يرى الدكتور زكي الميلاد أن هناك تحول وانتقال في فكر العلامة شمس الدين في حقلتي الفكرية والمعرفية، من مفهوم الدولة إلى الأمة و من المنهجية الكلامية إلى الفقهية والأصولية، وذلك عند مقايسة المسافة الفكرية بين كتابيه «نظام الحكم والإدارة في الإسلام» و كتاب«في الاجتماع السياسي الإسلامي.
خاص الاجتهاد: إذا أردنا أن نقيس المسافة الفكرية التي تفصل بين كتاب «نظام الحكم والإدارة في الإسلام»، الصادر سنة 1955م، وكتاب «في الاجتماع السياسي الإسلامي»، الصادر سنة 1992م، هذه المسافة في قياسات التطور الفكري عند الشيخ شمس الدين، هي في التحول والانتقال من الانتصار لمفهوم الدولة، إلى الانتصار لمفهوم الأمة. فهو في كتاب «نظام الحكم والإدارة في الإسلام»، ينتصر لمفهوم الدولة، ويتحدث عن حتمية الحكومة الإسلامية، ويبرهن بأن الإسلام مشروع دولة وحكم ونظام.
أما في كتابه الثاني فهو ينتصر لمفهوم الأمّة، المفهوم الذي يتجلى بصورة واضحة ومقصودة في عنوان الكتاب، وهو «في الاجتماع السياسي الإسلامي»، فمن نظام الحكم إلى الاجتماع السياسي، هو تحول من الدولة إلى الأمة.
ومن جهة الحقل المعرفي فإن الكتاب الأول ينتمي إلى علم الكلام، في حين ينتمي الثاني إلى علم الفقه. وهذا بدوره يعكس تحولاً منهجياً في نظام التفكير والنظر عند الشيخ شمس الدين، وهو تحول من المنهجية الفكرية والكلامية، إلى المنهجية الفقهية والأصولية. التحول الذي سعى إليه الشيخ شمس الدين بإرادته، وأراد أن يعرف به، ويعمل على تطبيقه.
وبقدر ما تحمس الشيخ شمس الدين إلى كتابه الأول في زمنه، تحمس أيضاً وبقدر أكبر إلى كتابه الثاني في زمنه. الكتاب الأولى تحمس إليه الشيخ شمس الدين لأن القضية التي يعالجها حسب رأيه لم تكن تمثل هماً ظاهراً من هموم النجف، بل لعلها كانت تنظر إلى هذه القضية بقلق وتحفظ، وهي تتذوق الطعم المر، وتعاني من خيبة الأمل، ومن الفجيعة لما آلت إليه تجربة معركة المشروطة في إيران.
وقد اعتبر الشيخ شمس الدين هذا الكتاب بأنه أول نص عربي شيعي في حينه يطرح مسألة الحكم الإسلامي في العصر الحاضر.
أما كتابه الثاني فقد تحمس إليه لأنه اعتبر أن الذين سبقوه بدراسة نظام الحكم في الإسلام وقعوا في خطأ منهجي كبير، في حين أنه توصل إلى المنهج الأكثر سداداً ودقة في هذا الشأن.
وحسب قوله «لقد بحثت مسألة الحكم في الإسلام من زوايا متنوعة حسب الصورة التي تحملها كل فئة منها عن الإسلام وعلاقتها به، وموقفها منه، ولكن أبحاثها ودراساتها تشترك في حدود إطلاعنا في خطأ منهجي كبير، سواء في ذلك دراسات الملتزمين بالإسلام والمتعاطفين معه، أو دراسات المتحفظين من الإسلام والمعادين له».
وحين يميز منهجه في هذا الكتاب عن منهج غيره من الإسلاميين، فإنه يميز هذا الاختلاف على قاعدة الدولة والأمة. فهو يربط بين الإسلام والأمة، وليس بين الإسلام والحكم كما هو منهج الإسلاميين الآخرين.
لأن المهم استمرارية الإسلام في الأمة، وليس بالضرورة في نظام الحكم. وليس هناك تلازم أو تراتب حسب رأيه بين الحكم واستمرارية الإسلام، فقد لا يكون الإسلام في الحكم، لكنه يكون مستمراً في الأمة، وهذا هو الأساس. وأن الضرورة عنده هي في وجود نظام حكم، وهي ضرورة فطرية وعامة يقتضيها الاجتماع الإنساني، وليس بالضرورة أن يكون هذا النظام إسلامياً، لذلك فهو يناقش ما يطلق عليه بالمسلمة الفكرية عند الإسلاميين حول أن نظام الحكم لابد وأن يكون إسلامياً.
وحسب قوله «يقوم هذا المنهج لدى الإسلاميين على مسلمة فكرية تعتبر عندهم بديهية، وهي أن المسلمين في المجال الوطني أو القومي، لابد أن يكون نظام حكمهم إسلامياً.
بينما المسلمة البديهية وفقاً لهذا المنهج هي إن كل شعب مسلم، على المستوى الوطني أو القومي، يجب بالضرورة أن يكون له نظام حكم وحكومة يحفظانه، ويضمنان سلامته وتقدمه.
أما أن يكون هذا النظام وهذه الحكومة إسلاميين، فقضية غير مسلمة وغير بديهية، كما هو الشأن في أي مجتمع سياسي معاصر خارج العالم الإسلامي.
فكما أن المجتمع السياسي البريطاني أو الأمريكي مثلاً أو غيرهما، لابد أن يكون له نظام حكم وحكومة، يمكن أن تارة اشتراكية عمالية، وأخرى رأسمالية محافظة، مع التزام المجتمع في تكوينه ونهجه العام بالديمقراطية التي تلتزم باحترام قواعدها وأصولها كل حكومة تتولى السلطة. فكذلك المجتمع السياسي الإسلامي، يمكن أن يستمر مسلماً في تكوينه ونهجه العام، ويكون قابلاً لأي نظام لا يتنافى مع الإسلام باعتباره عقيدة المجتمع، دون أن يكون نظام الحكم إسلامياً، فالمهم هو استمرارية الإسلام في الأمة، واستمرار الأمة مسلمة موحدة».
ولهذا فإن الشيخ شمس الدين يعيب كثيراً على المنهج المكوّن لرؤية الإسلاميين في نظام الحكم ويضعفه ويقلل من قيمته العلمية، ويعتبره غير قادر على مواجهة الاعتراضات والتشكيكات المغايرة، ويلوذ غالباً بالتبرير والتمسك بنزعة دفاعية، وعن هذا الرأي يقول «المنهج المتبع غالباً لا ينهض بإثبات دعوى الإسلاميين على نحو مقنع، قاطع للجدل، في هذه المسألة المبدئية. والنصوص المعتمدة لا تستطيع أن تجيب على التساؤلات الكثيرة المثارة حول ضرورة قيام حكم إسلامي بهذه الصيغة أو تلك من الصيغ المتداولة.
لأن الإسلام كتاباً وسنة لم يتضمن قسماً خاصاً بمسألة الحكم والنظام السياسي، منفصلاً عما عداه من مسائل وقضايا العقيدة والشريعة… إن الموقف الذي يواجه به الإسلاميون تساؤلات هذه الاتجاهات موقف دفاعي، يلوذ غالباً بالتبرير بأن مسألة الحكم السياسي هي تشريع إلهي، وتكليف شرعي غير قابل للأخذ والرد، معتمدين على نصوص غير مسلمة الدلالة على المدعى.
وهذا المنهج يجعل من مسألة المجتمع السياسي القائم على أساس الإسلام، والدولة الإسلامية، والنظام الإسلامي، والحكومة الإسلامية، ومسألة الحكم برمتها، قضايا غيبية تعبدية محضة.
وهذا ما يضعف موقف الإسلاميين من فقهاء، وعلماء دين، ومفكرين، في مواجهة الأطروحات الأخرى». وحين يناقش هذه القضية من زاوية تراتب الأولوية بحسب أدلة الجهاد والدفاع والدعوة، فإنه يقدم أولوية تحقيق الإسلام في الأمة، ويعتبر مشروع الدولة يأتي في رتبة متأخرة من حيث الأهمية والتكليف بعد مشروع الأمة.
وعن تمام رأيه في هذا الشأن يقول الشيخ شمس الدين «إن أدلة الجهاد والدفاع والدعوة هل تدل على أن المهمة الأساس ذات الأولوية للمسلمين بحسب هذه الأدلة هي تحقيق الإسلام في مشروع الدولة ـ المشروع السياسي ـ بحيث يكون الجهاد والدعوة والدفاع من أجل تحقيق المشروع السياسي وإقامة الدولة؟ أو أن المهمة الأساس ذات الأولوية للمسلمين بحسب هذه الأدلة هي تحقيق الإسلام في مشروع الأمة، ومشروع الدولة يأتي في رتبة متأخرة من حيث الأهمية والتكليف بعد مشروع الأمة؟ ربما يكون الادعاء أن ما يدعى دلالاته على تشريع الجهاد الابتدائي يدل على أن المهمة الأساس ذات الأولوية للمسلمين هي تحقيق المشروع السياسي ـ مشروع الدولة ـ، وأن مشروع الأمة مواز لمشروع الدولة أو منبثق منه.
ولكن لو سلمنا بهذه الأدلة المدعاة، فهي غير مفيدة في مقامنا، لأن مشروعية الجهاد الابتدائي عند الشيعة الإمامية مشروطة بوجود الإمام المعصوم وأمره بذلك، وهو في عصر الغيبة غير مشروع… ومهما تكن دلالة ما يدعى دلالته على تشريع الجهاد الابتدائي، فإن أدلة الجهاد الدفاعي وأدلة وجوب الدعوة، وهي تكاليف منجزة في عصر الغيبة، صريحة في أن المهمة الأساس ذات الأولوية للمسلمين هي تحقيق الإسلام في مشروع الأمة، فأدلة الدعوة تهدف إلى تكوين الأمة، وأدلة الجهاد تهدف إلى حماية الأمة».
وأولوية مشروع الأمة كما يضيف الشيخ شمس الدين «لا يعني استبعاد المشروع السياسي ـ مشروع الدولة ـ ولكن الأدلة لا تدل على أن عناية الإسلام بهذا المشروع تبلغ حد العمل من أجله، وإن استلزم ذلك حرباً أهلية تهدد مشروع الأمة، بل تدل على خلاف ذلك».
وعندما طرحت نظرية «ولاية الفقيه»، بعد التحول الإسلامي في إيران، وهي النظرية التي عرف بها الإمام الخميني، وكان لها من الزخم والحماس والاندفاع وحتى الانتشار والامتداد السريع والواسع في إيران وخارجه، وكان من الصعب والتوجس، التظاهر برأي مختلف أو متعارض مع تلك النظرية التي تحولت إلى نظام في الحكم والدستور هناك.
في تلك الأجواء طرح الشيخ شمس الدين مقولة «ولاية الأمة على نفسها»، المقولة التي عرف بها، وظل يتحدث عنها في كتاباته وأحاديثه، وبحماس واندفاع أيضاً.
وعن هذا التقابل بين النظريتين أو المقولتين، يقول الشيخ شمس الدين: «نحن نرى أن الأمة هي ولية على نفسها، ونطرح هذه الصيغة مقابل صيغة ولاية الفقيه.
وعلى هذا الأساس ندعو لإقامة دول إسلامية في المجتمعات الإسلامية بحيث ينتج كل مجتمع في الجغرافيا السياسية للعالم الإسلامي دولته المناسبة له، ويولد مؤسساتها على أساس الفقه العام».
وفي مجال الفقه دعا الشيخ شمس الدين إلى فتح أبواب ما تزال حسب رأيه مغلقة، وهي تلك الأبواب التي تتصل بالفقه العام أو فقه الأمة، وما هو موجود كما يقول «تسعون بالمئة منه هو فقه فردي، أما الفقه العام، فقه الأمة الذي نزلت فيه التكاليف الإلهية والخطابات الإلهية ليس موجهاً إلى الأفراد، وإنما إلى الأمة»، لذلك فهو يرى بأن «الجهاد هو تشريع للأمة وليس للأفراد، ولكن العقلية الفردية التي حكمت على الفقهاء أن يروا في خطابات الجهاد ما سموه الخطاب الكفائي، أي حكم الأفراد. ولقد توصلت إلى رأي مفاده أن خطابات الجهاد ليست واجبات كفائية بل هي واجبات عينية، ولكن ليس على الأفراد وإنما على الأمة».
وفي هذا السياق جاء كتابه الذي عنونه بـ«جهاد الأمة»، وكان قاصداً في أن يكون هذا العنوان ملفتاً، ومبرزاً لهذا المفهوم. وقد سمعته في أكثر من مناسبة يتحدث باهتمام عن هذا الكتاب، وأنه يتضمن ابتكارات جديدة محورها ربط الجهاد بالأمة.
المصدر : مقتطف من مقالة بعنوان: الشيخ محمد مهدي شمس الدين والإصلاح الديني، للمفكر زكي الميلاد.
تحميل المقالة
الشيخ محمد مهدي شمس الدين والإصلاح الديني
تحميل الكتابين
1- نظام الحكم والإدارة في الإسلام
هذا البحث عبارة عن عرض هام للمبادئ العامة للحكم والإدارة في الدولة الإسلامية، ويستند المؤلف في ذلك على القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وعلى التطبيق العملي لنظام الحكومة الإسلامية من خلال عهد الرسول صلى الله عليه وسلم عهد الخلفاء الراشدين من بعده رضي الله عنهم جميعًا، ويسلط المؤلف الضوء على التطورات والحوادث التي طرأت بعد ذلك في الدول الإسلامية المتعاقبة وكيف تم التعامل معها، كما يتطرق المؤلف للحديث عن كيفية نشوء الدولة الإسلامية القواعد التي تحدد شكلها السلطات العامة فيها تنظيم العلاقات بين الرعية علاقة الفرد بها وعلاقتها بالفرد وغير ذلك من المحاور الهامة التي يغطيها الكتاب.
2– فى الاجتماع السياسى الإسلامى المجتمع السياسى الإسلامى محاولة تأصيل فقهى وتاريخى
يعد هذا الكتاب من أهم مؤلفات الشيخ محمد مهدي شمس الدين، مهَّد المؤلِّف لكتابه بكلمة في المنهج، شرح فيها طبيعة منهجه في دراسة مسألة الدولة ونظام الحكم في الإسلام، وإختلافه من هذه الجهة مع الآخرين الذين بحثوا ودرسوا هذه المسألة.
ارتكز منهجه على أمرين: الأول أن كل شعب مسلم على المستوى الوطني أو القومي يجب بالضرورة أن يكون له نظام حكم وحكومة يحفظانه، ويضمنان سلامته وتقدمه، اما أن يكون هذا النظام وهذه الحكومة إسلاميين، فقضية غير مسلَّمة وغير بديهية؛ فالمهم هو إستمرار الإٍسلام في الأمة، وإستمرار الأمة مسلمة موحدة، والثاني أن قضية الحكم ليست قسماً من أقسام الشريعة الإسلامية وفصلاً من فصولها وباباً من أبوابها، وإنما هي طبيعة فيها، ونتيجة لها، وسمة فيها، تتولد منها تولُّد الثمرة من الشجرة والضوء من الشمس.
وقد تضمن الكتاب العديد من الأبحاث التأصيلية الهامة عن الأساس النظري للدولة في الإسلام، على مستوى التشريع، وعن المبادئ والأسس والقيم السياسية الأخلاقية التي شكلت وكونت المجتمع السياسي الإسلامي، وعن التطبيق التاريخي للمجتمع السياسي والدولة، وعالج المؤلف أيضًا مسألة استمرار الدولة بعد النبي، والتي يدور حولها جدل بالغ بين الإسلاميين والعلمانيين، وغير ذلك من المحاور المهمة.