السلام” من خلال بعض الوقائع والحوادث فان مصالحها متغيرة وطارئة، والالتزام بها واجب مادامت المصلحة باقية .
وللامام الخميني “قدس سره” معايير خاصة في تشخيص الأحكام الشرعية من الحكومية (8). من خلال بعض الروايات التي تشير للاحکام الحكومية (9).
المصلحة في آراء الفريقين
ذهب فريق إلى أن “مصلحة النظام”، التي طرحها الإمام الراحل إنما هي “المصالح المرسلة” عند العامة، ولذلك أرى من المناسب أن نشير هنا باختصار الى الفوارق بين الرأيين.
وان التفت علماء الفريقين لعنصر المصلحة، وذكروه في مختلف أبواب الفقه، إلا أن نظرة كلية لما ورد عن علماء السنة بشأن “المصالح المرسلة”، وما أصدروه من فتاوى على هذا الأساس من جانب، وما صرح به فقهاء الشيعة سيما الإمام الخميني “قدس سره” بشأن المصلحة من جانب آخر، تكشف لنا عن بعض الفوارق الأساسية بين الاتجاهين:
1- ان اغلب علماء السنة اعتمدوا المصلحة على أنها إحدى مصادر التشريع في حالة غياب النص: “إذا أعلنت الشريعة، بنص أو اجماع أو قياس على اعتبار المصالح أو بطلانها فطاعتها واجبة. أما اذا سكتت الشريعة بهذا الشأن أي أن الأدلة الشرعية لم تبين مصلحة أمر، ففي هذه الحالة يرد هذا السؤال، هل لنا حق التحقيق في علة ذلك الأمر أم لا؟
لقد قال مالك بجواز ذلك، معتبرا فهم العلل وادراك المصالح تمثل أساس التشريع، فاسماها بـ (المصالح المرسلة) المصالح التي لم يرد فيها النص”(10).
طبق هذا الرأي، للفقيه أن يلجأ للمصلحة في حالة عدم وجود النص في أمر، ثم يصدر فيه حكمه وفق رأيه.
اما علماء الشيعة ورغم إصرارهم على تبعية أحكام الشريعة للمصالح والمفاسد في مقام الثبوت، أما في مقام الاثبات فما كان مصلحة في نظر الانسان لايجعل أساسا للحكم الكلي الالهي ما لم يفيد العلم. وبعبارة أخرى لا ينظر الى المصلحة بصفتها مصدرا من مصادر الاجتهاد.
فقد كتب المحقق النائيني بهذا الخصوص:
“انه لا سبيل إلى إنكار إدراك العقل تلك المناطات موجبة جزئية وان العقل ربما يستقل بقبح شيء وحسن آخر ولايمكن عزل العقل عن ادراك الحسن والقبح، كما عليه بعض الأشاعرة” (11). فقد اعتبر رد هذا الكلام يؤدي إلى زوال أساس الشريعة (12).
وعليه فان الشيعة ترى بان تلك المصلحة حجة إن قام الدليل الشرعي القطعي عليها ، او حكم العقل بقطعيتها. على كل حال، فانه ليس هنالك عالم من علماء الفقه والأصول الشيعة من يرى أن المصلحة مصدر الى جانب سائر المصادر المتعارفة في الاستنباط.
مما يجدر ذكره أن فقهاء الشيعة لا ينظرون للمصلحة على أنها عنصر لا أهمية له؛ وذلك لانهم يرون أن لها مكانة خاصة في الأحكام الولائية والقضايا الاجتماعية، وقد ذكروا أحكاما كثيرة بهذا الخصوص في كتبهم الفقهية.
۲ – ان السنة لا يستندون إلى “المصالح المرسلة”، الا إذا تعذر القياس (13) فهم لا يرون حاجة للمصلحة اذا ما توفر القياس، أما الشيعة فلا ترى أي اعتبار للقياس وذلك أنه لا يفيد العلم ليأتي بعده دور المصلحة.
٣- يعتقد علماء الشيعة، بان حكم الحاكم الاسلامي على أساس المصلحة انما هو حكم ولائي مؤقت، لابد من اتباعه على أساس وجوب اتباع الحاكم الإسلامي، لا أنه حكم شرعي أولي يجب العمل به دائما. أما السنة فهم يرون ذلك تشريعا للفقيه في الدين وذلك لانهم عدّوا “المصالح المرسلة” مصدرا من مصادر الاجتهاد.
4- يرى الشيعة أن الحكم على أساس المصلحة في المسائل السياسية والاجتماعية انما يختص بالحاكم، اما السنة فهم يرون ان ذلك حقا لجميع الفقهاء، أضف الى ذلك فهم يرون حكم أي فقيه في هذه المسائل هو حكم الله، وإن كان هناك اختلاف وتعارض بينهم.
5- يری فقهاء الشيعة ان هدف مصلحة الحكم الولائي هو حفظ النظام والمجتمع الإسلامي، اما السنه فهم يرون المصالح التي تشكل مصدر الاجتهاد والحكم أوسع وأشمل من ذلك فأغلب أفرادهم الذين يقولون بحجية المصالح المرسلة، يعتقدون أنها لا تختص “بالمصالح الضرورية”، بل إن «المصالح الحاجية» تشكل جزء منها.
مرجع تشخيص المصلحة
إن تشخيص المصالح الاجتماعية حق للحكومة الاسلامية، وان هذا الأمر لا يختص بنظام ولاية الفقيه، فهذا هو السائد اليوم في كافة الأنظمة السياسية.
لقد بين رسول الله “صلى الله عليه وآله وسلم” وعلي “عليه السلام” وسائر الائمة المعصومين “عليهم السلام” بعض الأحكام القائمة على أساس المصلحة وفق متطلبات ذاك الزمان إضافة لقيامهم بوظيفة إبلاغ الأحكام الإلهية، ونشير هنا إلى بعض الأمور التي قام بها الرسول الأكرم “صلى الله عليه وآله وسلم” على أساس المصلحة:
أمر النبي “صلى الله عليه وآله وسلم” بقلع نخلة سمرة بن جندب، هدم مسجد ضرار(14)، منع قتل الحيوانات الأهلية وأكلها (15)، النهي عن الزواج المؤقت في معركة خيبر (16)، الحكم بقطع الأشجار(17)، تخریب الأبنية المبنية بغير إذن (18)، منع صيد الحيوانات و …(19).
إن من الحقوق المسلمة الاجتماعية والإسلامية للإنسان هي حريته واختياره في انتخاب ما يشاء من شغل، حرفة أو مهنة، مسکن، زواج و… إلا إننا نرى أن علياً “عليه السلام” وبسبب بعض المصالح الاجتماعية قد جرد بعض الأفراد من تلك الحريات ومن ذلك: منع أهل الذمة من التصريف (20)، منع الأفراد من ممارسة بعض الأعمال التي يبدو ظاهرها حلالاً (21)، فرض الزكاة على الراحلة (22) الاجبار على الزواج (23)، الاجبار على الطلاق (24)، هدم بيوت المجرمين (25)، العفو عن إجراء الحدود أو تأخيرها (26)، قتل المرأة المرتدة (27)، الحكم بمصادرة الأموال (28)، إجبار المحتكرين على البيع (29)، رجم غير المحصن (30). وهذه الاعمال ينبغي أن يمارسها الولي الفقيه كونه منصوبا من قبل النبي “صلى الله عليه وآله وسلم” والأئمة المعصومين “عليهم السلام” في عصر الغيبة (31).
فقد تعرفنا على اغلب المصالح التي أوردها فقهاء الشيعة في كتبهم الفقهية، ونشير هنا إلى بعض النماذج الأخرى:
ذكر المرحوم السيد محمد كاظم اليزدي في كتاب «الوقف»:
“لو لم ينصب الواقف قيّما خاصاً على الوقف، سواء كان الوقف عاما أم كان لجماعة معينة فان حقه وحق من أُوقف له سيزول، وللحاكم الشرعي قيمومة الوقف ورأيه معتبر في هكذا أوقاف، وذلك لان الوقف من المصالح العامة والمرجع في المصالح العامة هو الحاكم الاسلامی»(32).
وهكذا اعتبر صاحب “بلغة الفقيه” أيضا أن للحاكم الاسلامي الولاية على الأوقاف العامة، ثم ذكر علة ذلك قائلا: “ولانه من المصالح العامة التي يرجع بها إلى الإمام “عليه السلام” وإلى نائبه بالعموم” (33).
وكتب المحقق الحلي بشأن الجهاد: “فرضه على الكفاية ولا يتعين إلا أن يعينه الامام “عليه السلام” لاقتضاء المصلحة» (34).
يرى بعض الفقهاء أن للولي الفقيه أن يصدر حكما بالجهاد إن كانت فيه مصلحة (35) ، وكذلك إجبار الزوج على طلاق الزوجة (36) اللجوء الى القوة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (37) التعزيرات البدنية والغرامات المالية (38)، و… وعشرات الأمور الأخرى التي يرى الفقهاء تشخيص مصالحها بيد الحاكم الشرعي.
وبالنظر إلى سعة وشمولية دائرة حكم الحاكم وتشخيص المصلحة التي تشمل كافة القضايا : الاقتصادية، السياسية، الثقافية، القضائية ، العسكرية و… يتضح أن الولي الفقيه لا يسعه بمفرده أن يمارس تشخيص كل هذه المصالح، ولذلك قد يفوض هذه الصلاحية لبعض الأفراد أو المؤسسات التي لها القدرة والخبرة اللازمة للقيام بذلك.
ولذلك قال الإمام الخميني “قدس سره” بهذا الشأن: «ثم إن ما ذكرنا من أن الحكومة للفقهاء العدول قد ينقدح في الأذهان الاشكال فيه بأنهم عاجزون عن تمشية الأمور السياسية والعسكرية وغيرها، لكن لاوقع لذلك، بعدما نرى أن التدبير والادارة في كل دولة بتوظيف طاقات وجهود عدد كبير من المتخصصين، وأرباب البصيرة. والسلاطين ورؤساء الجمهوريات من العهود البعيدة الى زماننا ۔ الا ما شذ منهم – لم يكونوا عالمين بفنون السياسة والقيادة للجيش، بل الأمور جرت على أيدي المتخصصين في كل فن » (39)
الهوامش
١- لسان العرب، ابن منظور، مادة صلح.
۲ – اقرب الموارد ، السعيد الخوري الشرتوني ، مادة صلح.
3- سورة النساء: ۲۹.
4- جواهر الكلام ، الشيخ محمد حسن النجفي ۲۲: 344. دار احياء التراث العربي. بیروت.
5- ليس لتصنيف الأحكام الى ثابتة ومتغيرة سابقة طويلة في تاليفات الفقهاء السابقين، بل إن هذه القضيه انما طرحت في القرن الأخير، الا أن مضمونها كان قد ورد في مؤلفاتهم. حيث منحوا الحاكم الاسلامي صلاحيات في اتخاذ القرار في أبواب فقهية وهذه هي الأحكام المتغيرة.
6- ان تزاحم الحكم الأولي مع الحكم الحكومي ( الولائي) وتقديم الحكم الحكومي عليه لا يعني رفع الوجوب والحرمة عن الحكم الأولى، بل ان ذلك الحكم سيكون باقيا وان حکم الحاکم سیقدم مؤقتا في مقام الأجراء والتطبيق، لمصلحة اهم اقتضت ذلك.
7- أصول الكافي: للكليني، تصحیح وتعليق على أكبر غفاري 58:۱ ، دارالتعارف بيروت.
8- « الرسائل » الامام الخميني : ۵۰- ۵۲، اسماعیلیان، قم.
9- المصدر السابق: ۵۲ – 54.
10- « فلسفة التشريع في الاسلام »، الدكتور صبحي محمصاني: 160.
11- « فوائد الاصول» ۳: ۵۹ -60.
12- المصدر السابق.
13- فلسفة التشريع في الاسلام:160.
14- «نور الثقلين» الشيخ عبد علي بن جمعة العروسي الحويزي، تصحیح و تعليق: سید هاشم رسولی محلاتي 2 : 269، ح ۳۵4 و ۳۵۵، إسماعيليان.
15- وسائل الشيعة 16: ۳۲5.
16- المصدر السابق 14: 441.
17- السنن، البيهقي ۹: ۸۳.
18- المصدر السابق 6 : 151 ، باب إحياء الموات.
19- الاصابة. ابن حجر العسقلاني ۲: ۲۰۸،
20۔ مستدرك الوسائل. المحدث النوري 13 : 354، مؤسسة آل البيت “عليهم السلام” دعائم الاسلام، القاضي عمان المغربي ۳۸:۲، ح 86 دار المعارف، القاهرة
21- وسائل الشيعة ۱۱۱:۱۲
22- المصدر السابق 6 : ۵۱.
23- تهذیب الاحکام، الشيخ الطوسي ۱۰: ۱۵4 ، وسائل الشيعة ۱۸: ۵۷4 و ۱4: .267.
24- وسائل الشيعة 15 : 389 – ۳۹۰. الباب ۲۳ من أبواب الطلاق.
25- تهذیب الاحکام 10 : 140، دار الكتب الإسلامية، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد4 :74 و۳: ۱46،۱۸۸، ۱۷۷، دار الكتب العلمية.
26- تهذيب الأحكام 40:۱۰ الاستبصار، الشيخ الطوسي 4 : 4۱۲، ۲5۲، دعائم الإسلام ۲: 456.
27- تهذيب الأحكام ۱۰: 141، المبسوط ، السرخسي ۱۱:۱۰
28- دعائم الإسلام 1 : 396.
29- نهج البلاغة ، الرسالة 53 : 426، تحقیق صبحي الصالح.
30- دعائم الإسلام ۲: 456.
31-“تنبيه الأمة وتنزيه الملة”العلامة محمد حسین النائيني، بمقدمة السيد محمود الطالقاني:۹۸،شركة سهامي النشر، طهران.
32- « العروة الوثقي» السيد محمد کاظم اليزدي ۲: ۲۳۷
33- “بلغة الفقيه” السيد محمد بحرالعلوم ۲: ۲۵۹.
34- شرائع الإسلام، المحقق الحلي ۱: ۲۷۸.
35- جواهر الكلام ۲۱ : 14، ولاية الفقيه، حسین علی منتظري ۱۱۸:۱، المركز العالمي للدراسات الاسلامية
36- جواهر الكلام ۳۲: ۲۹۰ – ۲۹۱ و ۳۱6:۳۳. النهاية. الشيخ الطوسي : 475۔ ۵۰۹ دار الكتاب العربي ، بيروت. شرایع الاسلام 3: ۱۲ و 66. العروة الوثقى، السيد محمد کاظم اليزدي، ملحقات العروة ۲: 75 مسأله :33، مكتبة الداوري.
37- المقنعة، الشيخ المفيد: ۸۰۹. النهاية : ۳۰۰. جواهر الكلام ۲۱: ۳۸۳ – ۳۸۵.
38- جواهر الكلام ۳۸6:۲۱ و ۳: ۲۲۵.
39- كتاب البيع ۲: 4۹۸.
المصدر: كتاب: دراسات في الفكر السياسي عند الإمام الخميني/ مجموعة من الباحثين – ترجمة عبد الرحيم الحمراني.
محتويات الكتاب
تحميل الكتاب