الاجتهاد: الشيخ العمري قيادة حكيمة في ظروف صعبة: حين يتصدى عالم الدين لمهماته ووظائفه الحقيقية في أي مجتمع، فسيواجه الصعوبات والعقبات، ذلك أن من أولى مهماته مقاومة الجهل، ونشر المعرفة والعلم، ومن أهم وظائفه إصلاح المجتمع، ومواجهة عوامل الظلم والفساد، إنه يحمل رسالة الدين المتمثلة في إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وتحقيق العدل، ليقوم الناس بالقسط.
فمن الطبيعي أن يجد نفسه أمام تحديات يثيرها الجاهلون بهذه الرسالة، أو الذين تتضرر مصالحهم من تطبيقها، وتتفاوت قوة هذه التحديات والصعوبات من مجتمع لآخر، تبعاً لاختلاف الظروف السياسية والاجتماعية.
وليس كل عالم دين ينبري للقيام بوظيفته، فهناك من يغفل عنها، أو ينقصه الوعي بها، فيرى أن مهمته تقتصر على تبيين المسائل الشرعية الفردية، وأداء الطقوس والمراسيم الدينية المألوفة، كإمامة الجماعة، واستلام الأخماس، وإجراء عقود الزواج والطلاق.. لكنه غير معني بالشأن السياسي والاجتماعي العام.
وهناك من يؤثر الراحة والدعة، فيتجنب ما قد يعرّضه للمشاكل، ويجعله أمام أي نوع من التحديات.
لكن عالم الدين الذي يعي رسالته، ويعمر قلبه الصدق والإخلاص، لا يسعه التخلي عن النهوض بشؤون مجتمعه، وحمل همومه، والعمل على إصلاحه، والارتقاء به، مهما كانت شدة التحديات، وضخامة العراقيل والعقبات.
وتمثل شخصية آية الله الشيخ محمد علي العمري وسيرته أنموذجاً مشرقاً على هذا الصعيد، فقد عاش في بيئة تكتنفها ظروف بالغة الصعوبة، لكنه عاهد ربه ومجتمعه على الثبات والصمود، وتحمّل مسؤوليته الدينية والاجتماعية بعزم لا يلين، ولا تنال منه مدلهمات الخطوب.
قام بدور التوجيه، ونشر المعارف الدينية في مجتمع حُرم من العلم والثقافة ردحاً كبيراً من الزمن، فقد كانت الأمية سائدة، وأدوات المعرفة مفقودة – حين بدأ الشيخ العمري “ره” حركته – بينما يحيط بمجتمعه تحدٍ عقدي ثقافي خطير، يتمثل في المدرسة السلفية المناوئة لما عداها من المدارس والمذاهب بتطرف وشدة.
فكان على الشيخ العمري أن يحافظ على الهوية المذهبية، والانتماء العقدي لمجتمعه، وأن يرسخه بالثقافة والوعي، وأن يحصّن أبناء مجتمعه بالمعرفة الدينية التي تمكنهم من مواجهة الشكوك والشبهات التي تثار على مذهبهم وعقيدتهم، وتحاصرهم في كل مكان، حينما يذهبون للصلاة ولزيارة رسول الله في المسجد النبوي الشريف، وحينما يقصدون البقيع لزيارة أئمة أهل البيت. وفي مناهج التعليم الرسمي التي تدرّس لأبنائهم، وعبر وسائل الإعلام، وخطب المنابر، وفتاوى المشايخ.
فكيف يمكن للشيخ العمري أن يحصّن مجتمعه تجاه كل هذا الضجيج والتعبئة والتهريج، وهو لا يمتلك الإمكانات اللازمة، والوسائل المطلوبة، والحرية المطلقة؟
من ناحية أخرى فإن الشيخ العمري ما كان يريد لمجتمعه أن يستجيب للاستفزازات الطائفية، ولا أن ينزلق إلى متاهات الصراعات المذهبية، التي لن تؤدي إلا إلى المزيد من المشاكل والأضرار، عليهم وعلى كل الوطن.
ولأنه يدرك أن هناك جهات مغرضة تعمل لاستدراج أبناء مجتمعه لإيذائهم والايقاع بهم، مما يستلزم التأكيد عليهم بضرورة الاحتياط والحذر، وتوجيههم للاقتداء بأخلاق أئمة أهل البيت والأخذ بتعاليمهم في مواجهة هذه الابتلاءات.
الشيخ العمري
وهنا تكمن صعوبة المهمة التي اضطلع بها الشيخ العمري في مجتمعه، فهو يجب أن يرسّخ عقيدتهم، ويرفع معنوياتهم، ويفنّد الاتهامات الباطلة ضدهم، في ذات الوقت عليه أن يروّض نفوسهم، ويهدئ أعصابهم، ويكبح أي اندفاع نحو الجدل العقيم، والخلاف المصطنع.
لذلك كان خطابه الديني يتسم بالاعتدال، ولغة الحوار بالتي هي أحسن، ويتكئ على منطق الأدلة والبراهين، ويركّز على التزام أخلاق المداراة، وحسن المعاشرة والتعامل، هذا هو المنهج الذي سار عليه الشيخ العمري في دروسه وخطاباته وأحاديثه، وكان يوصي به تلاميذه والخطباء في مجلسه الحاشد، خصوصاً في المناسبات الدينية المعروفة، وكان ينبّه ويحذّر من يتجاوز هذا المنهج من أبناء مجتمعه وخطباء مجلسه.
لقد كانت الرؤية واضحة لدى الشيخ العمري، أنه لا بد من تنمية المجتمع، ليكون أقدر على مواجهة التحديات التي تحيط به، وذلك عبر الاهتمام بتعليم الأبناء، وتشجيعهم على مواصلة الدراسة، وامتلاك الكفاءة العلمية، والتوجيه نحو اكتساب الخبرات المهنية والعملية، والاستفادة من فرص الاستثمار والتقدم الاقتصادي.
وضمن مشروعه لتنمية المجتمع وتعزيز موقعيته الوطنية، كان حريصاً على إخراجه من حالة التقوقع والانكفاء، ودفعه نحو الانفتاح والتواصل مع محيطه العام، لأن العزلة تكرس ضعف الثقة بالذات، وتعطي الفرصة لرسم الصورة المشوّهة عن المجتمع، فكان سماحته يتواصل مع المسؤولين الرسميين، ورجالات الدولة، حينما تتاح له الفرصة، ويصحب معه عدداً من الشخصيات الاجتماعية، ويشجعهم على طرق كل الأبواب لمعالجة ما يواجهونه من مشاكل.
كما سعى للانفتاح على علماء المؤسسة السلفية، فزار مفتي المملكة الراحل الشيخ عبدالعزيز بن باز، يوم كان رئيساً للجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وألحّ عليه في الدعوة لضيافته، لكنه لم يقبل الدعوة.
وقد صنع الشيخ العمري علاقات طيبة مع عدد من الشخصيات من أهل السنة في المدينة المنورة، وكان يشجع جماعته على التواصل مع مجاوريهم من أهل السنة، ومشاركتهم في أفراحهم وأتراحهم.
وحين أعلن الملك الراحل عبد الله بن عبدالعزيز برنامجه للحوار الوطني كان الشيخ العمري من الفرحين جداً بهذا البرنامج، والمرحبين به، وحثّ من استشاره في المشاركة على اغتنام الفرصة، وعدم التردد في الاستجابة لهذا البرنامج الوطني، وقد شارك بالفعل بعض المقربين منه في هذه اللقاءات، ومنهم الشيخ طاهر الهاجوج، والشيخ فهد ابو العصاري، وابنه الشيخ كاظم العمري.
من جانب آخر فقد اهتم الشيخ العمري بالانفتاح على الشخصيات الشيعية التي تزور المدينة المنورة من مختلف انحاء العالم خاصة في موسمي الحج والعمرة، لتعريف مجتمعه عليهم وتوثيق الصلة بهم، وليعرف المجتمع عمقه وامتداده الديني على مستوى العالم.
فكان مجلسه مقصداً للزائرين الشيعة من مختلف البلدان والأعراق والقوميات، من علماء، وخطباء، وأدباء، وكفاءات، ورجال أعمال، واناس عاديين، بل أصبح مجلسه أحد المعالم والمزارات التي يقصدها من يزور المدينة المنورة من الشيعة، حيث تُقام صلاة الجماعة بإمامته، وتُلقى الخطب والمحاضرات، وتُحيى المناسبات الدينية.
وقد تحمل الشيخ العمري أعباءً كثيرة لاستمرار مجلسه وانفتاحه، حيث توالت عليه الضغوط، وخاصة حينما تشتد الظروف الأمنية والسياسية، ويزداد نشاط المحرضين الطائفيين، فيرفعون عن مجلسه تقارير مغرضة، ويستدعى الشيخ على إثرها للتعهد بعدم استقبال الزائرين من خارج البلاد، فيعتذر الشيخ بأنه لا يستطيع طرد أحد من الزائرين في بلد يرحب بضيوف الرحمن، ويتنافس أبناؤه في خدمتهم، وقد اعتقل بسبب ذلك لمدة ستة أشهر سنة 1403ﻫ وهو يقارب الثمانين من العمر.
تلك كانت لمحات وإشارات عن تجربة قيادية رائدة، قدمها هذا الرجل الصالح، في ظروف بالغة الصعوبة، لتكون نبراساً وأنموذجاً تستلهم منها الأجيال الصاعدة، وخاصة القادة الدينيون الذين يتصدون لأداء وظيفتهم بصدق وإخلاص، تجاه دينهم ومجتمعاتهم.
وقد بارك الله تعالى لهذا الشيخ في عمله ومسعاه، ومنحه الكثير من التوفيق والنجاح، في تنمية مجتمعه ورعايته، حيث تربّت على يديه أجيال من المؤمنين المتمسكين بعقيدتهم، المتخلّقين بأخلاق أئمتهم الهداة، كما تحققت بجهوده وتوجيهاته إنجازات كبيرة لمجتمعه على الصعيد المعرفي والثقافي، وفي مجال التلاحم والتضامن الاجتماعي، وتحسين المستوى الاقتصادي.
ولإخلاصه وانقطاعه لله، وتفانيه في خدمة عباد الله، قذف الله محبته في القلوب، فعاش عزيزاً محبوباً محترماً، يعشقه كل من اقترب منه وتعرّف إليه، وتنجذب نحوه الأفئدة والنفوس ، وحين اختاره الله تعالى إلى جواره، حزن عليه وبكاه الملايين من المؤمنين في مختلف أقطار العالم، كما كان يوم تشييعه إلى مرقده في البقيع الغرقد، يوماً مشهوداً لم تر له المدينة المنورة في هذه العصور نظيراً.
فهنيئاً له ما انجز وقدم، وتغمده الله بواسع الرحمة، وأعلى مقامه، وحشره مع النبيين والشهداء والصديقين وحسن أولئك رفيقاً.
وحفظ الله نجله الفاضل الكريم سماحة الشيخ كاظم العمري لمواصلة مسيرته، وتطوير مشروعه وتجربته، ووفق أبناء مجتمعه للحفاظ على المكاسب والانجازات وتنميتها.
وشكراً للأخ العزيز فضيلة الشيخ حسين الفاضلي على تخصيصه هذا العدد من مجلته القيمة (المرشد) لتناول سيرة وشخصية هذا الرجل العظيم.
والحمد لله ربّ العالمين.
حسن موسى الصفار
7 ربيع الثاني 1438ﻫ 5 يناير2017م