الشيخ محمد مهدي شمس الدين والإصلاح الديني   زكي الميلاد

من النجف إلى بيروت               

يفترض من الدارسين والمؤرخين لتطور الأفكار الإسلامية ذات الطبيعة الإصلاحية والتجديدية في المنطقة العربية، أن يلتفتوا لأفكار وكتابات وطروحات الشيخ محمد مهدي شمس الدين، خصوصاً في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين. وهي الفترة التي تجلت فيها بصورة واضحة وكبيرة تأثيرات الشيخ شمس الدين الفكرية والإصلاحية، وتزايدت فيها حضور وتنامي شخصيته وفاعليته. كما إنها الفترة التي اتصفت بتميز أفكاره ونضجها، وإتساع امتدادها، وتداولها على نطاقات واسعة بين النخب العربية والإسلامية. لذلك فإن الشيخ شمس الدين يصنف على جيل المصلحين الذين كانت لهم إسهامات بارزة ولامعة في النصف الثاني من القرن العشرين، الجيل الذي يمثل امتدادا فكرياً لحركة الإصلاح الإسلامي في العصر الحديث.

ويمكن النظر لتطور الخطاب الفكري والإصلاحي للشيخ شمس الدين في مرحلتين رئيسيتين:

المرحلة الأولى: وكانت في النجف بالعراق، المدينة التي تعتبر من أعرق الحواضر العلمية المتخصصة في الدراسات الإسلامية الشيعية. وهي المدينة التي ولد فيها الشيخ شمس الدين، ونشأ ودرس هناك، حيث كان والده الشيخ عبد الكريم شمس الدين مقيماً فيها آنذاك للدراسة والتحصيل العلمي، وبعد مغادرة والده إلى موطنه لبنان بقي الشيخ شمس الدين للدراسة وطلب العلم، وكان في الثانية عشر من عمره.

وفي النجف اكتسب الشيخ شمس الدين تكويناته الفكرية، وانخرط في حياتها الثقافية والاجتماعية، وحتى السياسية. فقد نشر كتاباته ومقالاته الأولى في المجلات الفكرية التي كانت تصدر بالنجف في ذلك الوقت، كمجلة «الأضواء»، ومجلة «النجف» وغيرها. كما صدرت له هناك مؤلفاته الأولى، وفي مقدمتها كتاب «نظام الحكم والإدارة في الإسلام»، صدر سنة 1955م، وكتاب «دراسات في نهج البلاغة»، صدر سنة 1956م، و«محاضرات في التاريخ الإسلامي»، صدر سنة 1965م. وفي النجف أيضاً انتسب الشيخ شمس الدين‎إلى تيار الإصلاح والتجديد الذي كان يتبنى اتجاهات التحديث والتطوير داخل مؤسسات التعليم الديني أو ما يعرف بالحوزات الشيعية. وكان وثيق الصلة برموز هذا التيار أمثال الشيخ محمد رضا المظفر (1323 ـ 1383هـ / 1905 ـ 1963م)، الذي وصفه بالمجتهد المجدد، حيث عمل على تأسيس جمعية «منتدى النشر» سنة 1935م، لتكون كما يقول الشيخ شمس الدين «الإطار التنظيمي والمؤسسي للتعبير عن فكرة التحديث في الدراسات الدينية مضموناً ومنهجاً، وكتباً دراسية»([1]). ومن هؤلاء الرموز أيضاً السيد محمد تقي الحكيم، الذي كانت علاقته به كما يصفها زميله في النجف الدكتور عبد الهادي الفضلي، وثيقة، وملازمته له مستمرة. ويرى الدكتور الفضلي بأن السيد الحكيم كان من أبرز رواد التجديد في الوسط الثقافي النجفي في المنهج والأسلوب([2]). بالإضافة إلى السيد محمد باقر الصدر الفقيه والمفكر والمصلح اللامع. وقد ساهم انتساب الشيخ شمس الدين إلى هذا التيار التجديدي في تشكيل المنحى الإصلاحي والتنويري في شخصيته، وتكريس النزعة النقدية والتجديدية في خطابه الفكري.

ومن النجف كذلك تواصل الشيخ شمس الدين مع الأدب العربي الحديث، والكتابات العربية المعاصرة، من مؤلفات ومجلات ودواوين شعرية. خصوصاً تلك التي كانت تصدر من القاهرة. ولم يكن هذا الأمر مألوفاً أو متقبلاً، بل كان مذموماً وممقوتاً عند الأوساط التقليدية التي كانت تهيمن بشدّة على الأجواء العامة في الحياة العلمية والدينية هناك. وعن هذه الحالة يقول الشيخ شمس الدين: «وكان من جملة ما نلوذ به، إذا مللنا الدرس، ديوان شعر، أو كتاب تاريخ، أو قصة موضوعة أو معربة، أو جريدة، وقلما كنا نحصل عليها، لأننا لا نقدر على ثمنها، أو لا نجرؤ على التظاهر باقتنائها، فكانت من قراءات السر. لأن الجريدة والمجلة كانتا في عرف النجف الصارم الحاسم، من الأمور العصرية التي تحمل في ثناياها الكفر والضلال، وأفكار الأجانب، من دول الغرب الكافر الذي غزانا واستعمرنا، وأطاح بالإسلام، وجاء بقوانينه المخالفة للشريعة، وفتح مدارسه العصرية التي كانت النجف الأصيلة تنظر إليها بحذر واتهام لما تحمله من فكر غريب، وعلم غريب، وأسلوب حياة غريبة، ومن هنا كان القلق على عقيدة وتدين تلاميذها»([3]).

فالنجف بالنسبة للشيخ شمس الدين لم تكن انقطاعاً أو قطيعة عن العالم والعصر، كما هو الحال بالنسبة إلى الكثيرين هناك، الذين هيمنت عليهم ذهنية ارتدت بهم إلى الماضي ونظام التفكير القديم. وقد جاء كتابه الأول «نظام الحكم والإدارة في الإسلام» لكي يكشف منذ وقت مبكر عن ذهنية مثقفة ومنفتحة ومتواصلة مع الثقافات والأفكار، وكأن الشيخ شمس الدين أراد أن يقدم نفسه من خلال هذا الكتاب، ويعرّف عن ثقافته وأفكاره، فقد بذل فيه جهداً بحيث يكون أشبه بأطروحة في موضوعه، أو لعل هذا ما أراده مؤلفه في ذلك الوقت.

لذلك فقد مثلت هذه المرحلة تحديد المسلكيات الفكرية، وطبيعة التكوينات الثقافية بالنسبة للشيخ شمس الدين.

المرحلة الثانية: كانت في بيروت التي عاد إليها سنة 1969م، وهو يحمل معه تجاربه ومشاهداته ونماذجه التي عاصرها في النجف، ويحمل معه‎أيضاً، طموحاته وتصوراته واستشرافاته، إلى جانب تحصيلاته وتكويناته وتراكماته العلمية والفكرية والثقافية.

وانقسمت هذه المرحلة إلى فترتين، الفترة التي رافق فيها السيد موسى الصدر وحركته ومشروعه الثقافي والاجتماعي والسياسي، وفترة ما بعد تغييب السيد موسى الصدر سنة 1978م، وتزعمه للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان.

وكان من المؤكد أن تختلف وتتمايز طبيعة المسلكيات والاهتمامات وحتى الأولويات في هذه المرحلة عند الشيخ شمس الدين، لطبيعة الاختلاف والتمايز الكبير بين النجف وبيروت، بحيث لا يمكن القياس بينهما لشدّة ما بينهما من فروقات شاسعة تقارب تلك الفروقات التي تظهر بين القرية والمدينة.

والسنة التي عاد فيها الشيخ شمس الدين إلى لبنان، هي السنة التي تأسس فيها المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، لتنظيم شؤون الطائفة الشيعية هناك، ورعاية مصالحها، وتحسين أحوالها، والارتقاء بأوضاعها العامة. وكانت للشيخ شمس الدين في ذلك الوقت وجهة نظر لعله لم يكاشف بها، أو لم تكن واضحة عند الكثيرين، حول موقفه من عدم الاشتراك في المجلس. وقد بذلت محاولات عديدة لتغيير هذا الموقف وتأكيد ضرورة اشتراكه. وكان السيد موسى الصدر أكثر هؤلاء حرصاً وتأكيداً ومتابعة لانضمام الشيخ شمس الدين إلى المجلس، ووسط لهذه الغاية بعض الشخصيات الدينية والنيابية. وهذا الموقف من الشيخ شمس الدين لم ينطلق من معارضة أو رفض لفكرة المجلس، وإنما كانت لديه وجهة نظر في أن لا يؤطر نفسه في هيئة أو مؤسسة تقيد من حركته ونشاطه، وتؤثر على شبكة علاقاته وتواصلاته في داخل لبنان وخارجه. ولأنه أراد أن يعطي أولوية للأبعاد الفكرية والثقافية، ويتفرغ لها بصورة أساسية، ويبقى يؤازر المجلس ويسانده من خارجه. أما السيد موسى الصدر فكان يرى بأن إصلاح أوضاع الطائفة الشيعية، والنهوض بها، يتطلب إمكانات وطاقات كبيرة وهائلة، وبصورة منظمة ومتضامنة، والمجلس هو الإطار الذي يفترض فيه اجتماع هذه الطاقات والإمكانات وتفعيلها من خلال سياسات واستراتيجيات ومنهجيات مدروسة ومبرمجة ومتكاملة. لذلك فقد وجد السيد الصدر بأن المجلس بحاجة إلى الإمكانات الفكرية التي يتميز بها الشيخ شمس الدين. خصوصاً وأن بينهما مشاورات ومداولات سابقة حول فكرة المجلس ومشروعه والحاجة إليه، منذ أن كان الشيخ شمس الدين في النجف. بقي السيد الصدر على موقفه وإصراره، وعدم اقتناعه بوجهة نظر الشيخ شمس الدين وتحفظاته بعدم الانضمام إلى المجلس. وبخلاف رغبته وإرادته حصل انتخابه عضواً، ومن ثم نائباً للمجلس سنة 1975م، وهو خارج لبنان، حيث كان يتلقى العلاج في أحد مستشفيات لندن. وبعد عودته من العلاج قبل بالأمر الواقع، وتكيف معه، وانخرط في مسؤولياته. ومع غياب أو تغييب السيد الصدر سنة 1978م، تحمل الشيخ شمس الدين زعامة المجلس واستمر في هذا الموقع إلى وفاته سنة 2001م. وما يذكره المراقبون في هذا الشأن هو أن الشيخ شمس الدين قد حافظ على الخط السياسي العام الذي انتهجه السيد موسى الصدر للمجلس، والذي كان يتخذ من الانفتاح والاعتدال قاعدة ومسلكاً في العمل. وما أضافه الشيخ شمس الدين في هذا المجال فهو التأصيل الفقهي لهذا المسلك في العمل السياسي العام. وهي المهمة التي نهض بها الشيخ شمس الدين بكفاءة عالية من خلال كتاباته ومؤلفاته التي تناولت باهتمام المسألة السياسية الإسلامية. علماً بأن مهمة التأصيل الفقهي كانت شديدة الأهمية في حقل المسألة السياسية بالذات، وعند الإسلاميين بوجه خاص، حيث كانت تعترضهم العديد من الإشكاليات الجدلية والحائرة.

فإذا كان السيد موسى الصدر قد ساهم في التجديد السياسي لهذا المسلك، وصياغة الخطاب السياسي للمجلس، فإن الشيخ شمس الدين قد ساهم في التجديد الفكري والتأصيل الفقهي لهذا المسلك ولأطروحة المجلس السياسية.

وهذا الدور الفكري هو أكثر ما تميز به الشيخ شمس الدين في حركته ومسيرته، وهو الدور الذي لم يتوقف أو يتخلى عنه لا في ظروف الفقر والجوع التي عاشها في النجف، ولا في ظروف الحرب والخوف في بيروت، ولا في ظروف المرض والألم في بيروت وباريس. فحين يصف حاله في النجف في مقدمة الطبعة الثانية لكتابه «نظام الحكم والإدارة في الإسلام»، يقول: «حيث الفقر حينذاك والحاجة إلى حد الجوع، وطيّ الليالي والأيام بلا طعام، وحين يتيسر الطعام فهو غالباً طعام بسيط، فقد كان الشبع من الطعام الجيد ترفاً نادراً، وحيث البحث في ليالي الجوع الظلماء عن نفايات الخبز في شرفات غرفة الطلبة في المدرسة، وهي نفايات قليلة، وقلما كانت تتاح الفرصة للحصول عليها، لغلبة الحياء، وخوف انكشاف الحال… وحيث النوم بلا وطاء أو بلا غطاء، وحيث الثياب الممزقة والمرقعة، ولبس ثياب الصيف في الصيف والشتاء في بعض السنين، ولبس ثياب الشتاء في الشتاء والصيف في سنين أخرى، وحيث الحفاء في شكل الاحتذاء، أو الاحتذاء الشبيه بالحفاء»([4]).

كما أنجز بعض مؤلفاته وكتاباته في ظروف الحرب والخوف والتهجير في لبنان، مثل كتابه «الاحتكار في الشريعة الإسلامية» حيث أشار إلى ذلك في نهاية الكتاب بقوله «وقد وقع الفراغ من مسودة هذا البحث في صيغتها هذه في بلدة القصيبة من قرى جبل عامل يوم 7 رمضان 1409هـ ـ 13 نيسان 1989م، والحرب اللبنانية في أوج تفجرها الرهيب المدمر». وقبل وفاته بأسبوعين هو على فراش المرض في باريس أملى على نجله الأكبر الدكتور إبراهيم شمس الدين عبر تسجيل صوتي بعض قناعاته وأفكاره التي وصلت عنده لدرجة القطع واليقين، وتحدث عنها على صورة وصايا فكرية وسياسية، إسلامية ومسيحية، شيعية وسنية، داخلية وخارجية. وصدرت فيما بعد في كتاب بعنوان «الوصايا». لذلك فإن هذا الدور الفكري هو أكثر ما يستوقف الاهتمام في شخصية الشيخ شمس الدين، وهو المجال الأبرز في حياته، والحاضر بعد مماته.

ـ 2 ـ

من المطارحات إلى التأسيسات

لقد تغيرت واختلفت مسارات التجربة الفكرية للشيخ شمس الدين بين النجف وبيروت، بطريقة عكست شرائط وطبيعة المكان والزمان، وما بينهما من اختلاف في المتطلبات والمقتضيات الذاتية والموضوعية. فكان لتجربته الفكرية في بيروت مسارات ومسلكيات غير تلك التي كان عليها في النجف، وذلك لطبيعة التراكمات المعرفية، وتمايز البيئات، وتجدد المعارف والأفكار، وتنوع التجارب والخبرات، وتعدد شبكة التواصلات والانفتاحات. فالنجف لها شخصية تختلف كلياً ولا تقارن بشخصية بيروت، فمن جهة تعتبر النجف مدينة دينية وعلمية محافظة، لا تتعدد فيها المذاهب والأديان، ولا تتنوع فيها الثقافات والأفكار ذات المشارب والاتجاهات المختلفة. ومن جهة أخرى فإن النجف لا ترتبط مع العالم بشبكة واسعة من الاتصالات والتواصلات الثقافية والعلمية، أو السياسية والاقتصادية، أو الإعلامية والسياحية. وهذا بخلاف بيروت تماماً التي تعتبر مدينة غير محافظة على الإطلاق، وتتعدد فيها المذاهب والأديان، وتتنوع فيها الثقافات والأفكار وتتصادم أحياناً، ويرتبط بها العالم بشبكة واسعة من الاتصالات والتواصلات، وفي مختلف الأبعاد والجوانب، فهي بمثابة جسر يربط المنطقة العربية بالعالم وبالعالم الغربي خصوصاً، ولبنان هو البلد العربي الوحيد الذي يشترط في دستوره أن يكون رئيس الجمهورية مسيحياً ومن الطائفة المارونية. إلى غير ذلك من ملامح ينفرد بها لبنان وبيروت تحديداً.

كما أن التجربة الفكرية للشيخ شمس الدين في لبنان لم يكن لها مسار واحد، فقد شهدت تحولات وتطورات، تتحدد تقريباً في فترتين متصلتين من جهة زمنية، ومتغيرتين من جهة معرفية. الفترة الأولى ولعلها كانت أكثر اتصالاً واندماجاً بمرحلته الفكرية في النجف. فقد غلب على كتاباته في هذه الفترة طابع المطارحات والسجالات الفكرية مع الآخر المختلف في مرجعيته الفكرية والفلسفية. وهذا ما تميزت به معظم كتاباته ذات المنحى الفكري، في حقبة السبعينيات من القرن العشرين، وهي الحقبة التي تصاعدت فيها وتيرة السجالات والاحتجاجات الثقافية بين الاتجاهات والمنظومات الفكرية والسياسية في المنطقة العربية على أثر نكسة حزيران ـ يونيو 1967م، حيث بدأت بعد هذه الحرب، ما أطلق عليه في وقته بمعركة تفسير الهزيمة، المعركة التي فتحت على المنطقة العربية أوسع السجالات الثقافية الساخنة، وأصبحت المجموعات الفكرية في حالة خصام وقطيعة وتصادم، تكرست معها الانقسامات والفروقات الحادة والعنيفة بين هذه المجموعات، فقد حاولت كل واحدة منها أن تحمل الطرف الآخر المختلف قسطاً كبيراً من مسؤولية الهزيمة، التي وصفت بأنها هزيمة فكرية بالدرجة الأولى. فالماركسيون أو بعضهم حملوا الفكر الديني مسؤولية الهزيمة، وفي هذا النطاق جاء كتاب صادق جلال العظم «نقد الفكر الديني». والإسلاميون أو بعضهم حملوا الأفكار العلمانية والاشتراكية مسؤولية الهزيمة، وفي هذا النطاق جاء كتاب الشيخ يوسف القرضاوي «حتمية الحل الإسلامي» الذي صدر  أربعة أجزاء.

وهناك من حمل مسؤولية هذه الهزيمة إلى الأيديولوجيات المهزومة، وفي هذا النطاق جاء كتاب ياسين الحافظ «الهزيمة والأيديولوجيات المهزومة»، أو إلى الأخطاء الفكرية والعقائدية، وفي هذا النطاق جاء كتاب أديب منصور «النكسة والخطأ: الأخطاء الفكرية والعقائدية التي أدت إلى الكارثة». إلى غير ذلك من أحكام وتصورات.

وفي سياق هذه السجالات التي مرت على المشرق العربي جاءت ثلاثة مؤلفات للشيخ شمس الدين، كانت في وقتها من مؤلفاته البارزة. وهي كتاب «بين الجاهلية والإسلام» صدر سنة 1975م، وكتاب «مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني» صدر في 1978م، وكتاب «العلمانية: هل تصلح حلاً لمشاكل لبنان؟» صدر في 1980م. والطابع السجالي يظهر واضحاً على هذه المؤلفات كما يتجلى في عناوينها أيضاً، وكأن المؤلف أراد أن يصرح ويقرر سلفاً تأكيد هذا الطابع السجالي والاحتجاجي لهذه المؤلفات. الكتاب الأول «بين الجاهلية والإسلام»، وينتمي هذا الكتاب إلى الخطاب الذي يصور الغرب كتهديد حضاري شامل إلى الدين والثقافة الإسلامية، وإلى الوجود الإسلامي برمته. وينظر إلى الحضارة الغربية بوصفها تمثل الجاهلية الحديثة، الوصف الذي يضع هذه الحضارة كنقيض تام للإسلام والحضارة الإسلامية، كما كانت الجاهلية عند العرب قبل الإسلام. وينتمي إلى هذا الخطاب العديد من الكتابات الإسلامية التي ظهرت في الستينيات والسبعينات من القرن الماضي، ومازالت له بقايا إلى هذا الوقت، لكن تأثيراته الراهنة هي أقل بكثير مما كانت عليه من قبل، ولكنها أشدّ عنفاً من السابق. ولعل معظم الإسلاميين في بواكير تجاربهم الفكرية قد انخرطوا في منظومة هذا الخطاب الذي يتعامل مع الغرب والحضارة الغربية كماهية ثابتة أو مركب كلي.

وحين يشرح الشيخ شمس الدين الفكرة العامة لكتاب «بين الجاهلية والإسلام»، يقول في مقدمته «يتعرض الإسلام في هذا العصر في العالم الإسلامي لعملية تشويه وتزوير رهيبة، يقوم بها دعاة الإلحاد والضلال في البلاد الإسلامية، ومن ورائهم قوة الغرب وقوة الشرق بكل ما تحملانه من أحقاد على الإسلام، وخوف من انبعاثه قوة فاعلة في العالم الحديث. وذلك لما ثبت لهاتين القوتين من أن الإسلام كان ولا يزال الحاجز الأقوى دون استقرار نفوذهما الثقافي والاستعماري في العالم الإسلامي»([5]). وقد وصف الشيخ شمس الدين الغرب والحضارة الغربية في هذا الكتاب بالجاهلية الحديثة التي من سماتها المادية والحيوانية واللاأخلاقية وروح العدوان. واعتبر أن الخلاف بين الإسلام والحضارة الغربية ليس خلافاً في حدود السطح والمظاهر والأشكال، وإنما هو خلاف في الروح والنظرة والاتجاه.

أما الكتاب الثاني «مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني» فهو أكثر وضوحاً في بنيته السجالية، وجاء أساساً لهذه الغاية، فهو يقدم قراءة نقدية واحتجاجية لكتاب صادق جلال العظم «نقد الفكر الديني»، الكتاب الذي فتح في وقته معركة فكرية ساخنة مع الأوساط الدينية، وأراد محاكمة الفكر الديني وتحميله مسؤولية الهزيمة، وكان ينطلق من الفكر الماركسي كمنهج في التحليل والنقد. لذلك فقد أثار حفيظة الأوساط الإسلامية بسبب نقده العنيف، وماركسيته الطافحة، وتصويره بأن الفكر الديني مغايراً للمنطق العلمي. لكن محاكمته للفكر الديني ارتدت عليه بأن صدر بحقه حكماً قضائياً في لبنان باعتباره المكان الذي صدر فيه هذا الكتاب، وتم بموجب هذا الحكم منع الكتاب ومصادرته.

والذين اطلعوا على هذا الكتاب وجدوا أن من الصعب السكوت عليه، أو مهادنته لطبيعة محتوياته المعادية للفكر الديني، ولأفكاره المثيرة للجدل. وفي هذا النطاق وبهذه الخلفيات جاء كتاب الشيخ شمس الدين «مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني»، وهو في الأصل مطارحات على كتاب «نقد الفكر الديني»، نشرت في حلقات أسبوعية بملحق جريدة النهار البيروتية سنة 1970م. وبعد نشر هذه الحلقات كتب نسيب نمر في مجلة الأحد 29 آذار ـ مارس 1970م، العدد 972، بأن أفكار صادق جلال العظم ليست ماركسية بدرجة كافية، وأنه لم يتناول موضوعه تناولاً علمياً صحيحاً، وإلا لما تغلب عليه ناقده محمد مهدي شمس الدين([6]). أما الشيخ شمس الدين فقد رأى عدم أهلية الدكتور صادق جلال العظم في نقد الفكر الديني، وعن هذا الرأي يقول: «لقد ظهر لي من قراءة كتابه أن معرفته الدينية بالإسلام ساذجة وسطحية إلى أبعد الحدود. إنها التصورات التي امتصها خياله وعقله من مجتمعه، ومن أهله، وليست معرفة مبنية على المعاناة والدراسة والبحث»([7]).

والسجال الفكري الذي أعقب نكسة 1967م، تجدد مرة أخرى وفي نطاق معين، مع الحرب الأهلية في لبنان سنة 1975م. فالعلمانية كما يقول الشيخ شمس الدين التي نشطت الدعوة إليها في العالم العربي، بعد هزيمة حزيران 1967م، وما أن استنفدت هذه الدعوة أغراضها، وخفت صوتها، جاءت الحرب في لبنان فنشطت الدعوة إليها من جديد، وتصاعدت الدعوة إلى تطبيقها في لبنان بوجه خاص، وتصديرها إلى العالم العربي باعتبارها الحل الأمثل والأفضل لمشكلات لبنان، ولتخلف العالم العربي كله([8]). ولمواجهة هذه الدعوة ونقدها ورفضها جاء كتاب «العلمانية هل تصلح حلاً لمشاكل لبنان؟»، وهو في الأصل أيضاً دراسة نشرت في ثمان حلقات بجريدة السفير اللبنانية سنة 1977م، وأضاف إليها لاحقاً بعض الأقسام الأخرى التي ضمت إلى الكتاب المذكور. ومحور القضية التي يناقشها هذا الكتاب حددها الشيخ شمس الدين في السؤال التالي: «هل يعاد بناء الدولة اللبنانية التي هدمتها الفتنة على أساس يتسع لبناء العائلة على أسس التشريع الديني للطوائف اللبنانية، ويبقى الدين عاملاً ثقافياً فاعلاً في المجتمع اللبناني. أو تبنى الدولة على أساس علماني شامل لا يترك مجالاً للدين في حقل التشريع، كما لا يترك له مجالاً في حقل التوجيه العام؟»([9]). ويقدر الشيخ شمس الدين بأن المنهج الذي اتبعه «في هذا البحث كفيل بالإجابة على هذا السؤال بنحو يمكن من بلورة موقف فكري وسياسي لكل الوطنيين الذين يرون في العلمانية شراً لا يخدم الدولة ولا المجتمع ولا الإنسان. وإنما يخدم بعض النوايا السيئة لدى البعض، والمطامع التي تداعب أخيلة البعض الآخر من دعاتها»([10]).

ويتجلى في هذا الرأي الطابع السجالي لهذا الكتاب، الذي يشترك مع الكتابين السابقين في نسقه الفكري ذات المنحى النقدي والاحتجاجي مع الأفكار الماركسية والعلمانية.

وإذا كانت هذه المؤلفات الثلاثة للشيخ شمس الدين قد كشفت عن ذهنية مثقفة ذات معرفة باتجاهات الأفكار والثقافات، ودراية بقضايا العصر، وانخراط في الجدل الفكري والثقافي. إلا أنها ليست هي المؤلفات اللامعة للشيخ شمس الدين، أو التي تعرِّف به أو تميزه، فهي تنتمي أساساً إلى حقبتها الفكرية وطبيعة الجدل والسجال الذي ساد فيها، وكان صاخباً وساخناً وعنيفاً أيضاً.

أما المؤلفات التي جاءت بعدها فكانت أكثر أهمية وحيوية من جهة موضوعاتها وقضاياها، ومن جهة منهجياتها ومعالجاتها، ومن جهة أيضاً اتصالها وارتباطها بالوقائع والأحداث. وهي المؤلفات التي تنتمي إلى حقبتي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي. وهما الحقبتان اللتان ظهر فيهما الشيخ شمس الدين بحضور فكري وسياسي لافت، تجاوز به حدود لبنان إلى الساحة العربية والإسلامية، وتنامت شبكة علاقاته واتسعت مع النخب الفكرية والسياسية التي تواصلت وتفاعلت مع كتاباته وأفكاره وأطروحاته. كما تطورت واتسعت مشاركاته ومبادراته السياسية على المستويين الأهلي والحكومي، اللبناني والعربي وحتى الإسلامي. وقد ارتبطت هذه التطورات بتغيرات موضوعية كانت لها تأثيراتها الفكرية على مسارات الحالة الإسلامية والفكر الإسلامي المعاصر. وفي مقدمة هذه التغيرات غياب بعض الشخصيات المفكرة والبارزة، والمعروفة بتأثيراتها وعطاءاتها الفكرية والثقافية، كالشيخ مرتضى المطهري في إيران (1979م)، والسيد محمد باقر الصدر في العراق (1980م)، والسيد حسن الشيرازي* * في لبنان (1980). بالإضافة إلى تغييب السيد موسى الصدر سنة (1978م)، ومن هذه التغيرات كذلك تصدي الشيخ شمس الدين لرئاسة المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان، الذي جعله في موقع الانفتاح والتواصل والاندماج مع الساحة اللبنانية والعربية والإسلامية فكرياً وسياسياً، أهلياً وحكومياً. إلى جانب حدث التحول الإسلامي في إيران، وانبعاث الحالة الإسلامية المتعاظمة في العالم العربي والإسلامي. يضاف إلى هذه التغيرات انتهاء الحرب الأهلية في لبنان، وعودة الحياة الثقافية والسياسية والإعلامية التي يتميز وينفرد بها لبنان عن العالم العربي، الوضع الذي شجع على تجدد تواصل شريحة كبيرة من النخب الفكرية والسياسية مع لبنان.

هذه التطورات والتغيرات كانت بمثابة الأرضيات والمناخات التي تفاعلت وتأثرت بها كتابات ومؤلفات الشيخ شمس الدين حيث ظهرت عليها ملامح وقسمات جديدة ومختلفة تميزها عن كتاباته ومؤلفاته السابقة، ومن هذه الملامح التحول من نقد الآخر إلى نقد الذات، ومن المطارحات إلى التأسيسات، ومن الفكر إلى الفقه، ومن الدولة إلى الأمة. لذلك فقد احتوت هذه الكتابات والمؤلفات الجديدة على مراجعات وتجديدات لأفكار وتصورات وتفسيرات طرحها في مؤلفاته السابقة، فبعد أن وصف الحضارة الغربية بالجاهلية الحديثة في كتابه «بين الجاهلية والإسلام»، عاد وانتقد إطلاق هذا النوع من الأوصاف والأحكام التي يصفها بالإطلاقية، وحسب قوله «أما النعوت التي يطلقها بعض الإسلاميين تجاه الحضارة الغربية، فإن مثل هذه النعوت صليبية وشر.. الخ هي نعوت غير دقيقة. الحضارة الغربية ليست شراً، فيها شر وفيها خير، كما أن الحضارة الإسلامية ودولتها ليست خيراً مطلقاً، لا نستطيع أن ننظر إلى نظام الرق أو نظام السبي على أنه مفخرة من مفاخر هذه الحضارة، كذلك الأمر بالنسبة لنظام الجواري والتسري ومظاهر أخرى سلبية في الحضارة الإسلامية… يجب أن نتجنب الأحكام الاطلاقية، علينا أو عليهم أو على أية حضارة أخرى. الموقف الاطلاقي ليس موقفاً قرآنياً. الموقف القرآني موقف نقدي وليس موقف إدانة، والموقف النقدي موقف انتقائي»([11]). والعلمانية التي رفضها الشيخ شمس الدين ومارس عليها نقداً شديد الجذرية والصرامة في كتابه «العلمانية هل تصلح حلاً لمشاكل لبنان؟»، واعتبرها بأنها تقف في مواجهة الإسلام، عاد بعد ذلك وأظهر قدراً من المرونة، تقلصت منها تلك الجذرية والصرامة في النقد، فقد أظهر له «بحسب المبادىء العامة للشريعة أن الحضارة الإسلامية يمكن أن تنشىء مجتمعات مدنية، وبتعديل بسيط يمكن أن نسميها علمانية، وفي نفس الوقت تكون دينية أو مبنية على الشريعة. فإذا كان مفهوم المجتمع المدني يعني أن المجتمع يكون قادراً على بناء مفاهيم ومقولات في تنظيم السلطة وتداولها، وفي إدارة الشأن العام وفقاً للمعطيات الموضوعية البحتة، فإن المجتمع في الإسلام يمكن أن يكون علمانياً أو مدنياً وفي الوقت نفسه مستنداً إلى الشريعة… من هنا أعتبر أن المعركة حول مدنية الدولة الإسلامية ودينية الدولة الإسلامي هي معركة أشباح. يمكن أن نتصور ونرسم مخططاً لدولة إسلامية لا تفترق إطلاقاً عن أي دولة مدنية حديثة. فلنسمها علمانية، مع التحفظ على الخلفية الفلسفية للتشريع. يمكن أن نبني مؤسسات المجتمع الحديث انطلاقاً من حاجاته مع الحفاظ على السمات العامة التي تميز المسلم عن غيره. وخصوصية السمات الثقافية موجودة في كل حضارة. ولدى كل جماعة فضلاً عن المجتمعات المختلفة. إن التجربة التاريخية الإسلامية تقف شاهداً على ما استنتجناه في كلامنا من زاوية المنهج الأصولي الفقهي»([12]).

والطائفية السياسية التي طالب بإلغائها، وبالغ في نقدها، وحملها مسؤولية ما حصل في لبنان من خاطر وأضرار، كما شرح ذلك في كتابه «العلمانية»، واعتبر أن استمرارية هذا النمط من الطائفية جريمة في حق الوطن والمواطن، لأنها تكرس الولاء للطائفة على حساب الولاء للوطن، وبشكل مناقض ومضاد. وبعد أن فصل الحديث عن مخاطر وأضرار هذه الطائفية، وأنها حسب رأيه «تقودنا إلى رؤية مدى ما في الطائفية السياسية من أخطار مستقبلية متوقعة، إلى جانب ما سببته من أخطار فعلية، لذا فهي تدفعنا إلى العمل في سبيل إلغائها على كل صعيد في الدولة فوراً، أو وفقاً لجدول زمني قصير متقارب المراحل»([13])، هذه الطائفية عاد إليها الشيخ شمس الدين وأوصى ببقائها، فقد تبين له، كما جاء في كتابه «الوصايا»، «أن إلغاء الطائفية السياسية في لبنان يحمل مغامرة كبرى، قد تهدد مصير لبنان،‎أو على الأقل ستهدد استقرار لبنان، وقد تخلق ظروفاً للإستقواء الخارج من هنا ومن هناك. وأوصي بالثبات والالتزام بنظام الطائفية السياسية، مع إصلاحه، وأعتقد أن صيغة الطائف هي صيغة نموذجية في هذا الشأن»([14]).

لاشك أن هذه المراجعات والتجددات في الأفكار والمواقف هي من مظاهر النمو والنضج، والتطور والتراكم في المعارف والأفكار، وفي التجارب والخبرات. وإذا أردنا أن نصور هذه الحقب الزمنية التي عاصرها الشيخ شمس الدين وتدافع معها فكرياً، في أطوار من التقسيمات الفكرية والمعرفية، يمكن القول بصورة شديدة العمومية والكلية بأن الشيخ شمس الدين كان عالماً، مثقفاً في السبعينيات، وعالماً ومفكراً في الثمانينيات، وفي التسعينيات كان عالماً وفقيهاً إلى جانب كونه مفكراً، لأنه أراد أن يظهر نفسه في مجال الفقه أكثر من مجال الفكر.

ـ 3 ـ

من الدولة إلى الأمة

إذا أردنا أن نقيس المسافة الفكرية التي تفصل بين كتاب «نظام الحكم والإدارة في الإسلام»، الصادر سنة 1955م، وكتاب «في الاجتماع السياسي الإسلامي»، الصادر سنة 1992م، هذه المسافة في قياسات التطور الفكري عند الشيخ شمس الدين، هي في التحول والانتقال من الانتصار لمفهوم الدولة، إلى الانتصار لمفهوم الأمة. فهو في كتاب «نظام الحكم والإدارة في الإسلام»، ينتصر لمفهوم الدولة، ويتحدث عن حتمية الحكومة الإسلامية، ويبرهن بأن الإسلام مشروع دولة وحكم ونظام. أما في كتابه الثاني فهو ينتصر لمفهوم الأمّة، المفهوم الذي يتجلى بصورة واضحة ومقصودة في عنوان الكتاب، وهو «في الاجتماع السياسي الإسلامي»، فمن نظام الحكم إلى الاجتماع السياسي، هو تحول من الدولة إلى الأمة.

ومن جهة الحقل المعرفي فإن الكتاب الأول ينتمي إلى علم الكلام، في حين ينتمي الثاني إلى علم الفقه. وهذا بدوره يعكس تحولاً منهجياً في نظام التفكير والنظر عند الشيخ شمس الدين، وهو تحول من المنهجية الفكرية والكلامية، إلى المنهجية الفقهية والأصولية. التحول الذي سعى إليه الشيخ شمس الدين بإرادته، وأراد أن يعرف به، ويعمل على تطبيقه.

وبقدر ما تحمس الشيخ شمس الدين إلى كتابه الأول في زمنه، تحمس أيضاً وبقدر أكبر إلى كتابه الثاني في زمنه. الكتاب الأولى تحمس إليه الشيخ شمس الدين لأن القضية التي يعالجها حسب رأيه لم تكن تمثل هماً ظاهراً من هموم النجف، بل لعلها كانت تنظر إلى هذه القضية بقلق وتحفظ، وهي تتذوق الطعم المر، وتعاني من خيبة الأمل، ومن الفجيعة لما آلت إليه تجربة معركة المشروطة في إيران. وقد اعتبر الشيخ شمس الدين هذا الكتاب بأنه أول نص عربي شيعي في حينه يطرح مسألة الحكم الإسلامي في العصر الحاضر([15]).

أما كتابه الثاني فقد تحمس إليه لأنه اعتبر أن الذين سبقوه بدراسة نظام الحكم في الإسلام وقعوا في خطأ منهجي كبير، في حين أنه توصل إلى المنهج الأكثر سداداً ودقة في هذا الشأن. وحسب قوله «لقد بحثت مسألة الحكم في الإسلام من زوايا متنوعة حسب الصورة التي تحملها كل فئة منها عن الإسلام وعلاقتها به، وموقفها منه، ولكن أبحاثها ودراساتها تشترك في حدود إطلاعنا في خطأ منهجي كبير، سواء في ذلك دراسات الملتزمين بالإسلام والمتعاطفين معه، أو دراسات المتحفظين من الإسلام والمعادين له»([16]).

وحين يميز منهجه في هذا الكتاب عن منهج غيره من الإسلاميين، فإنه يميز هذا الاختلاف على قاعدة الدولة والأمة. فهو يربط بين الإسلام والأمة، وليس بين الإسلام والحكم كما هو منهج الإسلاميين الآخرين. لأن المهم استمرارية الإسلام في الأمة، وليس بالضرورة في نظام الحكم. وليس هناك تلازم أو تراتب حسب رأيه بين الحكم واستمرارية الإسلام، فقد لا يكون الإسلام في الحكم، لكنه يكون مستمراً في الأمة، وهذا هو الأساس. وأن الضرورة عنده هي في وجود نظام حكم، وهي ضرورة فطرية وعامة يقتضيها الاجتماع الإنساني، وليس بالضرورة أن يكون هذا النظام إسلامياً، لذلك فهو يناقش ما يطلق عليه بالمسلمة الفكرية عند الإسلاميين حول أن نظام الحكم لابد وأن يكون إسلامياً. وحسب قوله «يقوم هذا المنهج لدى الإسلاميين على مسلمة فكرية تعتبر عندهم بديهية، وهي أن المسلمين في المجال الوطني أو القومي، لابد أن يكون نظام حكمهم إسلامياً. بينما المسلمة البديهية وفقاً لهذا المنهج هي إن كل شعب مسلم، على المستوى الوطني أو القومي، يجب بالضرورة أن يكون له نظام حكم وحكومة يحفظانه، ويضمنان سلامته وتقدمه. أما أن يكون هذا النظام وهذه الحكومة إسلاميين، فقضية غير مسلمة وغير بديهية، كما هو الشأن في أي مجتمع سياسي معاصر خارج العالم الإسلامي. فكما أن المجتمع السياسي البريطاني أو الأمريكي مثلاً أو غيرهما، لابد أن يكون له نظام حكم وحكومة، يمكن أن تارة اشتراكية عمالية، وأخرى رأسمالية محافظة، مع التزام المجتمع في تكوينه ونهجه العام بالديمقراطية التي تلتزم باحترام قواعدها وأصولها كل حكومة تتولى السلطة. فكذلك المجتمع السياسي الإسلامي، يمكن أن يستمر مسلماً في تكوينه ونهجه العام، ويكون قابلاً لأي نظام لا يتنافى مع الإسلام باعتباره عقيدة المجتمع، دون أن يكون نظام الحكم إسلامياً، فالمهم هو استمرارية الإسلام في الأمة، واستمرار الأمة مسلمة موحدة»([17]). ولهذا فإن الشيخ شمس الدين يعيب كثيراً على المنهج المكوّن لرؤية الإسلاميين في نظام الحكم ويضعفه ويقلل من قيمته العلمية، ويعتبره غير قادر على مواجهة الاعتراضات والتشكيكات المغايرة، ويلوذ غالباً بالتبرير والتمسك بنزعة دفاعية، وعن هذا الرأي يقول «المنهج المتبع غالباً لا ينهض بإثبات دعوى الإسلاميين على نحو مقنع، قاطع للجدل، في هذه المسألة المبدئية. والنصوص المعتمدة لا تستطيع أن تجيب على التساؤلات الكثيرة المثارة حول ضرورة قيام حكم إسلامي بهذه الصيغة أو تلك من الصيغ المتداولة. لأن الإسلام كتاباً وسنة لم يتضمن قسماً خاصاً بمسألة الحكم والنظام السياسي، منفصلاً عما عداه من مسائل وقضايا العقيدة والشريعة… إن الموقف الذي يواجه به الإسلاميون تساؤلات هذه الاتجاهات موقف دفاعي، يلوذ غالباً بالتبرير بأن مسألة الحكم السياسي هي تشريع إلهي، وتكليف شرعي غير قابل للأخذ والرد، معتمدين على نصوص غير مسلمة الدلالة على المدعى. وهذا المنهج يجعل من مسألة المجتمع السياسي القائم على أساس الإسلام، والدولة الإسلامية، والنظام الإسلامي، والحكومة الإسلامية، ومسألة الحكم برمتها، قضايا غيبية تعبدية محضة. وهذا ما يضعف موقف الإسلاميين من فقهاء، وعلماء دين، ومفكرين، في مواجهة الأطروحات الأخرى»([18]). وحين يناقش هذه القضية من زاوية تراتب الأولوية بحسب أدلة الجهاد والدفاع والدعوة، فإنه يقدم أولوية تحقيق الإسلام في الأمة، ويعتبر مشروع الدولة يأتي في رتبة متأخرة من حيث الأهمية والتكليف بعد مشروع الأمة. وعن تمام رأيه في هذا الشأن يقول الشيخ شمس الدين «إن أدلة الجهاد والدفاع والدعوة هل تدل على أن المهمة الأساس ذات الأولوية للمسلمين بحسب هذه الأدلة هي تحقيق الإسلام في مشروع الدولة ـ المشروع السياسي ـ بحيث يكون الجهاد والدعوة والدفاع من أجل تحقيق المشروع السياسي وإقامة الدولة؟ أو أن المهمة الأساس ذات الأولوية للمسلمين بحسب هذه الأدلة هي تحقيق الإسلام في مشروع الأمة، ومشروع الدولة يأتي في رتبة متأخرة من حيث الأهمية والتكليف بعد مشروع الأمة؟ ربما يكون الادعاء أن ما يدعى دلالاته على تشريع الجهاد الابتدائي يدل على أن المهمة الأساس ذات الأولوية للمسلمين هي تحقيق المشروع السياسي ـ مشروع الدولة ـ، وأن مشروع الأمة مواز لمشروع الدولة أو منبثق منه. ولكن لو سلمنا بهذه الأدلة المدعاة، فهي غير مفيدة في مقامنا، لأن مشروعية الجهاد الابتدائي عند الشيعة الإمامية مشروطة بوجود الإمام المعصوم وأمره بذلك، وهو في عصر الغيبة غير مشروع… ومهما تكن دلالة ما يدعى دلالته على تشريع الجهاد الابتدائي، فإن أدلة الجهاد الدفاعي وأدلة وجوب الدعوة، وهي تكاليف منجزة في عصر الغيبة، صريحة في أن المهمة الأساس ذات الأولوية للمسلمين هي تحقيق الإسلام في مشروع الأمة، فأدلة الدعوة تهدف إلى تكوين الأمة، وأدلة الجهاد تهدف إلى حماية الأمة»([19]). وأولوية مشروع الأمة كما يضيف الشيخ شمس الدين «لا يعني استبعاد المشروع السياسي ـ مشروع الدولة ـ ولكن الأدلة لا تدل على أن عناية الإسلام بهذا المشروع تبلغ حد العمل من أجله، وإن استلزم ذلك حرباً أهلية تهدد مشروع الأمة، بل تدل على خلاف ذلك»([20]). وعندما طرحت نظرية «ولاية الفقيه»، بعد التحول الإسلامي في إيران، وهي النظرية التي عرف بها الإمام الخميني، وكان لها من الزخم والحماس والاندفاع وحتى الانتشار والامتداد السريع والواسع في إيران وخارجه، وكان من الصعب والتوجس، التظاهر برأي مختلف أو متعارض مع تلك النظرية التي تحولت إلى نظام في الحكم والدستور هناك. في تلك الأجواء طرح الشيخ شمس الدين مقولة «ولاية الأمة على نفسها»، المقولة التي عرف بها، وظل يتحدث عنها في كتاباته وأحاديثه، وبحماس واندفاع أيضاً. وعن هذا التقابل بين النظريتين أو المقولتين، يقول الشيخ شمس الدين: «نحن نرى أن الأمة هي ولية على نفسها، ونطرح هذه الصيغة مقابل صيغة ولاية الفقيه. وعلى هذا الأساس ندعو لإقامة دول إسلامية في المجتمعات الإسلامية بحيث ينتج كل مجتمع في الجغرافيا السياسية للعالم الإسلامي دولته المناسبة له، ويولد مؤسساتها على أساس الفقه العام»([21]).

وفي مجال الفقه دعا الشيخ شمس الدين إلى فتح أبواب ما تزال حسب رأيه مغلقة، وهي تلك الأبواب التي تتصل بالفقه العام أو فقه الأمة، وما هو موجود كما يقول «تسعون بالمئة منه هو فقه فردي، أما الفقه العام، فقه الأمة الذي نزلت فيه التكاليف الإلهية والخطابات الإلهية ليس موجهاً إلى الأفراد، وإنما إلى الأمة»([22])، لذلك فهو يرى بأن «الجهاد هو تشريع للأمة وليس للأفراد، ولكن العقلية الفردية التي حكمت على الفقهاء أن يروا في خطابات الجهاد ما سموه الخطاب الكفائي، أي حكم الأفراد. ولقد توصلت إلى رأي مفاده أن خطابات الجهاد ليست واجبات كفائية بل هي واجبات عينية، ولكن ليس على الأفراد وإنما على الأمة»([23]). وفي هذا السياق جاء كتابه الذي عنونه بـ«جهاد الأمة»، وكان قاصداً في أن يكون هذا العنوان ملفتاً، ومبرزاً لهذا المفهوم. وقد سمعته في أكثر من مناسبة يتحدث باهتمام عن هذا الكتاب، وأنه يتضمن ابتكارات جديدة محورها ربط الجهاد بالأمة.

ـ 4 ـ

الشورى والديمقراطية

في سنة 1985 تقدم الشيخ شمس الدين بمشروع يعبر عن رؤيته في ذلك الوقت لحل أزمة النظام السياسي في لبنان، أطلق عليه عنوان «الديمقراطية العددية القائمة على مبدأ الشورى»، والفلسفة الأساسية التي يرتكز عليها هذا المشروع هي في التحول من نظام الطائفة إلى نظام المواطنة. فحين يتساءل الشيخ شمس الدين عن الوحدة الأساسية في النظام السياسي: هل هي في الطائفة أم في الفرد المواطن؟ فإنه ينتقد النظرية السياسية الأساسية التي يقوم عليها النظام السياسي في لبنان منذ استقلاله سنة 1943م، والتي تعتبر أن الوحدة الأساسية هي في الجماعة ـ الطائفة. ويرى بأن اللبنانيين كمواطنين متساوين داخل طوائفهم، لكنهم ليسوا متساوين خارج هذه الطوائف مع المواطنين من طوائف أخرى، فخارج كل طائفة يتفاوت المواطنون بين طائفة وأخرى في حقوقهم، بينما هم يتساوون في واجباتهم. لذلك فهو يدعو إلى إلغاء هذه النظرية التي يصفها بأنها باطلة وظالمة، بإلغاء الأساس الطائفي للنظام. ومن ثم إلغاء التمايزات والامتيازات الطائفية في جميع مواقع النظام بدءاً برئاسة الجمهورية، وانتهاء بأصغر وظيفة عامة. وأن مقولة حقوق الطوائف يجب أن تزول لمصلحة المقولة الصحيحة كما في تعبيره، وهي مقولة حقوق الأفراد ـ المواطنين، ولا يصح أن تكون العدالة والمساواة بين الطوائف، فهذه المقولة حسب رأيه تعبر عن معادلة باطلة ومستحيلة التطبيق، فلا يمكن تطبيق مبدأ العدالة والمساواة إلا على أساس اعتبار أن الوحدة الأساسية هي الفرد الموطن([24]).

وقد فتح هذا المشروع في وقته جدلاً ونقاشاً في الأوساط اللبنانية، ومن المسيحيين والموارنة منهم بشكل خاص، باعتبار أنه يستهدفهم بصورة أساسية، ولأنه حسب رأيهم يمس الهوية والطبيعة التي تشكل على أساسهما لبنان، ويدعو من جهة أخرى إلى إسلامية الدولة. فقد اعتبر الشيخ شمس الدين بأن المسيحي الماروني هو وحده الذي يتمتع بالمواطنية الكاملة دون سواه من المواطنين الذين يتمتعون بنسب متفاوتة من المواطنة الناقصة([25]). ولأنه اعتبر أيضاً بأن الشعب اللبناني هو جزء من الشعب العربي، ولبنان دولة عربية ذات بعد إسلامي([26]). وفي وقت لاحق تراجع الشيخ شمس الدين عن هذا المشروع، واعتقد بأنه فهم بنحو خاطىء، وأنه لم يكن بصدد أن يسيء إلى الوجود المسيحي في لبنان، أو يخلق مشكلة إسلامية ـ مسيحية. وقد عبر عن هذا التراجع في المقولة الشهيرة التي ظل يكررها باستمرار، وهي أن لبنان وطني نهائي لجميع اللبنانيين. وهذه المقولة تعني أن يحافظ لبنان على جوهره الثابت، وطبيعته الكلية، وهويته الراسخة والمتوارثة. ولا ينبغي أن يبدل أو يتغير. وظل الشيخ شمس الدين متمسكاً بهذه المقولة، ومدافعاً عنها، وموصياً بها وبالوجود المسيحي بصورة عامة. فقد جاء في كتاب الوصايا «لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه، من المبادىء التي يدين بها لبنان، وضرورة للاجتماع اللبناني ولبقاء كيان لبنان، ولمصلحة العالم العربي وجوانب كثيرة من العالم الإسلامي»([27])، وعن الوجود المسيحي يقول: «أرى أن من مسؤولية العرب والمسلمين أن يشجعوا كل الوسائل التي تجعل المسيحية في الشرق تستعيد كامل حضورها وفاعليتها ودورها في صنع القرارات، وفي تسيير حركة التاريخ، وأن تكون هناك شراكة كاملة في هذا الشأن بين المسلمين والمسيحيين في كل أوطانهم، وفي كل مجتمعاتهم»([28])، وإعادة النظر في هذا المشروع بعد اختباره، وتفهم الحساسيات والهواجس التي صاحبته في المشهد اللبناني، لا يعني تراجع الشيخ شمس الدين عن مقولة الديمقراطية والشورى، فقد ظل ينسب إليه المقولة التي يسميها بالديمقراطية القائمة على مبدأ الشورى. وهذا التلازم والارتباط بين الديمقراطية والشورى يستند على فهم واضح وناضج في إدراك الشيخ شمس الدين فهو يرى بأن الخلفيات الفلسفية والمفاهيمية مختلفة لكل من المصطلحين الديمقراطية والشورى، ولكن المسألة إذا ما بحثت على مستوى تنظيمي وتطبيقي كما يقول فإننا سنجد أنفسنا أمام موقف توافقي لا خلافي. وبتفصيل أوضح فإنه ينظر  إلى الديمقراطية من جهات ثلاث:

أولاً: من جهة كونها تعبر عن الخلفية الفلسفية الليبرالية. ومن هذه الجهة يتفق الشيخ شمس الدين مع اعتراض الإسلاميين على الديمقراطية في كونها تمثل إنجازاً غربياً قائماً على مرجعية الفلسفة الليبرالية. ونحن نعلم كما يقول بأن الديمقراطية الغربية بخلفيتها الفلسفية لا علاقة لها بالشريعة، ولا يمكن للمسلم أن يلتزم بفلسفتها وباعتبارها تعبيراً عن رؤية للكون وللعالم، ولموقع الإنسان، ووظيفته في هذا العالم.

ثانياً: من جهة كونها آلية لإدارة المجتمع وتداول السلطة. ومن هذه الجهة يرى الشيخ شمس الدين بأنه لا يوجد عندنا في الشرع أي نص شرعي على الإطلاق لا في الكتاب ولا في السنة ولا في الفقه العام ما يمنع من اعتماد الديمقراطية وأساليبها ومؤسساتها في هذا الحقل.

ثالثاً: من جهة كونها آلية تشريعية لسن القوانين، وحسب رأيه فإن التشريع ينقسم إلى قسمين كبيرين هما: الفقه الخاص وهو فقه الأفراد الذي يمكن أن يمارس في حالة وجود دولة ونظام إسلامي، وفي حالة عدم وجودهما. والفقه العام وهو الذي يتصل بتنظيم المجتمع، وفيه ما هو منصوص عليه ويدخل في ثوابت الشريعة، وهذه لا يمكن للبشر أن يشرعوا فيها.

كما أن فيها مساحات تسمى مساحات الفراغ وتشمل الجانب التنظيمي والإداري والعلاقات الخارجية ومعظم الجانب الاقتصادي. وهذه الحقول لا تدخل في باب الأحكام الشرعية إلا بمقدار مراعاتها للمبادىء العليا في الشريعة، من قبيل قاعدة عدم الظن، وقاعدة عدم العدوان، وقاعدة العدل والإنصاف… الخ. وما عدا ذلك هو تدبير وتدبر لأمور تنظيمية يرى الناس فيها ما يصلح لهم… ومن هنا يمكن أن نقول والكلام للشيخ شمس الدين إننا نستطيع أن نوجد التنظيم الذي يعتمد الآليات التنظيمية لأرقى التجارب، أو لأي تجربة ناجحة من تجارب الدول الحديثة. والنتيجة التي يتوصل إليها الشيخ شمس الدين في هذا الشأن، يقول عنها: إننا نختار الشورى كفلسفة حكم، ونختار آليات الديمقراطية كأدوات وأجهزة ومؤسسات. وأن الديمقراطية عنده هي أحسن القول الغربي من الناحية التنظيمية للمجتمع، ومن ناحية إدارة عملية تداول السلطة وانتقالها([29]).

ويتشدد الشيخ شمس الدين في تمسكه بمبدأ الشورى انطلاقاً من مبدأ ولاية الأمة على نفسها، وبمقتضى الأدلة العامة، وعن هذا التشدد يقول: «ينبغي أن يكون مبدأ الشورى في الشؤون العامة، أهم المبادىء الدستورية السياسية على الإطلاق عند جميع المسلمين. لأن مقتضى أدلة هذا المبدأ من الكتاب والسنة أنه لا تستقيم شرعية أي حكم سياسي ـ لحاكم غير معصوم ـ ولا تستقيم شرعية أي تصرف في الشؤون العامة للمجتمع، من دون أن يكون قائماً على مبدأ الشورى… فيجب على الأمة أن تدير أمورها العامة عن طريق الشورى، ويجب على الحاكم أن يحكم عن طريق الشورى، وهو ملزم شرعاً بإتباع ما تنتهي إليه علمية الشورى»([30]).

ولاشك أن هذا الطرح يتجاوز الانقسام الحائر أمام ثنائية الشورى والديمقراطية، ويتقدم على السجال الطويل الذي لم ينته بين من ينحاز إلى الشورى ويقطع صلته بالديمقراطية على خلفية القطيعة بين المرجعية الإسلامية والمرجعية الغربية، وبين ما ينحاز إلى الديمقراطية ويقطع صلته بالشورى، على خلفية القطيعة بين الحداثة والتراث.

كما إن هذه الرؤية التي يعبر عنها الشيخ شمس الدين تظهر إمكانية التوافق والانسجام بين الفكر الإسلامي والديمقراطية، وتدحض التصورات النمطية والمسبقة التي تحاول أن تصور بأن الإسلام يتصادم مع الديمقراطية ولا يتناغم معها.