الاجتهاد: قسَّم الأُصوليّون الأهليّة الى قسمين وعرَّفوا كلا منهما: الأول: أهليّة الوجوب: وهي صلاحية الانسان لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه. الثاني: أهليّة الأداء: وهي: صلاحية الانسان لأن يطالب بالأداء، ولأن تعتبر أقواله وأفعاله، وتترتَّب عليها آثارها الشرعية.
لامجال أفضل من مجال أصول الفقه تلتقي فيه آراء علماء المذاهب الاسلامية،وتتوحّد الى حدّ كبير فيه نظراتهم ،وهو مجال هام لأنه يشكل الاساس لأحكام الاسلام في الشؤون العبادية والعملية، ويشكل الاساس للتقريب بين فقه المذاهب الاسلامية وهذه دراسة أصولية في موضوع الاهليّة وأقسامها تقدم لنا نموذجا لعطاء أصول الفقه.
تعريف الأهليّة
يُقال في اللّغة: هو أهل لكذا، أي هو مستوجِب له. ويقال: استأهله بمعنى استوجبه. فتكون بمعنى الاستحقاق.
وهي عند علماء أُصول الفقه بمعنى “الصلاحيَّة” كما سيتَّضح من تعريفاتهم لأقسامها.
أقسام الأهليّة
قسَّم الأُصوليّون الأهلية الى قسمين وعرَّفوا كلا منهما:
الأول: أهليّة الوجوب: وهي صلاحية الانسان لوجوب الحقوق المشروعة له وعليه(١).
الثاني: أهليّة الاداء: وهي: صلاحية الانسان لأن يطالب بالأداء، ولأن تعتبر أقواله وأفعاله، وتترتَّب عليها آثارها الشرعية (٢).
ثم قسَّموا كلا من الأهليتين الى قسمين: الأهليّة الكاملة، والأهليّة الناقصة.
١ – فأهلية الوجوب الناقصة، ما كانت فيها صلاحيته لوجوب الحقوق له فقط لا عليه. مثل الجنين الذي تثبت له بعض الحقوق، مثل حقِّه في الميراث وحقه في المحافظة عليه من التلف.
٢ – وأهليَّة الوجوب الكاملة، ما تكون صلاحية الانسان فيها لثبوت الحقوق له وعليه. كما في الصبي والبالغ حيث تثبت لهما حقوق مثل النفقة، وتثبت عليهما حقوق أيضا مثل نفقة الأقارب من مالِهما.
٣ – وأهليَّة الأداء الناقصة: هي صلاحية الانسان لأداء بعض الأعمال وترتّب الأثر عليها دون بعض آخر. كالصبي المميِّز حيث يصلح لأداء العبادات وقد حَكَمَ الشارعُ بصحَّة عبادته [٣]. كما حَكَمَ الشارع بصحة معاملته المأذون بـإجرائها من قبل وليّه. مثل البيع والاجارة وغيرها مما يكون للصبي فيه مصلحة، بل حكم بصحَّة بعض معاملاته عن الغير وإن لم يأذن له وليّه كالوكالة عن الغير، وما يترتب عليها من تعامل نيابة عن الموكل فهي لا تحتاج الى إذن الولي.
وفي أبواب علم الفقه تفصيلات كل ذلك.
٤ – أما أهلية الأداء الكاملة: فهي صلاحية الانسان لأداء جميع الحقوق المشروعة له وعليه. سواء في ذلك عباداته أم معاملاته، وتترتب على كل أقواله وأفعاله آثارها الشرعية من ثواب ومدح أو عقاب وذم، وتمليك وتملّك ونحوها، مالم يعرض له ما يحدِّد هذه الصلاحية من العوارض، مثل عارض النوم والاغماء والسفَه والإكراه ونحوها.
نتيجة تعريف الأهليّة وتقسيمها
نستفيد ممّا تقدَّم من تعريف الأهليّة وتقسيمها خمسة أُمور:
١ – إنَّ أهلية الوجوب الناقصة ثابتة لكل إنسان حتى لو كان جنيناً في بطن أُمه، لِما له من حقوق أوجبتها الشريعة المقدَّسة.
٢ – إنَّ أهلية الوجوب الكاملة ثابتة للانسان منذ انفصاله عن بطن اُمّه، لأنها صلاحية لثبوت الحقوق له وعليه، سواء يؤدى بها بصورة مباشرة كالبالغ العاقل، أم تؤدّى عنه بالنيابة كدفع النفقة لوالدي المجنون والصغير من مالهما من قبل وليّهما.
٣ – إن قِوام أهلية الاداء الناقصة هو التمييز فقط، ولو كان المميِّز غير بالغ لصلاحيته لأداء العبادات، وصلاحيته للتعامل بـإذن وليّه.
٤ – إن أهلية الأداء الكاملة لا تثبت إلا لمن استجمع شروط التكليف الشرعية الأربعة (البلوغ، العقل، العلم، القدرة). مضافاً الى خلوِّه من العوارض المؤثّرة على هذه الشروط.
٥ – إنّ أساس أهلية الاداء الكاملة هو شروط التكليف الشرعية الكاملة، وأساس أهلية الوجوب الكاملة هو إمكان أداء الحق ولو بالنيابة، وأساس أهلية الأداء الناقصة
هو التمييز، أما أساس أهلية الوجوب الناقصة، فقيل: إنه الحياة [4] والراجح أنّ أهلية الوجوب الناقصة ثابتة للإنسان حتى بعد موته وعليه فأساس أهلية الوجوب الناقصة هو الذمة، وهي وصف شرعي يصيِّر الإنسان أهلا لما له وما عليه. وليس الحياة.
عوارض الأهليّة
بعد وقوفنا على الأهلية وأنواعها، يحسن أن نتعرف على ما يؤثّر على هذه الأسس من عوارض تسبّب زوال هذه الأهلية بعد ثبوتها مثل عارض الجنون على البالغ فيؤثر على زوال أهلية الأداء الكاملة، ومثل عارض الإغماء والنوم والنسيان ونحوها مما يؤثر على بعض أنواع الأهلية. فهذه المؤثرات تسمّى “عوارض الأهلية”. لذا يجدر بنا معرفة هذه العوارض ومدى تأثيرها على أنواع الأهلية.
تقسيم عوارض الأهليّة
من عوارض الأهلية ما يؤثر على بعض أنواعها في مجال دون مجال آخر وبتعبير أدق: إن من العوارض ما ينفي عن الانسان أهليته لأداء بعض الاعمال دون بعض، مثل عارض العمى والعرج اللذين يؤثران على أهلية الانسان لأداء الجهاد دون أداء الصوم والصلاة، ومثل عارض السفر والنفاس المؤثرين على أهلية أداء الصوم دون أداء الزكاة وهكذا، ويمكنك تسمية هذا النمط من العوارض باسم “العوارض الخاصة”.
والمتكفّل لبحث هذه العوارض هو علم الفقه حيث يذكرها أثناء تعرّضه لشروط الأفعال التي تؤثر عليها هذه العوارض.
ومن عوارض الأهلية ما يؤثر على كل التكاليف أو معظمها كالجنون والاكراه، حيث يفقدان المرء صلاحيته للخطاب بالتكاليف وصلاحيته لامتثالها.
وهذا النوع من العوارض هوالمقصود بهذا الموضوع.
وقد قسّموا هذا النوع من العوارض الى قسمين:
الاول: العوارض السماوية
ومن مصاديقها: الجنون والعَتَه والنسيان والنوم والاغماء والمرض والموت.
وربّما سُمّيت هذه العوارض بالسماوية لحصولها في الانسان بدون أن يكون له اختيار في حصولها فهي خارجة عن قدرته، وبهذا الاعتبار نُسبت الى اللّه تعالى. ويعبر عما ينسب الى اللّه تعالى بأنّه سماوي لا لأن اللّه في السماء – كما يتوهَّمه البعض – بل لأن السماء من السمو والعلو، وأن اللّه تعالى مُتَّصف بهما إتصافاً معنوياً لا مادياً.
الثاني: العوارض المكتسبة
ومثّلوا لها بالجهل والخطأ والهزل والسفه والسُكر والإكراه.
سُمِّيت هذه العوارض مكتسبة لما للإنسان من اختيار في حصولها فيه. سواء أكان الاختيار من الشخص الذي حصلت فيه كالسكر والهزل والجهل والخطأ والسفَه، أم كان الاختيار من إنسان آخر كالإكراه. ففي كلا الحالين لم تكن هذه العوارض مما لا يقدر الانسان على دفعها، كما هو الحال في القسم الأول، ولهذا نُسبت الى كسب الإنسان نفسه.
وربَّما نلتقي في حديث قادم عن كل من هذه العوارض من حيث أثرها على الأهلية.
الهوامش:
1 – هكذا ورد تعريف أهليَّة الوجوب في: المنار وحاشيته / ٩٣٦. وفي التعريف من المسامحة مالا ينبغي وقوعها في التحديدات فان قوله: “وجوب الحقوق المشروعة له وعليه” لا يشمل أهلية الوجوب الناقصة. ومقصودهم من وجوب الحقوق المشروعة، هو ثبوتها له أو عليه، لا الوجوب بالمعنى الاصطلاحي الذي هو التكليف المُلزم بالفعل، لأنهم قالوا: للمجنون والصبي أهلية وجوب كاملة، مع أنه غير مكلَّف إلا أنهم عنوا بذلك أن عليه حقوقا يمكن قيام الآخرين بأدائها عنه كالنفقة على والدي الطفل من ماله والتعبير بأن الحق عليه، مع أنه غير مكلَّف، مجرَّد إصطلاح.
٢ – شرح مرقاة الوصول ٣ / ٤٣٤. ويعني بالآثار الشرعية المترتبة على أهلية الأداء مثل ترتُّب التملّك على عقد البيع، والعقوبة على الجناية، وسقوط التكليف بعد الامتثال، وهكذا.
٣ – حَكَمَ الشارع بصحة عبادة الصبي المميز إذا اكتملت شروط صحَّتها، إلا أنها ليست واجبة عليه، بل ليست مستحبَّة في حقّه لان التكاليف الشرعية مشروطة بالبلوغ، أمّا ما ورد من وجوب أو استحباب الزكاة في مال الصبي، وكذا النفقة على والديه، فهو في مال الطفل لا في ذمَّته، وعلى الولي تولي دفع ما يُستحب أو ما يجب.
4- القائل هو الدكتور عبد الكريم زيدان في كتاب الوجيز في أصول الفقه، ط بغداد ١٩٧٧م، ص ٢٨٦ مستنداً الى أن أساس أهلية الوجوب هو الذمَّة وإنَّ الميت لا ذمَّة له!!
المصدر: رسالة التقريب – العدد ١٥